أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - كاموك- رواية- (22- 28)















المزيد.....



كاموك- رواية- (22- 28)


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 5981 - 2018 / 9 / 1 - 12:59
المحور: الادب والفن
    


الى: ايغور كركجورديان كاموك،
المناضل والانسان والشاعر..!


(22)
اليوم حصل شيء لا أدري إذا كان سبق حدوثه.. كان ذلك بعيد الظهر.. وهذا يعني بعد الثالثة.. كنت مستغرقا في نفسي.. ولحظت أن النهار تناهى وتناهى.. عرفت أن استغراقي استغرق اليوم بكامله.. وها أنا في المساء ووقت الفطور قد فات.. فنحن الآن في الشهر الكريم.. الذي يصادف في مايس..
النافذة وراء ظهري وأنا مستغرق في زاوية الحجرة.. الهواء صار ثقيلا وزنه.. صار كثيفا حجمه.. يبدو أن سيارة حمل هائلة حجمها أكبر من سعة الشارع الذي هو خلف ظهري أيضا.. تقتحم الشارع وتمتصّ كل مسامات الهواء وتضغطه ضغطا لتفسح لنفسها مجالا أوسع.. الهواء يضغط والتنفس يضيق وصوت المحرك الهائل يحاصر المكان من كل ثانية..
ما يسعدني في ذلك هو نهاية النهار.. فالمهم في الحياة هو النهاية.. النهايات هي أجدر شيء في الوجود.. حسن الأشياء في خواتيمها.. هكذا يقال.. ولكن الخاتم في اللغة ليس النهاية، وانما الحلاوة.. والمعنى قيمة الاشياء في حلاوتها.. ما يبقى من حلاوتها في قاع الذاكرة..
فجاة حدث انهيار شامل.. أشياء تسقط بقوة محدثة ضجيجا وصدى مثل يوم القيامة.. أشياء ثقيلة تسقط بقوة على زجاج النوافذ.. تضرب الحيطان من الخارج بقوة.. ضحكت داخل نفسي.. وقلت.. هذا هو اليوم الأغبر الذي عاشه مارتن لوثر(*) قبلي.. ونقله من الأرض إلى السماء.. ومن الدنيا إلى القيامة.. هذه هي الكلمة الصائبة.. القيامة.. ولكنه ما زال مبكرا أيضا.. ثمة وقت قصير للتوبة.. للاستغفار.. الذي على السطح لا ينزل، والذي في الحقل لا يعود إلى البيت.. والأم لا تلحق برضيعها.. وأنا على السطح.. على السطح أقرب إلى السحاب من الأرض..
لكني مع ذلك خرجت من الخلوة.. لم يبق مكان داخل ذهني.. نزلت درجات السلم الخشبي وعيناي للأعلى.. نظرت للخارج عبر زجاج الباب الخلفي للبلكون.. برد خشن مصحوب بمطر وريح صرصر عاتية.. هو أو هي تماما.. رددت الصلاة وأنا أنظر بفرح كينوني لعلامات الساعة..
عدت للحجرة ورأيت رقاص الساعة على الثالثة والنصف.. اقتربت.. كانت العتمة كثيفة.. قلت أن الساعة واقفة على الثالثة والنصف.. لا بدّ أنها السابعة مساء الآن.. في الساعة الثالثة أطلق صرخته الأخيرة ولفظ الروح.. في يديك أستودع روحي..
أنا لم أقل هذا.. لأني أنتظر عودته.. لم أشعر في داخلي بذلك.. أعرف أنها ساعة وهي الآن.. ولكنه ما زال لا يأتي.. فقريبا يأتي الآتي ولا يتمهل.. قريبا يأتي الآتي ولا يتمهل.. لكن السحب لم تتجمع الآن.. السحب تظهر عندما تنجلي السماء.. والسماء الآن سوداء مثل قعر تنور..
حتى المطر لونه أسود.. والبرد أسود مثل قطع فحم أو بلورات فحمية.. تطرق الأرض وتلوث الحيطان.. الأراضي سوداء ووسخ العشب والنفايات تلتصق بالسطوح.. رأيت جارتي تنظر من بلكونها وقد غطت نصف جسمها بالستارة.. تأكدت من دوران رقاص الساعة.. والساعة حقا هي الثالثة والنصف.. وليس الغروب بعد.. ألقيت نفسي على الكرسي واستغرقت في العاصفة البردية.. صليت من أجل نهايتها.. فتراجعت.. خفتت وانتهت.. وعاد النهار يتكشف ثانية ويستعيد ضوءه.. أوساخ ونفايات في كل مكان مثل ميدان معركة سماوية.. هذا ما حصل تماما عندما خرجت الرّوح من خيمة جسده الترابي..
الأرض زلزلت.. البيوت اهتزت.. الستائر انشقت من الأعلى للأسفل.. القبور انفتحت والنائمون خرجوا إلى الشوارع والساحات.. لكن السّاعة لما تزل لم تحن بعد..
تذكرت أن ميلادي الحقيقي هو يوم التاسع من مايو وليس التاسع عشر.. وما بينهما هو موتي عقب الولادة.. قبل عودتي للحياة مرّة أخرى.. كان على أمي أو والدي تسجيل يوم التاسع من الشهر الخامس وهذا هو برجي الشمسي.. في وسط البرج وليس طرفه الأخير.. ولكن لمن تقول أمي ذلك وليس أبي هناك.. وعندما التقيا ثانية كان الوقت متأخرا.. وموضوعي صار قديما.. والناس أخذوا بالأخبار الأخيرة وتناسوا جملتها.. عنوا بالأخبار السارة وأهملوا ما قبلها..
