سعيد عدنان
كاتب
(Saeed Adnan)
الحوار المتمدن-العدد: 6297 - 2019 / 7 / 21 - 22:55
المحور:
الادب والفن
نشأ علي عبد الرازق في أسرة ثريّة ، واسعة الثراء ، من ملّاك الأرض بصعيد مصر ؛ وهي مع ثرائها أسرةٌ ذاتُ إقبال على المعرفة ، وعنايةٍ بالشأن العام ؛ فلقد كان أبوه حسن باشا عبد الرازق من مؤسسي حزب الأمّة ، ثمّ من مؤسسي حزب الأحرار الدستوريين ، وكان مع أحمد لطفي السيد في إنشاء صحيفة " الجريدة " ، وهو من قبل من أصفياء الشيخ الإمام محمّد عبده . ولقد كانت أفكار الشيخ محمّد عبده تتردّد في بيت آل عبد الرازق ، وقد نشأ عليها ابنا حسن عبد الرازق ؛ مصطفى ، وعلي ؛ فلمّا شبّا ، وذهبا إلى الأزهر يدرسان فيه صارا من تلامذة الشيخ الإمام ومريديه .
نشأ علي عبد الرازق مطمئن النفس ، مكفي الجانب ، لا تُرهقه حاجة من حوائج الدنيا ، ولا تروّعه صغيرة من الصغائر ؛ فأقبل على العلم يتزوّد منه ؛ يقرأ ويحفظ ؛ لكنّه مع القراءة والحفظ يُعمل عقله في ما يقرأ ؛ فيقبل ما يرضاه ، ويرفض ما يتأبّى عليه ؛ ومرشده في ذلك كلّه ؛ عقله ، وما أخذه عن شيخه محمّد عبده . ويمضي على نهجه حتّى يُتمّ درسه في الأزهر الشريف ، وينال منه شهادة " العالمية " ، ويسلك نفسه في جمهرة علماء الأزهر ، ويصبح قاضي المحكمة الشرعيّة في المنصورة .
لكنّه لا يقصر شأنه على الأزهر وعلمائه وما يتّصل بهم ؛ بل إنّ له صحباً آخرين يلقاهم في مكتب صحيفة " الجريدة " بعضهم بمنزلة أساتذته كمثل أحمد لطفي السيّد ، وعبد العزيز فهمي ؛ وبعضهم من أقرانه كمثل محمّد حسين هيكل ، وطه حسين ، وكلّهم ممّن أثّر فيهم الشيخ محمّد عبده ، وهيّأ لهم فهماً سمحاً للدين ، وكلّهم أيضاً ممّن نفذ إليه الفكر الأوربيّ بنحو ما .
كان علي عبد الرازق طُلَعة ؛ يريد أن يعرف ، وأن يزداد معرفة ؛ وقد استقرّ عنده أنّ العقل قادر على أن يفهم الأشياء ، والأفكار ، وأن يسبر غورها ، وأن يصل إلى أصولها . وإذا كان عند العرب لغةٌ ودينٌ ، وعلمٌ بهما ، وتراث زاخر بالفكر والأدب ؛ فإنّ لدى غيرهم أشياء يحسن الانتفاع بها ، لا سيّما في مجال الرئاسة والحكم ؛ فلقد استبدّ الحاكم بالمحكوم ، عند العرب المسلمين ، وطغى به ، وأذاقه ألواناً من الانتهاك المذلّ ، وإنّ في الغرب فكراً يرسم معالم الحكم ، ويُرسي نظامه على دستور ينفي الاستبداد ، ويحفظ على الناس حقوقهم ، ويخضع له الحاكم والمحكوم . كان علي عبد الرازق يدير في ذهنه اليقظ أشياء كهذه ، ويجعل أنظمة الحكم التي شهدها العرب المسلمون ، في تاريخهم كلّه ، على محكّ من فكر سياسي قادم من الغرب يجعل الحكم مرهوناً بالأمّة ، مستمدّاً شرعيّته منها . ولم يكن عبد الرحمن الكواكبي وكتابه ( طبائع الاستبداد ) بعيداً عن جوّه ؛ فقد جهر بسوء الاستبداد والمستبدّين ، وقارع الطغاة ، وهيّأ الأذهان أن تفهم علاقة الحاكم بالمحكوم فهماً جديدا .
