|
الثورات الكربونية
محمد ابداح
الحوار المتمدن-العدد: 6339 - 2019 / 9 / 2 - 04:19
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تملك الضواري حواسّ أفضل من البشر، لكنها لاتملك تصوّرا، لذا تكف عن مطاردة مالم يعد موجودا في مرمى بصرها، وخلافا لذلك فإن الأنظمة الإستبدادية لاتتوقف عن ملاحقة معارضيها حتى بعد تصفيتهم لأنها تعلم بإن التصوّر الذي يخلفه المرء يحتفظ بالحياة بعد وفاته، فهو يُثير الهمم أو يثبّطها، ولكي يقوم بذلك فلابد من أن يشهد الزمن بعض الصعوبة في المرور. لم يعد من المقبول أن تنتظر الشعوب الخاضعة لحكم استبدادي معجزة لصالحها، وإلا فإن الأمر سيبدو كما لو أن الزمن يُعيد للواقع ما هو أكثر بدائية من أساطير الإغريق، وفي الحقيقة فالأمر يبدو كما لو أن ثورة العقل تقف عاجزة عن ترجمة المكبوت، إن الحقوق لا تُستحقّ بالنوايا الطيّبة والمنجزات لاتتم بالإيحاء، قد تكون المهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة، فنحن ندرك بأن موروث آلاف الأعوام من التصورات الدينية لم تتلاشي دون أن تترك أثرا فينا، فحتى المُلحد الذي يرفض فكرة الحياة الأخرى، يجلس بجوار قبر أبيه وفي يديه باقة ورد، ثم يحدث ويحاور أبيه الميّت وربما يبكي ويشتكي له من هموم الحياة، فهل أصابه العته ليتحدث مع مادة لاتسمع أو تحاور؟ أم غريزته الفطرية تخبره بأن روح أبيه تراه وتسمعه؟ ولأننا بشرٌ مادّيون عرفنا البصر قبل البصيرة، سرنا قبل أن تُشقّ الطرق ورسمنا قبل أن نتعلم الكتابة، وبتنا رجالا في زمن الطفولة، آمنّا قبل ظهور الأديان، غير أننا لم نتعلم بعد بأن الشعوب الحالمة لايمكن أن تُنتج حضارة لأن أجسادها نائمة، ونحن العرب غيرمعفيّين على الإطلاق من تأمل عشرين قرنا من التشوّه الذي أصاب الأديان السماوية وأحكام الفقه الإسلامي على وجه الخصوص، ويمكننا أن نقيس الهوة الحضارية بيننا والغرب من نوافذ قصور حكامنا التي لازات تُطلُّ على القرن العاشر للميلاد لا القرن الواحد والعشرين، ونحن هنا لانعني نظرة فلسفية للأمر بل واقعية، فرجل الدين وتقنيّ الألياف الضوئية لا تجمعهما الآلية ذاتها ولا الغايات، وبذا يمكن معرفة ما تم خسارته منذ ذلك الوقت وإلى الآن في مضمار الحضارة. إن مادة الأديان تملك طاقة عجيبة على الإستمرار بحيث يصبح فيها نمط التحوّل مستقلا عن أصله لدرجة أنه لا يعنيه غيابه، فالشيطان مثلا يغويك كي تقع في النار أما رجل الدين فيشعلها فيك اختصارا، وابليس يُفعّل كل حواسّك أمّا الدين فيعطلها، وحين لاتدرك الحواس شيئا أمامها فإنها تخلق واقعا افتراضيا كي تحياه،إنه حقا لمأزق يظلّ عصيّا علينا فهمه طالما أنه يبدو طبيعيا لنا، وهذا هو بالضبط ما جعل التحذيرات التي أطلقها المعرّي وابن الرواندي والحلاج تبدو كثورات عمال مناجم الكربون فليس الذي يقلقهم ذك السواد الذي صبغ وجوههم نتيجة العمل في المناجم بل ما يصنعه بهم أصحاب المناجم، ففي القرون الإسلامية نفسها التي كانت قطعا زاهية من البهاء في حياة آباءنا، ولدت من رحمها جرائم التعصّب الديني كقتل الكافر والمرتد ووأد منهج البحث العلمي على يد الغزالي وابن تيمية وغيرهم، وقد بدا لنا التاريخ أكثر نزاهة من مدوّنيه حيث وشى عن الجانب المدمّر للتطرّف