أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عيسى ربضي - حول ماهية الدين. مدخل تأسيسي لتعريف الدين والمقدمات التي أسست له















المزيد.....



حول ماهية الدين. مدخل تأسيسي لتعريف الدين والمقدمات التي أسست له


عيسى ربضي

الحوار المتمدن-العدد: 6156 - 2019 / 2 / 25 - 00:20
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


حول ماهية الدين. مدخل تأسيسي لتعريف الدين والمقدمات التي أسست له
لماذا مهم ان نعرف ونعًرف الدين؟
ان حسم مسألة أسبقية المادة على الوعي تحتم علينا كشف الجذور الحقيقية للدين للجماهير وآليات تطوره حتى نستطيع تحليل وفهم الأسباب الحقيقية لتطور الدين كمعتقد فكري وكجزء من منظومة البناء الفوقي للعلاقات المادية في المجتمع-ات البشري-ة. وحتى نتمكن من اكتشاف " منطق" سير وتطور الديانات في التاريخ البشري. فقد يكون بالبداية عجز الانسان عن تفسير الظواهر الطبيعية وخوفه او تبجيله لهذه الظاهر تسبب في تشكل أفكاره "الدينية" الأولى سواء لتفسير اسباب هذه الظواهر وربطها بقوة خفية اكبر من قدرة الانسان مثل الفيضانات او حتى المطر ، وهذه كانت مدرسة في تفسير "التطور" الديني و"ارتقاء" الوعي الديني لدى الانسان اعتمدت ما يُسمى التفسير الطبيعي. بينما كانت هنالك مدارس اخرى عديدة اعتمدت على ارتباط المظاهر او الممارسات والطقوس الدينية بالموتى والأرواح ... ولكن مع تطور معارف الانسان اصبحت تتضح له بعض الحقائق فتطورت افكاره الدينية ومعتقداته الفكرية بدورها وانتقلت من شكل لأخر. وهذا بالضرورة ارتبط بطبيعة انتاج الانسان ولم ينطلق من فضاء احلامه ومخيلته الخصبة، لذا كانت قصصه وطقوسه مرتبطة بالضرورة بواقعه الاقتصادي الاجتماعي وطقوسه ترتبط بإنتاجه المادي فكانت المجتمعات البحرية مثلاً تختلف طقوسها ومعتقداتها عن المجتمعات الزراعية او مجتمعات الصيد.
قد يكون لولادة فئة الكهنة- السحرة او رجال الدين ومن ثم ولادة السلطة السياسية في المجتمع البشري السبب الأساسي لاستمرار المعتقدات الدينية ونموها وبقاءها لتخدم مصلحة هذه الفئة ومن ثم السلطة السياسية المهيمنة بالمجتمع لتؤبد هيمنتها. ومن هنا لا بد من تناول موضوع تطور السحر- والسحرة والكهان في المجتمع البشري وصولاً للملكية الخاصة والنظام السياسي القائم على الهيمنة الاقتصادية ومنها الاجتماعية ايضاً في مرحلة لاحقة من البحث.
تطورات الأفكار الدينية تطورات نوعية عبر الحقب التاريخية المختلفة واصبح الانسان " اسير ما انتجته مخيلته وتأملاته في مرحلة جنينية، وذلك كمن يضع الأغلال في يديه، ولا يستطيع الافلات منها، بل باستقلالها كمقولات نظرية معتقدية تصبح عاملاً مؤثراً في البُنى التحتية وفي اسلوب الانتاج وعلاقاته" (نظرة علمية على الدين والطوائف ص 19) وهذا امراً طبيعياً في مرحلة بدائية الوعي البشري. اي انه من الجائز أن الانسان تخيل وجود ارتباط بين ما ينتجه ووفرته او شحه وبين رضا قوى ما عنه، لذا كانت طقوسه بالضرورة تعتمد محاولة استجداء هذه القوى – وأحياناً ارهابها وتهديدها لتنصاع له.
منطلقين من رؤية ان الماركسية – النظرية العلمية- تعتبر ثورة علمية تفرز ثورة سياسية لتحقق عديد الأهداف كالسعي "لتحرير المعرفة من قيود اللاهوت والميتافيزيقيا، وتحرير الانسان من قيود الوعي الزائف والاستغلال...الماركسية بثوريتها تعمل على تحرير الانسان، تحرير وعيه الزائف الذي يتلازم ويتواكب مع تحريره اقتصادياً، فتحرر الانسان اقتصادياً هو الشرط الأول لتحرير وعيه، ونضال الانسان خلال معركته الطبقية من اجل تحرره الاقتصادي تولد الشروط الضرورية لتحرير وعيه."( الماركسية والدين . فيصل دراج ص 6) لكن من المهم بمكان ان لا نفهم بذلك ان التحرر الاقتصادي سيقود ميكانيكياً لتحرر الوعي لكنه بالضرورة يشكل خطوة أساسية على طريق هذا التحرر تتطلب العمل على توضيح المعطيات التي تشكل الوعي الزائف والعمل على تطوير الوعي المبني على الحقائق العلمية والعلاقات الاقتصادية المادية الحقيقية. فتحرير الوعي لا يتم بصقل و"تنظيف" الوعي ذاته بل من المعركة الطبقية الاقتصادية الأساس". (الماركسية والدين . فيصل دراج ص 7) من هنا يصبح لزاماً علينا ان نتوسع في بحث معنى وماهية الدين والوعي الديني و"التطور" الديني في التاريخ البشري من جهة ودراسة ظاهرة التدين حديثة العهد بالمجتمعات البشرية عموماً والعربية خصوصاً حتى نتمكن من المساهمة في تحليل الواقع ونقده في سبيل نقضه وتغيره.
