أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - كاموك- رواية- (8- 14)















المزيد.....



كاموك- رواية- (8- 14)


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 5977 - 2018 / 8 / 28 - 16:15
المحور: الادب والفن
    


وديع العبيدي
كاموك
(رواية)

الى: ايغور كركجورديان كاموك،
المناضل والانسان والشاعر..!


(8)
خالي الأوسط لا يعيش معنا في البيت. أنه يدرس في الجامعة في بغداد، ويأتي للبيت للزيارة فقط. حجرته هي الأولى قرب البوابة الخارجية في الدهيلز، في قاع حجرته خزانة كبيرة ملأى بالكتب مختلفة الأحجام والألوان.. لكن الكتب الجديدة والمجلات لا مكان لها في الخزانة، تتجمع على الطاولة المنخفضة في وسط الحجرة. وعلى الدوام توجد كتب متناثرة على الأرض ومنزوية تحت السرير.. وبين أرجل الكراسي القليلة المخصصة لضيوفه.. عندما أحاول رفع الكتب عن الأرض أو توضيبها يمنعني بشدّة.. ويطلب مني مغادرة الحجرة..
الكتب هي كلّ شيء في حياة خالي وأغلى ما لديه.. انها امتيازه الكبير الدي يفصل ما بينه وبين المحيطين به، ويربطه بعالم آخر لا نراه.. عندما يغادر.. يغلق عليها بالمفتاح، ليس الخزانة، انما الحجرة كلها.. باب حجرته من الحديد ذي الطلاء الأزرق، ولحجرته نافدة حديدية مغلقة دائما ومسدولة الستائر.. تلك هي الحجرة الوحيدة التي لا تكاد حتى الشمس تستطيع دخولها براحتها. عندما يأتي من بغداد يحمل معه بعض الكتب، وعندما يغادر يتركها في الحجرة التي فاضت خزانتها وطاولتها وصارت تندلق على الأرض.
جدّتي تقول أنها كتب الدراسة.. وأنا أقول أن كتب الجامعة لا تكون كثيرة هكذا.. لو كانت الكتب كثيرة لهذا الحدّ في الجامعة لما ذهب أحد اليها يا جدتي.. اعتقدت أنني سأفحمها بهدا المنطق، لكنها ردّت بكل برود..
- ومن يذهب إليها غير خالك.. لا أحد في الجامعة غيره.. كل زملائه أكملوا دراستهم وحصلوا على وظائف.. وحده خالك يدرس في بغداد من سنوات ولا يكمل دراسته..
- خالي يعيش في بغداد يا جدّتي..
- أعرف أنه يعيش هناك ليدرس.. دراسته صعبة ومن الأفضل أن لا تفعل مثله..
- الدراسة ليست صعبة يا جدّتي.. الدراسة حلوة..
- أنت تقول هذا لأنك شاطر..
- خالي أيضا شاطر.. أنه شاطر كثيرا ويعرف كلّ شيء..
- لو فقط يتزوج ويجد له وظيفة!..
تلك الحجرة الموصدة بالقفل دائما.. الحجرة الوحيدة الممنوع عليّ دخولها.. كانت مثار فضولي الأكبر.. وفكّ ألغازها كان هدف حياتي يومها.. من هناك تكونت شهيتي في قراءة الكتب.. كتب صعبة لا أفهمها ولكني رغم ذلك أواصل قراءتها حتى الغلاف الأخير..
القراءة بالنسبة لي لم تكن تعني الفهم.. انما تفحص الكلمات والعبارات وأسرار كلّ صفحة.. هناك قرأت خليل مطران وتوما الخوري وكارل ماركس .. جذّتي لا تعرف أن ابنها ماركسي ويعمل في بغداد أشياء لا يستطيع عملها هنا.. جدّي لم يكن راضيا عن أحدهم.. وأنا كنت أعجب بما أقرأه.. خفية عن الجميع..