الديني على مر الزمان. لا ريب بأن الدين قابلا للنّسخ لدرجة أن قيمه باتت تشكَّلُ وفق المبادىء القبلية والشخصية الخاصة، كما أن الحلال والحرام والمباح والمجاز والمتروك والمنهي عنه في نظر فقهاء الدين الذين يقدّسون التصوّر العقائدي هي أحكام لا تمت بصلة للمنهج العلمي، ورغم ذلك لا زالت تلك الأحكام مرجعا للمنهج الإسلامي، فبتنا بين الأمم الأخرى كما ليس الجاهل بالعلم ولا العارف به. وما يُجسّد الفشل التنموي والعلمي بأوطاننا العربية ليس سواد الفساد وأحكام الفقه المفصلة لحمايته، بل ما فعله رجال الدين بدعوى أنهار العسل والحور العين ناصعة البياض، وحيثما أن كافة الحواس معطلة عن إدراك الخارق فليس ثمة سوى قبلة السماء والقوانين الإلهية كأفضل مشهد لتفسير الأمر، وفي الحقيقة فإن ما تم إقصاءه هنا من قبل الفقه الديني هو إمكانية تصور الأشياء نفسها مقابل إلغاء العقل، فبينما تدور معارك المؤمن حول الذات يدور الدين في الماورائيات، وبذا لايمكننا استخلاص أي نتائج عملية لما لانهاية. من هنا بالضبط ينبغي كسر التقليد النمطي، فالدين ليس فكرة طوطمية ذاتية الدفع، إنه فينا جميعا مؤمنين أم غير مؤمنين، فالجيد لا يعنيني جوهره وإنما وسيلته وهي المعرفة التي تفضي لحكما مستقلا عن الرغبات، وهي أيضا التي تجعل من الدين وسيلة للمعرفة لا أداة لها. لقد بات الفقه الديني مهمة محمّسة لصيادي الجوائز، ووسيلة تعبئة شعبية على طريقة النازية والداعشية، إنه قتل مضاعف يمنح للقتل أصالة تكمن في الإقصاء التام للقيم الإنسانية والمعرفية، ومن المؤسف أنه حين يتم صياغة الفكر الإنساني بهذا الشكل فإنه يفقد أية علاقة له بواقعه المادي لإنه يفرض علينا التقليد لا الإبداع.
#محمد_ابداح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مادية الخطاب الديني
-
هويّة المُقدّس
-
حروب الآلهة -3
-
حروب الآلهة -2
-
حروب الآلهة -1
-
تكوين المُدرك
-
لكي نبقى على الأرض 2
-
لكي نبقى على الأرض
-
العلّة الغائبة
-
قوة الفكرة
-
نرجسية الأديان
-
المجتمعات البريئة
-
السُحُب الفارغة!
-
الإتجاه الجغرافي للتاريخ
-
القيمة العلمية للأديان السماوية
-
ضجيجُ الموتى!
-
المتغيّر والثابت في الوطن العربي!
-
الصحافة الرسمية الرائجة
-
المعارفُ والقناعات!
-
الجمهورية العربية الثالثة!
المزيد.....
-
-الصوت اليهودي من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط-.. منظمة ألم
...
-
تفاصيل الجلسة المغلقة لمجلس الشورى الاسلامي بحضور اللواء سلا
...
-
حميدو الولد الشقي.. ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على القمر
...
-
من بينهم باسم يوسف وإليسا وفضل شاكر.. هكذا علّق نجوم عرب على
...
-
أردوغان بعد سقوط نظام بشار الأسد: نقف إلى جانب السوريين بكل
...
-
اسلامي: إيران تحظى بقدرات متكاملة في صناعة الطاقة النووية
-
ما هو موقف حركتي الجهاد الاسلامي وحماس من تطورات سوريا؟
-
القيادة العامة للفصائل السورية تعلن القبض على أشخاص ينشرون ا
...
-
ثبت تردد قناة طيور الجنة الان على القمر الصناعي وفرجي أطفالك
...
-
سلاف فواخرجي: -لن أتنكر لما كنت عليه سابقا- وأتمنى -سوريا ال
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|