مع نمو مظاهر التدين خلال العقود الأخيرة وازدياد الارتباط الظاهري بالهوية الدينية لدى المجتمعات البشرية بشكل عام والمجتمعات العربية بشكل خاص أصبح لزاماً ان نعيد النظر بمفهوم الدين والظاهرة الدينية وان نفتح النقاش بشكل جاد ومسؤول حولها والعمل على تعريف الظاهرة الدينية بصورة علمية، وأصبح من المهم ان نتعمق بدراسة ظاهرة الدين السياسي وحركته داخل المجتمع وان كان ذلك ليس هدفنا في هذه السلسلة من المقالات لكنها بالضرورة احد الأسباب التي تدفعنا للكتابة بهذا الموضوع. ومن هنا تكون أهمية الخوض في تعريف وتفسير الدين كجزء من البناء الفوقي في المجتمع البشري الذي يتأثر بحركته المادية وعلاقات الانتاج فيه ويؤثر بدوره في هذه الحياة. أي رؤية الدين والظاهرة الدينية ضمن علاقاتها بالإنتاج المادي البشري. من ناحية ثانية سيكون من المفيد بمكان ان نفتح نقاشاً في المجتمع حول هذه الظاهرة التي اصبح النقاش فيها محرماً عُرفاً وتعاطى " المثقفون اليساريون" مع هذا التحريم وتجنبوا الخوض في غمار هذا البحث الشائك!! من منطلق احترام المعتقدات الدينية للمجتمع، وكأن نقاش الظاهرة الدينية وتوضيح ماهيتها ورؤيتها في سياقها التاريخي وضمن موقعها كجزء من البنى الفوقية أصبح تعدياً او انتهاكاً "لحرمة" الدين. أصبح هذا التجنب لنقاش هذه الظاهرة هو قبول لسلطة وسيطرة المؤسسة الدينية على المجتمع وهذا بدوره بحاجة للبحث والتعرف على اسباب هذا الخضوع ومبرراته وضرورة مواجهته، فالمؤسسة الدينية ليست وصية على دين البشر ومعتقداتهم الفكرية.
من المهم ان ندرك ان تفكير الانسان في الكون من حولهم وقضية "خلق" العالم وما فيه وحتى ما يُعرف بما فوق الطبيعة وما وراء الطبيعة...الخ. هذا التفكير من المؤكد انه قد جاء في مرحلة متأخرة على نشوء الانسان وتطور معارفه وتطور قدراته العقلية ، في مراحل لاحقة من تطور الدماغ البشري ، من جهة ثانية بالضرورة – وبالتالي من الطبيعي- ان يكون هذا التفكير قد بدأ بعد تطور أنماط الانتاج داخل المجتمع وهذا ما نقصده بقولنا بأسبقية المادة على الوعي والأفكار وتطور هذه الأفكار من الحياة المادية للبشر – وأن كانت ايضاً تؤثر هذه الأفكار التي تطورت من الحياة المادية بتغيير علاقات الانتاج والحياة المادية - ماركس وانجلز في الايديولوجية الألمانية كتبا: ان نمط الحياة المادية يشترط صيرورة الحياة الاجتماعية والفكرية بوجه عام، فليس وعي البشر هو الذي يحدد كينونتهم، انما كينونتهم الاجتماعية هي التي تحدد على العكس وعيهم. (نظرة علمية على الدين والطوائف. ص 8)
وهذه المقالة بتناولها لتعريفات مختلفة للدين او الوعي الديني انما تفتح باباً للنقاش والنقد والتحليل ورفع وتيرة العمل الجاد للإفادة من المعارف المتوفرة وتطويرها وبناء عليها.
قد تكون من اكثر القضايا الشائكة التي تناولها البحث البشري سواء المكتوب او المنطوق هو نشأة الأديان وحقيقة ماهيتها، فاذا كان " نشأة وظهور الأديان ارتبطت أساساً بالجماهير المسحوقة أو جماهير العبيد والفقراء لتحريضهم على واقعهم والثورة عليه وتغييره". (الماركسية والدين والديمقراطية والعلمانية. ص 9 . سأقوم بالتركيز بهذه المقالة على ما يُعرف بالأديان التوحيدية بالأساس مع ان ذلك التوصيف ينطبق على تصنيف اوسع من الافكار والمعتقدات الدينية لكن تفادياً للخوض في تاريخ الأديان سنقتصر هنا على الديانات التي عُرفت بأسم الديانات التوحيدية او الابراهيمية ) فأن اهمية البحث في الدين تزداد حين نرى من ينصّبون انفسهم اصحاب الحق الوحيدين بالخوض بدراسته ويسعون جاهدين لمنع الخوض في دراسته العلمية والاكتفاء بآراء مسبقة صاغتها في حقب تاريخية محددة مجموعات او افراد وأصبحت صياغاتهم مكوناً مقدساً ممنوع المس به. ويبدو التحدي اكبر حين نبدأ بتقليب صفحات البحث حيث يمكن ان تكتب الاف الملاحظات والاف التحليلات في محاولة للإحاطة بمعنى وماهية الدين ونشؤه وتاريخه، ناهيك عن وجود اسس علمية واخرى مثالية للنظريات المختلفة للبحث. ومع ان هناك الاف الباحثين والمجتهدين بهذا المجال فأن البعض قد قسم النظريات التي تحاول تفسير الوعي الديني وتاريخ الأديان الى قسمين أساسيين: النظريات التطورية والنظريات الاعتقادية (مقالة تطور الأديان عند هيجل. محمد الخشت ص 1) ومع تطور الفكر البشري وولادة النظرية العلمية - التي أسس لها منظّراها كارل ماركس وفريدريك انجلز واستمر على نهجهما الاف الباحثون- فقد اصبح التقسيم او التصنيف الأكثر شيوعاً في تفسير الوعي الديني بين التفسير المثالي والتفسير المادي او العلمي.
لقد تساءل الباحثون عن ماهية الدين وأسباب ظهوره. وهل هو ظاهرة اجتماعية تاريخية ام هو أزلي الوجود؟ وطبعاً حين نتناول الدين لا نقصد فقط ما يُعرف بأسم الديانات الابراهيمية او السماوية كما يحلو للبعض تسميتها، انما نقصد الدين كمعتقد ايماني وكممارسة طقسية شعائرية. وان كنت سأركز اولاً ببحث البعد التعريفي والايماني للدين فأني سأتناول في مداخلات اخرى الطقوس والشعائر كما سأتناول مواقف فكرية وفلسفية من موضوع الظاهرة الدينية.
