أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبحي حديدي - اللآلىء والخنازير














المزيد.....

اللآلىء والخنازير


صبحي حديدي

الحوار المتمدن-العدد: 1552 - 2006 / 5 / 16 - 17:47
المحور: الادب والفن
    


في شباط (فبراير) 1890 كان من المحال على السيدة ماري جينو، صاحبة "مقهى المحطة" المطلّ على ساحة لامارتين في بلدة آرل الفرنسية الجنوبية، أنّ تتخيّل أنّ نهاراً سوف يحلّ ذات ساعة ـ بعد 116 سنة في الواقع! ـ فيشهد بيع صورة لها مرسومة بالزيت على القماش، بمبالغ طائلة هائلة تُعدّ خرافية تماماً في مقاييس ذلك الزمان، وهذا الزمان أيضاً. والأرجح أنّ مدام جينو كانت تتسلى مع هذا الرسّام الطيّب، العصبيّ الحساس الرقيق الموشك على الإنهيار العصبي أو ربما الجنون، حين جلست ذلك اليوم أمام فرشاته وقماشه ونظراته الثاقبة، واضعة يدها على خدّها، مبتسمة قليلاً، وأمامها كتابان: "أقاصيص عيد الميلاد" للروائي البريطاني شارلز ديكنز، و(كما يرجّح الكثيرون) "كوخ العم توم" للأمريكية هارييت بيشر ستو.
كانت اللوحة تلك خامس ـ ويُتفق عموماً أنها أجمل ـ عمل في سلسلة بعنوان "الآرليات"، نفّذه الفنّان الهولندي الكبير فنسنت فان غوخ (1853 ـ 1890) على سبيل التحيّة والتقدير لصديقه الفنّان الفرنسي الكبير بول غوغان (1848 ـ 1903)، بعد فترة خصام شخصي بينهما، وخلاف أسلوبي، وتباعد في المزاج الجمالي. ومنذ أيام، كما هو معروف، بيعت هذه اللوحة بمبلغ يقارب 40 مليون دولار أمريكي، في مزاد علني لم يخل من الطقوس المعتادة في التكتّم والتنافس والتصارع والتجارة الصرفة.
وذلك العمل بالذات كان تتويجاً لطور من الحنين الجارف إلى زمن التعاون المشترك والصداقة الجميلة بين غوغان وفان غوخ، قبيل إحالة الأخير إلى مصحّ عقلي؛ وكانت سلسلة "الآرليات" ذروة صراع الفنّان العبقري من أجل استرداد وجوده الآخذ في الاهتزاز والتلاشي. ولقد كتب إلى غوغان يصف لوحة "مدام جينو" كما يلي، بتواضع مذهل: "لقد حاولت من خلالها أن أحترم رسمك، وأكون مخلصاً له (...) ولك أن تعتبر العمل منتمياً إليك، بمثابة تلخيص لأشهر من تعاوننا المشترك".
وقبل ثلاث سنوات شهدنا حكاية بهيجة أخرى تخصّ أعمال فان غوخ، حين شاءت الصدفة أن تكتشف إحدى دور المزاد اليابانية لوحة له كانت ضائعة، أو بالأصحّ غير معروفة أساساً. اللوحة زيت على قماش، غير موقّعة، صغيرة الحجم (12 x 14 بوصة)، تصوّر فلاحة فرنسية عابسة، متوسطة العمر، ترتدي قلنسوة بيضاء؛ وكانت ملك الرسام الياباني كازوماسا ناكاغاوا، الذي توفي سنة 1991. وحين تقرر بيع مقتنيات الأخير، قُدّرت هذه اللوحة الغامضة بمبلغ يقلّ عن 90 دولاراً، وكادت أن تُباع بأقلّ من هذا السعر لولا أنّ أحد العاملين في المزاد راوده الشكّ في أن تكون اللوحة أصلية، وأن يكون صاحبها فان غوخ دون سواه. وهكذا، أُرسلت اللوحة إلى متحف فان غوخ في العاصمة الهولندية أمستردام، لتُعرض على الخبراء هناك. وبعد فحص وتدقيق أرسل المتحف فاكساً يقول إنّ العمل أصلي بالفعل، وهو بريشة فان غوخ، ويعود إلى العام 1885.
وبالطبع، قفز سعر اللوحة من 83 دولاراً إلى 550 ألف دولار. الأكثر إثارة أنّ فان غوخ، وجرياً على عادته، كان مستعداً لبيع هذه اللوحة لقاء قبلة واحدة من الفلاّحة صاحبة الصورة، أو من أيّة أنثى، ولم يفلح! وذاك البائس التعس الجائع انقلب دفعة واحدة إلى ميدان تنافس مالي محموم: في عام 1990 بيعت لوحته «صورة الدكتور غاشيه» بمبلغ 82,5 مليون دولار، فانفردت بالرقم القياسي لأعلى مبلغ دُفع في أية لوحة؛ ومنذ سنوات معدودات باع مزاد بريطاني عملاً مائياً له (مرسوماً على الورق!) بمبلغ 14,7 مليون دولار...