لو كان تسجيلي في اليوم التاسع من الشهر الخامس لعشت حياتي الحقيقية.. من غير تورية أو مجاز أو تصحيف.. من غير استعارة أو قناع أو رموز.. لكن غلطة أحدهم تغير أشياء كثيرة.. لا أحد يعي أن تغيير حرف أو صوت أو حركة غير لازمة تخرج بالدائرة من مدارها.. والحرف يقتل.. لماذا أنا روح هائمة لا تعرف الاستقرار ولا تنتهي إلى قرار.. أنت تعرفين الأرقام الرومانية وتقرأين الساعات جيدا.. وأما ساعتي فلم تعرفيها..

ملاحظة: تكررت نفس العاصفة اليوم التالي وفي نفس الوقت وبنفس العنف، ولكن زمنها كان أقصر.. ربما لأنني انتبهت لها باكرا واستلمتها بالصلاة.. لكن تعجبت كيف ينقلب المناخ بسرعة، ثم يعود وكأن شيئا لم يكن.. ما عدا الاوساخ واللون الداكن في كل مكان.. [صادف ذلك يومي الخميس/(25) والجمعة/(26) من الاسبوع الأخير من مايس 2018م؛ تكررت في أوقات متفرقة ودائما بعيد الظهر حوال الساعة الثالثة، تلك التي أسلم فيها الروح.. اخر تسجيل كان يوم الخميس الثاني من اوغست 2018م، وهو غير مصادفة!].. لم تتكرر اليوم الثالث الذي هو السبت، لكن رؤيا ليلة السبت، كشفت لي خلاصة حياتي السابقة، وفي الليلة ما بعدها، كشفت لي ناسا سابقين.. وأذكر ان مثل هذه العاصفة المكررة حصلت في الايام الأخيرة من لندره.. ربما رتبطت بتغيير مناخي..
ــــــــــــــــــــــــــــ
* مارتن لوثر [1483- 1546م] لاهوتي ألماني قاد حركة تصحيحية ضد سلطة البابا في روما وعارض حركة بيع صكوك الغفران سيئة الصيت. جمع انتقاداته للكنيسة في خمس وتسعين نقطة وعلقها على باب كنيسة، ومنها شاعت بين الناس ونسخت بالاف وعمّت كل أوربا. وقد نجح في حركته وصار له أتباع وشركاء مثل جون كلفن [1509- 1564م]في سويسرا مؤسس الكنيسة المشيخية، وجون وسلي [1703- 1793م] في انجلتره مؤسس الكنيسة الاصلاحية الوسلية/ (ميثوديست). كان مارتن لوثر كاثوليكيا مؤمنا جدا. وذات يوم، بعد انتهائه من اختبار الحصول على شهادة القانون لممارسة المحاماة، حصلت عاصفة شديدة وغريبة خلال عودته للبيت، شبهها خياله بعاصفة القيامة، وفكر للحظة في مصيره، لو مات في تلك اللحظة. عندها اعتوره الشك في قدرة الطقوس والأدعية والصلوات في تخليصه، فاعتزل الحياة وانضم للدير، وأعاد دراسة الانجيل مجددا لمعرفة الايمان الصحيح فوجد ضالته في رسالة رومية التي تعرض للصراع بين الروح والجسد، والفارق بين الايمان والطقوس/(رو8: 1).


(23)
بعد ربع قرن التقيت صديقي.. أعني صديق طفولتي المدرسية.. تماما ربع قرن منذ افتراقنا.. ولا أعرف لماذا هذا التحديد.. ولماذا كتب ذلك في رسالته الأولى إليّ عام (2001م).. ما معنى الزمن.. ربما انتظر مثلي نهاية الزمان التي انتظرناها منذ ولادتنا.. عند جدار مدرسة الأمين اتفق كلانا على موت مبكر إسوة بعظماء التاريخ.. موت قبل الثلاثين أو قبل الأربعين.. وبذلك لا نشهد انقلاب الألفية أو العالم.. لكننا لم نتغير.. ما زلنا نحن قبل ربع قرن تماما.. وتماما عقب انقلاب الألفية كنت هناك..
تلك المدينة المدينة.. ألفة المكان الأولى التي اكتشفتها أقدامي قبل حواسي الخمس خلاف ما قاله أرستوتل.. في تلك المدينة، شأن كلّ المدن التي عبرت في حياتي.. كان الماء واليابسة.. البيوت والسكان.. الهواء والمطر.. الطيور والأشجار.. كلّ شيء هناك كان هكذا.. (قدّته الطبيعة هكذا).. لم تلعب به يد انسان.. ذلك ما يجمع مدن حياتي.. مثل أطفال من عائلة واحدة.. في كلّ منها دخل الانجليز.. ومن كلّها خرجوا مدحورين مطرودين..
لماذا يسمونه (أبو ناجي).. من هو أول من أطلق عليه ذلك.. أم انه من منتجاته الدعائية/(أبو النجاة/ الفرقة الناجية).. يعني أنه يستطيع النجاة بجلده دائما.. أم أنه الوحيد الذي ينجو عندما يغرق الجميع.. أبو ناجي كنية مديح وليس ذمّ ولا يعرفه بها غير أهل العراق..
(الفرقة الناجية) من بين أثنين وسبعين فرقة.. هل هذا هو عدد الأعداء.. أم أكثر.. ربما هذا زائدا الصفر.. وبقسمة المجموع على أثنين وأضافة النتيجة للمجموع يحصل العدد المطلوب(*).. ربما.. ولكن من استطاع أن يعدّهم لكي يميز الفرقة الناجية..
(أبو ناجي الورد.. هسّه يوصلنا ويردّ).. سائق باصنا الأعمى وقائد نهضتنا المقدام.. تفتخر نساؤنا بعينيه الزرقاوين وشعره الأشقر وابتسامته الموناليزية.. في أيام الانجليز صار الأطفال يولدون بعيون زرق وشعر أشقر وبشرة حنطية.. جميعهم من الذكور.. لم أر فتاة بعينين زرقاوين أو شعر أشقر.. ذلك غير استخدام صبغة الحناء والميش.. هم يحلمون بالنجاة.. يتعلقون بالناجي.. غير (ناجي السويدي) طبعا..