ما هو الدين؟
هذا السؤال الذي يبدو بديهياً للبعض وفلسفياً معقداً للبعض الأخر، وتبدو الاجابة عليه بسيطة للبعض وغير ممكنة للبعض الأخر، يفتح ابواباً لم تكن تتوقعها ولا تدري ماذا ستجد خلفها. بعض الباحثين كما الباحث فراس السواح يريد معرفة ما هو الدين حتى يتمكن من تصنيف الأمور انها في زمرة الدين ام لا، او لوصف سلوك ما انه سلوك ديني او غير ديني. هيجل بدوره يفرق بين الدين المطلق والأديان المحددة ( الدين المطلق لديه هو المسيحية التي شكلت مرجعية دراسة العديد من الفلاسفة في "عصر التنوير" وما بعده) والأديان المحددة التي تشمل اديان الطبيعة – السحر واديان التحول من الطبيعة للروح وأديان ما يسميه بالجوهر- والأديان الروحية الفردانية. أنا اريد ان اعرف ما هو الدين حتى اعرف كيف ولماذا تطور الشعور الديني وممارسة الطقوس الدينية واي دافع اعطى للإبداعات الفنية والاسطورية هذه الدفعة لتكون كما وصلتنا في القصص والجداريات والملاحم الأدبية وغيرها سواء من على جدران الكهوف او من قباب الكنائس والمساجد ودور العبادة الأخرى للأديان الاخرى حول العالم والتي هي بلا شك اعمال فنية عميقة ان لم يكن بعضها يمكن تصنيفه بأنه اعمال فلسفية فكرية مركبة ومعقدة ، خصوصاً اذا ما اخذنا بعين الاعتبار المرحلة التاريخية التي تولدت فيها هذه الفنون والأثار العظيمة التي خلفتها. حتى ان بعض الأعمال الهندسية والطقوس المرتبطة بالزوايا واللوغاريتمات والأشكال الهندسية المرتبطة بالطقوس ما زالت بحاجة لمزيد من التعمق من قبل المختصين بموضوع الهندسة والرياضيات حيث ان العديد من الأديان والمعتقدات الدينية بالمنطقة العربية التي تأثرت بلا شك بغيرها من الحضارات اعتمدت هذه الرموز الهندسية كرموز اعتقادية فكرية ودينية في الحضارات المختلفة.
إن تعريف الدين قضية شائكة، فالسؤال الذي من الشرعي جداً طرحه هو ما الذي يحدد ما نطلق عليه دين؟ ولماذا تعتبر بعض المعتقدات ديناً وبعضهاً معتقدات فكرية؟ هذا السؤال شغل الباحثين وما زال. فتحديد معايير لاعتبار معتقد ما ديناً ليس بالأمر اليسير/ فهل يكون المعيار وجود آله، ام وجود انبياء؟ يتسأل فراس السواح بهذا الخصوص "هناك اكثر من دين واسع الانتشار لا يؤمن أهلوه بإله ماولا يتعبدون لشخصيات ما ورائية من أي نوع ولا ينتظرون منها منة ولا خلاصاً. فألى أي حد نستطيع ان نطلق صفة الدين على هذه الطرائق الروحية المغايرة لطرائقنا؟ ومن ناحية اخرى، لدينا فلسفات كبرى كالأفلاطونية المحدثة، شاعت وأنتشرت، وساهم في بنائها العديد من العقول الجبارة، جعلت من فكرة الألوهة بؤرة اهتمامها، ومن الاله الأسمى الذي تعرفت عليه قطب الرحى في بنائها الفلسفي، فكان لها من الأتباع ملأي نحلة دينية معروفة، ولكن أحداً من المؤرخين لم ير فيها ديناً. فما الذي تفتقد اليه امثال هذه الفلسفات لتغدو ديناً؟( فراس السواح. دين الانسان ص 13) وطبعاً السؤال محق ، ونجد في السؤال نفسه احكام قيمية متعارف عليها او متفق عليها مثل توصيف ما يمكن ان يكون بالدين او الطرائق الروحية التي تعبر عن موقف ما – حيث على الباحث سواء وعي ذلك ام لم يعيه وسواء اقر به او لم يقر – أن يتخذ موقفاً قيمياً بالضرورة نابعاً من موقعه وثقافته المعرفية وجملة المعتقدات التي يؤمن بها، ومن موقعه الطبقي بلا شك . ومن ادعى "الحيادية" في الموقف كان كأنه قادم من كوكب أخر لا شأن له بتراث البشرية ولا مكان له بالعلاقات الاجتماعية بين البشر ولا موقع طبقي محدد. بكل الأحوال، سيبقى هذا السؤال مشرعاً وعلى أهمية تحديد " هوية" هذه المعتقدات- الأديان للباحثين المتخصصين بعلم الأديان وعلم الأنسان والاجتماع....، لكن ما يهمنا اكثر من توصيف الطرائق او المعتقدات بأنها أديان او معتقدات فكرية هنا، هو موقع هذه الاديان- المعتقدات- الطرائق من البنيان الاجتماعي. فهي بلا شكل تمثل جزء من حركة البناء الفوقي في المجتمع مهم كان اسمها ومهما كان توصيفنا لها.
ومع ادراكنا لصعوبة المهمة في تعريف الدين، وحتى لا تستنزف الأن في هذه المرحلة طاقاتنا البحثية، يمكن ان نركز جهدنا في ان نضع اطار تعريفي للدين بغرض قيادة طريقنا البحثية لكن ليس من الضروري ان نتبع تعريف معين لندافع عنه في هذه المرحلة على الأقل، مع العلم ان الباحث بالضرورة ينطلق من قناعات فكرية وايديولوجية محددة تبعاً لانتمائه الطبقي والفكري وهذا ما يعطي قيمة للبحث ولموضوع البحث أي الصراحة في تبني الموقف الطبقي المؤدلج لا "التباهي" بالموضوعية والحيادية الزائفة.
