|
العربيّة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين
سعيد عدنان
كاتب
(Saeed Adnan)
الحوار المتمدن-العدد: 6169 - 2019 / 3 / 10 - 23:03
المحور:
الادب والفن
هذا بحث يروم أن يرصد العربيّة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ؛ حين خرجت الأمّة من حقبة طويلة مظلمة ، واتّصلت أسبابها بأسباب العصر ، وشرعت تتزوّد من معارفه . وهو يرصد أيضا قدرة العربيّة على استيعاب الجديد من دون أن تخلّ بأصل من أصولها . ويريد كذلك أن يقف عند أعلام كرام استطاعوا أن يجمعوا بين القديم والجديد ، وأن يؤلّفوا بينهما على نحو لا يُخلّ بأيّ منهما . ويريد أن يقول إنّ سبيل صيانة العربيّة اليوم هو ما كان في كلّ أعصرها ؛ استيعاب أصولها ، وحسن القيام على عيون آثارها من دون إغلاق الباب بوجه جديد تأتي به الحياة في حركتها الدائبة. وإذا كان الكلام قد اقتصر ، أو كاد ، على مصر فلأنّها طليعة العرب ورائدة نهضتهم ، وأنّ ما وقع لها سيقع لغيرها من البلاد العربيّة . 1- حين خرجت العربيّة ، بالإسلام ، من بيئتها البدوية ، وامتدّت آفاقها في الأرض ؛ لم تقعد عن التعبير عن مستجدّات الأشياء ، ومستحدثات الفكر . فلقد عبّرت عن الفقه ، وعلم الكلام ، والنحو ، وعن علوم القرآن ، وعن غير ذلك ممّا كان بعد أن لم يكن ، واستطاعت أن تجد المصطلح الجامع الوافي . ولم يمضِ زمن طويل حتّى لانت لضروب من الفلسفة ، وألوان من العلم ؛ زيادة على اتّساع أدبها ، شعراً ونثراً ، لأجواء من الفكر لم يعرفها من قبل . لقد خرجت العربيّة من الصحراء التي نشأت فيها إلى بلدان ذات فكر وحضارة ؛ فلم تعثر ، ولم يقعد بها أمر عن حسن البيان ودقّته ؛ ذلك أنّها كانت بين أيدي رجال ذوي بصيرة قادرين على أن يلائموا بين اللغة ، وما يطرأ على الناس من جديد . وإنّما اللغة بأهلها ؛ تعلو بعلوّهم وتنحطّ بانحطاطهم . وقد كان أهل العربيّة يومئذ أصحاب مجد ، وبناة حضارة ؛ تتفجّر في أنفسهم منابع القوّة ، ونوازع السيادة . وامتدّ ذلك بالعربيّة قروناً ؛ كانت فيها لغة الدين والأدب والعلم ؛ وخرجت من العرب إلى أقوام أخرى ؛ تعلّمتها ، وأتقنتها ، وصارت عندها اللغة التي تُبين بها عن مشاعرها وأفكارها . وقد عرف الأدب العربيّ طائفة من الشعراء ذوي أصول أعجميّة ؛ لكنّهم أحسنوا العربيّة وبرعوا فيها ، وأدركوا دقائقها . وعرف أيضاً علماء كباراً في شتى ضروب المعرفة أصولهم ليست عربيّة ؛ لكنّهم اتّخذوا العربيّة لغة علم وبيان ومهروا فيها ؛ فلم تشكُ اللغة بين أيديهم من أمر ، ولم يشكُ هم من قصور فيها . حتّى جنحت شمس الحضارة العربيّة الإسلامية نحو الأفول ، فتقهقرت روح الإبداع ، وانكمشت العقول ، وتطامنت الأنفس ؛ فألقى ذلك كلّه بظلّه على اللغة ؛ فثقلت خطواتها ، وتراخى كيانها ؛ فنشأ فصل بينها وبين الحياة ، ثمّ أخذ هذا الفصل يتّسع .
