أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - مفتاح ومعصم














المزيد.....

مفتاح ومعصم


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6452 - 2019 / 12 / 31 - 15:58
المحور: الادب والفن
    


إلى جهاد نعيسة

تبين لي أن الشيء الذي يلمع في معصم مدرس اللغة العربية الجديد، من تحت كم القميص المفلوت، هو مفتاح يعلقه في معصمه بحلقة مطاطية. تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها هذه الطريقة في حفظ المفتاح من الضياع. لم تكن طريقة أنيقة على أي حال، ولكني سوف أقتبسها سريعاً، ليس فقط لأنها عملية وبسيطة، بل لأنها أيضاً طريقة الاستاذ جهاد الذي رسم أمام طلاب الثاني الثانوي، من الدروس الأولى، ملامح جذابة لشخصية جديدة، كان المفتاح المعلق بحلقة مطاطية في المعصم، أحد عناصرها.
شاب طويل بجسم ممتلئ وشعر عشوائي، يدخل غرفة الصف بنظارتين سميكتين وابتسامة دائمة. يلقي التحية علينا دون تكلف (مرحبا، كيفكم يا شباب)، ويعرف عن نفسه بكلمات سريعة (جهاد نعيسة، مدرسكم الجديد للغة العربية)، ثم يباشر بالدرس ويبدأ برسم ملامحه الخاصة. النحنحة الخفيفة المتكررة، والصوت الذي يبدو أنه يخرج من صدر متعب، ولكنه صوت رنان ومتحمس مع ذلك، حركات لا تهدأ باليدين المغمورتين إلى النصف، بالنهايتين السميكتبن الحرتين لكمي القميص. وبين وحين وحين، تقطع تلك الحركات حركة باليد اليسرى لتثبيت النظارتين، فيما تمسك اليمنى بقلم الطباشير. القوة التي شدت هذه العناصر وأعطتها جمالاً خاصاً وجاذبية هي المعرفة الواسعة التي كان يغدق بها على الصف، مشفوعة بذلك الميل النقدي للكثير مما تحويه دروسنا من أفكار وتقييمات كانت تبدو نهائية.
مع المدرس الجديد، لم تعد النصوص المقررة في الكتب مجرد مواد معقمة ومحفوظة لامتحان الطلاب وتقييمهم. لم تعد نصوصاً معزولة ومقطوعة عما عداها من نصوص غير مدرسية. على يد المدرس الجديد خسر النص المقرر سيادته التي يحوزها لمجرد أنه نص في كتاب مدرسي، وكسب الطلاب مقدرة جديدة على اتهام هذه النصوص ومحاكمتها وانتزاع حرمتها المدرسية. لم تعد عبارة "الأدب الملتزم" مثلاً محصنة وكتيمة على المساءلة. كما خسرت الأحكام الأدبية صفتها السامية ومقبوليتها التلقائية. المدرس الجديد لا يخفي سخريته من تعاريف أو أحكام يقررها النص المدرسي، ولا يتردد في كشف محدودية التعريف وسذاجة الأحكام، وحيث كان يخال الطلاب إنها نهاية كان يفتح لهم طريقاً. لأول مرة يغدو النص المدرسي موضوعاً لشيء آخر غير الامتحان، إنه موضوع معرفي يمكن للطالب أن يكون نداً أو ناقداً له.
في نهاية الدرس كان يفضل جهاد أن يتجه مع الطلاب يميناً إلى الباحة بدلاً من أن يتجه يساراً إلى غرفة المدرسين، وفي الباحة كان كأنه يستعيد ذاته التي في عمرنا (لم يكن كثير البعد عن أعمارنا على أي حال)، فيشاركنا الحديث والنكات والضحك دون أن يكون في حضوره ثقل المدرسين. شجعتني نضاره سلوكه على أن أدعوه مرة، في نهاية الدوام، إلى مرافقتي إلى غرفتي المستأجرة في أطراف المدينة، فاستجاب دون تلكؤ. ولم أجد بي حرجاً من أن أطبخ الوجبة السريعة (البيض مع البندورة) لتكون غداءنا الذي أقبل عليه بشهية مثلي، بعد أن طوى نهايتي كمي قميصه اللتان تبقيان مفلوتتان عادة، فالزر الموجود في نهاية كم القميص لا يعنيه في شيء. وكنت سعيداً حين دعاني إلى بيته المديني العريق الذي يحوي مكتبة ضخمة تشغل معظم جدران البيت. يومها تأملت تلك المكتبة مع شعور غامر بالصغر، شرح لي بصوته الرنان ونحنحته المتكررة، "هذه مكتبة متوارثة، من جدي إلى أبي إلى أخي البكر، المسجون منذ عشر سنوات، ثم إليّ"، فسألته: "هل قرأت أنت كل هذه الكتب؟"، كان مريحاً إلى الحد الذي لم أجد بي حاجة إلى أن أختم سؤالي بكلمة "أستاذ".