خالي يلبس ثياب الأفندية.. في داخل المنزل يرتدي البيجاما.. هو الوحيد الذي يرتدي بيجاما مثل البنطال داخل البيت.. ربما تعلم ذلك من عوائل موظفي السكك.. نحن كنا نرتدي دشاديش مقلمة ذكورا وإناثا.. لا نخلعها إلا عند الذهاب للمدرسة.. خالي اختلف عنا ولم يشبه أحدنا.. خالي إسطورة!.

(9)
همزة الوصل بين (الآن) و(الآن) القديم قبل أربعين عاما، هي الرقم ثمانية. الثامنة صباحا والثامنة مساء.. اليوم الثامن في الاسبوع والثامن والعشرون من الشهر والعام الثمانون والثمانية والثمانون.. وما أدراك ما الثمانون وملحقاتها..
لم أرغب في دراسة الاقتصاد ولا نظرياته وتطبيقاته الاشتراكية والعربية.. الاقتصاد درس مشوّه لا هو من الانسانيات التي تعتمد على الشرح والوصف، ولا من العلميات.. رغم أن الرياضيات والمعادلات والنسب والحسابات تحتل معظمه.
في الاقتصاد تعلّمت الرياضيات الحديثة باللغة الانجليزية وحسابات المالية العامة التي كان مدرسها يقيم نتائج الامتحانات ثمانية تحت الصفر.. في البدء أعتقدنا أنه سهو، باعتبار أننا أذكى من الاستاذ.. لكننا اكتشفنا نفس السهو على أكثر الأوراق.. وأفضلنا كان تحصيله واحد تحت الصفر. كلنا كنا تحت الصفر.. رغم أن حرارة الجو تتعدى الثمانية والخمسين في ساعة الزوال..
في الرقم ثمانية حدثت كلّ هزائمنا ومعاركنا الخائبة.. فيه سقطت بغداد بيد المغول القدماء.. وفيه دخل المغول الجدد بغداد.. في الرقم ثمانية حدثت أول حروبنا في القدس، وفي عقده كانت حرب الأغبياء التي كان لي شرف المشاركة فيها.. وفي اليوم الثامن من الشهر الثامن من العام الثامن من العقد الثامن، ولكن ليس من القرن الثامن وقبل بلوغ الألفية الثامنة.. شرب خامون كأس سقراط مفضلا نهاية حياته على نهاية الحرب.
في الشهر الثامن من العقد الثامن اجتاح شامير جنوبي لبنان* وانتحر صديقي الشاعر خليل حاوي، ويومها حصل حصار بيوت برا وبحر وجوّا، وحوصرت المقاومة الثورية، واضطرارها للخروج إلى برّ تونس.. ويومها كتب محمود درويش* مرثية الظل العالي.. [هي هجرة أخرى.. فلا تكتب وصيتك الأخيرة والسلاما.. سقط السقوط وأنت تعلو.. فكرة ويدا و.. شاما.. ويقول أيضا: وحدي. أراود نفسي الثكلى فتأبى أن تساعدني على نفسي، ووحدي كنت وحدي، عندما قاومت وحدي، وحدة الروح الأخيرة!].
و.. وفي العام الثامن والثمانين وافقت منظمة فتح على قرارات عصبة الأمم الامبريالية حول فلسطين، وفي الشهر الثامن بعد عامين ولدت الحرب حربا كان لي شرف المشاركة فيها أيضا.. وكلّ ذلك بفضل شهادتي الجامعية، وازدراء أختي لمهنة التعليم.
