أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - حسين سالم مرجين - مراجعة نقدية لرواية طريق جهنم .... لأيمن العتوم















المزيد.....



مراجعة نقدية لرواية طريق جهنم .... لأيمن العتوم


حسين سالم مرجين
(Hussein Salem Mrgin)


الحوار المتمدن-العدد: 6527 - 2020 / 4 / 1 - 13:03
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


طريق جهنم رواية للكاتب الأردني ( أيمن العتوم )، صدرت عن دار عصير الكتب للنشر والتوزيع العام 2018م، وتقع الرواية في حوالي (501) صفحة، ويُعد العتوم شاعر، وروائي؛ له العديد من الروايات، منها : رواية " يسمعون حسيسها " عن المؤسّسة العربية للدراسات والنشر سنة 2012م، ورواية " حديث الجنود " عن المؤسّسة العربية للدراسات والنشر 2014م، ورواية " يا صاحبي السجن " عن المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر 2012م، ورواية " اسمه أحمد " عن مكتبة الرمحي أحمد سنة 2014م، ورواية " نفر من الجن " عن المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر سنة 2014م، ورواية " يوم مشهود " عن دار المعرفة سنة 2019م .
وأيمن العتوم متحصّل على شهادة دكتوراه في اللغة العربية من جامعة اليرموك بالمملكة الأردنية، استطاع توظيف معاني اللغة العربية في عملية سرد أحداث ومشاهد واقعية لروايته بشكل دراماتيكي.
والرواية تأتي في إطار رصد وكشف تاريخ السجون في ليبيا، أبان فترة حكم معمر القذافي (1969-2011م)، وهي تدخل ضمن ما يُسمى بأدب السجون، والهدف من هذه القراءة هو التعريف بالرواية كونها جُلّ أحداثها واقعية، تتناول قصة علي العكرمي؛ وهو سجين معارض لنظام معمر القذافي، قضى في السجون حوالي ثلاثين سنة (1973-2002م)، بالتالي الرواية ترصد أحداث واقعية، وتكشف لنا جوانب مهمة، أعتقد بأنها لا تزال بحاجة إلى مزيد من البحث والكشف، ورفع العتمة عنها .
وستتم عملية قراءة وتقييم هذه الرواية من خلال فهم وقائع الأحداث والمسائل التي تمّ سردها في هذه الرواية وربطها بالواقع السوسيوتاريخي لليبيا خلال الفترة المذكورة، بموضوعية ودون أيّ تحيز، والتي لا تقلل من أهمية وقيمة هذه الرواية، إنما نؤكد ما طرحه صاحب القصة الحقيقي السيّد علي العكرمي بأن لا أحد يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة.
وقبل الولوج إلى رصد أهم الملاحظات والاستنتاجات، قد يكون مفيدًا أن نوضح للقارئ المنهجية المتبعة في هذه القراءة، وهي:
* إن الرواية تضم حوالي (81) فصلًا، بالتالي سيتم التركيز على أهم الوقائع والأحداث التي سردها صاحب القصة الحقيقي، دون الولوج إلى جزئيات الأحداث والحوارات التي صاغها كاتب الرواية ليعطي بعدًا دراماتيكيًا وحبكًا لروايته، فالخوض في تلك الجزئيات لا تثقل كاهل هذا العمل وحسب إنما تضعفه.
* تدوين أهم الملاحظات والاستنتاجات.
وعمومًا فإن صاحب القصة (علي العكرمي) يسعى من خلال هذه الرواية إلى توثيق ورصد أحداث ثلاثين سنة من العقوبات اللاإنسانية والمهينة والتي قضاها في سجون النظام السياسي السابق.
* اعتمد الكاتب في كتابة روايته على شخصيتين؛ الشخصية الأولى؛ وهي شخصية (علي العكرمي) وهو السجين الذي قضى حوالي ثلاثين سنة في سجون القذافي (1972-2002م)، والشخصية الثانية، وهي شخصية (معمر القذافي)، وهو الذي حكم ليبيا حوالي أربعين سنة ونيف (1969-2011م)، وهذا يعني أن بنية الرواية تحمل في طياتها جزأين الأول حقيقي؛ سرده (علي العكرمي)، وهو أساس وجوهر الرواية، والثاني خيالي؛ سرده كاتب الرواية على لسان (معمر القذافي)، قد نتفق أو نختلف معه، وأعتقد بأن الكاتب حاول من خلال إقحام شخصية معمر القذافي إيجاد علاقة تضاد بين الشخصيتين، بغية كشف وفهم الظلال القاتمة لبعض وقائع وأحداث الرواية، وجعلها أكثر تشويقًا للقارئ .
* بداية نأتي إلى عنوان الرواية وهي " طريق جهنم " فمن خلال الاطلاع على جُلّ عناوين روايات الكاتب نُلاحظ وبوضوح تأثيرها بالنصوص القرآنية، فعند قراءة عنوان الرواية فأنه يطفو على السطح سؤالًا مهمًا وهو : طريق جهنم لمن؟ هل هو لمعمر القذافي؟، خاصةً وإن هذا العنوان يذكرنا بمقالة للقذافي تحمل عنوان " الفرار إلى جهنم " حيث يقول فيه " قررت أن أفر بنفسي إلى جهنم، وأقسم لكم أنها ليست من صنع الخيال..."، كما أن كاتب الرواية ذكر في الصفحة رقم (5) مقولة تقول " من جهنم جئت وإلى جهنم أعود " وكتب تحتها مباشرة " العقيد "، أم أن المقصود هو علي العكرمي؛ صاحب القصة الواقعية لهذه الرواية؟.

عمومًا أعتقد بأن العنوان كان يجدر به أن يُعبر عن تجربة السجن الطويلة التي عاشها السيّد علي العكرمي في سجون النظام السياسي السابق؛ إلا إذا اعتبرنا إن مُكوثه كل تلك السنوات في السجن يُشكل في حد ذاته " طريق جهنم"!.
* في مقدمة الرواية في الصفحة رقم (7) يتحدث صاحب القصة الحقيقي علي العكرمي عن كونه لم يكن بطلاً لوحده، إنما يوجد آخرون عاشوا مثل محنته، وعانوا ربما أكثر مما عانى، ويقر بأن لا أحد يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، كما وجه في ختام مقدمته دعوة إلى الآخرين ممن عانوا في سجون النظام السياسي السابق إلى تسجيل وتوثيق معاناتهم.
أتفق مع على العكرمي في طرحه، غير أننا بحاجة أيضًا إلى توجيه الدعوة إلى الأطراف الأخرى، من مسؤولي النظام السياسي السابق، والذين شاركوا في إدارة السجون والتحقيقات إلى توثيق شهاداتهم، كما نوجه الدعوة أيضًا إلى المركز الوطني للوثائق التاريخية إلى ضرورة توثيق كل تلك الشهادات.
* يبدأ الكاتب الفصل الأول بحوار معمر القذافي مع نفسه، من خلال وقوفه أمام المرآة التي يصورها لنا الكاتب بأنها تغطي الحائط الذي يقف أمامه، حيث لا يرى إلا نفسه، وترتكز جُلّ حوارات ووقائع تلك الشخصية على مرحلة الحراك المجتمعي 17 فبراير 2011م، وحتى سقوط النظام السياسي، ويبلغ عدد الفصول التي تناولت شخصية القذافي حوالي (20) فصلاً، فمثلاً : يتحاور القذافي مع نفسه أمام المرآة فيقول " أما أنت فما زلت كما عهِدتُك؛ لن تتغير أبدًا "، " الدينا جمر وتمر، وأنا اخترتُ الجمر طواعية "، ثم يستطرد حواره مع نفسه فيقول " فهكذا قدر العظماء فالمصائب الكبيرة تختار أكفاءها " .
أعتقد بأن الكاتب أحسن تصوير الحالة التي تُبين لنا صورة الحاكم المتربع في الحكم لسنوات وهو لا يُبصر إلا نفسه، فهوى النفس هو الذي كان يُسيّر شؤون الحكم في ليبيا، بالتالي لم يُبصر القذافي ضرورات التغيير الواجب تنفيذها خلال فترة 2011م، كونه لا شبيه له، فيقول مثلاً : " أمن أجل أنه لا شبيه لي يرونني معتوه " ثم يبحث عن مبرّر لذلك فيقول " فالذين لا يفهمون عبقرتيك يُسرعون إلى نعتك بالمجنون"، بالتالي " لن تهزمك الأفاعي الصغيرة "، ويستطرد الكاتب في رسم ملامح شخصية القذافي المتضخمة حيث يقول على لسانه " فأنا من خلق ليبيا وأنا سوف أُفنيها "، فهو " أبو ليبيا "، وفي فصل آخر يستطرد الكاتب فيقول على لسان القذافي " لن يهزمني أحد، الآلهة لا تُهزم " .
في الحقيقة أبدع الكاتب في تحليل شخصية القذافي بلغة ومعاني تكشف المضمر في تلك الشخصية، والتي تنم عن انعدام البصيرة فيما يحصل حوله من أحداث وتغييرات جِسام، فمن يحسن التأمل ويدقق النظر في جُلّ تلك الفصول التي تناولت شخصية القذافي يستطيع أن يُدرك بسهولة بأن الكاتب استدعى عدد كبير من مقولات القذافي من خطاباته السابقة ووظّفها في سياق حديث رأس السلطة عن نفسه خلال فترة ما قبل سقوط النظام السياسي أغسطس2011م، فيُلاحظ مثلاً : تردد تلك الجمل والكلمات التي ذكرها الكاتب ما بين سطور تلك الخطابات، وهذا ينمّ عن كون الكاتب كان ملم بتلك الشخصية، فهي شخصية شاخت في الحكم، وهي تعتقد بأنها غير معنية بأيّ تغيير قد يحصل في ليبيا، لأنه أكبر وفوق من أيّ تغيير قد يحصل، فالعالي حسب وجهة نظر تلك الشخصية لا يُسقط، فالحياة في ليبيا أبان عهد القذافي كانت صوتاً واحداً وعقلاً واحداً، حكم فردي بامتياز .
* في الصفحات من (16-26) جاء الفصل الثاني من الرواية تحت عنوان " سِفرُ الجُرح "، حيث يبدأ الكاتب بسرد قصة (علي العكرمي)، عندما كان عائدًا إلى بيته فوجد عدداً من رجال الأمن في انتظاره أمام بيته، وطلبوا منه أخذهم إلى مكتبته المنزلية، وهم يقولون له كلمة يا " زنديق "، والتي وقعت على رأسه كالمطرقة، حيث تذكر ارتباط هذه الكلمة مع كل حالات التخلص من المعارضين، ثم يسرد كيفية دخوله مركز الشرطة، وكيف دخل السجن، وما تعرّض له داخل السجن حتى انضم إليه بعض الرفاق، فالحرية تفرقهم والسجون تجمعهم، والموت ليس إلا عبور للضفة الأخرى .
