أميركا- أريزونا
لعل من البديهي ان يتجرد خطاب الثقافة نفيا ، أزاء النقلة الكونية في حدث الإنغلاق المأساوي لعموم المعارف والأدبيات الإنسانية في شتى التجمعات الإنسانية ومذاهب الخطاب الفني ، وكأن حالات على غرار الولادة الإحتضار في انساق تأريخ الأمس واليوم ما هي الا كوابيس ، لما يصفه سبينوزا ( الفيلسوف المتطهر ) : وحدات الوغي المستقلة .
ومن ذلك ضرورة التنبه الى خطر العولمة الماحق ، وهو إعداد خطير يشير من جهة الى عظم الجهود التي بذلها الغرب المتعطش الى إختصار وتصنيف كليات المعرفة الإنسانية ، بغية اجهاضها ومن ثم تحويــلها الى مفردات يمكن الحصول بها وبمعيتها ، على معايير مخصبة ومحدثة لتصب في بودقة واحدة ، وتلك هي صبغة الإحلال الخطير ، الذي بدا بالتشكّـل قبيل وما بعـد الحربين الكونيتين .
ولأن صراع العولمة الأزلي ما فـتأ يستهدف كل مراكز الوعي والتنظير والإحالة ، في العالمين القديم والجديد ، فإن روح وجوهر الشرق الذين وردا في هموم مستشرقي الأمس أو في إحالات أدوارد سعيد المتأخر ، وفي كتابه ( الإستشراق ) بالروح العميقة الأثر والممارسة الإنسانية المتأصلة ، وهو ذات المعنى الذي ذهب اليه الفيلسوف الفرنسي ذو النزعة الإنسانية - ميشيل فوكو – من ان كل الأصول تتجه الى تجريد التأريخ في وثبات استحضارها لروح وثوابت الحاضر ، وهي صبغة تراثية كان العرب والمسلمون أول المعنيّين بها ، دون سواهم ، ولعدة أسباب يقف في مقدمتها أثر الخطاب الديني الكوني والشامل ، في كون الرسالة المحمدية ، رسالة إقدام وتبشير للعالمين ، وكما في قوله تعالى : " وما أرسلنــاك إلا رحمـــة للعالميـــن " إذ ان لفظة ( العالمين ) تشير وبدقة واضحة الى المعيار الكوني الشامل وهو ما الذي نّوطت به اللغة العربية الأم – لغة القوم في موروثهم الحضاري ، وهي اللغة ذاتها في لغة الإعجاز السماوي والدستور الفقهي آنفا ، وهنا غ
فإنه لابد من التمهيد للخوض في مفارز كل اللغة أدبا وشريعة ووعيا شامــلا ، وذلك ذكر عبر مدارس البصرة والكوفة وبغداد والى الأبد .
ان جوهر الإسلام يمثل ادراكا متحركا تجاه العقل الآخر غير اللاواعي ( وهو بتعبير اهل الدين ) غير العارف بالرسالة ، وبتعبير جمهور المسلمين ، لمن أسلم ولم يسر على محددات الشارع المقدس ، ( بالفاسق ) أو( الضال ) وهو على نقيض المهتدي اي ما كان يغـذ السير بمعية إدراك الإسلام .
ان هذا التجاوز اللفظي يعد تحديدا كما يذهب الى ذلك الراوندي وبن خلدون في تلمـّـس اصول اللغة الفقهية ، وهو المــد الفلسفي المتجرد تماما ، وهو ايضا مـــا ادركته المدارس الفلسفية والشعـرية في العصر العباسي الثاني ، وعلى مدار كل مدارس التفلسف والتفقه والتفسير ، وهو أمر يقع في نصاب المستشرقين اللذين أدركوا قبل غيرهم اهمية ان يكون هذا الدين خاتما ، وتعاليمه مطلقة لاتبديل لها ولا إزاحة .
لقد أبدع الإنسان العربي كل هذا الإبداع بدافع من شرف الرسالة ومن القدرة المتناهي التي عمقتها نظرة أهل الشرق حتى قيل ان عن أهل العراق حصرا " انهم قوم يقرأون اكثر مما يجهرون " – وهي في تمام التناص العقلي لجملة النفري الشهيرة " إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة " .
وعند زحف المنفى وئيد الخطى ، كان لابد من التدليل على كل الجهود التي هي شرف حمّـل به المنفي لأجل تأكيد هويته الأم ، من اي معدن خلــق ، ومن اي المعرف يستقي لهويته الثقافية الدالة عـليه ، فلا إبداع للشعر دون قرينة عبقرية اللغة المتعامل بها ، ولا فلسفة دون المرور على الثابت من منطق ومحتكمات وممارسات العرب في النقل والرواية والحديث والأمثولة اللغوية ، ولقد غدا خطاب المنفى سجالا جديدا وعصر مستقلا دجاخل عصره الذي هو الزمن الأشمل ، ومسرحا مفتوحا على مطلق المكانية له ، وهو ما لم تدركه جاهلية الطغاة في بغداد الخير ، حيث غدا القارئ العربي ، وعلى النقيض مما يذهب إليه الكثير من ذوي النظرة المغلقة ، أو ممن أصيبوا بسوداوية التفكير ورداءة التذوق ، من ان كثرة أقـنية النقل الإلكتروني الحاسوبي ، تضع القاريء العربي في حيرة من تنوع منتوجاتها اللغوية الفكرية ، وهو رأي يناقض الدهشة المفرحة ، والمبدأ العلمي في العمل داخل اطار الزمن المسبوق بآلة الزمن ( الحاسوب ) – ( الإنترنيت ) ، فها نحن نتنقل من الجرائد الألكترونية الى الدوريات المطبوعة هذا بالإضافة الى أصوات المحطات الإذاعية والكتب التي يبذرها الفكر العراقي في المنفى والتي تنوه الى بسالة الذود عن التراث الأم ( الربية ) والأب ( العراقية الخالصة ) معا ، إذا صح التعبير وسط إسقاطات ( أنا ) العولمه الماحقــه .
فكيف يحلل خطاب المنفى ازاء هذا التداخل من المعايير المستحدثة وغير المطروقة ، وهو ما سجله احد مفكري الغرب من ان الشرق ، راح يستخدم ذات الأقنية وذات الأدوات التي سخر لها العقل سنين من العمل والتفكير لتكون حكرا عليه ، وهو ما يعزى الى عجـلة السوق والتذمر المعرفي في إهمال الآخر عن دائرة الصراع الكوني – عولمة الحقائق – بحقيقة واحدة ، عـولمة التواريخ ، وهي مجتمع في تأريخ واحد ، هو الأصل ضمن احتكار تكنولوجيا التوجيه والإزاحة .
ان العولمة ، ما هي إلا أنساق فلسفية مبسطة ، تضع الشرط المعرفي بمعية الحركة الموجهة ، وهي إذ تلغي التراث المتعلق بالآخر ، فانها لا تستبعد إشــراك عقل الآخر في بناء صرح المستقبل العالمي المرتقب .
ان خطاب المنفى وان جره البعض الى النــرجسية الفردية والعلا ئقية المتوتـّــرة ، فانه حي – وان الجدل المحدث ، في فكر وجوارح القراء والمتلقين ، هو غيره في الأمس البعيد القريب ، لقد غدت الغاية معولمة ً ، اذا صح التعبير ، وغدا الجمال كونيا ، وغدا النشاط المعرفي التذوقي مبوبا وحرا ، لا تهيمن عليه جبهات الإتحاد المعرفي الزائفة ، ولا تتشكل حوله نمطيات الخوض المعاد والمستهلك .
ان المردود الإيجابي او لنقل الجهة الأكثر
إشراقا في العولمة المصاحبة لكل خطابات التنوير والتثير ، هو ان كل متلقـّي مفرد يمتلك محللات مــرشحة جمعـية ، تجعله قادرا على اتخاذ قرار المغامرة الجادة في ان يحيل حكم تصوراته الفلسفية الى تخبر به بيانات البيان الآخر – الخطاب الإبداعي – الأكثر بهجة واتحادا بالذات المتسائلة ، كما يصف ذلك رولان بارت – في الكتابة في درجة الصفر .
ان النظرة الى الغد صارت تتجاوز كل مديات الحاضر المعاش ، لتجيء مكملة لحالة الصراع العولمي – دينيا كان ام سياسي – ولا انتصار لأي من الجهات على حساب جهات أخرى ، سواء اتصفت مسوغات الصراع بالفضيلة العليا أو الرذيلة الدنيــا .
ان العالم معولما ، يعني ان الآخر مدركا ، وان طائرات بن لادن التي اخترقت مصفحات مانهاتن العتيدة ، ماهي إلا تحليل للتجلي الغربي القديم ، من ان الآخر قادما لا محال فلأذهب اليه وأغــلق عليه جهاته الأربع .
وعند المشهد الآخر تقف بنى الإقتصاد الأميركي عند المحايثة القصوى ، في التدهور الذي احال نموذج الإرهاب الى شبح تراكم معرفي غير عولمي مستحدث ، ولا خلاص .....!!!!
عباس الحسيني
أميركا - أريزونا