لمناسبة الرقم الثامن قبل ثلاثين عاما.. أعلنت قصيدتي الثانية للملأ.. وعندما جرى تصنيف الشعراء حسب العقود، وجدت اسمي في عقد الثمانينات.. قصيدتي الأولى كانت في رثاء شقيقتي التي لم أرها، [إلى شقيقتي (وديعة) التي غمرت طفولتي بالحبّ والجمال.. وأفعمت صباي بالأنغام والرؤى.. ورافقت شبابي بالعزيمة والاختبار.. الى الحياة التي ما انفلتت من دائرة الجسد الضيقة.. واحتجبت عن عيني.. حتى تسربت كالحلم الى أعماقي.. وأصبحت كالطفل، ملازمة لنفسي.. عندما كنا نسير معا.. في عالم من أثير.. وملء نفسينا اكتفاء وجمال ومحبة.. وأول ألم أحسسنا به.. عندما ألقت بنا الأقدار في هذا العالم.. حيث تبتدئ تعاسة الانسان في الرّحم.. وتنتهي في القبر.. وهكذا يا أختاه.. ابتدأت طفولتنا بين الخمائل.. وكانت طفولتنا مفعمة بالغبطة والحبّ الساذج.. وذلك لأنها كانت قريبة العهد.. من ذلك العالم الروحي الذي يدعونه خلودا..]*..
وقصيدتي الثانية كانت في رثاء أخي الذي ذهب للحرب ولم يعد.. وقصيدتي الثالثة والثلاثون لابدّ ستكون في رثاء نفسي.. لكلّ ثمانية مناسبة.. والنجمة السومرية كان لها ثمانية رؤوس.. لذلك لازم النحس سومر حتى قرضهم من الوجود، وصاروا عبرة وذكرى لمن لا يعتبر.. (مثلي).
في الرقم ثمانية وقفت على باب الخوارزمي ورفضتني ثانويات بغداد لعدم ارتيادي الرياضيات الحديثة.. فعطف عليّ ابن رشد وقبلني في مدرسته(*).. مجرد استراحة أو هدنة محارب أو ربما خداع بصري.. فللفور بعد مدرسة ابن رشد وقعت في دراسة الاقتصاد ولحقتني عقدة الرياضيات الحديثة في الجامعة وباللغة الانجليزية هذه المرّة.. رضخت للاقتصاد الرياضي والاحصاء الرياضي والرياضيات المالية وأنا طفران من اسم الاقتصاد.. الاقتصاد عندي هو الاقتصاد المنزلي لا غير.. وماركس* عندي شاعر رومانسي وناثر اجتماعي كلامه حلو.. كان يمكن أن يكون روائيا وأديبا كبيرا، لكنه باع روحه للسياسة التي ما وراها غير النكد ولا يفوز فيها غير الأكروبات.. لكن أحلى ما فيه خصلاته البيض في شعره الأسود.. لأنني أنا أيضا ولدت وفي مقدمة شعري الأسود خصلات بيض.. كانت دالتي بين الناس.. وكذلك كان شعر خالي الذي أورثني لعنة الاقتصاد والكتب.. (ليل يصيح بجانبه نهار).. وكلما كبرت زاد البياض حتى اختفى السواد من رأسي، ونزل على نسيج ثيابي وحياتي، وأنا في عزّ شبابي.. كلّ من يراني يقول لي: (أشنو هاي.. والله انك لسّه زغير.. اصبغ اصبغ.. عندي صبغة مليحة أنا اطرشهه لك!)..
أحاول تجميع كل مشتقات الرقم ثمانية ومضاعفاتها.. وقراءة نحسها السومري على نسيج حياتي لعلّي أنتهي منها قبل العقد الثامن.. فمعدل عمر الانسان هذه الأيام والعياذ بالله.. تجاوز التسعين ويقارب المائة.. (لذة فكَر).. زيادة في النكد والفواتير ومن حظ الرأسمالية.. لو كانت الحياة حلوة وبسيطة.. لبقي الناس يموتون قبل الشيخوخة..