في الحقيقة أبدع الكاتب في عملية تصوير كل تلك الأحداث، والتي تجعل القارئ يعيشها بكل تفاصليها، والأهم من كل ذلك هو امتلاك صاحب القصة ذاكرة قوية، جعلته يتذكر تفاصيل وجزئيات تلك الأحداث بالرغم من مرور أكثر من الخمسين سنة عليها.
* في الصفحات (33- 47) يأتي الفصل الرابع والخامس تحت عنوانيّ " بُورتا بِينيتو " و" مائة دلاعة " و" بُورتا بِينيتو " يعني بالإيطالي " الحصان الأبيض" وهو سجن قديم بناءه الإيطاليون لاعتقال المجاهدين الليبيين، سمي بعد ذلك بالحصان الأسود، حيث تم تلوين الحصان الموجود بالسجن من الأبيض إلى الأسود، وهو سجن سيئ السمعة، في حين يُقصد "بمائة دلاعة" هو عدد المسجونين الذين قامت إدارة السجن بحلق شعرهم، حيث انتقل إليهم صاحب القصة (علي العكرمي) ليشهد الرعب، والهول، ويُمارس عليه أشد أنواع التعذيب، رفقة أولئك المسجونين، ويُبين لنا بأن السجن ضم عدد من المعارضين من حزب البعث، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والشيوعيين، والتروتسكيين، والإخوان المسلمين، وجماعة عصام العطار، وحزب التحرير، إضافةً إلى أصحاب المكتبات ضحايا الثورة الثقافية.
وحسب وجهة نظري فهذه المجموعات يشكلون المثقفين، والعلماء، والمفكرين، والأدباء في ليبيا آنذاك، وهم النخب التي حاول النظام السياسي تعطيل أو إيقاف إنتاجها في ليبيا، بالرغم من وجود تباين واختلاف فكري كبير بين هذه المجموعات، إلا أنني أُؤكد ما طرحه الكاتب في كون الأفكار فرقتهم والمحنة جمعتهم دون أية اعتبارات، ولا تصنيفات، ولا هويات، ولا توجهات سياسية أو مشارب فكرية.
* جاء الفصل السابع تحت عنوان " ضُباط المحاولة الانقلابية الأولى "، في الصفحات من (55-68) حيث يسرد صاحب القصة علي العكرمي، بأن السجن الذي يوجد به آوى كل الأشخاص الذين قاموا بالمحاولات الانقلابية ضد معمر القذافي، حيث يذكرنا بأولى المحاولات التي ضمت مجموعة من ضباط الصف يقودهم عبد الرحمن الوندي، ويسرد لنا تفاصيل ومشاهد عمليات التعذيب التي تعرضوا لها من خلال سلخ الجلد عن اللحم، وفصل اللحم عن العظم، ووضع الأسياخ الحديدية الحرارية في كل أنحاء أجسامهم، وجاء الفصل الثامن تحت عنوان " المحقرة "، في الصفحات (69- 72) يتحدث الكاتب عن المحقرة وهي سجن داخل سجن، ونُزلاؤها من الذين ينتظرون في أيّ لحظة أنْ يُساقوا إلى منصة الإعدام، عمومًا على القارئ بعد أن يُحاط بالمشاهد والتفاصيل المفزعة والمؤلمة أن يُدرك مدى قسوة ووحشية النظام السياسي في تعامله مع معارضيه، ومن ناحية أخرى تبرز الحاجة إلى توثيق جُلّ المحاولات الانقلابية التي حصلت أبان حكم معمر القذافي، كونها جزء من تاريخ ليبيا المعاصر.
* ننتقل بعد ذلك إلى الفصل العاشر، فتحت عنوان " منفيون في المنفى.. منفيون في الوطن "، في الصفحات من ( 73-79)، يبدأ على العكرمي بالحديث عن حياته وتعليمه في تونس حتى عاد إلى ليبيا العام 1966م، وعمره آنذاك 15 سنة، ومن ثم التحاقه بحزب التحرير، عن طريق أحد أقاربه، حيث يُبين بأنه عمل مُترجمًا في السفارة الصينية، وكذلك في السفارة التركية، وعمل أيضًا في أحد المصارف لكنه تركه كونه ربوي.
في الحقيقة إن السؤال الجوهري الذي يقفز إلى الذهن هنا: لماذا لم يتطرق صاحب القصة إلى تفاصيل التحاقه بحزب التحرير؟، لكون ذلك يُعد من الأحداث والوقائع المهمة وهو السبب الحقيقي لدخوله السجن، كما تدعو الحاجة ربما إلى طرح أهم أفكار وممارسات ذلك الحزب، أعتقد بأن الأمر كان بحاجة لمناقشة جميع تلك العناصر، فغيابها حسب اعتقادي يُشكل نقطة سلبية في هذه الرواية.
* في الفصل الحادي عشر يأتي عنوان " شهر الموت " في الصفحات من (80-85) حيث يتحدث علي العكرمي عن التعذيب في السجن، حيث يُوضح بأنه أصبح " أسلوب حياة "، فالتعذيب له مراحل ومستويات، فهناك التعليق في الجُدران، أو الأسقف للعمليات الجراحية، مثل الإخصاء، وفتح الرُكب، والصعق بالكهرباء، وغيرها.
إن المجال لا يتسع للحديث عن كل أنواع التعذيب التي سردها صاحب القصة، لكنه يختصر كل ذلك في مقولة تقول بأن " في السجن كان هناك صنفين عجبين، صنف الحيوانات الذي وضعونا فيه، وصنف الحيوانات الذي كانوا يُمثلوه ".
أعتقد بأن كل تلك الأساليب والأنواع من التعذيب ليست بالغريبة على نظام سياسي يُعد العنف فيه هو أساس تعامله مع المجتمع وأفراده، وهذا يدفعني إلى القول بأن العنف والتعذيب المتفشي في جُلّ سجون ليبيا في مرحلة ما بعد2011م هو امتداد طبيعي لتلك الجرعات التي ضخها النظام السياسي في سجونه، كما أن شعارات النظام في مرحلة الثمانينات والتي كانت تدعو إلى تصفية الأعداء مثل "صفيهم بالدم" و" كل الرؤوس فداء لرأسك " و" نحن شرابين الدم "، أعتقد أن كل ذلك أفضى إلى تعميق ثقافة العنف في المجتمع الليبي.
* في الصفحات من (90-98) يأتي الفصل الثالث عشر، تحت عنوان " الزبير وعبدالله والحاج صالح وآخرون "، حيث يتحدث علي العكرمي هذه المرة عن رفاق السجن فيذكر منهم : الزبير السنوسي وهو ضابط ليبي خريج الكلية العسكرية بالعراق، عاد إلى ليبيا في 1965م، أُلقي القبضُ عليه بتهمة المشاركة في انقلاب الأبيار، خرج من السجن العام 2001م، ليكون بذلك أقدم سجين ليبي يقضي في سجون بلاده، إحدى وثلاثين سنة، ثم يتحدث عن شخص آخر اسمه عبدالله المسلاتي، السجن كان يعج في منتصف السبعينيات بكل الأفكار من يساريين وليبيراليين وإسلاميين، وفي الفصل الرابع عشر (99-102) تحت عنوان " قليل من الهواء...كثير من الحرية "، يُبين صاحب القصة بأنه لا يزال يُقاوم الموت، ففي عام 1974م، أُفرج عن جُلّ المساجين واستُثني من هذا الإفراج المُؤقت أعضاء حزب التحرير، ثم عاد المساجين من التروتسكيين اليساريين، ولم يعد الإخوان المسلمين بسبب التفاهمات التي حصلت مع النظام السياسي؛ فسمح لهم القذافي بالعمل في جمعية الدعوة الإسلامية، من خلال اهتمامهم بالجانب الدعوي.
ومن وجهة نظري فإن مثل هذه الأمور كانت بحاجة إلى شرح وتفاصيل أكثر، فمثلاً: ألّا تحتاج شخصية مثل شخصية عبد الله المسلاتي - وهو اﻟﻤﺴؤول الأول عن حزب التحرير في ليبيا - أن يتم الحديث عنها بشكل أكثر تفصيل؟ كونه من قيادات حزب التحرير، كذلك الأمر كان بحاجة إلى توضيح حول: هل حدثت تفاهمات بين حزب التحرير والنظام السياسي خلال تلك الفترة مثلما حصلت مع الإخوان المسلمين؟ ولماذا عاد التروتسكيون اليساريون بعد خروجهم من السجن مرة أخرى؟، فمن الواضح بأنه عام 1974م، شكّل مسألة تحول جد مهمة، كانت بحاجة إلى توضيح وتفصيل أكثر.
* جاء الفصل الخامس عشر تحت عنوان " من ظلام السجن إلى ظلام القبر" في الصفحات (103-108) حيث يتحدث علي العكرمي بأنه خلال سنة 1977م، تمّت إحالته ورفاقه في الحزب إلى محكمة الشعب، وهي كما يقول محكمة استثنائية بامتياز، حيث يقول " حُكمنا (15) سنة، ثم لم يرق الحُكم للنظام فغيره إلى الإعدام، والُمؤبد" والتهمة؛ حزب التحرير، تنظيم سياسي محظور، يعمل لقلب نظام الحكم وإقامة الخلافة الإسلامية، كما أن الحزب يرى في النظام السياسي " نظامٌ عميلٌ فاسدٌ، في حين كان رأيهم في " معمر القذافي بأنه جاء بلعبة دولية "، ويُقر علي العكرمي بأن النظام السياسي أرسل إليهم أحد المشايخ لأقناعهم بالعدول عن أفكارهم، لكن صاحب القصة يردّ على ذلك الشيخ بقوله " نحن جئنا لهدم النظام وتحطيمه وزلزلة أركانه ".
إن السؤال البارز الذي يُطرح هنا: ألّا تشكّل أفكار هذا الحزب تشدد وعنف؟، كما يُطرح تساؤل آخر وهو: ألّا يحمل ردّ صاحب القصة على الشيخ جرعات كبيرة من العنف؟!، وهنا أطرح سؤال مهم وهو: ألّا يُحق للنظام السياسي السابق الدفاع عن نفسه من أفكار تدعو إلى القضاء عليه؟!.