لم أشبع من النظر إلى أمه العجوز التي يحمل قلبها ألم فراق ابنها السجين منذ عشر سنوات، كأنني كنت أبحث عن كيف ينعكس هذا الألم على ملامح الوجه، هل كان سيكون وجهها على الهيئة نفسها لولاه. وكانت هي تطيل النظر إلى حلقة المطاط التي تشد مفتاح غرفتي إلى معصمي.
عدت إلى غرفتي يغمرني الشعور بأنني على عتبة العالم الذي أحب، عالم يشبه جهاد، بوجه بشوش وكمي قميص مفلوتتين ومعرفة واسعة، وأن هذا العالم على عتبة الاعتراف بي. عدت واثقاً بنفسي أكثر، ممتلئاً بطموح غامض لذيذ بأنني ذات يوم سوف التهم مكتبة كاملة وسوف أعرف كل شيء وأبحث في كل شيء عن وجه النقص فيه، وسوف أكون دائماً صديقاً لجهاد.
انقطعت عن مدينتي بسبب الدراسة الجامعية وانقطعت عن جهاد. وكان لكائنات أخرى أكثر قدرة، "طموح" واضح تجاه أمثالي، فالتهمني سجن مديد جعلني أرى وجه أمي في وجه تلك الأم الذي حفظته جيداً في ذاكرتي. ثم علمت بعد حين أن سجناً آخر كان يجتهد في التهام عمر جهاد أيضاً، ويحمل تلك الأم ألم فراق ابنها الثاني.
بعد سنوات سجنه الماراتوني علمت أن جهاد استأنف دراسته وحاز على دكتوراه في النقد الأدبي بدرجة تخوله التدريس الفوري في الجامعة، وأن أطروحته عن أدب الروائي السوري حنا مينة باتت مرجعاً. ولم يكن لدي شك في صحة التعليق الذي سمعته عن جلسة الدفاع عن الأطروحة: "كان جهاد متفوقاً على اللجنة نفسها".
في زيارتي لجهاد، بعد أن خرجت من السجن وغرست نفسي مجدداً في المجتمع الذي كان قد التأم جرحه على غيابي، اكتشفت أن لديه أيضاً موهبة الرسم والزخرفة، وقد أحال بيته الجديد إلى متحف صغير، ولكن أهم ما اكتشفته وأسعدني هو أنه لم يخسر شيئاً من ابتسامته ونضارة روحه.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إمكانية المهمة الديموقراطية في سوريا
- شبهات النظام وشبهات الوسط الثقافي السوري
- دروس الموجة الثانية من الثورات العربية
- مهزومون على ضفتي الفجوة السورية
- في الحاجة الى معارضة سورية مختلفة
- ظاهرة المنتديات والمجموعات الثقافية في سورية
- عن الشاعر عدنان مقداد
- ثورة يتيمة
- في تشابه الحكايتين الكردية والعلوية في سورية
- سجين جواز السفر
- سينيكالية سورية ناشئة
- الطيب تيزيني، فيلسوف الأفكار الشائعة 1
- الطيب تيزيني، فيلسوف الأفكار الشائعة 2
- بين سورية ولبنان
- استكشاف معكوس
- ثلاثة رهانات خاسرة في سورية
- تركيا والكرد السوريون
- عن النظام العربي والثورة السورية
- العلمانية، الأفق الممكن
- في ظل الدولة


المزيد.....




- باتيلي يستقيل من منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحد ...
- تونس.. افتتاح المنتدى العالمي لمدرسي اللغة الروسية ويجمع مخت ...
- مقدمات استعمارية.. الحفريات الأثرية في القدس خلال العهد العث ...
- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - مفتاح ومعصم