ــــــــــــــــــــــــــ
• (6 يونيو 1982م) حصل اجتياح الجيش الاسرائيلي لجنوب لبنان، واستمر عمليا حتى (31 مايو 1985م)، وكان من نتائجه ابعاد المقاتلين الفلسطينيين الى تونس تحت ضغوط دولية.
• اسحق شامير [1915- 2012م] سياسي وعسكري في دولة اسرائيل، قائد الاجتياح الاسرائيلي في لبنان [1982- 1985م].
• خليل حاوي [31 ديسمبر 1919- 6 يونيو 1982م] شاعر لبناني بارز في القرن العشرين.
• محمود درويش [1941- 2008م] ابرز شاعر فلسطيني في القرن العشرين، ارخت حياته وقصائده لحركة النضال الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني الكولونيالي الامبريالي.
• وديع رشيد الخوري [1898- 1977م] - ص58- 59 - هكذا عرفتهم - جعفر الخليلي- ج7- وزارة الثقافة الاردنية- 1993م).
• اعدادية ابن رشد في بغداد الجديدة. ابن رشد فيلسوف عربي أندلسي [1126- 1198م] يعتبر آخر فلاسفة العرب، نقل توما الأكويني [1225- 1274م] كتبه للاتينية ومنها تم استخلاص فلسفة الاغريق وتداولها في عصر النهضة.
• كارل ماركس [1818- 1883م] مفكر اقتصادي وفيلسوف الماني، يعتبر منظر الاقتصاد السياسي الحديث ومن اعلام علم الاجتماع السياسي. الاب الروحي للاشتراكية العلمية، ووكان له دور رئيس في شق الفكر الغربي الى [راسمالي واشتراكي]، والمجتمع الغربي الى اقلوية مالكة متحكمة واغلبية شعبية غير مالكة/(بروليتاريا). وهو أول من استخدم ديالكتيكه في انتهاء التطور الاقتصادي الصناعي الى سيادة البروليتاريا/(القوة المحركة للتاريخ)، وبدء مرحلة جديدة في التاريخ الانساني تنعدم فيها الملكية والتفاوت والبرقراطية وتسودها مبادئ المساواة والتعاون والمؤاخاة، اي ان الانسان/ المجتمع ييديرون ويحكمون انفسهم بأنفسهم، خارج الاطر التقليدية والمحدثة للحكم والبيرقراطية وتحكم الاقوياء والاغنياء بالضعفاء والفقراء. وما تزال طروحات ماركس وما بعد الماركسية الامل الوحيد لمستقبل الانسان والنبل الانساني غير المادي.


(10)
عندما أفكر الآن في طفولتي.. أبحث عن خيط من خيوط العائلة.. فأنا أنوء تحت أثقال الماضي.. أشعر بأغلاله تحاصرني من داخل وخارج.. تحاصر طرقي ورغباتي وتستبدّ بعاطفتي.. لكني لا أجد ما يسندني فيه.. يسند روحي أو كياني..
ولأني لم أعرف عائلة أبي.. فقد بقيت عائلة والدتي هي التاريخ الوحيد الذي أفكك رموزه.. لكن علاقتي ببيت الجدّ كانت شخصية ونفسيّة تخصّني وحدي.. عايشتها لمفردي.. وأحسست بتفاصيلها دون غيري.. فعلت ذلك رغما عن الجميع.. رغم عن والدتي ووالدي.. ورغما عن الآخرين..
في سنوات المدرسة الأولى.. حيث نتعلم فيها لغة مختلفة عن لغة البيت والعائلة.. ونتعلم ثقافة وتاريخا لا نرتبط به أو يرتبط بأسلافنا حقا.. كانت شخصية جدّي دالة تاريخنا الحقيقي.. التاريخ المرتبط بعائلتنا وتكويننا النفسي والفكري..