بالرغم من كوني لستُ بصدد تبرير لما قام به النظام من ممارسات عنيفة ضد المعارضين، وخاصةً أعضاء حزب التحرير، حيث أنني ضد ممارسة العنف والتعذيب سواء من طرف النظام السياسي اتجاه المعارضين، أم من طرف المعارضين اتجاه النظام السياسي، وتطرّق أيضًا صاحب القصة إلى حزب سياسي اسمه " حزب العودة " تمّ تأسيسه في السبعينيات من القرن الماضي، يدعو للعودة إلى الدستور، ويدعو إلى الدولة المدنية، كما تطرّق إلى قضية اسمها قضية " جند الله " دون الخوض في تفاصليها، وكذلك قضية " الطلائع " وقضية " الطلبة " وأحداث " باب العزيزية " وقضية " المغرب العربي الإسلامي" وقضية " الزنتان".
أعتقد بأن كل ذلك لا يزال بحاجة إلى عمليات الكشف بغية إزالة العتمة المضروبة حول تلك القضايا، فالمعلومات الموجودة في الرواية عن تلك القضايا كانت مقتضبة جدًا، بالرغم من أهميتها، إلا أنها لم تحظَ بالتحليل والكشف بشكل أوسع وأعمق.
* في الصفحات (109- 117) جاء الفصل السادس عشر تحت عنوان " التروتسكيون" يُبين علي العكرمي بأن التروتسكيين كانوا متعاونين جدًا مع أعضاء حزب التحرير بالرغم من الاختلافات الأيديولوجية، كما كشف عن وجود ميثاق أخلاقي معهم ومع غيرها من التيارات والمجموعات الموجودة بالسجن، يحدّد مساحات وحدود النقاش المسموح بها، ووصل هذا التعاون إلى حد قيام أحد أعضاء التروتسكيين بكتابة مناشير خاصة بحزب الدعوة يتم توزيعها داخل السجن وخارجه، ويوضح إلى كونهم ينحدرون من عائلة واحدة، حيث ينتمون إلى قبيلة ذات جذور وطنية، ويرى بأن الفكر التروتسكي لم يكن أصيلاً في البيئة التي عاشوا فيها، وبالرغم من الاختلافات إلا أنه هناك مساحة للحوار معهم، حيث يؤكد بأنهم كانوا يتمتعون بخصال رائعة يفتقدها الكثير من الإسلاميين الذين يتصدرون المشهد اليوم.
أعتقد أن فهم تيار التروتسكيين وبشكل أفضل في ليبيا أمر لا يزال بحاجة للمزيد من المعلومات والتحليل، كما حرى بنا أن نذكر أن مسألة التعاون والانسجام بين حزب التحرير والتروتسكون تطرح مسألة ازدواجية أو ثنائية التعامل، فكيف يتعامل حزب التحرير مع التروتسكيين ذي الاتجاه الاشتراكي اليساري، ويرفض التعامل مع النظام السياسي الموسوم تقريبًا بنفس السمات؟ أم إن وجود التيارين في السجن وحّد المحنة، وعمّق الإنسانية الموجودة في أعماقهم؟، أسئلة تحتاج إلى وقفة للتدبّر لضمان فهم تلك الوقائع بشكل أفضل وأعمق.
* في الفصل الثامن عشر والذي أختار له الكاتب عنوان " إنا سلكنـا طرِيقًـا قد خبرنـاه "، في الصفحـات (125- 130) يتحدث صاحب القصة في هذا الفصل عن رفاق سجنه من أمثال حسن الكردي، وصالح النوال، ومهذب احفاف، وعمرو النامي، حيث يقول أنه كان على صلة وثيقة بسيد قطب، كما يقول كثيراً ما كان يُجادل البعثيين والقوميين ولكنه يعانقهم في آخر حواراته معهم، ليرسم في قلوبهم سؤالاً عن قبوله الآخر والبحث عن المشتركات التي تجمع ولا تفرق.
أعتقد بأن الشخصيات الموجودة في هذا الفصل كانت بحاجة إلى أنْ تحظى بمزيد من الكشف والتحليل، كما أن صاحب القصة يطرح مسألة جد مهمة وهي الحاجة المجتمعية إلى تأصيل ثقافة قبول الآخر، وحق الاختلاف والتعدد، وربما كان بحاجة أيضًا إلى ربطها بممارسات حزب التحرير نفسه.
* الفصل العشرون في الصفحات من (137-144) وضع الكاتب عنوان " الحاج صالح " وهو أحد رفاق علي العكرمي في الزنزانة، حيث كان معه في نفس رحلة السجن " بكل ألوانها وتقلباتها ومخاضاتها وانهزاماتها ولوعاتها ".
أعتقد بأن شخصية صالح النوال وهو أحد قيادات ورموز حزب التحرير كانت بحاجة إلى التعريف بها أكثر وذلك قبل الولوج إلى رحلته في السجن، فمثلاً : يعتبر صالح النوال أول من أسس فرع حزب التحرير الإسلامي في ليبيا، وذلك عقب رجوعه من مهجره في سوريا عام 1964م.
* في الصفحات (149-155) يأتي الفصل الثاني والعشرون تحت عنوان " الشعر والشعراء"، حيث يتحدث صاحب القصة عن أحد المسجونين وهو عبد العاطي خنفر ويقول بأن الشعراء كانوا يصدحون بما يحفظون من أشعارهم فكانت القصائد تلهب المشاعر، تقتل اليأس، تُحرّض على الأمل، وتملأ فراغ القلب.
أعتقد بأن هذا الأمر ربما يدعو إلى طرح مسألة الحاجة إلى توثيق تلك الأشعار كونها ارتبطت بتلك المرحلة التاريخية مهمة من تاريخ ليبيا.
* في الفصل الثالث والعشرين يتحدث علي العكرمي عن رفيق آخر وهو صالح الدلال في الصفحات (156-163)، دون الخوض في التعريف به، وماهية التهم الموجهّة إليه، كما يُبين بوجود فترات رخاء داخل السجن، فأوضح مثلاً: قيام إدارة السجن في بعض الأحيان بتوزيع ما أرسله الأهل من طعام وفواكه.
أعتقد بأن الإشارة لمثل هذه الوقائع تمنح هذه الرواية الكثير من المصداقية والموضوعية والنزاهة، وهي أمور تُحسب لصالح صاحب القصة.
* ننتقل بعد ذلك إلى الصفحات (174-181) حيث يأتي الفصل الخامس والعشرون والذي يعود فيه صاحب القصة للحديث عن الزبير السنوسي، وآخرون من أمثال عمر الواحدي، وعبد الونيس الحاسي، حيث يُوضح لنا بأنهما فرا إلى الحدود المصرية سنة 1967م، بالدبابات لدعم الجبهة المصرية في حربها ضد إسرائيل، إضافةً إلى عمر الحرير، وآدم حواس، وموسى أحمد وهم ضباط ساعدوا القذافي في انتصار ثورة الفاتح، لكنهم أصبحوا يقبعون في السجن وفي المحقرة حيث الجحيم، والموضع الخصب للموت البطيء، ويوضح دور أحمد موسى في ثورة الفاتح كونه سيطر على معسكر قرنادة والذي يُعد من أبرز المعسكرات في المنطقة الشرقية، فانتصار القذافي في ثورته لم يصنعه لوحده، بل كان معه لاعبين كُثر، ومنهم من له دور أكثر تأثيرًا منه على أرض الواقع، لكنه راح يتفرّد بالسلطة، وصار يتصرف على أنه لا أحد سواه صنع هذه المعجزة .
أتفق مع صاحب القصة حول التحليل الخاص بانفراد القذافي بالسلطة، حيث لم نعد نرى أحداً سواه، في مرحلة ما بعد خطاب زوارة 15 أبريل 1973م، فأصبح هو القائد والمفكر الأوحد، وهو صاحب الثورة، أما الباقون من أعضاء مجلس قيادة الثورة فأصحبوا مجرد " كومبارس" لهم بعض الأدوار الثانوية المحدّدة لهم مسبقًا من قبل القذافي، بالتالي فهم يتحملون مسؤولية الصمت المطبق، والذي أدى إلى تأسيس وبناء الفكر والصوت الواحد، كما تبرز الحاجة لكتابة مثل هذا التاريخ، وهي دعوة لكل المختصّين في التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم السياسة، وعلوم العسكرية من أجل وقفة جادة للتدبّر حول أهمية هذا المشروع.
* الفصل السابع والعشرون من الصفحات (186-193) تحت عنوان " خيوط الدم منارات الأحرار"، يتحدث علي العكرمي في هذا الفصل عن مسألة إدخال الكتب إلى السجن من خلال السلال التي تأتي بالطعام من قبل الأهل، فالقراءة حسب وجهة نظره تحمي من الجنون والعته، كما ذكر حلاً آخر وهو قيام إدارة السجن بعمليات تفتيش عن الكتب، حيث يقول " وتمثل الحلّ في أن يُقرِئنا كل واحد ما قرأه وثقفه قبل دخوله السجن، قراءة الكتاب الموجود في عقله "، فالقراءة حسب وجهة نظره السلاح الأخطر لمواجهة الطغيان، كما أوضح أيضًا بأنه كان بالإمكان الاستماع إلى المذياع من خلال رشوة الشرطي بمبالغ مالية كبيرة، وتطرّق في هذا الفصل إلى بعض الشخصيات مثل : الدكتور المفتي وهو خريج كلية الطب ليدز، وعامر الدغيس؛ القيادي في حزب البعث، وصديقه محمد حمّي.
أتفق مع صاحب القصة في كل ما طرحه بخصوص أهمية القراءة والمطالعة، فالكتب هي حصون العقلاءِ التي يَلْجأون إليها، وبساتينهُمُ التي يتنزهون فيها، والمطالعة للنفس كالرياضة للجسم، ويبرز هنا سؤال مهم حول ما نوعية الكتب التي يتم الاطلاع عليها؟ وهل كانت هي نفسها تلك القراءات والأفكار التي أدت بهم الزج بهم في غياهب السجن؟، كما نودّ التطرّق إلى ملاحظة حول الشخصيات التي تمّ ذكرها في هذا الفصل، حيث أعتقد بأنها ربما كانت بحاجة إلى التعريف بها قبل البدء في الولوج إلى الحديث عنها.
* تحت عنوان " الإنسان مُعجزة " يأتي الفصل الثامن والعشرون من الصفحات (194-199) حيث يقول الكاتب في هذا الفصل المخلوق صورة الخالق، والقدرة على الفعل إرادة، والعجز موت، والتذرع بالأعذار ضعف، والجلوس في دوامة الحياة دون أنْ تدري ماذا تفعل أو ماذا تريد كارثة، ومواجهة الريح بالإعصار حل، ومغالبة الموج بيدين عاريتين في بحر هائج مُقدم ومُقدس على الاستسلام. الاستسلام كفر. سنقاوم ما دامت هناك فرصة للنجاة من الموت ولوكان الامساكُ بها كالإمساكِ بريشة في عاصفة.
أبدع كاتب الرواية في جُلّ تلك المقولات، وهي بحق بحاجة إلى تدبّر، وعلى المرء أنْ ينتفع منها، ومثلما يُقال في كل مثلٍ شيء من الحكمة، وهي أقرب إلى حِكُم الأجيال.