تعريف الدين:
اشار الباحث البريطاني جيمس فريزر ان صياغة تعريف واحد من شأنه ارضاء كل الأراء المتصارعة حول الدين، هو امر غير ممكن التحقيق. من هنا فإن كل ما يستطيعه الباحث هو ان يحدد بدقة ما يعنيه بكلمة الدين، ثم يعمل على استخدام هذه الكلمة عبر مؤلفه بالمعنى الذي حدده لها منذ البداية. (جيمس فريزر. الغصن الذهبي. الترجمة العربية ص 78-79 ( من الجدير ذكره ان فريزير – وهو انثروبولولاجي بريطاني- الف اثنا عشر مجلداً باللغة الانكليزية حول السحر والدين وقام بتلخيص اعماله بنفسه في مجلد واحد تم ترجمته للغة العربية وهو يحتوي كل ما تمكن فريزر من جمعه حول طقوس وعادات البشر في شتى اصقاع الأرض. وبالرغم من مرور حوالي 100 عام على هذا المؤلف الا انه ما زال يحتل مرتبة ممتازة في وصف العادات، الطقوس الأديان البدائية وغيرها من المعتقدات للمهتمين) والحقيقة اننا يمكن ان نضع تعريف خاص لدين محدد أي تعريف الدين الاسلامي- المسيحي- اليهودي.... ضمن سياقه التاريخي المحدد وضمن معطياته التي نستشفها من علم الاثار، علم التاريخ، علم الانسان، الفلسفة، ...الخ. ومع ان هذا يمكن ان لا يتوافق مع المنهج البحثي المتعارف عليه، لكن من قال ان هذا المنهج البحثي بالضرورة هو الوحيد "الدقيق"؟ ألا يمكن ان يكون هناك اكثر من نهج بحثي؟ فما تعود عليه الباحثون من وضع تعريف للظاهرة المنوي البحث بها والانطلاق من هناك لدعم وجهة النظر هذه او انتقادها. ان البحث في الدين – كونه موضوع مركب وشائك – يتطلب مرونة عالية في التفكير وكذلك في البحث، فلا ضير من ان نبحث في تعريفات الدين حسب علماء وفلاسفة تبحروا في البحث وتغير نمط تفكيرهم احياناً ليغيروا موقفهم السابق او يطوروا عليه، ولا ضير ان نشير الى تعريف بعض الديانات المعروفة لماهية الدين سواء من كُتبها او من المدافعين عنها.
يزيد من صعوبة تعريف الدين بشكل عام كما يعتقد اميل دوركايم أن أي تعريف للدين – بشكل عام- يجب ان ينطبق على جميع الديانات - وهو امر ليس باليسير لأنه يفترض الاحاطة بجميع الاديان والمعتقدات الدينية التي تبناها البشر- و هناك ضرورة لأن نبحث عن ما هو مشترك بين الديانات المعروفة جميعا للوصول لتعريف للدين وهو يرى ان جميع الديانات من البسيطة وحتى المركبة تحتوي خاصية عامة واحدة وهي انها تفترض تقسيماً لكل الاشياء المنظور منها والغيبي...فيشكل هذا اساس لتعريفه الذي ويؤكد فيه على الطابع المجتمعي للدين " فالمعتقد الديني الحقيقي هو على الدوام معتقد لجماعة معينة من الناس، يقتصر عليها ويميزها عن غيرها من الجماعات. والافراد الذين يؤلفون هذه الجماعة يشعرون بالصلة بعضهم مع بعض وبالترابط داخل وحدة اجتماعية خاصة بهم، انطلاقاً من واقعة امتلاكهم لمعتقد ديني خاص بهم.( The elementary forms of religious . Emile Durkheim ص 26 من كتاب دين الانسان ) ان الدين بالنسبة له هو " نسق موحد من المعتقدات والتطبيقات متصل بأشياء مقدسة – أي اشياء تستبعد وتمنع – ومعتقدات وتطبيقات توحد في مجتمع أخلاقي واحد، يدعى طائفة دينية، كل الأفراد يتمسكون بها." (مقدمة في الانثروبولوجيا الاجتماعية ص 250) اي ان دوركايم يرى انه لا وجود للدين الا عبر وجود طائفة دينية.
وقد رفض دوركايم – من جهة ثانية - تفسير الدين كجواب على تأملات حول غوامض العالم وركز على العلاقة بين الفعاليات الدينية، أي الطقوس، ونظم اجتماعية اخرى حيث ارسى كل دراسته على النظم الاجتماعية على أساسان: ان (الاجتماعي) لا يمكن تفسيره الا ضمن اطار (اجتماعي) من ناحية، ومن ناحية ثانية أن على المرء ان لا يبحث عن تفسير للنظم الاجتماعية في دوافع الأشخاص كان الدين بالنسبة لـ ( دوركايم) " تعبيراً مجازياً عن المجتمع نفسه، وان اردنا دقة اكثر نقول انه تعبير مجازي عن ظروف الحياة الي لا مفر منها في المجتمع." (مقدمة في الانثروبولوجيا الاجتماعية ص 249).
اما فريزر فيعرف الدين على انه عبارة عن استرضاء او استمالة قوى تفوق قوة الانسان يعتقد انها توجه وتتحكم بسير امور الطبيعة والحياة البشرية. وبناءً على هذا التعريف يتشكل الدين من عنصرين هما: العنصر النظري وهو الايمان بالقوى العليا والعنصر العملي وهو محاولة ارضاء تلك القوى. من الواضح ان الأول يأتي اولاً لوجوب الايمان بوجود الكائن الإلهي قبل محاولة استرضائه. ويبقى الايمان محض نظرية ما لم يؤد الى الممارسة المتساوقة معه.( جيمس فريزر. الغصن الذهبي. الترجمة العربية ص 79) أي ان فريزير يرى ان شرط وجود الدين الأساسي هو الايمان بوجود قوى عليا من ناحية وايمان البشر بضرورة استرضاء هذه القوى من ناحية ثانية. اي الايمان والطقوس التي تعبر عن هذا الايمان. وموضوع الطقوس والسحر سيكون احد الموضوعات التي سنتناولها في مقالة اخرى لنتعرف على ادوات الممارسة الدينية- السحرية- الفلسفية. لكن هذا التعريف يواجه ازمة انطلاقه من تأثيرات الدين المسيحي بالضرورة من حيث افتراض وجود وعبادة كائن ما ورائي واقصائه للديانات البدائية ولبعض الديانات الحالية التي تتمحور معتقداتها حول آلهة او ارواح او حتى مقدسات محسوسة. وقد سبق لأميل دوركايم ان وجه هذا النقد لفريزر معتبراً ان اي تعريف يجب ن ينطلق من ملائمته وتوافقه مع جميع الديانات من البدائية الى المركبة والاكثر تطوراً وتعقداً. وللحقيقة فأن الكثير من الفلسفات والنظريات في علم الأديان في الغرب تتأثر بالدين المسيحي بالأساس وبالتالي فرضياتها تنطلق من هذه الرؤية لهذا الدين ويتم تعميمها على الدين عموماً.