هناك كتبت قصيدتي الأولى.. حاولت الانتحار مرتين.. متّ مرّتين مختنقا بالبخار.. عرفت صديقين من المدرسة.. وبقينا نحن الثالوث نتحرك ونعيش مثل شخص واحد حتى افترقت بنا الطرق والحروب والدول.. طرق الحداثة.. ويا ليتها لم تكن!.
للمرة الأولى خرجت للملأ معلنا قصائدي.. في ساحات المدارس.. اتحاد الطلبة والشباب.. مراكز التربية.. ساحات المدينة.. مقاهيها.. قرى السادة الصغيرة والكبيرة.. في الأماسي المتأخرة وفي الصباحات.. هناك عرفت العمل الفلسطيني والعمل القومي والجبهة الشعبية.. ومن هناك نشرت قصائدي في دوريات فلسطين الثورة والوطن العربي والتضامن.. هناك أحسست بنزيف لبنان في داخلي.. ومن خلال رسالة قديمة لفيدور ديستوفسكي اكتشفت الدوائر التي تدور على بيروت.. وما زالت تدور وتتسع حتى شملت كل البقاع..
هناك اكتشفت الخيط الأبيض والأسود.. السيجارة والخمرة.. الجنة والجحيم.. الديالكتيك والميتافيزيق.. هناك عرفت أصدقاء روحي والعالم الصغير.. أما نفسي فلم أعرفها.. ولم أعرف أنني موجود حتى فقدت كلّ شيء.. كلّ شيء إلا نفسي.. وأنا أكتب عن أشياء لا توجد.. أما الأشياء الموجودة فلا تعرفها حياتي.. الأشياء غير الموجودة هي الوجود الوحيد.. أما الأشياء التي تنوجد فهي مجرد أشياء.. ولكن بلا وجود.. وكما قال كركجورد.. الموجود لا يوجد.. لأنه كائن.. وأما الذي يوجد فهو الوهم..
في تلك المدينة بدأت علاقتي بالماء.. عندما تتعب قدماي من وطء التراب أنتهي إلى الماء.. أقف على الحافة.. أنظر في وسط النهر.. في داخل الماء.. أحاول تركيز ذهني هل هو يتحرك أم واقف.. كلما أمعن النظر أغوص فيه.. نقطة تتجوف مثل (ماسوره) وتبلعني نحو الداخل وصوتي يبقى فوق.. صوتي لا يخرج..
منذئذ أصبت برهاب الماء.. كلما أفكر في الانتحار أذهب إلى القنطرة وأنظر في وسط الماء.. ويبدأ الصراع.. (أقفز.. لا..) السياج ليس عاليا.. ولكن الشلل يسيح قوتي.. مسافة بين الفكرة والفعل.. خوف أقوى من الرغبة.. رغبة قوية وإرادة ضعيفة.
لماذا مشيت إذن حتى هنا بتلك النيّة.. والآن تتراجع.. كن رجلا وافعلها.. فعل بمستوى القول وقول بمستوى الفعل.. أشعر بالأسى وأرثي لحالي.. هل أنا جبان.. تعذبني تلك الفكرة.. لا يجوز أن أكون جبانا.. الحياة لا تساوي (عفظة عنزة) ولكني عاجز عن الانتحار.. الانتحار نعم.. ولكن ليس الماء..
أتصوّر جثتي تنهشها أسماك المحيط الهندي.. ربما التصق بالثلج القطبي ولا أموت.. وفي نهاية العالم عندما تذوب الثلوج أعود للحياة.. لا.. ليس الماء..
قراءة الماء تبدأ بالتمييز بين الحركة والسكون.. عندها أنسى المدينة والعائلة والحياة.. وأغيب هناك في عمق الماء الذي لا يبان له قرار.. القرار في الماء وهم.. في ذلك المكان بدأت علاقتي بالماء.. كلما تعبت من اليابسة والبشر.. أذهب إلى الماء.. أنظر إلى الماء.. أنظر وأنظر حتى أغيب عن النظر.. الماء هو الكائن الوحيد الذي لا يتكلم.. الذي يتكلم هو الذي يوجد.. أما الذي لا يوجد فهو كائن.. أزلي.. أزلية القبل والبعد..
بعد زمن من ذلك التجوال العبثي اكتشفت الماء الأكبر.. سخرت من نفسي عندما عرفت أن كل ما سبق كان مجرد جدول ماء من أعمال نجيب باشا لا غير.. ولا ضفاف للماء الآخر.. أنه ماء فقط.. ليس له وسط لأنه بلا نهاية.. وفي عام (1976م) فاض الماء الكبير وطما اليابسة والبيوت والمدن والبساتين.. في ذلك العام كما في (1954م) وكما قبل ستة الاف عام.. ماء من فوق وماء من تحت وبينهما اليابسة.. مثل ذلك الحلم الذي دهم تشارلز دارون(*) في سواحل اميركا الجنوبية.. وأربعين يوما طما الماء الأرض..
في تلك الأيام كان النهار أسود.. الشمس قرص أسود.. لأول مرّة تساوى الليل والنهار.. وربما تعطلت العيون عن الرؤية.. هذا أذكره جيّدا.. والناس يحملون أكياس خيش ليصنعوا ساترا وسط الماء.. كلّهم في حركة واحدة واتجاه واحد ومن غير كلام.. يومها فقط بدا الناس مثل شخص واحد.. نجحت الطبيعة الأم في إعادة الانسان إلى أصله.. بعد أربعين يوما بدأت اليابسة تظهر أيضا.. معفرة بالطين منكوشة الشعر مدحورة مكسورة الكبرياء.. الماء ينتقم من اليابسة.. واليابسة تقاوم وتنتفض.. عندها ماتت المدينة في داخلي..
