|
أفكار أولية حول مفهوم * الطرب * (3)
زكريا كردي
باحث في الفلسفة
(Zakaria Kurdi)
الحوار المتمدن-العدد: 6046 - 2018 / 11 / 6 - 20:36
المحور:
الادب والفن
------------------------------------ وأما عن فهم حال الإنسان المطروب ، فقد رأيتُ أن وصفه جاء بين الناس على نحو رأيين متباينين : الرأي الأول يقول : بأن الطّرب هو نقيصة إدراكيه في الإنسان ، تشي عن ضعف المدارك وتشوش الوعي، وبأنه أمرٌ يُشابه حال الوَلَه تقريباً ، لذا وجب اعتبار الطرب عتبة من عتبات الجنون و والهوى ، والنظر الى المطروب على انه فهم ذائب في أجواء الهيام .. لأن الانسان المطروب يكون في حالة منفلشة من الوجد اللاعقلي ، وقد يغيب عن وعي ذاته ، ويغفل عما يفعل من سلوك غريب ( عبارات – ايماءات – كلمات -) ، أو يسهو عن وعي ما يدور حوله ، إلى درجة تجد هذا المطروب و كأنه أصبح وجوداً ثملاً طرياً تماماً بما يسمع أو يرى .. وتكون حينئذٍ كل خلجاته تقريباً ، مشرئبة ومتحفزة ، تنبض بما امتلكت من أقاصي الفرح والبهجة أو بما نالت من مرامي الحزن أو النشوة .. ولهذه الأسباب وسواها ، يصرُّ أصحاب هذا الرأي على القول بأن الموسيقا أصلاً هي كينونة حسية لا علاقة لها بالعقل والوعي ، بل هي تجريد حسي محض ، وإن أثرها ينحصر في الشعور وحسب ، ولا يمكن البتة ، التعبير عنه بدقة أو القبض على حدود تأثيراته بشكل تام . لكون مجال مسارها واستقبالها الحس أولاً ، ولأن رياضها البديعة لا تحفل أصلاً ، إلا بما يجود به الوجدان من خلجات ثانياً ، ثم ما ترهز به العواطف من دفء المشاعر الجياشة ثالثاً.. طبعاً أنا أقول كل هذا ، ولست مبالغاً ، نظراً لكمية الخفّة والإفعام والذوب طرباً ، التي رأيتها أنا شخصياً بأم عيني ، وخبرتُها بذاتي – مغنياً أو عازفاً أو مشاهداً – وعاينتها وهي تعتري بعض الناس ، وهم يعيشون و يتلوّون في تلك الحالات النفسية القصوى ، من ذهول أو شرود ، أو استغراق..أو حزن أو غبطة .. الخ . أما الرأى الثاني – و الذي أجدني معه – فقد جاء في فهم الطرب وحاله على النقيض مما سبق، إذ رأى هؤلاء أن الموسيقا هي بالضرورة نظامٌ متكامل محكم بقواعد وأسس، هذا من جهة ، وأنها عبارة عن جملة أساليب معقدة في تقديم المشاعروالهواجس ، وإظهار العواطف ، وضبط الإنفعالات المسكوبة في أيقونات مختلفة ، (من صوت وصمت وحركة..) ، من جهة ثانية .. ثم لا ننسى أن الفنون كافة – ومنها الموسيقا بالطبع - هي في جوهرها ، تحول الفكرة الى أثر مادي محسوس ، و تتم من خلال عمليات ذهنية معقدة وتراكمات للفهم الإنساني تمتد لأجيال وأجيال .. وتأخذ في مسارات تطورها الكلي نظام لا محالة ، ولطالما كل نظام هو عقل ما بالضرورة ، بحسب المنطق الهيغلي .. فإن حال الطرب لايمكن أبداً ، أن نُصبغَ عليه حالة اللاعقل ( او نختصره بالتغييب السلبي أو نضعه تحت مسمى التلاشي والهيام في المسموع فقط ) وكما يقال ، الموسيقى ، مهما كان الصوت والبناء اللذان يفترضانها ، تبقى محض ضوضاء لامعنى لها ، مالم تمس العقل .. ولهذا فإن حال الطرب الناتج عنها يتطلب حدوثه - في زعمي - نوعاً من التركيز والانتباه الشديد ، والإنسجام مع قدرة العازف أو المطرب ، قبل مرحلة الإنطلاق و التسامي بالوجدان