* الفصل التاسع والعشرون من الصفحات (200-207) تحت عنوان " سبعة وعشرون بقرة " يفرد علي العكرمي هذا الفصل للحديث عن أحد رفاقه اسمه عبد القادر الأصفر كان عريف في الجيش الليبي، حاول تهريب أحمد ابوليفة أحد المشتركين في انقلاب عمر المحيشي في 1975م .
أعتقد بأن انقلاب عمر المحيشي لا يزال يشوبه الكثير من الغموض، وهو بالتالي بحاجة إلى المزيد من الكشف، كما أقدّر لصاحب القصة عدم خوضه في تفاصيل ذلك الانقلاب، حيث أن ذلك سيبعد الرواية عن مضمونها وهدفها؛ وهو السعي الحثيث نحو توثيق ورصد أحداث ثلاثين سنة التي قضاها صاحب القصة في سجون النظام السياسي السابق.
* الفصل الثلاثون من الصفحات (208-212) تحت عنوان مع " المهدي المنتظر" يستمر صاحب القصة بالحديث عن رفاقه وهذه المرة شخص اسمه علي عون كان يعتقد نفسه بأنه " المهدي المنتظر" حيث يقول كان كلامه مشحون بالنبوءات، وبنظريات المُؤامرة، وبفرضيات النهايات الكبرى للكون، حيث يقول سأله الخويلدي الحميدي عندما كان وزير الداخلية ما رأيك في القذافي فقال له " سِنورٌ خبيث، وشيطان أمرد، وسيأتيك حينه " فسأله "ماذا تقصد بكلمتك الأخيرة؟ "، فقال له : سيقتل، فرد الخويلدي الحميدي : كيف؟ فقال له " كما قُتل فرعون؛ بالغرق"، ثم سأله الخويلدي بما أنك المهدي المنتظر فما رؤيتك لنا وللنظام؟ فيرد عليه علي عون : ستنقسمون إلى قسمين؛ وستنتصر أنت والقذافي وستحكم بشريعة الشيطان، وستحكمون بالاشتراكية، وستسيل بينكم بِرك من الدماء، ولن يكون لكم التوبة "، فيرد الخويلدي ولكن نتوب عن ماذا يا مولانا؟ فيقول له " عن الشيطان الذي يسكنكم ".
في الحقيقة ما شدّني إلى هذا الحوار ليس مضمونه؛ إنما في أطرافه؛ وبشكل خاص وزير الداخلية آنذاك الخويلدي الحميدي، فكثرة تساؤلاته أكاد أجزم بأنها تنمّ عن مسألة اعتقاده بقدرة ذلك الرجل على التنبؤ، وهذا يطرح مسألة أخرى وهي مدى ضعف وهشاشة من كانوا يقودون تلك المرحلة.
* الفصل الواحد والثلاثون من الصفحات (213-220) تحت عنوان " خُروُر الصنم "، يتناول في هذا الفصل أحداث 7 أبريل 1976م، حيث تمّ سجن مجموعة من طلاب الجامعات نتيجة لوقوفهم ضد بعض قرارات النظام السياسي السابق، حيث يتحدث عن نوري الماقني رئيس اتحاد الطلبة آنذاك، ويُوضح علي العكرمي بأن القذافي طلب من رئيس اتحاد الطلبة للاجتماع معه وقال له مهددًا " اسمع ...أنا جيت بالسلاح والراجل يجي يطلعني بالسلاح ...أنا رجل دولة ... وبارك الله في أني دعيتك ...أنا نوريك ...أنا نقتلك "، ثم يستطرد صاحب القصة فيقول تعرّض الطلبة لحملة محمومة من الاعتقالات قتلت بعض القيادات، فيما تعرّض البعض الآخر لوسائل شيطانية من التعذيب، وأنشأ القذافي تنظيم جديد مناوئًا لاتحاد الطلبة ليقطع الطريق أمام المطالبين بالحرية والديمقراطية، وضمّ هذا التنظيم الجديد عدد من اللجان الثورية حيث كانوا مسلحين يستخدمون الرصاص في القتل عشوائيًا ودون أيّ رقابة.
في الحقيقة كلمات القذافي تلك تضّمنت شحنات عنف شديدة قد تكون غير معتادة في المجتمع آنذاك، لكنها لن تكون مقبولة بأيّ حال عندما تأتِ من رئيس الدولة في أيّ زمان كان، عمومًا يمكن القول بأن منهج العنف أصبح جزء من خطابات وحوارات القذافي مع الجميع دون استثناء في مرحلة ما بعد 1973م، وأعتقد بأن حوارات النظام السياسي الساخنة في جامعتي طرابلس وبنغازي خلال الفترة من 1973- 1975م، وأحداث أبريل 1976م، وأحداث العمال 1978م، وإعدامات الثمانينات في الساحات والميادين العامة، رسّخت ذلك المنهج ليس في الخطابات وحسب، إنما أيضًا في ممارسات القذافي ونظامه السياسي، كما أعتقد أيضًا بأن كل ذلك لايزال بحاجة إلى التحليل والكشف بشكل أعمق.
* تحت عنوان " كرسي الاعتراف " يأتي الفصل الثاني والثلاثون من الصفحات (212- 220)، حيث يقول علي العكرمي في قصته للقضاء على الكبت، وسوء المعاملة ورتابة المكان، والسعي نحو فتح نافذات للمستقبل؛ كان يجلس السجين الذي وقع عليه الدور يحكي سيرة حياته، من أول ما اعتقل إلى اليوم، حيث يحكي طفولته، أو شبابه، وأسراره، وأحلامه، وعن رؤاه ونظرته للمستقبل، كان ذلك تفريغًا للكبت المتراكم في الصدر، والأهم من كل ذلك يقول العكرمي " بأن جُلّ الحوارات كشفت عن تفاؤل الكثيرين بحصولهم على غدٍ أفضل وعلى مستقبل تتحقق فيه الطموحات ".
في الحقيقة ما طرحه علي العكرمي في هذا الفصل يتضّمن حسب اعتقادي بُعدين هما : البعد الأول؛ بالرغم من السنوات الطويلة من السجن والتعذيب إلا أن ذلك لم يقتل روح الأمل فيهم، والبعد الثاني، وهو رسالة إلى كل الليبيين بعدم الركون إلى التشاؤم، فالتشاؤم علامة العجز، فنحن نصبح متفائلين عندما تستطيع عقولنا فتح نوافذ الأمل على المستقبل.
* الفصل الثالث والثلاثون من الصفحات (221- 234) تحت عنوان" الراهبات الثوريات"، يتحدث صاحب القصة في هذا الفصل عن الراهبات الثوريات، وشروط اختيارهن، حيث يُبين بأن أول ظهور لهن كان في سنة 1980م.
في الحقيقة بالرغم من أهمية موضوع الراهبات الثوريات، والذي لا يزال من ضمن الموضوعات المسكوت عنها في المجتمع الليبي، إلا أن طرحه في سياق هذه الرواية قد يُفسد مضمونها، ويحيد بنا عن جوهرها، ولذلك أعتقد بأن هذا الإقحام قد أثقل كاهل الرواية في مسائل وجزئيات بعيدة عنها.
* ننتقل بعد ذلك إلى الفصل الرابع والثلاثين من الصفحات (221- 242) تحت عنوان " شيطان في ثوب إنسان "، حيث يتحدث صاحب القصة هذه المرة عن مدير السجن اسمه " عامر المسلاتي "، ويُؤكد بأنه كان محكومًا عليه بقضية قتل عدد من اليهود أبان العهد الملكي، لكن مع مجيء القذافي في 1969م خرج من السجن ورُقيّي من رتبة رئيس عرفاء إلى ملازم ثان، وأصبح مديرًا للسجن سنة 1981م.
وهنا أجزم بأن صاحب القصة، إضافةُ إلى كاتب الرواية قد نجحا في إزالة العتمة المضروبة حول هذه الشخصية، حيث لفت صاحب القصة إلى كون ممارسات مدير السجن العنيفة والشاذة ليست بالغريبة عن تاريخه الإجرامي.
* في الصفحات (243-251) يأتِ الفصل الخامس والثلاثون تحت عنوان " مخيرون بين الموت والموت "، حيث يستعرض علي العكرمي في هذا الفصل تهديدات القذافي للمعارضة الليبية في الخارج بالقتل، فكانت البداية مع محمّد رمضان المذيع في إذاعة بي بي سي البريطانية، ومن ثم محمود نافع وهكذا، حملة تصفيات شملت الليبيين في أوروبا بشكل خاص، ومع مرور الوقت أصبح من يدفع المال ينجُ، وصار السجّان أكثر تعاطفًا معنا، المال يرقّق القلوب، والراحلون الذين غادروا الحياة أمام أعيننا ينفلتون من العدّ، نركض هربًا من الموت فنجده أمامنا لأننا نهرب إليه.
في الحقيقة أبدع الكاتب في اختياراته لتلك العبارات والجمل، والتي أعطت دلالات اجتماعية وإنسانية عميقة وواضحة، ورصدت تفاصيل الأحداث داخل السجن أو خارجه، كما نجح صاحب القصة في تناوله لهذا الموضوع ومحاولة ربطه بين المعارضة بالخارج والداخل، فالمصير واحد، كما أننا لسنا بحاجة إلى التذكير من جديد بمسألة العنف التي ضخّها القذافي في المجتمع الليبي، وبجرعات كبيرة أثرت حتى على بعض المفاهيم المستخدمة في التعامل اليومي.
* الفصل التاسع والثلاثون من الصفحات (263- 269) تحت عنوان " قلبي تُفاحة كل شيء " يتحدث صاحب القصة عن كون السجن كان يعجّ أيضًا بالسجينات من النساء، حيث يُبين بأن التهم الموجهة إليهن كانت التعاطف مع السجناء، وهذا يعني أنهن ربما كن أقارب لهؤلاء السجناء، ثم يتطرّق إلى شخصية أخرى، وهو المسؤول عن السجن العسكري وهو خيري خالد أحد رفاق القذافي في انقلاب 1969م، وأخ زوجته الأولى السيدة فتحية خالد، حيث أصبح مدير الشرطة العسكرية، ويُوضح علي العكرمي بأن خيري خالد توعّد السجناء في إحدى محاضراته التي كان يلقيها عليهم بأنه يرمي جثث السجناء في البحر لتكون طعامًا للحيتان، ثم يحدثنا عن المجموعة التي خططت للانقلاب على القذافي، وهي مجموعة عمر المحيشي فيذكر منهم، ستة ضباط هم : النقيب عمران الدعيكي، النقيب عبدالمجيد حسين بريبش، الملازم إسماعيل الدغاري، الملازم فرج بن علي، الملازم أحمد ذياب، الملازم محمّد سعد الدرادح، حيث يؤكد بأنه تم قتلهم جميعًا، بعد ذلك ينتقل إلى عمر المحيشي الذي استطاع الإفلات والهروب إلى تونس ومن ثم إلى مصر، ومن ثم المغرب الذي سلّمه للقذافي بمقابل مالي سخي، حيث قتله ذبحًا على يد سعيد راشد أحد أعضاء الخلية التي أصبحت مقربة من القذافي في مرحلة ما بعد 1976م.