ـــــــــــــــــــــــ
• الرقم (72) من مضاعفات الرقم (12) قياسا على الجذر الستيني الذي وضعه السومريون أساسا لحساب الأيام ودوران الأفلاك. وهو من الأرقام والأسرار المقدسة في العقائد والميثولوجيات القديمة. اضافة نصف القيمة للعدد الأخير ينتج الرقم (1003م)، (مارس 2003م) الغزو الأميركي لبغداد.
• تشارلز دارون [1809- 1882م] عالم بيولوجي انجليزي، في عام (1959م) نشر كتابه (نظرية النشوء وأصل الانواع) الذي اعتبر عنوانا واعلانا رسميا عن فكرة تطور انواع المخلوقات عن بعضها بحسب جداول تراتبية، بدء من خلية عضوية بسيطة ومن أحادية الخلية.


(24)
لم أتصور يوما أني سأعيش حتى اليوم.. فعندما خرجت من حرب العشر سنوات حيا.. كانت لدي قناعة اني لن أتجاوز الأربعين.. كان هذا أمرا عاديا لشخص ارتبط ميلاده بانقلاب دموي جعل أساسات الحياة الملكية بيد زعارنة الجمهورية.
الجمهورية ارتبط اسمها بيوليوس قيصر روما، أول دكتاتور في التاريخ، ولم يدم حكمه.. والدي كان مؤيدا للجمهوريين.. وعلى صلة بأبرز قادتهم.. وطالما حدثني عن الزعيم وبساطته وعن رفيق دربه وغير قليل من كبار جنرالات الملكية..
والدي لم يصفهم بسوء.. كان حديثه محايدا.. واكثر ميلا لاظهار تاريخه الشخصي.. انه على صلة وحظوة لدى أركان البلاد.. ويومها كان والدي في ريعان شبابه كما يقال..
ولكني لاحظت مع نفسي أنه لم يتقلد أي مركز اداري مرموق.. ولم يكن له دور سياسي ولا استورث ثروة تقينا عنت الحياة.. كنت يومها صبيا في عائلة أدنى للشظف من الحياة اللائقة.. والدي يعاني من كثرة الديون ومشاكل بيوت الايجار.. ولم يكن راتبه الحكومي البسيط يكفي متطلبات عائلة متوسط العدد..
لو كان والدي أفاد من علاقاته الملكية والجمهورية، لكان لي شأن آخر اليوم.. وربما حظوت بمركز حكومي أسوة بأحفاد خونة أيام زمان.. شعوري بمصاعب المعيشة وحياة الكفاف التي وعيتها في سن مبكرة.. كان يقتل ردود فعلي ونشوة والدي التي كان يتوقعها مني مقابل كبريائه الجريحة..
في ذلك البيت المستأجر.. البيت الدائري الركن في (ام النوى) من أحياء بعقوبا القديمة.. ما كان ثمة من يستمع لوالدي أو يجالسه ليبثه همومه وآراءه.. أو حتى مجرد محادثة بريئة.. كان الماضي يجثم على حياتنا كصخرة سيزيف.. ماضي معقد سخيف، تختلط خيوطه العائلية بمهاترات السياسة المتقلبة.. ولا أدري كيف انشقت العائلة سياسيا بين مؤيدي الجمهورية ومؤيدي الملكية.. شيوعيين وقوميين لاحقا..
جدّي من طرف الأم لم يكن سياسيا من قريب أو بعيد.. ولكن موقفه اللاسياسي والمناوئ لزعارنة العسكر الذين كان يعرفهم بحكم الحامية العسكرية في مناطق (قره غان) ودلي عباس.. جدي كان متصوفا مريدا في احدى الفرق البكتاشية المشهورة من ايام العثمانيين، ولم يحد عنها في العهد الملكي..
فجأة وجدوا أنفسهم ضحية عنف كتائب الجمهورية بوصفهم اليمين الديني الرجعي.. تعرض جدّي لمهانة شخصية وتعذيب وحشي على مرأى الملأ.. يومها كان والدي من أنصار الجمهورية..
كل ما فعله الانجليز واتباعهم في بداية العشرينيات بمؤيدي الحكم العثماني والرافضين للاحتلال الغربي، تكرر في بداية الجمهورية مع من اعتبروا أنصار الملكية.. العراق دولاب(*).. وطالما اعتبر الجمهوريون أنفسهم معادين للملكية، فأنصارها أعداء لهم.. وهكذا ينكل أتباع كل عهد جديد بأتباع سابقيهم.. ثم يكررون نفس أخطائهم السياسية ومهاترات مراهقتهم..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
• جاء هذا الوصف في قصيدة (وتريات ليلية) لمظفر النواب بعبارة [الدولاب الدموي ببغداد..].


(25)
عندما كنا أطفالا ولا نجد لعبة نتسلى بها.. ننقسم فرقتين.. عسكر وحراميه.. وكلّ جماعة تلاحق الثانية.. ونحن نهرب من بعضنا ونتخفى في العتمة.. ومن يقع بيد الفريق المقابل يجتمع عليه الجميع ضربا وركلا وشتائم وسخة.. كما يجري بين الأمن والمعارضة.. ونبقى لأيام نتألم جراء تلك اللعبة القاتلة.. هكذا تعلمنا الخبث والمراوغة.. والشتائم التي ليس لها قاموس.. ومن يومها كرهت الشرطة والمعارضة واللصوص..
لو كانوا على قدر من الحكمة لجمعوا أبناء الوطن بدل تقسيمهم وتوزيعهم فريسة للاتهامات والخيانات ونشر العنف والثارات والدمار.. انتهت الملكية وانتهت الجمهورية الاولى والثانية والثالثة ولم تبرأ عائلتي من تبعات الماضي المريض..