2-كانت السيادة قد أخذت تفارق أيدي العرب شيئاً فشيئاً منذ أن سقطت بغداد في سنة 656هـ ، حتّى أمسوا محكومين بعد أن كانوا حاكمين ، وأمست لغتهم لا تلقى من العناية والرعاية مثلما كانت تلقاه في القرون الأولى حين كانت السيادة بأيديهم . وتقدّمت لغات أخرى ، كالفارسيّة والتركيّة ، وشرعت تأخذ مكان العربيّة ، وتدفعها عن الصدارة ، وتقصرها على البيئات العربيّة الصرف ، وعلى مواضع الدرس الديني في المساجد ، والمدارس . لقد ضاق نطاق العربيّة خلال العصور التي تدعى بالمظلمة ، وانكمشت ؛ وما ذلك لأمر يرجع إليها ، وإنّما لأمر أصاب أهلها ؛ فجفّت إذ جفّوا ! ثمّ استمرّ بها الجفاف زمناً طويلاً حتّى كانت طلائع هذا العصر الحديث . وإنّما اللغة صورة الأمّة ؛ تقوى بقوّتها ، وتضعف بضعفها ! 3-كانت الحملة الفرنسيّة على مصر في سنة 1798 قد رمت إلى بسط إرادة فرنسا على الشرق ، وأن تجعل من مصر قاعدة لها في السيطرة والإدارة ؛ ولكنّ الحملة ، مع ذلك ، أيقظت أهل البلاد من سباتهم ، وجعلتهم ينظرون عبر البحر إلى الغرب ، ويريدون أن يعرفوا أسباب قوّته ، وأن يكون لهم شيء من قوّة ومنعة . وكان نابليون ، في حملته ، قد اصطحب معه فريقاً من العلماء أخذ يدرس أحوال مصر وتاريخها دراسة منظّمة . غير أنّ أمر الفرنسيين في مصر لم يلبث حتّى اضطرب ، وثار الشعب بهم ، وأراهم جانباً من بأسه ؛ فضاقت بهم أرض مصر ، واضطرّتهم أن يقفلوا راجعين إلى بلادهم في سنة 1801 . وإذا كان أمر الحملة الفرنسيّة قد انطوى ؛ فإنّها قدحت شرارة اليقظة عند المصريين ، ووضعتهم على سبيل النهضة ؛ فلمّا ولي محمّد علي باشا شأن مصر في سنة 1805 شرع بإرسال البعثات الدراسيّة إلى فرنسا ، وكان مع البعثة إمام ؛ يرشد الطلبة في ديار الغربة ، ويقيم لهم الصلاة ، ويرجعون إليه في شؤون دينهم ؛ غير أنّه لم يقصر أمره على ذلك وحده ، بل شرع يتعلّم الفرنسيّة ، ويتّصل بالبلد وأهله ، ويستوعب أدبه وفكره ؛ حتّى إذا انقضت مدّة البعثة ، وعاد الطلبة إلى مصر ، عاد معهم إمامهم رفاعة رافع الطهطاوي وقد تضلّع من الفرنسيّة في أدبها وفكرها . كان من صنيع الطهطاوي ؛ أنّه ألان العربيّة ، وجعلها تقدر أن تستوعب هذا الشيء الجديد الذي عرفه في فرنسا . وما كان الطهطاوي يستطيع ذلك لولا علمه بالعربيّة وأدبها ، وتاريخها ، ولولا علمه بالقرآن الكريم ، وما يُشتق منه من معارف . 4 – وإذا كانت العربيّة ، في العهد العثماني ، قد تيبّست وفقدت رواءها ، وشاع فيها اللحن ، ودبّ الفساد في إعرابها ؛ فإنّها أخذت ، مع الطهطاوي وجماعته ، تنفض شيئاً من الغبار الذي ران عليها .ولقد كان ممّا بعث الحياة في اللغة ؛ الصحافة فقد أنشئت " الوقائع المصريّة " في سنة 1828، وهي أوّل صحيفة عربيّة ، وقد كان للطهطاوي يد كريمة في إنشائها . ولا ريب في أنّ الصحافة تصل اللغة بوقائع الحياة ، وتجعلها أقدر على الإعراب عنها . وقد أفاد الطهطاوي وهو يساهم في إنشائها ممّا كان قد شهد في صحافة فرنسا ، وأراد بنحو ما أن تكون في مصر صحيفة كتلك الصحف القائمة في أوربا . وقد كان من أثر عودة البعثة الدراسيّة من أوربا ؛ أن أُنشئت مدرسةُ الطب في سنة 1836 ، وأقيم بجانبها مستشفى ؛ يتدرّب فيه الطلبة ، ويعالج فيه المرضى ؛ وقد استقدم لها أساتذة