في الحقيقة أعتقد بوجود عدد من المعلومات والمسائل المتداخلة بعض الشيء في هذا الفصل وربما تحتاج إلى الفصل لتكون أكثر وضوحًا، كما أن بعضها مقتضب قد يحتاج إلى أن يكون فصلاً لوحده، فمثلًا : موضوع السجينات ربما كان بحاجة إلى أن يكون فصل لوحده كي يتم إبرازه بالشكل المطلوب والمناسب، ومن ناحية أخرى فأن ما يطرحه صاحب القصة من حوارات أو ممارسات موسومة بالعنف يؤكد أن القذافي نجح في تأصيل ثقافة العنف ضمن حوارات وممارسات رفاقه.
* الفصل الاربعون من الصفحات (270-275) تحت عنوان " اسكُت يا كلب "، يُفرد في هذا الفصل الحديث عن مدير السجن عامر المسلاتي، حيث يقول صاحب القصة أن مجرد رؤيته تعني الموت، كان يتسلى بالقتل، ويتلهى بالذبح، ثم يتحدث عن كشفه لمحاولة تهريب بعض المأكولات إلى بعض المساجين من الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، كما كان يتبع سياسة العصا الغليظة تجاه السجناء، والتعذيب دون رادع، ونقل سلطاته إلى حرسه، ومنع الزيارات، وانتشرت الإمراض نتيجة الإهمال الصحي المقصود.
في هذا الجانب نرى أن الكاتب أحسن في صياغة الجمل والعبارات التي تعبر عن شخصية مدير السجن، وعن أجواء الأحداث في السجن آنذاك، حيث كانت اللغة سليمة وموضوعية وبعيدة عن الغموض، كما أحسن صاحب القصة بسرده لتفاصيل ممارسات مدير السجن وحرسه، وعمومًا يمكن القول بأن تلك الممارسات هي نتيجة حتمية للنمو المفرط للعنف في ليبيا آنذاك.
* الفصل الواحد والأربعون من الصفحات (276- 282) تحت عنوان " منافي العمر "، في هذا الفصل يتحدث صاحب القصة عن شخصية مهذب احفاف أحد أعضاء حزب التحرير، حيث يسرد قصة زيارة القذافي له في السجن، وهو يعرض عليه منصب أمين اللجنة الشعبية لشعبية غريان مقابل تخلّيه عن أفكاره، لكنه رفض ذلك العرض، وفي صباح 7 أبريل 1983م تمّ إعدامه بساحة كلية الهندسة جامعة طرابلس آنذاك، كما تحدث عن صالح النوال أحد أعضاء حزب التحرير الذي تمّ اعتقاله فيما سميت بالثورة الشعبية أبريل 1973م، وبقي رهن السجن والاعتقال لمدة عشرة سنوات، فتمّ إعدامه في السجن، وتمّ اختلاق النظام السياسي لقصة انتحاره داخل السجن.
أعتقد بأن الأمر كان بحاجة إلى ضبط بعض المفاهيم المستخدمة بشكل أكثر دقة، فمثلاً مفهوم الشعبيات والذي يعني المحافظات لم يكن معروفًا أبان فترة الثمانينيات من القرن الماضي، في حين أن اسم جامعة طرابلس كان اسمها جامعة الفاتح أثناء الفترة التي حددها صاحب القصة.
* الفصل الثاني والأربعون من الصفحات (282-289) تحت عنوان " مازال في العمر بقية "، في هذا الفصل يسرد صاحب القصة شهادته حول ممارسات النظام الوحشية داخل السجن، حيث يقول ألزموني للوقوف على رأس أحد السجناء وهم ينهالون عليه بالضرب، ورأى سجناء قُلعت أظافرهم وجلود اصطبغت بالدم، وأصابع مقطوعة، ورأى سجناء ماتوا تحت التعذيب، كما يُبين بأن عبد الله السنوسي كان يمر على بعض السجناء من أمثال الزبير السنوسي، وعبد الونيس الحاسي ويتأكد من وجودهم وهل تحولوا إلى مسخ، هل جُنوا، أم هل ماتوا؟، كما أوضح بأن القذافي طلب من آدم الحواز أن يكتب له استرحامًا حتى يخرجه من السجن، فبصق حواز في الطلب الذي قُدم له، وتوعّده القذافي وقتله في السجن، وبقيت جُثته ضمن الجثث التي يحتفظ بها القذافي في الثلاجة.
وهنا نسارع إلى القول بأنه على القارئ بعد أن أحاط بهذه الممارسات الوحشية من التعذيب والإذلال أن يُدرك بوجود سيل عارم لا ينقطع من العنف منذ 1973-2011م، ويُلاحظ على هذا السيل من العنف بأن مرجعيته واحدة وهو شخص القذافي، ولعل احتفاظه بالجثث في الثلاجة يأتي في إطار استمراره الدؤوب في سياسة التعذيب والإذلال لتلك الأجساد، حتى وإن كانت أرواحها حلقت بين ملائكة السماء وإرتقت إلى ربها بسلام وهي تقول بأي ذنبًا قُتلتُ يا رب.
* الفصل الثالث والأربعون من الصفحات (290- 293) تحت عنوان " نحن إن متنا فمن أجل الربيع "، يتناول صاحب القصة في هذا الفصل رفيق جديد وهو عبدالعزيز الغرابلي، حيث دخل السجن منذ 1973م وهو من التيار التروتسكي، أسس في السجن مجلة إبريل صدر منها حوالي 30 عددًا، وكان رئيس تحريرها، كما أسس مع رفاقه مجلة أخرى في السجن اسماها مجلة المتراس، توفى في السجن 28 يناير 1984م، في هذا الوقت بالذات نحتاج إلى أن نستحضر عطاءه وتضحياته وتعاطيه مع قضايا الوطن، ويضيف أن الشعر والغناء العابق بالأمل والاحتفالات والمهرجانات التي كانت تُقام رغم القضبان الصدئة، وعفونة الزنازين الرطبة كانت ضمن أدوات المقاومة.
أعتقد بأن قيام بعض السجناء بإصدار مجلّة ربما يكون مؤشرًا إلى إفساح المجال لبعض الحريات داخل السجون، إن ما يدعم وجهة النظر هذه هو العدد الكبير من إصدارات تلك المجلّات، وعلى أيّ حال فإنه من المؤكد بالنسبة لي أن ذلك ربما يعد تراجعًا في ممارسات العنف وتقييد الحريات داخل السجون، ولكن لكونه تدريجيًا فإنه لم يلفت الانتباه إليه، كما تبرز الحاجة أيضًا إلى توثيق تلك الأعمال وشخوصها.
* الفصل الخامس والأربعون من الصفحات (298- 304) تحت عنوان " سيزُهرِ روضُ الحياة ِ العشيب "، يتحدث علي العكرمي في هذا الفصل مرة أخرى عن الدكتور عمرو النامي، حيث يقول : أبعده القذافي إلى أمريكا ليدرس هناك، وبعد بضعة شهور جاء مسلم أمريكي والتقي القذافي في إحدى اللقاءات وقال له " تهدرون طاقاتكم فتُصدرونها إلينا، وتتركون شخصية مثل الدكتور عمرو النامي يستفيد منه الأمريكان ولا تستفيدون أنتم منه "، أصيبتْ خلايا الدماغ الذي يملكه القذافي بكهربة من نوع حارق، ونادى عمرو النامي وطلب منه العودة من أمريكا، ونفاه من جديد إلى اليابان، ليُدرس في الجامعات اليابانية، فلا أحد من هناك سيأتي ليقول له العبارة التي قالها الأمريكي، عاد عمرو النامي من اليابان بعد سنوات الغربة، رفض الرقابة التي فُرضت عليه عندما كان يُدرّس في كلية الدعوة الإسلامية، فقرر أن يذهب إلى قريته في نالوت ليمارس مهنة راعي الغنم، رغم كل ذلك لم يتركه القذافي فبحث عنه، وتمّ اعتقاله فعاد مرة أخرى إلى السجن، تمّ نقله إلى مستشفى قرقارش للأمراض العقلية بعد تعرضه للضرب في رأسه من قبل أحد حراس السجن، أرسل رسائل إلى صاحب هذه القصة، واختفى النامي أواخر سنة 1984م لينضم إلى الجثث التي يحتفظ بها القذافي في الثلاجة.
في الحقيقة تُشكل شخصية عمرو النامي إحدى الشخصيات الوطنية التي تعرّضت للاضطهاد الشديد بسبب تميزها وتألقها الفكري، وذلك في ظل نظام سياسي استبدادي يرفض التفكير المتميز والمتألق، ويعتقد بأن تلك السمات موجودة فقط في شخصية رأس السلطة، فهو المفكر المتميز والمتألق الأوحد، وأكاد أجزم بأنه عندما تهتف له الجماهير بعد كل خطبة " علّم يا قائد علّمنا كيف نحقق مستقبلنا " فأنه يعيش تجليات ذلك التميّز والتألق، أو ما يُسمى بـــ " وهم العبقرية الفذة ".
* الفصل السادس والأربعون من الصفحات (305-310) تحت عنوان " نموتُ واقفين "، في هذا الفصل يتحدث صاحب القصة عن أحداث 8 مايو 1984م، عندما اشتبكت قوات الأمن مع مجموعة تابعة لجبهة إنقاذ ليبيا، حيث قُتل رئيس المجموعة أحمد حواس، فيما تمّ القبض على بعض رفاقه، مثل عماد الحصائري، وعلي حمودة، والمهم في الموضوع تلك الكلمات التي كتبها أحمد حواس بخط يده، ووصلت بطريقة ما إلى جيب صاحب القصة من أحد رفاق أحمد حواس والذي تمّ إعدامه فيما بعد، وتقول تلك الكلمات " إن النظام الليبي يُمثل حلقةً من الحلقات، ولا يُمكن اعتباره ظاهرة مُنعزلة عن ظاهرة الانقلابات العسكرية، التي فُرِضت على العالم الثالث، والتي كان من نتيجتها تأخير تنمية هذه البلدان وتطورها بكل تعمّد، وذلك عن طريق إهدار الموارد الاقتصادية والبشرية للبلد، وعن طريق إقحام الشعب في تجارب غير مدروسة، ولا ناضجة بقصد تفريغ المجتمع من أيّ شكل تنظيمي مُستقر يُمكن أن يجلب للبلد تقدمًا مطردًا وملموسًا، ويُمكننا أن نلحظ بسهولة أن المصالح الأجنبية في أغلب بلدان الانقلابات العسكرية لم تتأثر بصورة فعّالة "، كما يُوضّح علي العكرمي بأنه في نفس السنة 1984م تمّ إعدام عبدالله المسلاتي، وحسن الكردي من قيادات حزب التحرير.