مات جدي وأحيل والدي على التقاعد، ولكن حياته الزوجية استمرت مكسورة تعاني من الانقسام الجمهوري والحزبي، والدتي هي الاخرى ليس لها في السياسة ولا تقرا أو تكتب.. لكنها لعبت دورها جيدا.. عانت عائلتنا من تبعات داحس والغبراء العراقية المعاصرة.. واستمرت تشظيات داحس تلك تنتقل من جيل الى جيل الى..
عندما كبرت.. كنت في حالة ربما لا أستطيع تفسيرها الآن.. بين اللاأبالية والغرور.. لا أعترف بالتقاليد والعلاقات القرابية.. اؤمن بنفسي وثقافتي الغربية بشكل كبير.. يصفني شقيقي دائما بالمغرور والمعقد.. وأعتبره جاهلا وسطحيا ولا أهتم له..
ذلك الجاهل والسطحي رفض مبدأ الزواج حتى نهاية عمره.. وأنا لم استطع النفاذ.. ذهبت ثقافتي وغروري تحت الاقدام.. بعدها طردني من البيت.. وكانت معاناة الحرب على أشدها..
هكذا ورثنا ثقافة الانقسام والاصطراع الداخلي.. أخي يكره والدي أسوة ببقية العائلة.. ميلي لوالدي كان تهمة.. تلك كانت قناعة والدتي بحيث بدت صورتي أمام العائلة والأقارب وكأني خائن.. مقترف جريمة غير عادية.
عاش والدي خارج بيت العائلة.. يتنقل بين الأقارب .. ثم استأجر حجرة قديمة في (الفضل) أزوره فيها ويسألني عدّة مرات ان كنت جائعا أو أشرب شايا.. كان يشعر بسعادة عندما أجيبه بالموافقة.. يقلي لي بيضا بزيت الزيتون الذي صار يستعمله بعد إصابته بالقلب.. يجلس على الحصيرة وهو ينظر نحو الخارج من باب الحجرة العتيقة وينفث دخانه..
أصعب امتحان تعرض له والدي في مستشفى القلب، عندما أجبر على ترك التدخين.. دخل والدي المستشفى ثلاث مرات على ما أعرف.. وربما أكثر.. زرته مرة واحدة فقط بالحاح من اختي.. لانهم تصورا أنه سيموت في العملية..
كان منهكا نحيفا لا يقوى على الكلام.. لم أستطع النظر إليه.. لكنه احتضنني بنظراته التي أعادت كلّ حنانه الأبوي في ذاكرتي.. تركت الحجرة فورا.. لأنهم منعوا الكلام معه.. لم أكن أعرف أنني سأمر بنفس حالته وسوف أقع في الشارع وأنقل للمستشفى وأخضع لأكثر من عملية..
تمنيت لو كانت عمليتي في بلدي لأشعر بعطف الناس.. واجتماع الأهل والعشيرة حولي.. مثل شخص يترك الدنيا .. وقفت أمام المستشفى وأنا انظر في العدم لأتناسى تلك اللحظة.. عندما جاءت أختي لم نتكلم طيلة الطريق..
عندما أجادل والدتي لماذا تزوجت من شخص تراه عدوّا، تنفعل أكثر ويطيش جنونها.. بحيث تكاد ترميني بأي شيء قريب منها.. لا يحق للخزف أن يسائل جابله: لماذا جبلتني!.. نعم كانوا يدفعونني خارج البيت.. على الضدّ منّي.. حتى أخرجوني من حياتهم وحياتي..


(26)
بعد شهرين ماتت امي. بعد شهرين من سفري ماتت. ظلت تردد اسمي بين شفاهها، وتقول أنني ميت. هل عدت. لا كيف تعود وأنت ميت. أنا أعرف أنك ميّت. يقولون أنك ستعود. لا لن تعود. الميّت لا يعود!..
ماتت. لا أعرف كيف ماتت.. ولا توجد لدي أية تفاصيل.. بعد خمس سنوات من ذلك، وصلتني رسالة تقول أنها ماتت، بعد سفري مباشرة.. وأنهم أخفوا ذلك لكي لا أقطع سفري، وأعود..
يا ريتني قطعت سفري وعدت.. يا ريتني لم أسافر ألبتة.. ولم تحضرني تلك الفكرة المجنونة.. فالموت بين الأهل أفضل من حياة الغربة. زراية الاهل، ولا شماتة الغربة. حتى هنا أموت.. أموت كل يوم، ولا أجد رصيفا يحملني!..
الموت في الوطن مضمون.. ولا يخلو من ألفة.. أما الموت في الغربة.. فهو موت في البريد.. موت موحش.. وحشي.. بين موت في مستشفى يرفض الأبناء استلام الجثة.. حتى يستلمها الدفان مباشرة وتقام جلسة فاتحة خجولة لبضع ساعات في مسجد مشهور وينتهي الأمر.. أو موت وحيد في شقة.. يتم الكشف عنه بعد أكثر من شهر بشكوى من الجيران.. يتم نقله للتشريح الطبي ومنها للدفن بلا تشييع.. مجرد نكرة.. هكذا مات أدباء عراقيون.. لو كانوا في بلادهم لتبعهم كثير من الأدباء..
ما زلت لم أمت. بالأحرى، ما زلت أنتظر الموت.. بعد تجاوزي الاربعين قرّعتني مبروكه بصورة قاسية ذات يوم بغير مناسبة وذلك لعدم موتي .. عشت ثلاثين عاما أخرى خارج الوطن، ولم أمت.. لا أدري إن كنت سأموت حقا.. لقد تراجع أملي حتى في الموت..
واذا مت.. هل سيكون لي قبر.. طبعا لا.. لا قبر ولا عزاء ولا هم يحزنون.. فالميت لا يموت..
مغرور!.. قالت لي مبروكه..