تشارك فريزر وغيره من الباحثين الكاتبة لوسي مير بالنظر الى الدين على انه "يتكون من معتقدات وتطبيقات... ، وأن المعتقدات ما وجدت الا لتبرر تلك التطبيقات." و ان الدين " يتعلق بأنساق المعتقدات، كما يتعلق بأنساق من العلائق والتطبيقات ، وان انساقه التي تتعلق بالتطبيقات نفسها توجه نحو معبودات لا يخضع وجودها للملاحظة."( مقدمة في الانثروبولوجيا الاجتماعية ص 237+238) وهنا تعود مير لتؤيد عديد الباحثين الذين يشترطون ارتباط المعتقد الإيماني بالتطبيق الطقسي، الا انها تلغي مبرر وأهمية وجود المعتقد الا كونه تبريراً لممارسة الطقوس، وهي بذلك تعطي اهمية اكبر للقائمين على الطقوس من كهنة ورجال دين الذين يعطون أهمية أكبر للطقس الظاهري منها للجوهر الايماني. ان هذا التركيز على الممارسات او التطبيقات في هذا التعريف يشير للدور الكبير الذي تمارسه السلطة الدينية في السيطرة على الناس من خلال ممارسات وطقوس تعزز حضورهم وتلبي مصلحهم. وهذا الأمر الذي قد يبدو بعيداً موغلاً في القدم بالتاريخ الا انه بالحقيقة ما زال متمترساً في الحضارة الحالية للبشر من خلال هذه الفئة التي تدعي لنفسها السيطرة على "المعرفة الدينية" وتتخندق خلف المحرمات والافتاءات لتستمر في ممارسة سلطتها وتحقيق منافعها الذاتية.
هناك اتجاه بين الباحثين كان يرى ان الدين هو شكل ادنى من أشكال النظر العقلي والفلسفة هي شكله الأرقى الأعلى، وهو يقسم تاريخ الفكر الانساني الى أربع مراحل: السحر فالدين فالفلسفة فالعلم التجريبي."( فراس السواح. دين الانسان ص 20) بينما يرى اتجاه اخر مثل السواح ان هذا التقسيم موضوع نظرياً بغرض الدراسة وان الدين- من جهة اخرى- لم يكن شكل ادنى من أشكال النظر العقلي بل " ان الدين والفكر الديني ليس مرحلة منقضية من تاريخ الفكر الانساني، بل هو سمة متأصلة في هذا الفكر، واذا كانت هذه السمة قد أعلنت عن نفسها زمنياً قبل غيرها، فكان الدين مصدراً بدئياً للثقافة الانسانية، فإن كل المؤشرات تدل على انه ما زال حياً ومؤثراً بطريقة لا يمكن تجاهلها.( فراس السواح. دين الانسان ص 22) ومع ان الدين بشكله الذي بدأ قبل أكثر من خمسة الاف سنة مع اليهودية ما زال مؤثراً بطريقة لا يمكن تجاهلها حسب السواح، الا انه يتناول هذا "الشكل" من الدين الذي ما زال متبلوراً الى يومنا وأغفل الأديان والمعتقدات الدينية التي سبقت هذا الشكل من الأديان منذ بدايات الحضارة الانسانية. ونعم الدين والفكر الديني حقيقة هو جزء من تاريخ الفكر الانساني كتعبير عن علاقات الانتاج وقوى الانتاج في المجتمع وكعملية تفاعلية تؤثر وتتأثر بالعلاقات المادية انما ليس كأساس بدئي للثقافة الانسانية اذا كان المقصود بها ان الدين او الفكر الديني يعيش منعزلاً عن الحياة المادية ويشكل محرابه الخاص الثقافي العلوي.
هيجل كان يشير الى ان الدين والفلسفة هما من ذات الجوهر بينما رأى بعض من اتباعه لاحقاً العكس أي انهما من طبيعتين مختلفتين جوهرياً وجذرياً وذهب بعضهم الى اعتبار ان التصور الديني ما هو الا اسطورة كما اشار ديفيد شترواس. من المهم بمكان ان نرى العلاقة بين الدين والفلسفة بسياقها التاريخي وبصعداتها وسقطاتها وتأثير الدين والاسطورة والسحر والفلسفة والعلم بعضها ببعض ليس بصورة مجردة كتعبيرات عن البنى الفوقية ومن ثم العلاقات بينها من جهة وبين البنى التحتية المادية من اخرى. فكما اسلفنا حول صعوبة وجود تعريف شامل كامل للدين كظاهرة اجتماعية فلسفية وكجزء مكون وأساسي من البناء الفوقي في المجتمعات البشرية، تكمن بنفس المرتبة من الصعوبة ان نفهم الدين بدون ربطه بباقي مكونات البناء الفوق وعلاقته بالبناء التحتي لمجتمع محدد في زمن محدد وضمن علاقات انتاجية- اجتماعية محددة.
الباحثون من المدرسة المثالية ، امثال تايلور، الانكليزي المثالي من القرن التاسع عشر، نشر نظرية مثالية تقول ان المعتقدات الدينية صدرت من تأملات الانسان البدائي، حيث لم يربط بين هذه التأملات والحياة المادية للبشر. فكان لهذه المدرسة المثالية ولهذه النظريات انتقادات على أساس انه " لا ينبع الدين من تأملات لغو، لا نفع فيها، بل من نشاط الانسان المنتج: نتيجة تطور بسيط، غير كاف في الخبرة والفكر البشري، تتكون في الاغلب اراء خطاء حول موقفه من الطبيعة."( الحضارات القديمة. دياكوف وكوفاليف ص 44) والصراع بين المدرستين المثالية والعلمية المادية يشكل أساس للصراع الطبقي والأيديولوجي والسياسي والفكري بين الطبقات المهيمنة - المالكة لوسائل الانتاج ووسائل الاعلان وثروات المجتمع بغير حق - والمقاومة للهيمنة والتي تسعى بالضرورة لتغيير نمط الانتاج وعلاقاته.