في هذه الجزئية من الرواية أعتقد بوجود حاجة ماسة لكتابة مثل هذا التاريخ، كما أرجو من القارئ أن يُمعن التدبّر جيدًا في كلمات أحمد حواس حيث سيلاحظ بأنها اتسمت بالوعي المُسبق لماهية مشروع القذافي في ليبيا، كما أعتقد بأن شخصية حسن الكردي كانت جديرة بشيء من التفصيل، خاصةً وأنها الشخصية التي أقحمت صاحب القصة في عضوية حزب التحرير.
* الفصل السابع والأربعون من الصفحات (305-317) تحت عنوان " من منفى إلى منفى "، في سنة 1984م، يقول علي العكرمي بأنه تمّ نقلهم إلى سجن أبوسليم وهو سجن بناه القذافي مُستعينا بالألمان، حيث هدّموا سجن الحصان الأسود، واعتبروه رمزًا للعهد البائد، وأقاموا على أنقاضه حديقة أسموها حديقة الحرية، يُبين صاحب القصة بأن السجن الجديد صُمّم للتعذيب، حيث كان كل ما تتمناه عقلية الجلّاد موجود بالسجن، وحسب الطلب، كما تطرّق إلى موضوع جد مهم وهو شخصية الجلّادين حيث يقول لم نعرف لماذا الكره العتيق العميق في قلوبهم لنا؟، ويقول أيضًا كنا نراهم مخطوفي الأذهان لصالح العدوى الذهنية ولصالح الدعاية المستمرة ضدنا في كل الوسائل، كانوا تحت تأثير الضغط والتكرار والتدريس، ثم يطرح تساؤل جد مهم وهو : كيف يتصرف هؤلاء مع أهلهم وأبنائهم؟، كيف يتصرفون في الأسواق؟ هل يقولون شكرًا أو من فضلك؟، هل سيكونون طبيعيين في علاقاتهم الاجتماعية؟، في الحقيقة موضوع الجلّادين يطرح تساؤل مهم وهو: هل من المنطقي أو الصحيح أن نعتقد بأن سلوك وممارسات الجلّادين هما نتيجة حتمية لنمو العنف المفرط في ليبيا أبان عهد القذافي؟ وهل يعني هذا وجود شخصية قاعدية للجلّادين؟.
عمومًا أعتقد بأن وجود الجلّادين بهذه السلوكيات والممارسات لم يكن مجرد مصادفة عابرة، بل كان نتيجة حتمية على ازدياد العنف الممنهج من قبل النظام السياسي آنذاك.
* في الصفحات (322-325) يأتي الفصل التاسع والأربعون تحت عنوان " ما يُخفيه الفُؤاد تُبديِه العينان "، يتحدث صاحب القصة عن حسن اشكال، حيث يقول حسن اشكال للحارس الذي يحجب البوابة المُفضية إلى لقاء القذافي أُتريد أن تمنعني من الدخول على من صنعته رجلاً. كان ولدًا فصار يأمر وينهى"، ويُضيف علي العكرمي كان حسن اشكال لا يزال يصرخ وهو يستعرض نصبيه من السلطة فرمشت عينا القذافي للحرس فاخترقته الرصاصات فقال القذافي " جني على نفسه "، وفي نفس الفصل يقول صاحب القصة بان عام 1985م قال القذافي مقولة " الحد الأدنى من الطعام نحن نواجه حصارًا من قبل أمريكا، ويجب أن نتقشّف في الطعام، كان هذا بعد حادثة لوكربي".
إن السؤال الجوهري الذي يقفز إلى الذهن هنا هو: ما علاقة حسن اشكال بموضوع صاحب القصة؟!. كما أن إقحام هذه الشخصية يحيد بنا بعيدًا عن موضوع الرواية، بالتالي أكاد أجزم بأن هذا الإقحام قد أثقل كاهل الرواية في جزئيات بعيدة عنها، كما تبرز الحاجة إلى ضبط بعض التواريخ فمثلاً: حادثة لوكربي كانت في ديسمبر سنة 1988م، في حين أن تاريخ الخطاب المذكور في هذا الفصل كان سنة 1985م، بالتالي فإن الإشارة إليها تأتي حرصًا على التدقيق، وضبط تلك التواريخ بشكل أكثر دقة.
* ننتقل بعد ذلك إلى الفصل الخمسين، في الصفحات (326-337) وتحت عنوان " عصفورٌ ينُقطُ عسل "، في هذ الفصل يتحدث صاحب القصة عن رفيق جديد وهو إيطالي الجنسية اسمه إدوارد سيليتشاتو كان على علاقة بالنقيب إدريس الشهيبي؛ وهو أحد العسكريين المقرّبين للنظام السياسي، وكان يحلم بأن يكون على سدة الحكم، ربطته علاقة جيدة بالسادات، فكان هذا الإيطالي وسيط بين الرجلين للتخطيط لانقلاب عسكري ضد القذافي، كما يُوضح بأن الإيطالي المذكور لم يمسوا جسده بالعذاب حيث كان يعني لهم كنزا ثمينًا يمكن المقايضة به في صفقات قادمة.
أعتقد بأن فهم الكثير من المسائل المرتبطة بمسألة معاملة الأجانب في سجون الأنظمة الشمولية لا يمكن فهمها بمعزل عن الحسابات الدولية التي تفرضها المصالح، والتي لا تُقيم وزنًا كبيرًا لمسألة حقوق المواطنة والحريات، أما فيما يتعلق بمحاولة إدريس الشهيبي فأنني أقدّر عدم التطرّق إلى تفاصليها في هذه الرواية، لكنها دعوة للمختصّين للبحث والكشف لمعرفة تفاصليها وجزئياتها.
* في الصفحات (353-361) يأتي الفصل الرابع والخمسون تحت عنوان " ثُلاثية الأمراض والجنون والموت "، في هذ الفصل يتحدث صاحب القصة عن الطعام المليء بالقذارة، وقلة النظافة، وكثرة الإهمال حيث كانت الصراصير والبراغيث والفئران في كل زاوية من زوايا الزنزانة، كل ذلك أدى إلى انتشار الأمراض، مثل السلّ الذي أصاب أكثر من 300 سجين، مات منهم في أسبوع واحد حوالي 50 سجين، وكثيرون جنّوا حيث كانوا يُركزون على الضرب على الرأس بهراوة غليظة فطريق الجنون مثل طريق المرض ومثل طريق الموت كلها تفضي إلى غياب أليم، الأولى للعقل والثانية للجسد والثالثة للروح.
أعتقد بأن ظاهرة الإهمال بشكلها العام سواء على مستوى نظافة المكان، أم الطعام، أم الرعاية الصحية كانت جُلّها مقصودة من قبل النظام السياسي نفسه، كونها تُعد وسيلة من وسائل التعذيب والإذلال والإهانة، والأمثلة والشواهد والأدلة تُؤكّد ذلك.
* يأتي بعد ذلك الفصل السادس والخمسون في الصفحات (366-368) تحت عنوان " القُوى الشيطانية "، في هذا الفصل يتحدث صاحب القصة عن عبدالله السنوسي حيث يقول تدخل في حياتنا وفي رقابنا وفي إنزال الموت بنا، صنعه القذافي وأعاد تشكيل ذاكرته وعقله وحركات يديه ونظراته وجعله قوة ضاربة بين عشية وضُحاها!، يقول صاحب القصة أن السنوسي قال مرة لأحد المقربين منه بالحرف الواحد " علاقتي بالقذافي لا أستطيع أن أصفها عندما أجده منهزما فإنني على استعداد أن أفعل أي شيء يخرجه من حالة الانهزام، ولو كان ذلك بقتل كل أولادي أو قتل نفسي...."، هل كان القذافي ساحرًا ليتبعه كل هؤلاء المريدون بهذا الشكل الجنوني "، في الفصل السابع والخمسين في الصفحات (369-375) تحت عنوان " من أرجوحة الجنون إلى أنشوطة الموت "، يتحدث الكاتب هذه المرة عن حزب من الأحزاب الليبية المعارضة وهو جبهة الكفاح العربي، حيث استطاعت هذه الجبهة ادخال كميات كبيرة من الأسلحة لتفجير بعض المباني الأمنية ومقرات اللجان الثورية، وتمّ بعد ذلك اختراق الجبهة وشلت حركتها، وقبضوا على كثير من أعضائها، وكان أحمد الثلثي من أبرز كوادرها، كما يُبين بأن عبدالله السنوسي حاول استخدام الثلثي ليتحمل مسؤولية تفجير طائرة (يو. تي. أيه) الفرنسية، وأنه أيّ السنوسي سيطلق سراحه إن قام بهذه المهمة الوطنية، لكنه رفض العرض، وسأل السنوسي بكل جرأة " هل تظن نفسك رجلاً " أيها الجبان كن رجلاً لمرة واحدة في حياتك قمت بالجريمة وأنا وأنت نعلم أنك أنت الذي فجرت الطائرة "، وتوعّد السنوسي الثلثي، إلى أن قُتل الثلثي في أحداث أبوسليم 1996م، كما تطرّق إلى الاستهانة بالأرواح البشرية في السجن من خلال قصة السجين محمّد المجراب حيث طلبوا موعدًا مع أحد الأخصائيين لكن الحارس لم يأخذه في الموعد المحدّد، فمات بين يدي أحد رفاقه وهو يُحاول إسعافه، لست بحاجة إلى التذكير مرة أخرى بمسألة الإهمال المقصود للمسجونين والتي أدّت ربما إلى موت العشرات أو المئات منهم، حيث كان محمد المجراب أحد أولئك المقصودين، ومن ناحية أخرى فأنه لفهم كيف أصبحت شخصية مثل شخصية عبد الله السنوسي من المقرّبين من القذافي بعد عملية إقصاء أعضاء مجلس قيادة الثورة بعد خطاب زوارة أبريل 1973م، فالأمر لم يكن مصادفة عابرة، وليست معزولة أيضًا عن الأحداث والوقائع والتجاذبات التي حصلت خلال مرحلة 1973-1976م، بل يمكن اعتبارها المحصلة النهائية لما وصل إليه تفكير القذافي، وحتى نقرّب المعنى أكثر يمكن أن نشير إلى اعتقاد القذافي بأن أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار – دائمًا - سيعتقدون أنهم شركاء في صنع الثورة، بالتالي يتوجب البحث عن أشخاص جدد يكون له جميل عليهم، ومعنى هذا ببساطة شديدة؛ صناعة أشخاص للمرحلة القادمة لا يجرؤون على النقاش أو الاعتراض، أو الرفض، ويكونون بمثابة الخدم والعبيد؛ هدفهم الوحيد إرضاء سيدهم، فبرزت شخصيات عديدة في مرحلة ما بعد 1973م من ضمنها شخصية عبدالله السنوسي، إن ما يدعم وجهة النظر هذه هو ما يُلاحظ عن غياب أو إقصاء لجُلّ الشركاء الفعليين في التغيير الحاصل في 1969م، وذلك بعد بُروز هذه الشخصيات، ولفهم تأثير القذافي على هذه الشخصيات أكاد أجزم بأن القذافي أسس من خلالهم فرقة " الحشاشين1)"( فاستطاع القذافي تطويعهم لتحقيق أهدافه السياسية.