مغرور!.. قال لي صاحبي الذي كان يريد ان يصبح أديبا مشهورا..
كنت أفترش الأرض.. نصف عريان.. وثيابي الداخلية مقطعة..
قال لي مغرور!..
تصورت أنه يقصد شخصا آخر.. شخصا آخر يجلس في مكاني..
سألت الشخص.. هل أنت مغرور.. لم يجب.. إذن أنت مغرور..
قلت له.. هذا الشخص وصفك بالغرور.. وأنت لا تتكلم..
في يوم 24 من اوغست الماضي قالت لي: اذهب.. اتركني لوحدي.. لا أريدك معي..
ومنذئذ أنا لوحدي.. من غير غرور..
سحبت الاستمارة الطبية التي تعلوها أكداس من الأوراق.. استمارة التبرع بأعضاء بشرية.. وبدأت أمليها فقرة فقرة.. في خانة الملاحظات أوصيت بإحراق جثتي تماما والقاء رمادي في البحر.. ولم أطلب الاحتفاظ بدماغي في المختبر، مثل انشتاين..
نظرت إلى أنبوبة المغذي المنحدرة من حامل ألمنيوم جميل، وفي ذهني فكرة فصل الأبرة، والخروج من المستشفى فورا.. تذكرت المشهد الأخير من مسرحية (تاج على ميتة).. وغفوت..
عيش في ظل من تحبه.. عيش..
هنيئا لك.. هنيئ..
يا من خنت حبي..
أنا عندي بهالدنيا قناعة
ألمّ جرحي ولا أطلب شفاعة..
ولا أشكو.. دمعي عيب أهلّه..
ترى الشكوى لغير الله مذلة..
أنا ما خنت عهدي..
لكن خنتني..
عيش في ظل من تحبّه..
هنيئا لك..


(27)
في الجامعة اخترت أبعد نقطة في البلاد.. لكي لا أزعجهم بوجودي.. بعد الحرب سلّمت قدمي للريح.. أقصد للحدود.. لم يجيبوا على رسائلي.. ولم يصلني منهم شيء كنت أحوج إليه يومها.. رسائل والدي فقط كانت تصلني وهي على عدد الاصابع.. وفي كل رسالة ينقل لي تحيات وأشواق إخوتي.. تلك كانت ديباجته المكرّرة..
آخر رسالة منه وصلت بعد أربعة أشهر من وفاته.. لان عنواني كان قد تغير خلال ذلك.. رسالة مدعوكة مكتوبة بخط الرقعة، وفيها صورته بقميص صيفي.. بعد خمس سنوات منها.. وصلتني رسالة من أخي يريد فيها الهجرة.. وكان موقفي ضد الهجرة يومها.. عرضت عليه المال والبقاء في بلده.. في رسالته التالية انفعل وقال أنهم أخفوا عني خبر وفاة والدي.. وكان ذلك طعنا مزدوجا.. تسبب في أول أزمة لم أخرج منها للآن..
ماتت أمي ومات والدي.. وما زالت آثار خلافاتها لدى الأبناء.. ما زلت متهما ومستعدى من الجميع.. وما زالوا يجترّون نفس الكلمات والاتهامات.. عبارة (حبيب والده) ما زالت تهمة خيانة عظمى، يرفعها أخ وأخت ضدّ شقيقهم.. كيف يتبرؤون من أبيهم ويتهمون شقيقا لهم بمعاداة أمهم.. قضية إشكالية..
بالنسبة لي والدي لم يمت.. أراه باستمرار في الحلم.. أعيش معه تلك اللحظات الغالية من الماضي .. أحيانا أراه ونحن موتى.. يزورني في قبري ويتأكد من مكاني ثم يختفي.. أعرف أنه سيعود.. ويعرف أنني سأذهب اليه.. أشياء كثيرة أنجزتها كما أنجزها هو.. ومواقف كثيرة مرّ بها تكرّرت معي ولم يبق غير قليل.. أقل من قليل.. في الاسبوع الماضي رأيته مرّتين.. دخلت حجرة خالية فوجدته يتناول طعاما على طاولة.. قال لي مباشرة.. اجلب كرسيا وكلْ معي.. في المرة الثانية كان جالسا.. ربما في نفس الجانب من الحجرة.. يتحدث بصوت عال وربما يتشاجر معهم.. أحسست أن الأمر يتعلق بي.. لا أرى الذين يكلمهم.. لكنني قلت لهم.. أعطوا والدي ما يريده.. لا تتركوه يزعل.. لكنه كان يريدني معه.. قريبا منه.. في الخارج على تلة تشرق عليها شمس.. كان مكاني.. شاب يبدو مثل ممرض.. عدل من شكل جلستي كأنه يريد أن يصورني.. ثم مضى.. نزل التلة وهو يعدو.. سيارة بلدية صغيرة زجاجها الامامي غير موجود.. استقلها ومضى.. كان طريقه يمتد شمالا للامام.. اختفي.. لكنه عاد وظهر من ورائي.. كمن جهة اليسار ومضى للامام وأنا اراقبه.. كان بجانبه شخص آخر..
أحسه معي رغم أنه لم يكن سعيدا ولا غنيا ولا صاحب نفوذ.. أورثني كبرياءه واعتداده بذاته وحكمته وصبره في النكايات.. لم أسمعه مرة يشكو أو يتألم أو يبكي أمامي.. كان يغني بحزن.. أنا لست مثله.. أتعب وأشكو وأنفعل وأبكي ولا أجد معينا..
عاش والدي ومات بين أهله وعشيرته.. أما أنا فقد عشت وأموت وحيدا في بلاد غريبة.. ومثل أي غريب يموت في شارع أو شقته.. ستمرّ عدة أيام أو أسابيع قبل أن يفطن احد لتلك الرائحة التي تدعو الناس لافتقاد انسان- مثلهم-..