من فرنسا . يقول الزيّات عن هذه المدرسة : " وإلى هذه المدرسة يرجع أكثر الفضل في إحياء اللغة العربيّة ، ووصلها بالثقافة الحديثة ؛ لأنّ الأساتذة كانوا يلقون دروسهم باللغة الفرنسيّة ، ثمّ تؤدّى في الوقت نفسه إلى الطلّاب باللغة العربيّة . وكان ذلك يضطرّ المترجمين من المغاربة واللبنانيين والأرمن إلى البحث عن المصطلحات في المعجمات اللغويّة والكتب الفنيّة القديمة ." ( تاريخ الأدب العربيّ : 421 ) ومع مدرسة الطب هذه ؛ كان لا بدّ أن تنشأ مدرسة أخرى ، تُعنى باللغات ، وتخرّج التراجمة القادرين على صبّ المعرفة الأوربيّة الحديثة في قالب اللغة العربيّة ؛ فأنشأ محمّد علي مدرسة الألسن ، وأسند إدارتها إلى رفاعة الطهطاوي ، ومكّن لها ؛ فخرّجت جماعة ممّن أحسن الترجمة وبرع فيها ؛ وقد تألّف منهم " قلم الترجمة " سنة 1842 ، وكانت رئاسته إلى رفاعة الطهطاوي أيضا . وقد ترجموا طائفة من كتب الطب ، ومن كتب العلوم الحديثة ؛ من لغاتها الأوربيّة إلى العربيّة . وقد كان من مزيّة أولئك المترجمين ؛ تضلّعهم من العربيّة ، ووقوفهم على عيون آثارها ؛زيادة على علمهم المتين باللغات الأوربيّة ؛ وهما خصيصتان لا بدّ منهما معاً لكلّ مترجم يريد أن يحسن عمله . ولا شكّ في أنّ ظلّ الطهطاوي كان يظلل أولئك العاملين ، وأنّهم كانوا يقتدون به . وفي عهد إسماعيل أنشئت مجلّة طبيّة شهرية يقال لها : " اليعسوب " أصدرها محمد علي باشا البقلي يعاونه الشيخ محمّد الدسوقي ؛ وقد كان من رسالة المجلّة نشر المعرفة العلميّة الطبيّة باللغة العربيّة ؛ ولا ريب في أنّ ذلك قد دنا بالعربيّة من مصطلحات العلم السائدة يومئذ ويسّر نفاذها إليها . لقد شرعت العربيّة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تتخذ طريقها نحو الإعراب المبين عن قضايا العلم ، وعن مناحي الفكر ، وتسعى أن تقف على قدمين ؛ واحدة مغموسة في التراث ، والأخرى قريبة من فكر هذا العصر وعلمه . وقد أتيح لهذا النزوع العلمي أن يجد ميدانه ، والمنبر الناطق بلسانه ؛ حين أنشأ يعقوب صرّوف مجلّة " المقتطف " في سنة 1876 ، في الشام أوّلاً ، ثمّ انتقل بها إلى القاهرة ، ووسمها بأنّها مجلّة علميّة زراعيّة صناعيّة . ولا ينسى تاريخ الأدب الحديث ما لهذه المجلّة من يد بيضاء على العربيّة ؛ فقد كتب فيها أعلام ذلك الجيل ، وسعوا جميعاً أن يعبّروا عن العلم والفكر بلغة فصيحة مبينة تنسجم مع العصر ، ولا تُغفل أصولها التي لا قوام لها إلّا بها .وحين توفّي يعقوب صرّف في سنة 1927 ، خلفه فؤاد صرّوف في القيام على " المقتطف " وهو من رجال العلم والأدب المعدودين يومئذ ؛ فمضت المجلّة على نهجها الذي يجمع بين العلم والأدب ، ويسعى إلى جعل العربيّة قادرة على استيعاب معارف العصر وعلومه من دون أن ينالها جور على خصيصتها . وقد قُدّر للمقتطف أن يمتدّ بها العمر حتّى سنة 1952 ؛ فلمّا انقطع صدورها كان محصولها من مباحث العلم ومصطلحه كثيراً وافراً . ولا ريب في أنّ ذلك ما كان ليتحقّق لولا تمكّن القائمين عليها من العربيّة في أصولها ورفيع آثارها ، ومن معارف العصر وعلومه . 