* في الفصل التاسع والخمسين في الصفحات (380-384) تحت عنوان " أصبح الصبح "، يتناول علي العكرمي كواليس ذلك اليوم وهو 3 مارس 1988م، حيث يقول بأن جميع السجناء خرجوا حوالي خمسة آلاف سجين غادروا سجن ابوسليم باستثناء حوالي (100) سجين اعتبرهم النظام السياسي عملاء أمريكا، وذكر أن عبدالله السنوسي جاء إلى السجن يوم 29 فبراير 1988م، وقال " القائد ليس سجّانًا، لوكان أمركم بيد القائد لخرجتم من السجن منذ سنوات، ولكننا نحن الذين كنا مُصرين أن تبقوا في السجن! "، ولم يشمل العفو أعضاء حزب الدعوة، وأعضاء الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، كما يستطرد علي العكرمي فيقول تحت مطالبات الأهل قرر النظام عرضنا على لجنة الإفراجات، واللجنة حسب ما يتذكر تتكون من : عبدالله السنوسي، خليفة احنيش، عبد السلام الزادمة، خيري خالد، عزالين الهنشيري، جميلة دغمان، سعيد راشد، ويقول علي العكرمي " أفرجت اللجنة عن أربعين سجينًا وبقينا في السجن حوالي ستون سجين فقط".
في الحقيقة يعتبر تاريخ 3 مارس 1988م، مسألة تحوّل جد مهمة في تعامل النظام السياسي مع التنظيمات المعارضة الموجودة داخل السجون، وهي نقطة إيجابية تُحسب للنظام السياسي السابق سواء اتفقنا أم اختلفنا معه، إلا أن الأمر لا يزال بحاجة إلى بحث وكشف بشكل أوسع، وأكثر دقة.
* في الصفحات (385-388) يأتي الفصل الستون تحت عنوان " ستنسى كُل الآلام "، يرى صاحب القصة بأن سنوات النصف الأول من التسعينيات من القرن الماضي هي السنوات الأشرس على الإسلاميين من قبل النظام السياسي، حيث كفّرت بعض الجماعات الإسلامية النظام السياسي، كما يرى علي العكرمي بأن "بعض الأفكار المتشدّدة قد تسلّلت إلى عقول بعض أبناء ليبيا، لأسباب يُرد أهمها : إلى الحرب في افغانستان أو الحرب في الشيشان، أو بسبب صعود السلفية الجهادية من أتباع بن لادن والظواهري، كما شملت ايضًا، أشخاصًا ليس لهم أيّ نشاط ديني أو سياسي سواء أنهم يصلّون الفجر في المسجد، أو أنهم حضروا درسًا لشيخ فلان أو علان، أو أنهم استمعوا إلى أشرطة هذا أو ذاك "، ويصنّف العكرمي سجناء أبوسليم في مرحلة ما بعد أصبح الصبح إلى التالي "سجناء تيار الجهاد، وجماعة التكفير والهجرة، والجماعة السلفية، وجماعة التبليغ والدعوة، وجماعة الإخوان المسلمين، وقليل من العلمانيين".
أحسن صاحب القصة بالتطرّق إلى هذه المسألة، وكشفه وجود تلك التيارات الدينية، حيث يدعو هذا إلى طرح عدد من التساؤلات المهمة وهي: لماذا أصبحت ليبيا تعجّ بهذه التيارات الدينية؛ بالرغم من القبضة الأمنية القوية آنذاك؟. وهل ساهمت السياسات الأمنية للنظام السياسي السابق في أن يطفو على السطح المجتمعي مثل هذه التيارات؟، وهل هذا يعني عدم تبني النظام السياسي لأي تيار ديني محدّد؟، فالمجتمع وأفراده كما تعلمنا في علم الاجتماع بحاجة دائمًا إلى زاد روحي، بالتالي فهل البيئة المجتمعية في ليبيا كانت متهيئة آنذاك لاستقبال تلك التيارات؟، وهي البيئة المتمثلة في : البطالة، وتدني المرتبات، وسوء الخدمات الصحية والتعليمية...إلخ. أم أن أفكار وتوجهّات النظام السياسي كانت الدافع نحو التوجّه إلى تلك التيارات؟. وهذا ربما يطرح تساؤل مهم وهو: هل استطاعت الأيديولوجيا السياسية للنظام السياسي أن تملأ الفراغ الروحي؟، عمومًا فأنني أعتقد بأن ما نعيشه الآن من تباين واختلاف في التيارات الدينية إنما تعود جذوره الأولى لتلك الفترة التاريخية، بالتالي فإن هذه التساؤلات وغيرها لا تزال شاخصة أمامنا وهي بحاجة إلى بحث وكشف سوسيولوجي بشكل أعمق.
* في الفصل الواحد والستين (389-384) تحت عنوان " المطبخ "، يُؤكّد صاحب القصة بأن 90% من السجناء أصبحوا من التيار الإسلامي المتشدّد وكانوا بالآلاف، وتراجع عدد السجناء من التيارات الأخرى سواء من البعثيين أو القوميين أو التروتسكيين والشيوعيين وحزب التحرير حيث أصبحوا لا يتعدوا العشرات، وفي الصفحات (397-388) يأتي الفصل الثالث والستون تحت عنوان " بشير الزعلوك "، وفي هذا الفصل يتحدث صاحب القصة بأن الخلافات بين الإسلاميين كانت تُهيّج الجميع حيث يقول " كانوا يتناحرون وهم لم يبلغوا من العلم شئيًا "، وكان النقاش بين الإسلاميين المتشدّدين يصل إلى الشتائم، وإلى القذف في النار، وإلى استحلال الدم، فكانت شخصية بشير الزعلوك من ضمن الأشخاص الذين عملوا على تقليل حدوث ذلك التشاحن والتقاطُع بينهم، ولقد شدّني تميّز تحليل صاحب القصة في سرده للخلافات والتناحر بين التيارات الإسلامية داخل السجن خلال هذه المرحلة، كما أود هنا توضيح نقطة جد مهمة وهي إن التيارات السياسية التي كانت في السجن منذ سنة 1973م وكانت تمثل تيارات البعثيين أو القوميين أو التروتسكيين والشيوعيين وحزب التحرير، هي في الحقيقة وليدة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للنظام الملكي السابق، في حين أن التيارات الإسلامية المتطرفة التي دخلت السجون في مرحلة التسعينيات من القرن الماضي هي وليدة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لنظام القذافي، ولعلنا نروم من وراء كل ذلك أن نفهم الخصائص البنيوية لهذه التيارات وشروط إنتاجها، فاستطاع القذافي خلال الثلاثين سنة من الحكم تجفيف جُلّ منابع التيارات المناوئة له سواء من البعثيين، أو القوميين، أو التروتسكيين، أو الشيوعيين، أو حزب التحرير، بالتالي ليس غريبًا إذن في ظل هذه الأرضية المضطهدة لأيّ تفكير أن تظهر وتنمو تلك التيارات الدينية المتطرفة، عمومًا فإن الاسترسال في الحديث لتوضيح عملية التحوّل هذه مهمة، ولكنني رأيت الاكتفاء بهذا القدر فالمجال لا يسمح بالمزيد، حيث أدعو كل المختصّين إلى وقفة جادة للتدبّر حول أهمية البحث والكشف حول هذا الموضوع.
* في الفصل الرابع والستين (402-407) تحت عنوان " الأسوأ لم يأتِ بعد "، يُوضّح علي العكرمي بأنه منذ أواخر1995م، لم يعد في السجن موطئ قدم إلا وزُجّ بسجين فيه، كان هناك تجويع مقصود، حيث يقول " أكل بعضنا العشب "، وفي الصفحات (408-413) يأتي الفصل الخامس والستون تحت عنوان " لو كان للجِدار قلبٌ بكى "، كل يوم وكل أسبوع كانت هناك محاولة للهروب، كان كل شيء يحدث عشوائيًا القتل، والتعذيب، والسّحل، والتجويع، والتعطيش، والسحق، والصعق، والمحق، والطعن واللطم، والوخز، واللكز، والنخز كل ذلك ساوى عند السجناء أو أكثرهم بين الحياة والموت.
لقد أحسن الكاتب في عباراته وتصوراته اللغوية، كما أحسن صاحب القصة في رصده لجُلّ الأحداث، وأعتقد بأن النصوص الموجودة في الفصل الرابع والستين، والخامس والستين ليست بحاجة إلى أيّ توضيح، أو تعليق، فتلك السياسات ليست بالغريبة على نظام سياسي لطالما مارس العقوبات اللاإنسانية أو المهينة، واعتبرها المنهج الأساس في تعامله مع خصومه أو معارضيه.
* في الفصل السادس والستين (414-419) تحت عنوان " رائحةُ الموت "، يتحدث علي العكرمي عن أحداث أبوسليم الشهيرة حيث يقول " أنه في 28 يونيو 1996م، اتجه الحارس ليوزع الطعام على إحدى الزنزانات حيث دفعه السجناء الذين كانوا يختبئون خلف الباب فوقع على الأرض، وقاموا بأخذ حلقة المفاتيح التي بحوزته بعد ضربه، ففتحوا أبواب الزنازين كلها، وقتل السجناء أحد الحرس، وفتحوا أبواب العنابر بشكل عشوائي وتدفق عدد كبير من السجناء خارج زنازينهم وهم يهتفون " الله أكبر"، وطلب السجناء مفاوضين على مستوى عبدالله السنوسي، فجاء السنوسي بعد ذلك وطلب أن يُخرج من كل عنبر من العنابر الستة الأولى مفاوضًا، سألهم ما هي مطالبهم، فكانت ملابس نظيفة، والتريض في الساحة، والرعاية الطبية، والسماح بالزيارات، والحق في المثول أمام القضاء، فقال لهم القائد لا يُرضيه ما حدث، وطلب منهم العودة إلى الزنازين، وتعهّد بنقل المرضى والجرحى إلى أحسن المستشفيات في طرابلس، عاد السجناء إلى زنازينهم وكتبوا قائمة بأسماء المرضى، وأحضرت إدارة السجن عشرة سيارات إسعاف خرج المرضى من السجناء، وانطلقت تلك السيارات بالسجناء المرضى إلى ساحة الملعب بالسجن حيث تم حصد أرواحهم.