صرت طرفا في مثله على طريقة اجترار الأخطاء.. أنا ما زلت في دور والدي.... كل شيء انتهى بقرار يتكون من كلمة واحدة.. هذا ليس مكانك.. لا مكان لك هنا.. لا أحد يريد أن يراك هنا.. لا مبرر أن تأتي!..
السماء الآن أكثر صفاء.. لونها أزرق غامق ولا أثر للقمر.. الأشجار العالية تحول خطرتها نحو الدكنة أيضا.. حجرتي غارقة في الظلام لولا ضوء السكرين.. في ذهني صفاء وسلام لا أعرف مصدره.. رغم أني (وحيد ومسكين وبائس) كما تقول المزامير.
هل تستوي الحياة عفطة عنزة؟..
إذا كانت كذلك – وهي كذلك- ما يمنع المرأة من ادراك ذلك؟..
في الماضي كان يتم تعليل الأخطاء بالتخلف والجهل، فكيف يتم تعليلها اليوم وهي تنتشر في المهجر الأوربي أكثر مما في المشرق.. الغرب دعم حركة استرجال النساء وقتل دور الأب في حياة العائلة والثقافة العامة..
هذا الغرب خارج عن طوره وعاجز عن تطوير الحياة للأمام.. لذلك لجأ إلى التدمير ليحتفظ بالسلطة مدة أطول.. والعالم كله يتخبط اليوم وينحدر في الجريمة والفساد وقلب المفاهيم والأنظمة.. لم يمض على الغرب بضعة قرون.. جعلته يستعجل نهايته.. فلا حياة ولا مستقبل لبشرية بلا اخلاق وأنظمة مستقرة..
هذه الليلة لم تمر زعاقات الازعاج الحكومي اليومي المتمثلة بسيارات البوليس والاسعاف التي صارت تستخدم الزعاقات الوحشية.. أسمع الآن واحدة منها.. في أواخر القرن الماضي.. كانت الفكرة العصرية تميل لالغاء منبهات السيارات والمعاقبة على استخدامها في المدن.. فإذا بالتطور يجعلها سمة اجبارية لسيارات الاستعاف والبوليس.. بمعنى ان [النجدة والاسعاف] من الخطورة بحيث تقوم بمزيد من التدمير والازعاج والارهاب.
فمن أجل اسعاف و نجدة وهمية غالبا، يدفع آلاف السكان عقوبة نفسية وذهنية ومهانة مرفوضة، جراء وحشية الاسلوب وقباحة الاصوات المستخدمة في الزعاقات.. فشعار الرأسمالية اليوم: كلّ شيء من أجل دمار الانسان؟..
لم لا.. أليس الانسان هو الذي يتمرّد ويثور ويرفض الخضوع للسطات الأرستقراطية.. دعهم يحطموه ويذلوه ليجبروه على حال من العبودية والاسر فلا يفتح فاه ضدّهم!


(28)
كنت أنتعش وأنا أستمع لإطراء الناس لهدوئي وخنوعي وتذللي.. عدم اعتراضي على تدخلهم في حياتي.. وفي قرارة ذاتي كنت أضحك من اهتمامهم الزائد بأنفسهم.. كما لو أنها تعني شيئا.. بينما أدرك أنا.. الأكثر منهم حكمة وعمقا.. تفاهة فكرة الحياة.. الجوع والشبع، الانسان والحيوان، الغني والفقير، البخس والنبيل، سينتهون جميعا لنفس الحفرة التي يتوقف عليها الجمل ويتبول..
لكن تلك الحكمة السليمانية لا تلغي موضوع المعاناة التي قوّضت ذهن بوذا وزرادشت وسليمان دون ايجاد حلّ مرضي لمشكلة النساء أو الألم.. للمرأة غريزة مريضة في الانجاب لتأكيد ذاتها واستنساخ نفسها من خلال ايجاد مخلوق آخر يجترّ آلامها ويقدم لها عزاء ومعونة..
الطفل يعاني ليمنح أمه شيئا من المعنى بقيمة الذات.. بينما المرأة لا تكترث.. ولا تعي مسؤولية ما تسبّبه للمولود من آلام.. تنقل اليه قدرها وكارماها.. منتظرة منه تحريرها من ألمها الخاص بالعدمية والفراغ.. لذلك تتجدد المرأة مع كلّ ولادة.. وتمنح نفسها فرصة حظ جديدة..
لكن الرجل ليست له هذه الامكانية.. أنه يعاني قدره لوحده.. بالأحرى.. القدر الذي وضعته أمه في دمه وعاتقه.. المرأة بطبيعتها سادّية في داخلها، لكنها تبدو غير ذلك من الخارج.. وهكذا امتدت سلسلة مخاط ابليس عبر العصور بلا معنى سوى اجترارات سادية عمياء..
ألمي يهون عندما يوجد شخص آخر يفوقني في الألم.. فكرة مرضية.. أفضل تطبيق لها في المستفيات.. لذلك ينسى المريض نفسه هناك، لوجود حالات أكثر خطورة منه.. لكن الأكثر نجاحا في ذلك هو التجمعات النسوية.. فالمرأة أسهل في التعارف والارتباط مع النساء ..
تشكيل علاقات كلام وخبرة وتبضّع.. وفي تلك الاجتماعات يهيمن النمّ والنميمية والغيرة والحسد والدس والتآمر والتحالف مع وضدّ.. فتجد العون من جهة، وتجد لها هوية وقضية من جهة ثانية.. ولا تشعر بالوحدة من جهة ثالثة..
لكن غلطة ايغور ليست وحيدة وانما متعددة.. لذلك يجتر سنيه في جملة مخاط متداخل.. منها أنه ليس بكرا.. وإنما إبنا ثانيا.. أخوه البكر كان متسلطا عليه.. الأم تنحاز لبكرها ضدّه.. فكان مقتلعا من العائلة وموضع لعنات أمّه..