كانت الخلافة العثمانيّة قد ضعفت ، وصارت ، بعد الحرب الأولى ، عبئاً على تركيا ، فكان أن قام مصطفى كمال أتاتورك في سنة 1924 بإلغائها ، وإعلان الجمهوريّة ؛ فأصبح المسلمون ، عامّة ، من دون خليفة يحكمهم ويُقيم فيهم الشرع ؛ فأفزع ذلك جمهورهم ، وخشوا سوء عاقبة أن لا يكون لهم خليفة ، فيبوؤا بغضب من الله ! ثمّ اشرأبّت لهذا المنصب الرفيع أعناقٌ هنا وأعناقٌ هناك ، وكان من تلك الأعناق المشرئبّة ملك مصر أحمد فؤاد ، وكان من ورائه من ذوي الشأن في العالم من يزيّن ذلك ، ويسعى فيه بنحو ما . وقد رأى علي عبد الرازق ذلك ، وأدرك أنّ ثمّة من يريد إحياء نظام الخلافة ، وأن يبعث فيه الحياة ، وأن يرجع بالزمان القهقرى .
كان علي عبد الرازق يزاول القضاء الشرعي ، فأراد أن يكتب في نشأته وتاريخه ؛ وإذا بتاريخ القضاء يفضي به إلى تاريخ الخلافة ؛ ذلك أنّ سلطة القاضي شيء مستمدّ من سلطة الخليفة ؛ إذ الخليفة هو الذي ينصب ، وهو الذي يعزل ، ولا سلطةَ ، على وجه الحقيقة ، إلّا سلطته ؛ ومن أجل أن يتبيّن ذلك على تمامه شرع يدرس نشأة الخلافة ، ويقف على تاريخها حتّى يعرف مكانة القضاء منها ، وحتّى يعرف منزلتها هي من الدين ؛ أهي من صميم الدين ، أم هي شكل من أشكال الحكم أتاحه الزمان والمكان والسياق الثقافي ؟
شرع ينظر في التاريخ ، وينظر في الكتاب الكريم ، وفي الأثر الشريف ، ويوازن بين الوقائع والنصوص ؛ بين نظام الخلافة - الذي نشأ بعد وفاة النبي الكريم - ومصدري التشريع ؛ القرآن والسنّة ؛ فإذا بالذي يتّضح له ؛ أنّ الخلافة ليست من صميم الدين ، وأنّها شكل من أشكال الحكم والإدارة تهيّأ للمسلمين في حقبة من الزمان ، وأنّهم ليسوا مسؤولين عند الله إذا لم يُقيموها ، بل أن ليس أمر من أمور الدين يتوقف تحقّقه على قيام نظام الخلافة !
تمّ له البحث بمقدّماته ونتائجه ، وصاغه بلغة واضحة مبينة تقوم على الإيجاز أكثر ممّا تقوم على التفصيل ، وأصدره في كتاب عنوانه : ( الإسلام وأصول الحكم ) في سنة 1925 . وما أن صدر الكتاب حتّى غضب عليه القصر ؛ فلقد أدرك من فيه أنّ الكتاب يروم أن يصرف عنه منصب الخلافة ! وإذا غضب القصر غضب المتّصلون به ، وإذا كان غضبُ القصر خفيّاً مستوراً ، فإنّ غضب المتّصلين به صريح جهير ! فكان أن غضب الأزهر ، وأنكر على الكاتب ما ذهب إليه ، وأجرى له محاكمة أدّت إلى طرده من جماعة العلماء ، ومحو اسمه من سجلّات الأزهر ، وإلغاء شهادته ، ومنعه من مزاولة القضاء ! ولم تُجدِ الأقلامُ التي كتبت في نصرة ما ذهب إليه الكاتب ، ولم تستطع أن تحول دون ما أُوقع عليه ؛ فلقد أُمضي الأمر ، وعُزل الشيخ ! لكنّ الخلافة لم تقم ؛ فقد مضى زمنها ، وذهبت الأحوال التي اقتضتها !
كان علي عبد الرازق يقظ الذهن ، واسع المعرفة ، ذا قلم مبين قادر على صياغة الأفكار ، والإعراب عنها ، وكان بالفكر العربيّ الإسلامي حاجة إليه ؛ لكنّ ما وقع عليه من أذى جعله ينكفئ ، وينأى بنفسه عن الشأن العام مدّة سنين ؛ حتّى إذا رُدّت إليه شهادته ، بعد ما يقرب من عشرين سنة ، ورُدّ اسمه إلى سجلّ الأزهر ؛ لم يجد حافزاً على استئناف ما كان فيه ؛ فقد ملأ الشعور بالمرارة نفسه !
لو قُدّر لنهج علي عبد الرازق أن يشيع بين الناس لتضاءل كثير من العنف ، ولهدأت كثير من النفوس ...!
#سعيد_عدنان (هاشتاغ)
Saeed_Adnan#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