لقب (خالدي) الملحق باسمه، كانت أمي تنسبه لخالد ابن الوليد ابن المغيرة المخزومي(*).. وكان جدّي يتحدث باعتداد عن معركة (جالولا) كما لو كان شاهد عيانها.. ومنذ أربعة عشر قرنا يقيم جدّي هنا.. يراقب السفوح الغربية لمرتفعات زاكروس العالية جدّا حتى تكاد تحجب الشمس أحيانا..
وادي العوسج ينحدر مباشرة من وديان زاكروس العميقة.. تتجمع مياهه من ذوبان الثلوج مع ارتفاع سخونة الشمس في أول الربيع.. بداية العام القمري.. كان لابدّ من نثر البذور في أواخر الخريف.. قبل فصل الشتاء.. ليشتدّ الانبات قبل مجيء الأمطار العنيفة.. وقبل موسم السيول الربيعية..
لكن خالد ابن الوليد لم يستأثر باهتمامي.. لم تناسب سيرته عواطفي.. طريقة موته على فراشه مغدورا تنتقص من صيت بطولاته.. كما أن كتب المدرسة لم تتضمن صورة له تقربه من ذهني.. لذلك وجدت ضالتي في صورة صلاح الدين الأيوبي.. رغم أنه لا يدخل في تاريخ مدينتي فعلا..
على حيطان بيتنا القديم.. على سطوح الاسمنت.. وفي صفحات الدفاتر والكتب المدرسية.. انتشرت صورته البطولية كما لو كان يعيش معي.. كنت أرسمه خلال دقائق قليلة.. أبدأ بكوفية الرأس.. أضع كمثرى التاج في وسط جبهته.. بين الحاجبين.. أجمل ما فيه الكوفية والتاج ونظرة عينيه..
لم أقل لجدّي عن صلاح الدين.. ولم يسألني.. لكنه ربما لحظ صوره في كل مكان أكون فيه.. صور كبيرة على سطح الأرض.. سوف تبهت في الشمس أو تمسحها مزنة.. ربما تغسلها جدّتي وهي ترشّ الحديقة بمياه الإسالة.. وكنت أعاود رسمها مرّة بعد مرّة.. حتى تركنا تلك المدينة..
هل كان خالد ابن الوليد عنيدا.. نعم كان صارما.. جدّي كان كذلك.. لكنه كان عنيدا.. ربما متمردا أيضا.. ذلك التمرد الذي ورثناه جميعا.. أو سرى في نسغ عروقا رغما عنا.. لم يكن فينا اثنان يتفقان في رأي.. لابدّ من خلاف واختلاف.. اختلاف في شخص القائل وليس في القول أو الفكرة..
الايجاب عند الكلام دالة خضوع.. خضوع السامع للمتكلم.. لذلك يكون الخلاف دالة الحصانة والاناركية.. ولأجل الاختلاف لا بدّ من نثر الشكّ وادعاء عدم القناعة.. الاجتهاد في الجدل لتغيير الفكرة وحرفها عن سياقها.. أو فصلها عن شخص المتكلم ونسبتها لشخصية تاريخية غير راهنية..
الشك والجدل والمناقشة والاجتهاد والتهميش والاتهام.. كلها قطع غيار للكناية عن فلسفة التمرد.. الرفض القديم.. أي شيء ضدّ القبول والخضوع والانسجام مع منطق الواقع المفروض قهرا.. الايجاب عجز.. القبول ضعف.. الاتباع مذلة.. الصمت سيّد الاحكام..
الصمت حكمة جدّي التي ورثناها في نسغ العائلة.. صمت طويل وعميق امتدّ عبر ثلاثة أجيال.. أمي هي الوحيدة التي كانت تقول خوريْات.. وأنا أحاول كتابتها وحفظها منها.. لكنني لا أعرف كلّ الخوريْات.. ولا أذكر الآن كلّ ما أعرفه..
الصمت كان سلاح جدّي في وجه الأجانب الذين دخلوا المدينة بالاسلحة والكاكي.. أنشأوا معسكرا لهم في أعالي نهر جالولا.. وصارت روح غريبة تتنفس في فضائها.. ترك جدّي الزراعة وتخلى عن الماشية وانقطع عن حلقة الذكر التي ارتبط بها منذ سني يفاعته..