الانسان لا يتبارك بلعنات الام والوالدين مهما تقدّمت به السنوات.. والناس المباركون يكتسبون بركاتهم من ذويهم.. هذا أمر لم يتح له.. بينما كان أخوه أكثر حظا منه.. رغم كونه أدنى تعليما وثقافة..
ذات يوم عندما قرأ سفر أشعياء بن آموص وجد نفسه: [رجل آلام ومختبر الحزن.. مخذول كمن حجب الناس عنه وجوههم عنه.. لكنه حمل آلامنا، ونحن حسبنا أن الرّبّ قد عاقبه وأذلّه..] .. منحه ذلك بعض العزاء.. باعتباره على شاكلة المسيح الذي بعذابه يمنح خلاصا لسواه.. لكن المسيح لم يعش طويلا.. ولم يتعذّب غير إسبوع واحد انتهى بموته..
بقي ايغور يمني نفسه بموت مفاجئ قبل بلوغه الثلاثين.. كان يومها في الحرب التي خرج منها بلا إصابة.. واعتقد أنه سيموت قبل الأربعين.. عندما تدحرجت سيارته من سفح جبل حتى بطن الوادي وانقلبت العجلة أكثر من مرّة حتى تحطمت تماما، لكنه خرج منها ولم يصب بخدش.. وقف ينظر إلى السيارة الخردة كارها نفسه كأبله.. وهو لا يعرف كيف خرج من تلك العلبة المحترقة حيا..
وقبل بلوغه الخمسين نقل إلى المستشفى أثر انهيار مفاجئ.. كان يشعر بالسعادة وهو في سيارة الاسعاف لأنها ستكون رحلته الاخيرة.. ولكنه بعد أيام كان يتمشى في شارع المستشفى عائدا لمنزله وكأن شيئا لم يحدث..
والآن.. ها هو على عتبة الستين.. لقد عاش ضعف سني عمر المسيح..
لكنه يشعر أن أعضاءه تتجدّد في داخله.. أنسجته تكاد تشفى من أسقامه الكثيرة.. توقف عن تناول أدويته المعتادة دون تدهور صحته.. والغريب في الأمر.. اقتناعه الذاتي بأنه يولد من جديد ويصبح خليقة جديدة.. لذلك يعتقد في ذهنه أنه غادر..
عليه أن يغادر كلّ ما يتعلّق بماضيه.. وينسى كلّ تاريخه وارتباطاته الاجتماعية.. بما فيها عائلته الخاصة.. لأنها ستموت مع الشخص العتيق الذي مات في داخله.. عليه أن يتهيأ لحياة جديدة بالكامل بما فيها الارتباط بعائلة جديدة ومكان جديدة ووظيفة جديدة..
تلك المرحلة الانتقالية التي يعيشها الان.. غير قابلة للحصر.. وليست في إرادته هي الأخرى .. أنه يترك نفسه في حالة تسليم سلبية.. متجرّدا من أية مشاعر أو أفكار منفعلة أو ضدّية جرّاء ردود أفعال أو كلام غير لائق..
عليه أن يسكت ويتقبّل.. ويعتبر كلّ شيء جزء من إجراءات المصالحة والاستحالة.. ومحاولات ابليس لإفشال ولادته الجديدة..
لا يدري هل سينتقل إلى عالم السماء.. أم يبقى على الأرض.. هل يصبح كائنا أثيريا أم يبقى له جسد وأعضاء.. يتناول بها الطعام ويكسيها بالثياب ويضاجع النساء.. هل مرّ ايليا التشبي والمسيح الناصري بتلك التجربة.. هل كانت طويلة عليهم كما يشعر هو الان.. ولكن أولئك لم يكتبوا ما يكتبه هو.. ولم يتركوا أثرا مدوّنا لتلك الاستحالة ..
نعم.. قصة حياة الإنسان هي اجترار لما سبق له من أعمال وأقوال.. وما سبق لذويه ومحيطه الاجتماعي اقترافه.. يقول الجامعة أن غلطة واحدة تنتج شرورا كثيرة.. أو شبكة من الشرّ في المجتمع.. تمتدّ الى زمن آخر.. فكيف يمكن السيطرة على الشرّ في الطبيعة ومنع انتشاره.. طالما يوجد هذا العدد من النساء والمهابيل الذين لا يعرفون معنى ما يفعلون..



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كاموك- رواية- (15 -21)
- كاموك- رواية- (8- 14)
- كاموك- رواية- (1- 7)
- في علم اجتماع الجماعة- ج2
- في علم اجتماع الجماعة- خمسون حديثا عن الانسان والانتماء والا ...
- انتبهْ!.. الوطنُ لا يُباعُ وَلا يُستبدَلُ.. وَلا يُطرَحُ للإ ...
- ما بعد الحداثة/ ما بعد الانسان..
- نحو علم اجتماع عربي..
- محاضرات في لاهوت العولمة
- (المسيح الثائر) في اسفار الشاعر الاشتراكي المصري أمل دنقل
- (المسيح واللصوص) للأديب والفنان الاشتراكي نجيب سرور
- (اعترافتان في الليل، والاقدام على الثالثة) للشاعر الاشتراكي ...
- منفيون في جنة ابليس
- مقامة الثامن من أوغشت..
- باسكال: بين الشك والايمان
- الميّت الماشي- قصيدة الأديب الاشتراكي توماس هاردي
- انا عندي حلم/ I Have a dream رائعة المناضل الانساني مارتن لو ...
- (سلطان الكلمة) قصيدة للاهوتي الالماني مارتن لوثر
- في علم اجتماع الفرد- خمسون حديثا عن الواقع واللامعقول واللغة
- (تعزية..) للشاعرة النمساوية الملكة ماريا فون هنغاريا


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - كاموك- رواية- (22- 28)