إلى ملكوت الغبطة أو الاسراء بالروح الى إثارات الحزن أو مدارات الفرح .. و التي تأتي لاحقاً ، من خلال مهارة معينة في العزف، أو مفاجأة مبتكرة في التنويع الغنائي، أو أو إنبلاج رخامة صوتية آسرة، وموهبة في تطويع ما يسمى "العربات الصوتية" ، مع التأكيد حين حصول هذا الإبداع ، على علامات موسيقية ونغمية بعينها ، تكسوها تلك البحّة أو تحملها تلك الطبقة من الصوت ، وهكذا إلى أن تصل بعد ذلك إلى أذن المستمع الرهيفة برنين خاص ، وبنكهة صوتية شفيفة ، تُحلّق به إلى حال من حالات " التجلي الرحماني" كما يقول عنه ذواقة مدينة حلب ، وهو التجلي السامي الذي تبحث النفس فيه عن كنه ذاتها بكل صدق ووجد .. قصارى القول : بالنسبة لي أيضاً ، فإن حال الطرب بالذات ، هو الحال الوجداني المُتفرد والفني الخاص لشعب من الشعوب، و يمكن أن تقدمه الفنون كافة ، لكن تبقى درجته في الموسيقى – في إعتقادي - هي الجانب الاكثر حساسية وعمقا وتأثيرا واظهارا له .. وذلك لما تتمتع به الموسيقا من تكثيف للسمات ( روحية ثقافية اجتماعية...) ضمن كليات ومدركات مجردة ، يتم التعبير عنها عبر طبقات الأصوات ودرجات الصمت .. في الغناء والموسيقى.. وعليه نستنتج أن الطرب هو حال من أحوال النّفس يؤثر عند حدوثه على معظم حركات الجسد ، حيث تصبح فيه لواعج الإنسان مترنّمة بخلَجات المشاعر و عبرات الوجدان المتنوعة ( تارة فرح، وتارة حزن، وتارة شوق). وهو - أي الطرب - مزيةٌ وجدانيةٌ شرقيةٌ (عربية تركية فارسية و ...الخ ) وظاهرة وجدانية إنسانية معقدة ومميزة ، ولا منازعة عليها البتة - في تقديري - بين موهوبي التذوق الفني والموسيقي ابداً .. للحديث بقية ..
#زكريا_كردي (هاشتاغ)
Zakaria_Kurdi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أفكار أولية حول مفهوم * الطرب * (2)
-
أفكار أولية حول مفهوم - الطَرَبْ -
-
ما هي الفلسفة .. ؟ (3)
-
ما هي الفلسفة ..؟ (2)
-
ما هي الفلسفة ..؟ (1)
-
على هامش الفلسفة ..
-
عَزاؤُنا أنّهم سيَموتونَ يوماً ما ..
-
لماذا يحاربنا العالم ..؟!
-
تعلم الداعشية في خمسة أيام .!
-
المسلم العلماني والمسلم الأصولي
-
موتى على قيد الحياة ..
-
شواهد - مزعل المزعل (2)
-
شواهد - مزعل المزعل
-
الحظ أم القداسة ..؟!
-
أفكار في فلسفة الفن ..
-
ماذا بَعْد .. ؟!
-
ليس بعيداً عن السياسة ..
-
لا تُصَدْقي أَنّي كَبُرْت ..
-
لا علْم إلاّ بالكليّاتْ
-
تِجَارَةُ الجَهْل لا تَبورْ ..
المزيد.....
-
فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ
...
-
انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا
...
-
صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة
...
-
الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف
...
-
حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال
...
-
الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
-
الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم
...
-
الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
-
أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم
...
-
-جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|