هيجل، الذي شكل علامة فارقة في الفكر بالقرن الثامن عشر وصاعداً كان يرى ان هناك نوعين من الدين، الدين الموضوعي وهو اللاهوت، والدين الذاتي، وهو الجانب الحي الذي صار حياة دينية...وهو فقط ما يستحق حسب هيجل ان نطلق عليه اسم الدين لأنه يتعلق "بالقلب" ويتصل بالعواطف والمشاعر ويتحول الى أفعال وأعمال. (أصل الدين. فيورباخ) وهيجل في نظريته يعد سبّاقاً في محاولة تفسير تطور الأديان لكنه بقي محصوراً ضمن رؤيته المسيحية رغم معالجته لعديد من الاديان الصينية والاغريقية والرومانية وغيرها.
فيورباخ لعب دوراً بارزاً في تغيير الرؤية تجاه الدين والمعتقدات الدينية، حيث يعتبر ان الطبيعة هي الموضوع الأصلي للدين وان الانسان بشعوره بالتبعية انما يتبع الطبيعة التي هي برأيه ليست فقط الموضوع الأول والأصلي انما المصدر الأخير كذلك وان الاعتقاد بوجود الله انما قائم على وجود الطبيعة بالذات. ويصوغ فيورباخ نظرته للدين على انه " اظهار مفهوم الانسان لنفسه...هو ( الانسان) باختصار كائن يعتمد على الطبيعة وهذا الاعتماد في الحيوان والانسان طالما انه يتحرك داخل المجال الحيواني هو اعتماد غير واعي. ولكن عند ارتفاعه الى الوعي والتخيل وعند التفكير فيه والاعتراف به يصبح ديناً."( أصل الدين. فيورباخ ص 42) او بعبارة اخرى " السبب الأساسي في تطور الأديان البشرية هو مقدرتهم ( البشر) على التفكير وامتلاك الوعي وهذا هو الفرق الأساسي بين الانسان والحيوان"( مقالة تطور الأديان عند هيجل. محمد الخشت ص 34) فالوعي شرط وجود الدين. وبالرغم من موقف فيورباخ المعادي للدين الا انه انطلق من داخل الثوب الديني نفسه، فهو لم يرد انهاء الدين بل اراد استبداله وتحسينه. فقد اراد استبدال المسيحية بدين الحب، بل ويرى ان الفلسفة ذاتها يجب ان تتحول الى دين. واذا كان فيورباخ في كتابه أصل الدين قد اشار الى ان الانسان هو الذي يصنع الدين وليس الدين من يصنع الانسان، فقد انطلق كارل ماركس ببداياته من هذا الموقف الفيورباخي موضحاً ان الانسان الذي يصنع الدين يعبر بصناعته هذه عن واقع المجتمع البشري بالذات وهو واقع مقلوب وبالتالي فأن الصورة التي سيعكسها للدين الذي سيصنعه سيكون ايضاً مقلوباً. وقد تحول عن هذا الموقف لاحقاً في مرحلته العلمية وانتقد مع رفيقه فريدريك انجلز اطروحات فيورباخ المثالية ومعها اطروحات ماركس الشاب او ماركس ما قبل المرحلة العلمية.
يقول ماركس - مستلهماً من كانط - في تعبيره حول استخدام الدين كأفيون لتخدير الضمير – وبالعادة يتم اقتطاع جزء من مقولة ماركس حول الدين فتنحرف عن رؤيته وموقفه الحقيقي – " ان الدين هو تنهيدة الكائن المقهور، قلب العالم العديم القلب، كما انه روح الأوضاع العديمة الروح، انه افيون الشعب" (كارل ماركس مسألة الدين. سربست نبي ص 17 ) وهذا الجزء التعبيري من رؤية ماركس ، لكنه يفتقد للجزء الاحتجاجي والتحريضي كما يرى جلبير الأشقر، حيث ان الدين ليس مسّكناً كما الأفيون فحسب بل هو بنفس ذات الوقت له بُعد تحريضي تحفيزي(من مقالة جلبير الأشقر في مجلة الاداب (الدين والسياسة اليوم من منظور ماركسي ص 59- 70) ص 61). بينما يرى سربست نبي ان الاساسي لدى ماركس في هذا الموقف هو " اكتشاف وابراز الطابع الحقيقي لتعاسة الانسان ولآلامه الواقعية الحسية، وراء العزاء الوهمي، والسعادة المزيفة التي يخلقها الدين. فضلاً عن وظيفة الرفض والاحتجاج فيه."( كارل ماركس مسألة الدين. سربست نبي ص36) اذن ماركس استخدم مصطلحاً موجود اصلا ضمن سياق تاريخي كان استخدام تشبيهات لوصف الطقوس الدينية والممارسات والعقائد الدينية من قبل العديد من الفلاسفة شائعاً. فنقد الدين – كونه يعبر عن واقع الانسان والمجتمع – لا بد ان يمر بالضرورة عِبر نقد وضع الانسان والمجتمع بالذات. أي نقد الواقع والسياسة والقانون والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية وكل ما يحيط بعالم الانسان. ان التغيير الحقيقي للواقع الحقيقي للإنسان يمكنه فقط ان يغير بدور الدين والمعتقدات الفكرية ويعيد تشكيلها وبالتالي يغير من تبني المجتمعات البشرية لهذه المعتقدات وهذا ينعكس بالضرورة لاحقاً على ممارسة السلوكيات والطقوس المرتبطة بالمعتقد الديني.
ويرى الباحث فيصل دراج أن ما قصده ماركس بعبارته الشهيرة – الدين افيون الشعوب- ليس الهجوم على الدين من حيث هو دين، بل الهجوم على الشروط الاجتماعية البائسة التي تنتج الدين بشكل يومي. (الماركسية والدين ص 28) وهو لا يرى الشعور الديني كمتلازم مع الانسان يولد معه بل انه نتاج اجتماعي متخيل ينهل من المعين الاجتماعي وينمو ضمن النظام الاجتماعي. واذا انتبهنا لاختلاف استخدام المصطلح بين " الدين افيون الشعوب" و"الدين افيون الشعب" وهذه الأخيرة هي ما قالها ماركس حيث كان الحديث عن شعب في مرحلة تاريخية محددة ضمن علاقات اجتماعية وانتاجية محددة ولم يكن الحديث عن شعوب. وهذا التفريق مهم لتوضيح الموقف الماركسي الحقيقي من الدين ودوره في مكان وزمان محددان. أن مقولة الدين أفيون الشعب وُلدت في عصر التطور الصناعي وزيادة اضطهاد العمال واستغلالهم فكانت هذه المقولة للتعبير عن ان الانسان يتحمل الألم بمساعدة الأفيون الذي يخفف ألمه او يسكّنه وكذلك فأن العمال والانسان المقهور في المجتمع والذي يشكل غالبية عظمى فيه يتحمل الألم والاضطهاد الناتج عن بؤس الحياة من خلال ترويج الدين وايهامه بتحصيل السعادة لاحقاً في عالم أخر. ويقوم بهذا الدور التخديري منتفعين من السلطة المالية يلبسون ثياب القداسة وينطقون عن هوى المقدس.