5- ثمّ أخذ التعليم يتّسع شيئاً فشيئاً ؛ كان عمادُ التعليم القرآنَ الكريمَ ؛ إذ ينشأ الصبيّ على حفظه أو حفظ سور منه ، وإجادة تلاوته ؛ فيستقيم لسانه ، وتُصقل ملكته ، ويتيسّر البيان عليه . ومع القرآن الكريم كان الصبيّ الناشئ يشدو شيئاً من اللغة والنحو وما يتّصل بهما . كان هذا شأن التعليم على مدى حقب متطاولة ، فلمّا انتصف القرن التاسع عشر عرف نظام التعليم شيئاً آخر ، عرف شيئاً من معارف العصر ، وعرف القائمون عليه كيف يصبّون هذه المعارف اليسيرة في لغة عربيّة فصيحة سمحة ، وأن يوجدوا المصطلح الملائم لها في العربيّة . ولا شكّ في أنّ ذلك قد ساعد العربيّة على أن تسلك سبيل العصر ، وأن تحاول الاتّصال به ، وأن تحتفظ ، في الوقت نفسه ، بخصائصها . لقد كان التعليم العام ممّا ساعد العربيّة على أن تستردّ شيئاً من حيويتها . 6- لقد شرعت العربيّة منذ أواخر القرن التاسع عشر تستعيد قدرتها على ضبط الأفكار ، وإحكام البيان عنها . ولقد كان للشيخ محمّد عبده حميدُ الأثر في تكامل العربيّة الحديثة ؛ إذ وجّه الأنظار نحو كتابي عبد القاهر الجرجاني ؛ " دلائل الإعجاز " و " أسرار البلاغة " وجعلهما مدار الدرس البلاغي في الأزهر الشريف . وإذ أخذ يكتب مبيناً عن فكره بعربيّة فصيحة سمحة لا ثقل فيها ؛ فكان بذلك ، وهو ذو المنزلة الرفيعة ، قدوة يقتدي به ناشئة الكتّاب . ويتّصل بذلك ، ويكاد يكون منه ، اتّساع العربيّة للدرس الفلسفي ؛ فقد شرع أحمد لطفي السيّد ، وهو ممّن سرت فيهم روح الشيخ الإمام محمّد عبده وأفادوا من نهجه ، بترجمة جملة من آثار أرسطو الفلسفيّة ؛ فقد ترجم " الأخلاق " وترجم " الطبيعة " وترجم " السياسة " . ولمّا كان بيان أرسطو عن مقاصده موسوماً بالوضوح والدقّة والوجازة ؛ فقد جاءت عربيّة أحمد لطفي السيّد واضحة دقيقة مقتصدة . وقد شهد القرن العشرون حين أطلّ عربيّة قد نفضت عنها غبار الحقب المظلمة ؛ تستطيع أن تُبين عن شؤون الفكر مثلما تستطيع أن تعرب عن خلجات النفس . وكان للصحافة ، وقد كثرت الصحف وتنوّعت ، أثر في أن تتخفّف العربيّة من زخرف كان يثقلها ؛ ذلك أنّ اللغة المقيّدة بالسجع والجناس وغيرهما من ضروب البديع ؛ لا تقوى على مجاراة ما تقتضيه الصحافة من معالجة قضايا المجتمع ، وشؤون السياسة يوماً بيوم . ثمّ صار جمهور القرّاء الناشئ يريد أدباً قريباً منه ؛ يفهمه ، ويتذوّقه مع تحقّق الفصاحة والبلاغة ؛ من حيث إنّ البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، لا من حيث هي زخرف وصناعة لفظيّة مستثقلة . وقد وجد طلبته في أدب مصطفى لطفي المنفلوطيّ ؛ في قصصه وفي مقالاته ؛ إذ ألفى لغة عربيّة رائقة لا ينبو بها عصرها ، ولا تنكرها أصولها . ومثل ذلك ما وجدوه في أدب عبد العزيز البشري . وقد تهيّأ للعربيّة شكل جديد من أشكال الأدب يلائم الذائقة الناشئة الجديدة ، ويواكب الصحافة ؛ ذلك هو المقالة التي تقوم على فكرة يتمّ بسطها وتفريعها ، وتؤدّى بلغة فصيحة مبينة متماسكة النسج واضحة المقاصد .