ويُتابع علي العكرمي تكملة فصول هذه القصة المروّعة، في الفصل الثامن والستين، والتاسع والستين (424-433) تحت عنوان " فقد الأحبة موت "، و" عُرس الدم "، حيث يقول في " يوم 29 يونيو 1996م في العاشرة صباحًا جاءت أرتال من الجنود المسلحين بالمئات ينتظمون في الساحة الواقعة بين إدارة السجن والمطبخ، كأنما ينتظرون أمرًا عسكريًا ما، وخرج عبدالله السنوسي من الإدارة وهرول الجنود إلى السلالم الجانبية، وأصبحوا يعتلون الأسطح المطلة على ساحات العنابر، وفُتحت بعض العنابر المحدّدة والتي طالب سجناؤها ببعض المطالب بالأمس، وخرج السجناء وهم معصوبي العينين ومقيدي اليدين إلى الساحة وأعطى السنوسي الأوامر للجنود بالقيام بقتل كل من هو موجود بالساحة، فتم قتلهم.
أجاد صاحب القصة في سرد تفاصيل تلك المأساة وأكاد أجزم بأنها لا تزال ماثلة أمام ناظريه؛ كما أجاد كاتب الرواية في رسم تلك المأساة بعبارات وجمل تناولت كل تفاصليها وجزئياتها وألوانها، إلا أنني لا أزال أعتقد بوجود بعض الجوانب في هذه المأساة بحاجة لمزيد من البحث والكشف.
* في الصفحات (448-451) يأتي الفصل الثاني والسبعون تحت عنوان " ليس لأحبابي قبرٌ كي يُزار "، في العام 2000م، تعالت الأصوات تُطالب بالكشف عن مصير السجناء الذين لم يرهم أهلهم منذ أربع سنوات، فهذا العدد الكبير جعل لهذه الأصوات تأثير، النظام لا يخاف شعبه بل يخاف أمريكا ويخاف الدول التي ترفع لافتة حقوق الإنسان.
أتفق فيما طرحه صاحب القصة في كون الأنظمة الشمولية لا تبالي بالعامل الداخلي ولا تستجيب لمطالبه، بقدر ما تستجيب لمطالب العامل الخارجي، والذي تلتفت إليها بكل جدية واهتمام.
* في الفصل الرابع والسبعين (458-462) تحت عنوان " قاومتُ الجنون بالقراءة "، السجن ليس جدران فإذا انعدم الرفيق انقطع حبل الحياة، وحين تكون صاحب قضية تصمد، وحين تكون قضيتك هي كل ما تؤمن به تُقاوم، قاومت الجنون بالقراءة قاومت الجنون بتوقع الأسوأ، كل مصيبة مررتُ بها قارنتها بمصيبة أكبر وأعظم وأشد فتكًا، لكي تهُون عليّ، بذلك حميت نفسي من الانهيار.
ما طرحه صاحب القصة يُعد تفسيرًا منطقيًا لاستمرار قوة ذاكرة صاحب القصة، فالقراءة كما يُقال تمد العقل بلوازم المعرفة، أما التفكير فيجعلنا نملك ما نقرأ، وهذا يعني أن ما يُعزّز عقول البشر ويوسعها القراءة والتدبّر الحر والجريء، واستعين هنا بمقولة لسقراط يقول فيها " ما استحقت الحياة أن نعيشها إذا لم نتأملها جيداً " .
* في الفصل الخامس والسبعين، والسادس والسبعين تحت عنواني " أيها السجن وداعًا "، و" الجلّادون يرحلون أيضًا "، في الصفحات (459-464) يتحدث صاحب القصة عن تعيين مديرًا جديدًا للسجن، وتحسّن في المعاملة، فقد كان القذافي خائفًا من أمريكا أن تُزيحه عن الكرسي، فبدأ يغازلها بادعاء المحافظة على حقوق الإنسان، في العام 2002م خرج علي العكرمي من السجن، ويقول عن سنوات سجنه " لقد تعلمت أن الجماعة خير من الفرد، وألّا أعيش لذاتي حتى لا أكون وحيدًا، فأنزوي فأضمحل، كان عليّ أن أتشارك مع الآخرين كل شيء، كانت المحنة تجمعنا فتُذيبُ الفوارق، ولو أننا تشبتنا بتلك الفوارق لهلكنا، تعلمت أن التاريخ يسع كل الآراء، وكل الأفكار وكل العقول ولا يحتفظ منها إلا بما كان صالحًا أو نافعاً للنّاس".
وهنا أتفق تمامًا مع ما طرحه صاحب القصة من مقولات، وهي أقرب إلى روشتات علاجية للعلاقات المجتمعية التي أراها مهمة وضرورية في الحياة، فهي حصيلة الخبرة الحياتية التي يتمتع بها صاحب القصة.
* في الفصل التاسع والسبعين " أيها البقعة السوداء"، في الصفحات (487- 493) يتحدث صاحب القصة عن مرحلة ما بعد سقوط القذافي حيث يقول جاؤوا بالمتطرفين من أجل أن نتمنى رجوع عهد القذافي، إنهم يتذرعون ببعض السجناء الذين ذاقوا الويلات، ثم رفعتهم الثورة إلى مناصب عليا، فتحولوا إلى مستبدين، كما يقول أن الوطن للجميع وأن لا ثأر ولا انتقام.
* وفي الفصل الثمانين تحت عنوان " لا أُريدكم أن تشربوا من الكأس التي شربتُ منها " في الصفحات (494- 464) يقول علي العكرمي " أعلن أنني سامحتُ كل الجلّادين وعفوتُ عنهم وغفرت لهم".
في الحقيقة جُلّ ما طرحه صاحب القصة من تحليلات أو تصورات أو أفكار الجد مهمة، وبعقلية متسامحة ومتصافحة تحتاج إلى وقفة للتدبّر لضمان الاستفادة منها في عملية إعادة البناء في ليبيا، وعلى هذا النحو فهي دعوة إلى إعادة بناء العقل الليبي وتحريره من الثأر والانتقام والاستعباد الفكري الواحد، حتى يتمكن من رؤية الحقائق كما يجب أن تكون.
* وأخيـــرًا أودّ تقديم الشكر والتقدير إلى الدكتور أيمن العتوم على هذه الرواية المتميزة التي جعلتني أعيش ثلاثين سنة في سجون النظام السياسي بكل مأساتها وآهاتها وتنهداتها، مع الأحياء والأموات، وعلى لغة الرواية المتميزة المكثفة بالاستعارات والمجازات، والتي عرّت وبشكل كبير وواسع وحشية ما عاناه صاحب هذه القصة من تعذيب وإذلال وإهانة في سجون النظام السياسي السابق.
كما أتقدم بالشكر إلى السيّد علي العكرمي صاحب القصة الحقيقية على سعيه الحثيث نحو رصد وتوثيق كل سنوات سجنه وذكرياته الأليمة ليس للتشفّي أو الثأر أو الانتقام، وإنما بغية فتح صفحة جديدة بروح التسامح والتصافح والعفو، ولفتح صفحة جديد لبناء ليبيا الوطن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - فرقة الحشاشين أسّسها حسن الصباح؛ حيث يقوم اتباع هذه الفرقة بعمليات انتحارية واغتيالات بناء على تعليمات من شيخهم ( الصباح) تحت تأثير تعاطيهم الحشيش، و ينفذوا ما يطلبه منهم دون استفسار أو تردد، كون ذلك يعد واجباً عقائدًا يتوجب تنفيذه، ومدخلا للولوج إلى الجنة.



#حسين_سالم_مرجين (هاشتاغ)       Hussein_Salem__Mrgin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل يُغير فيروس كورونا الأزمة الليبية ؟
- المبعوث الأممي غسان سلامة والأزمة الليبية
- ليبيا وأزمة شخصية القيادة
- التعليم الجامعي الحكومي في ليبيا عراقيل وتحديات الواقع ...وإ ...
- الجودة وضمانها كما رأيتها في مدرسة شموع العلم
- الدراسة الذاتية للمؤسسة التعليمية.. لماذا؟ وماذا؟ وكيف؟
- الجودة وضمانها في المؤسسات التعليمية
- الدراسة الذاتية المفهوم والدلالات
- مراجعة كتاب: ليبيا التي رأيت، ليبيا التي أرى: محنة بلد-
- الاحتجاجات المجتمعية في المنطقة العربية والحاجة إلى إعمال ال ...
- إصلاح منظومة التعليم الجامعي الحكومي في ليبيا - الواقع – وال ...
- ماذا تريد وزارة التعليم بحكومة الوفاق الوطني الليبية من مؤسس ...
- مشروع الجمعية الليبية لكليات التربية مدخلًا نحو إصلاح وتطوير ...
- الحراك المجتمعي في ليبيا 2011م والحاجة إلى مقاربات وتصورات ت ...
- الجودة وضمانها في التعليم ..المفهوم والدلالات
- البحاث والأكاديميين الليبيين...وسؤال إلى أين تتجه ليبيا ؟
- الشيخ والقبيلة في حرب طرابلس 2019م
- إلى أين تتجه ليبيا 2 ؟
- ظاهرة الفساد في ليبيا - الواقع وآليات المنع والمكافحة 2011- ...
- علم الاجتماع والنسيج الاجتماعي في ليبيا


المزيد.....




- احتجاجات أمام مقر إقامة نتنياهو.. وبن غفير يهرب من سخط المطا ...
- الخارجية الروسية: واشنطن ترفض منح تأشيرات دخول لمقر الأمم ال ...
- إسرائيل.. الأسرى وفشل القضاء على حماس
- الحكم على مغني إيراني بالإعدام على خلفية احتجاجات مهسا
- -نقاش سري في تل أبيب-.. تخوف إسرائيلي من صدور أوامر اعتقال ب ...
- العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جرائم حرب في غزة بذخائر أمريكية ...
- إسرائيل: قرار إلمانيا باستئناف تمويل أونروا مؤسف ومخيب للآما ...
- انتشال 14 جثة لمهاجرين غرقى جنوب تونس
- خفر السواحل التونسي ينتشل 19 جثة تعود لمهاجرين حاولوا العبور ...
- العراق.. إعدام 11 مدانا بالإرهاب في -سجن الحوت-


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - حسين سالم مرجين - مراجعة نقدية لرواية طريق جهنم .... لأيمن العتوم