ماركس بداء بتحليل الدين بطريقة علمية في كتاب ( مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) حيث بداء يروج لأن شكل الوعي ومضمونه يتحددان ويتغيران بدرجة تطور وتغير الواقع الاجتماعي وربطه بنمط الانتاج المادي. فالوضع الاقتصادي بالضرورة هو ما يحدد وعي البشر وافكارهم او كما قال ماركس فان وجود البشر الاجتماعي هو ما يحدد وعيهم وليس العكس. فالتحولات الاجتماعية تجد اسبابها وجذورها في التغيرات الحاصلة في كيفية الانتاج والتبادل كما اشار انجلز، ومع ذلك فانجلز وماركس يؤكدان على ان الوعي يعكس الواقع الاقتصادي لكنه ايضاً يؤثر به فيعيد انتاج الواقع الاقتصادي متأثرا بالوعي الذي نمى وتطور في علاقة جدلية بين البُنى الفوقية والتحتية.
أي انه وعلى الرغم من ربط منظرا الماركسية للدين - كجزء من الوعي والبناء الفوقي – بالبناء التحتي الا انهما لم يريا هذا الارتباط والانعكاس ميكانيكياً، اي انهما لم يريا ان حدوث تغيير بالبناء التحتي – الاقتصاد ونمط الانتاج – يستدعي حدوث تغيير في البناء الفوقي بصورة تلقائية. بل ان هناك عوامل تؤثر في هذه العلاقة وتبقى البُنى الفوقية بالرغم من ارتباطها بالبنى التحتية تتحلى باستقلالية نسبية في نموها وتمحورها وتطورها. " ان المفهوم المادي للتاريخ لا يرى في الدين والتصورات الميتافيزيقية كياناً مستقلاً ذا حياة خاصة، لكنه انعكاس بدرجات متفاوتة للبنيان الاقتصادي للمجتمع، فالدين والفكر هما انتاج اجتماعي يختلف شكله مع تطور الصراع الطبقي ونمط الانتاج." (الماركسية والدين ص 40) وكما اشار انجلز ( في كتاب انتي دوهرينج) " ان كل دين ليس سوى الانعكاس الواهم في دماغ البشر، للقوى الخارجية التي تسيطر على وجودهم اليومي، هذا الانعكاس الذي تتخذ في القوى الأرضية شكل قوى فوق ارضية" (نظرة علمية على الدين والطوائف. ص 18) فالانسان هو ما يأكل كما قال فيورباخ وهو يعني بها الانتاج المادي بالذات وليس غذاءه الفعلي.
وممن كان لهم اسهامات ومحاولات في دراسة الدين بالعربية الباحث خزعل الماجدي الذي اعتبر ان الدين يتبدى بأربعة أشكال يؤدي أحدها الى الأخر، وتتدرج من واحد الى آخر، وهذه الأشكال هي:
1- الدين الفردي، الذي هو الحس الفردي، او الخبرة الفردية الدينية، وهو امر ذاتي لا يختص بفرد دون الأخر، بل يتعرض له الجميع بدرجات متفاوتة.
2- الدين الجمعي، حيث يأخذ الأفراد بنقل خبراتهم المنعزلة من بعضهم الى بعض، في محاولة لتحقيق المشاركة، والتعبير عن التجارب الخاصة في تجربة عامة.
3- المؤسسة الدينية الرسمية: والتي ظهرت مع ظهور المدينة، بعد ان كان الدين يمارس جماعياً في المجتمعات الزراعية الأولى، فمع ظهور المدينة، والمجتمعات الاجتماعية والسياسية، ظهرت المؤسسة الدينية ممثلة بالمعابد والكهنة المتخصصين، ورجال الدين، وراحت تمارس توجيهها وسيطرتها على الحقوق والواجبات الدينية، وتوسطها بين المجتمع والعالم المقدس الألهي، وكانت تعكس نمو هذه الأشكال الدينية، التي ظهرت مع ظهور المدينة وتطورها حتى يومنا هذا.