وكان لصحيفة ( الجريدة ) ولصاحبها أحمد لطفي السيّد مكان الصدارة في توطيد هيكل المقالة من حيث هي شكل جديد من أشكال التعبير تطلّبه العصر . ثمّ كُتب لطه حسين أن يسمو بالمقالة فكراً وفناً ، وأن يمزج الخيال المتوثّب بالعاطفة السخيّة على مهاد من الفكر الحر ، وأن يجعل ذلك كلّ في نسيج عربيّ مبين لا تنكره أصول اللغة ، ولا ينبو عن العصر . وقد شاع فن المقالة في تلك الحقبة من مطالع القرن العشرين ؛ فكتبها أحمد حسن الزيّات ، وكتبها إبراهيم عبد القادر المازنيّ ، وكتبها أحمد أمين ، وعباس محمود العقّاد ، ومصطفى صادق الرافعيّ ، وغيرهم ؛ وكلّهم كان يحرص على خصائص العربيّة ، وسمو بيانها ، وعلى أن يتمثّل العصر القائم بأفكاره ، وأشيائه ، وبما يستثير من مشاعر وعواطف . ولا شكّ في أنّه قد أُتيح للعربيّة على أقلام هؤلاء الكتّاب الأعلام مزيد من المرونة والحيوية ، ولا شكّ في أنّهم وصلوها بأسباب العصر ، وجعلوها قادرة على التعبير عن فكره وعلمه ، ثمّ أنّهم لم يُخلّوا بأصولها التي قامت عليها . 7 – وكان للعربيّة أن تصوّر حياة الناس ، وترسم أفعالهم وهم يزاولون حياتهم ، وأن تدخل ميدان القصص الحديث ؛ فكان أن كتب محمّد حسين هيكل أوّل رواية على نمط القصص الحديث يصوّر فيها الحياة في الريف المصري ، ويجعل من اللغة الفصيحة قادرة على رسم معالم تلك الحياة . كان ذلك في روايته ( زينب ) ! لقد أدخلت هذه الرواية الفن القصصي إلى الأدب العربيّ الحديث ، وجعلت من العربيّة موصولة بحياة الناس من دون أن تضطرب أصولها ، ويختلّ نسيجها ! ثمّ انفتح باب الرواية ، والقصّة ، وصارت العربيّة تحكي شؤون الناس وشجونهم على نحو من السلاسة واليسر مع حفظ فصاحتها وحسن بيانها . وكان أن ظهر نجيب محفوظ ، ومحمّد عبد الحليم عبد الله ، وعبد الحميد جودة السحّار ، وإحسان عبد القدوس ؛ وكلّهم قد استطاع أن يوائم بين العربيّة وبين الرواية ؛ هذا الفن الأدبيّ المستحدث . وقد كان ممّا مكّن لهم حسن المواءمة ؛ تضلّعهم من الأدب العربيّ القديم ، ووقوفهم على أصول العربيّة . 8- وقُدّر للعربيّة أن تعرف ضرباً آخر من ضروب الأدب ليس لها عهد به ؛ إذ عرفت المسرحيّة على يد توفيق الحكيم ؛ فلم يضطرب لها بناء ، ولم تختل منها أصول .فقد تمّت المواءمة بينها وبين القالب المسرحيّ القائم على الحوار الواضح المقتصد . ولا ريب في أنّ وراء هذه المواءمة مقدرة كاتب ضليع من لغته وأدبها ، عارف بالفن المسرحيّ في نشأته وعند أهله . وكلّ ذلك بيّنٌ في " أهل الكهف " و" شهرزاد " وفي غيرهما من آثار توفيق الحكيم . 9- لقد بدا واضحاً أنّ العربيّة انتفضت من عقالها ، وأزاحت عنها غبار السنين ، وها هي ذي في مطالع القرن العشرين تخوض في شتّى الميادين ، وتعبّر عن قضايا الفكر مثلما تعبّر عن شؤون الوجدان من دون ضعف أو اضطراب ؛ حتّى العلم الصرف هيّأت له مصطلحاته ، وجعلت له لغة واضحة مقتصدة رأينا ملامحها ، من قبل ، عند يعقوب صرّوف ، وفؤاد صرّوف ، ونراها في مطالع القرن العشرين وقد تكاملت على قلم أحمد زكي العالم الأديب . واطّردت الترجمة ، وشرع نقلة الفكر والأدب والعلم الصرف ينقلون ثمرات ذلك من اللغات الأجنبيّة إلى العربيّة ، ويوائمون بين جديد هذه الأفكار ، وبين نسيج العربيّة . 10- ثمّ كان ، وقد اتّسع مدى العربيّة ، أن تنشأ مؤسسة تضبط حركتها ، وتصل بين الفروع والأصول ، وتحكم نمط استجابتها للعصر وما فيه . فكان أن نشأ المجمع العلميّ العربيّ بدمشق في سنة 1919 ، وتولّى رئاسته محمّد كرد علي . ثمّ نشأ مجمع اللغة العربيّة في القاهرة في سنة 1932 ، وقد تولّى رئاسته أوّل مرّة محمّد توفيق رفعت ، ثمّ تولّاها من بعده أحمد لطفي السيّد .