حكايات مفرحة ومزادات مثيرة في سجلّ فنّان عاش فقيراً ومات خالي الوفاض، وظلّ على الدوام أسير تجربة ممضة معقدة بدأت بطفولة مضطربة، وتتابعت فصولها سنة إثر أخرى من اضطرام الوجدان وتفتُّق الموهبة وغربة الروح، حتى لكأنّ هذه النفس ناءت بثقل ما تزاحم في داخلها وحولها من عذابات أحجيات، فتوقفت عند سنّ السابعة والثلاثين. عمر قصير صاعق، صاخب، مفعم بالألم والطموح والتحرّش بالحياة وعشق الطبيعة، وإعادة إنتاج ذلك كله في الذهن كما على القماش.
أكثر من 2500 عمل على مدار تسع سنوات، ومقالة نقدية واحدة أظهر فيها ألبير آمييه حماسه لهذا «الفنان التعس في روحه، المتفائل في أعماله». لوحتان مباعتان لا ثالثة لهما. رؤية للكون طافحة بضياء الشمس، ودفء الحقول، وحرارة الألوان الصفراء. محاولة متواصلة للخروج من «القفص المرعب، المرعب» كما سيكتب. وبحث جارح دائم عن الحب، في مناشدة أشبه بالتضرّع المرير النبيل الذي أطلقه بدر شاكر السياب ذات يوم: «أحبّيني!/ فإني كلّ من أحببت قبلك ما أحبّوني»!
«من أنا في أعين الناس؟ نكرة، أم معتوه منفّر»؟ هكذا تساءل ذات نهار حين تفاقمت وطأة اكتشافه لتلك الحلقات الجهنمية التي تجعله مغترباً عن مواضعات شرط بشري عسير، في عالم يراه رغم ذلك جميلاً ورحباً وجديراً بالعيش. وأما آخر كلماته التي عُثر عليها في قصاصة صغيرة دسّها في جيبه قبل أن يطلق على أحشائه الرصاصة الرخيصة اللازمة، فقد كانت: «وماذا في وسعنا أن نفعل سوى أن نجعل لوحاتنا تنطق»؟
الأغلب أنّ هذا النطق هو آخر هموم البورصات التي تطرح عبقريته في المزاد، تماماً كما تُلقى اللآلىء أمام الخنازير!



#صبحي_حديدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دومينو التفاح الفاسد في عوالم ما بعد الحرب الباردة
- حاوية العقارب والقردة
- جنبلاط وإخوان سورية: البقاء البسيط أم البقاء الأفضل؟
- أرخبيل النفاق
- سنة على الإنسحاب السوري من لبنان: أزمة تشتدّ ولا تنفرج
- فلسطين: الماعز أم التمساح؟
- قانا في الذكرى العاشرة: المجازر ومساكنة الذاكرة
- ...كلما ازداد الضوء
- محمد الماغوط: مناشدة البصيرة واستفزاز الباصرة
- إيران النووية: حاضنة التأزّم ومفتاح الحلول
- عبد السلام العجيلي معارضاً
- فرنسا: ردع الليبرالية الوحشية، أم تصويب الديمقراطية؟
- ومضة النفس الأردنية
- الشرنقة والكازينو: ديمقراطيات النقض... ونقض النقض
- اللكمة المضادة
- بوش في سنة الغزو الثالثة: المياه الراكدة، أم غليان الأعماق؟
- حلبٌ قَصْدُنا
- عملية أريحا وسلطة محمود عباس: جريمة مَن التي لا تُغتفر؟
- ما دامت مصر ولاّدة
- حين تشتغل الطواحين بمياه -إيباك- وأحمدي نجاد، سواء بسواء


المزيد.....




- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...
- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبحي حديدي - اللآلىء والخنازير