4- التجمعات الروحية والدينية ذات الطابع الاجتماعي: وهي المؤسسات غير المركزية، والجمعيات والتجمعات الروحية، التي لا تتبع للمؤسسة الدينية، وتنطوي على ممارسات دينية وروحية، وقد ظهرت منذ العصور القديمة، لكنها تبلورت في العصر الحديث بشكل خاص(للمزيد والتفاصيل يمكن العودة الى كتاب علم الاديان للباحث خزعل الماجدي ص 30-32)
هذه التقسيمات يمكن الاستفادة منها بغرض البحث وتقسيم مراحل البحث لكن من المهم ان نمارس اعمال الفكر واحياناً الخيال في تحليل هذه التقسيمات وان نفحص هل بالضرورة نشاء الدين اولاً فردياً وانتقل الى الطور الجمعي؟ الا يجوز ان يكون بعض الافراد قد كونوا رؤية دينية وعمموها على الأخرين او نحلها الاخرون منهم او عنهم؟ وبالتالي لم تتطور الرؤية الدينية الفردية لدى كل البشر ولا اقصد هنا انها تتفاوت بين الافراد بل اقصد انها قد لا تكون اصلا حاضرة لدى بعض الأفراد بينما تكون متمكنة من البعض الأخر. وفي مرحلة الدين الجمعي، يفترض الباحث ان الانسان يسعى لنقل تجاربه ومشاركة خبراته الخاصة في تجربة عامة. واذا ادركنا ان الخبرات الدينية والطقوس الدينية كانت تمارس بالأساس لتحقيق النجاح وزيادة المحصول ومنع السوء فإننا امام احتمالين اما ان الفرد يعي ان خلاصه بالضرورة جمعي وبالتالي يشارك خبراته ويحاول تعميمها ليشاركه الجميع الخلاص والفائدة او ان الانسان يمارس هذه الطقوس والمعتقدات بصورة غير واعية ميكانيكية وبالتالي لن يهتم بمشاركتها وتعميمها، بل اذا كانت هذه الخبرات الدينية – الطقوس والشعائر بالذات – تُمارس لتزيد خيرات عمل الانسان فأنه قد يميل لعدم مشاركتها كونه يرى في هذه الطقوس التعويذة السحرية التي تعطيه القوة والوفرة و- او تمنع عنه السوء والحاجة. اذن الدين بتعريفاته وتجلياته وتبدياته ومراحل انتقاله من شكل الى اخر كلها بحاجة للمزيد من التمحيص والتحليل النقدي بالاعتماد على العلوم المختلفة وترابطاتها وتقاطعاتها حتى نستطيع تحليل وفهم التطور البشري بهذا المضمار. حسب الباحث خزعل الماجدي يتكون الدين، في كل زمن ومكان، من مكونات أساسية أربعة تكون أساس الدين، وهي: ( المعتقدات، الأساطير، الطقوس، الأخرويات). وهناك المكونات، التي تكون أساس التدين، وترتبط بالتمظهرات التاريخية والاجتماعية والنفسية للدين، وهي ( الاخلاق والشرائع، السير المقدسة، الجماعة، الروحانية والاسرار)، وهي تقابل وتناظر المكونات الأساسية، وتوازيها اجتماعياً وثقافياً"( علم الأديان. خزعل الماجدي ص 32)
التوازي والتناظر بين الشكلين الأساسي والثانوي للدين، هل ممكن ان نرى المكونات المادية كمكونات أساسية- تحتية للدين والمكونات الفكرية الاعتقادية كمكونات فوقية- تنعكس عنها وتعيد المساهمة في بنائها؟ وبذلك تستمر الدائرة التي تطرقت لها روزا لوكسمبورغ بالتشكل والتطور حتى اخذت شكلها الحالي وستستمر بالتغيير لتأخذ اشكال اخرى بالمستقبل.
وحين نتحدث عن الدين لا يمكن ان نغفل القوة التي منحها الانسان السلطة. كانت هذه القوة حية بين البشر احياناً، الحاكم، الكاهن، الساحر...او حتى الإله المتجسد بجسد الأنسان, وكانت هذه القوة غيبية احياناً خارج او فوق الطبيعة ولم يكن لها صفات محددة وقد اطلق الانسان عليها اسماء عدة منها الله، بينما كانت متجسدة في آلهة متعددة في مرات اخرى.
حيث اعطى الانسان لهذه القوة سمات وصفات تمناها او ارادها لنفسه، وان كن أصحاب رؤية ان الله خلق الانسان قد رأوه خلقه على شاكلته فأن الانسان الذي اوجد القوة الخفية التي تحمل صفات الخلود والتسامي قد خلقها بدوره على شاكلته التي سعى اليها. ان متابعة تطور تاريخ عادات الشعوب وطقوسها يمكن له ان يرى السعي الحثيث للإنسان لتأبيد وجوده على الارض بشتى السبل وصولاً لتجسيد فكرة الخالق الخالد المتعالي. أي ان الله او القوة الغيبية التي خلقها الانسان تمثل كينونة الانسان المتخيل- المراد له ان يكون لكنه لم يستطع تحقيق هذا الوجود الا من خلال هذا التخيل لهذه القوة، وقد نظر البشر الى آلهتهم كمنفذة وحامية للرغبات البشرية لذا كان لا بد ان تشبههم. فالإنسان ليس فقط غير قادر على الخلود لكنه غير قادر على فهم اسباب الموت والفناء ولهذا تجد هنالك مكانة خاصة للموتى والقبور والأرواح في بعض الحضارات الانسانية التي اسست للدين وللقوى الأكبر من الانسان سواء كانت هذه القوى خفية غيبية او متجسدة ومحسوسة.
اطار تعريفي للدين:
كما اسلفنا فأن فكرة الاتفاق على تعريف واحد موحد للدين لا تهمنا. بل يهمنا ان نضع اطار تعريفي للدين حتى نتمكن من الاستمرار بحلقاتنا البحثية بناء على هذا الاطار او على الأدق انطلاقاً من هذا الاطار التعريفي الذي قد نعيد بناءه في خضم العملية البحثية مرات ومرات ولا سوء في ذلك لأننا لم نحضر بوصفة مسبقة التحضير ومعروفة المكونات بل اننا كمجتمع بشري ما زلنا نبحث بمكونات وحتى اسماء المكونات واليات عمل. من هذا المنطلق يمكن البدء باطار تعريفي فضفاض يُعّرف الدين انه المعتقدات الفكرية الواعية للبشر التي يضعونها ضمن اطار ايماني- اعتقادي ويجسدونها ضمن اطار سلوكي ممارساتي طقسي يعبرون به عن معتقداتهم الفكرية. وقد يكون الربط بين الإيماني والطقسي واعياً في مرحلة تاريخية ويصبح عادة غير واعية في مراحل اخرى.

سيتبع هذه المقالة اخرى عن الطقوس وعن الأسطورة تأسيساً لتاريخ التطور الديني.



#عيسى_ربضي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأحزاب اليسارية والفعل الجماهيري
- من اجل التكامل بين الوطني والتنموي: المطلوب رؤية تنموية استر ...
- -ديمقراطية- بالعربي
- تهافت التهافت
- في أسباب تفشّي -ظاهرة- الفردانية في العمل السياسي
- عوامل بروز ظاهرة الناشطين الفردانيين
- حول الشكل التنظيمي لأحزاب اليسار
- ناشطين فردانيين مقابل أحزاب ثورية
- مهماتنا: الجزء الثاني التجربة الفلسطينية
- مهماتنا: الجزء الأول المجتمع المدني
- نحو تشكيل جبهة يسارية ثورية
- مهمات اليسار في ظل الحراك بالشارع العربي
- ازمة اليسار من سوريا
- الحزب، اليسار واليسار المهادن
- اليسار والثورة وما يسمى بالربيع العربي
- اي يسارٍ هذا؟
- ولوج البرجوازية العربية من باب الحارة
- ثقافة العنف على الشاشة العربية


المزيد.....




- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عيسى ربضي - حول ماهية الدين. مدخل تأسيسي لتعريف الدين والمقدمات التي أسست له