11- وصفوة الأمر ؛ أنّ العربيّة لغة قديرة ذات تاريخ وعمق ، وقد ثبتت ، بمقدرتها ، على الزمن ؛ وإنّما الضعف يأتي من أهلها ؛ فإذا قووا قويت ، وإذا ضعفوا ضعفت ! فقد استوعبت العلم والفلسفة ، فضلاً عن علوم الدين ؛ يوم كان أهلها مقبلين على المعرفة بشتّى ضروبها ، متشرّبين حبّها . وسبيلها مع العصر موصولة غير منقطعة ؛ شريطة أن تُحسن الناشئة تعلّمها ، ولا يتمّ تعلّمها إلّا بأن ينشأ الناشئ على حفظ الكريم من آثارها ؛ وأوّلها القرآن الكريم ، ثم عيون الشعر والنثر . فإذا أتمّ الناشئ ذلك استطاع أن يخوض في معارف العصر بلغة صحيحة سليمة لا خشية عليها . ولا ريب في أنّ استقامة اللغة تفضي إلى استقامة الفكر ... 12 – لقد واجهت العربيّةُ العصرَ ، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، فأحسنت المواجهة ، واستطاعت أن توائم بين العصر وبين ما هي عليه ؛ فاستقام لها الفكر، واستقام لها العلم ، وتهيّأ لها المصطلح الملائم ؛ كلّ ذلك بفضل رجال جمعوا بين قديم اللغة وجديد العصر ، وتضلّعوا منهما معاً . فإذا اضطرب أمر اللغة اليوم ، واختلّ بناؤها على الألسنة والأقلام ؛ فإنّ الدواء لا يكون إلّا بمزيد من العلم بأصولها والوقوف على عيون آثارها ، مع حسن استيعاب ثقافة العصر ؛ على نحو ما صنع الروّاد في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ...
#سعيد_عدنان (هاشتاغ)
Saeed_Adnan#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المقالة الأدبيّة وآفاقها ...
-
طه باقر ...
-
محمد يونس والنهج الواقعي ...
-
علي جواد الطاهر .. في ذكراه العشرين
-
عبد الواحد لؤلؤة ...
-
أمين نخلة في أمر عجب ...
-
علي عباس علوان في ذكراه
-
زكي نجيب محمود في أفق الترجمة
-
الشعر الجديد
-
الكرد في شعر الجواهري
-
عدنان العوادي
-
حياة شرارة
-
لويس عوض .. أيضا
-
علي جواد الطاهر
-
إبراهيم الوائلي
-
الجرجاني .. الشاعر أو ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
-
لويس عوض الناقد
-
أحمد أمين
-
محمد حسين الأعرجي
-
عبد العزيز المقالح
المزيد.....
-
الشَّاعرُ - علاَّل الحجَّام- فِي ديوان - السَّاعَةِ العاشِق
...
-
محمد الغزالي.. الداعية الشاعر
-
تحقيق المخطوطات العربية.. بين إحجام العالم وإقدام الجاهل
-
رواية -نيران وادي عيزر- لمحمد ساري.. سيمفونية النضال تعزفها
...
-
فنانة تشكيلية إسرائيلية تنشر تفاصيل حوار خطير عن غزة دار بين
...
-
مغني راب أمريكي يرتدي بيانو بحفل -ميت غالا- ويروج لموسيقى جد
...
-
فنانو أوبرا لبنانيون يغنون أناشيد النصر
-
72 فنانا يطالبون باستبعاد إسرائيل من -يوروفيجن 2025- بسبب جر
...
-
أسرار المدن السينمائية التي تفضلها هوليود
-
في مئوية -الرواية العظيمة-.. الحلم الأميركي بين الموت والحيا
...
المزيد.....
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
المزيد.....
|