نشأت أحياء جديدة تحت عناوين حي الضباط وحي ضباط الصف، حي موظفي السكك وحي عمال السكك.. بيوت يجمعها اللون الأصفر والبلوكات المستقيمية والمتقابلة.. بيوت الوافدين المبنية من الطابوق الأصفر كانت أفضل من بيوت الأهلين الطينية أو الحجرية..
في بيت جدّي القديم كانت قطع (الآجر) العريضة هي مادة الحيطان العريضة جدا.. ومادة تبليط الأرضية القديمة .. بعد دخول الجيش المدينة تغيرت المعالم والمعاملات.. انتشرت معامل الطابوق والاسمنت.. وجرى صبّ أرضية البيت بالاسمنت فوق قطع الآجر العثماني.. كل ما بقي من تاريخ جدّي هو حديقة صغيرة مربعة المساحة (2× 2) ودجاجتان تتسلى بهما جدّتي..
الحيطان بقيت عريضة.. الأبواب استبدلت بالحديد.. وطليت بلون أخضر أو أزرق.. البيت القديم: حجرة وطارمة .. بقي هو أصل البيت.. أضيفت له حجرة عارضة كبيرة وجميلة للضيوف اسمها -الديوان-.. لم يزره أحد سوى خالي الأصغر وصديقه..
بقي مكان جدّي في حجرته القديمة حيث ينام ليلا.. وفرشته في الطارمة خلال النهار.. الشمس تشرق على الطارمة مقابل البيت القديم.. وبعد الظهر تبدأ بالميلان والانسحاب.. في مكان فرشة جدّي على الحائط كان خالي وصديقه يعلقان لافتات الخطّ والشعارات التي يملآنها في المناسبات..
والمناسبات كانت كثيرة يومها.. الأخوة العربية الكردية.. الوحدة البرزانية الطالبانية(*).. المنظمات الجماهيرية ترفع برقيات الولاء للحكومة.. عيد الاستقلال وعيد الثورة وعيد المولد.. عندما يكون العمل كثيرا.. تمتلئ كل حيطان البيت المقابلة للشمس بصور اللافتات.. أنا نفسي صرت أساعدهم في ملء الخطوط..
عندما فكر خالي وصديقه في تحويل الخط إلى مهنة دائمة.. ظهر في السوق محل جديد يحمل عنوان (خط- رسم- زخرفة: مستعدون لخط اللافتات والبوسترات لمختلف المناسبات الوطنية والعائلية).. كان موقع المحل قريبا من دكان جدّي.. هو الركن تماما والأول عند الخروج من الزقاق الضيق.. رشيد كان اسم الخطاط..
انصرف خالي الأصغر لاكمال دراسته المسائية وحصل على وظيفة في بغداد ولم يعد للمدينة.. بدأت العائلة تترك المدينة ولم يبق غير جدّي وجدّتي.. الأجانب في المدينة صاروا أكثر من الأهلين.. لغات جديدة دخلت المدينة.. انتشرت المدارس وزادت أعداد الصبيان والبنات الذاهبين يوميا للمدارس..
أفراد الجيش وموظفي الحكومة هم مجتمع السوق وحركة التبضع وسكان المقاهي.. زادت المقاهي.. بدأ ظهور مطاعم.. زاد عدد الأفران.. ظهرت مهن ودكاكين جديدة.. مع زيادة المهاجرين.. بدأ بعض الأهلين يغادر المدينة الى العاصمة والمدن الكبيرة..
هكذا انتهت حياة جدّي.. وصلت نهايتها غير السارّة.. ذهبت الأرض.. ذهبت البيوت.. توزعت العائلة.. تغربت المدينة.. والأخلاق والطبائع تبدلت.. عندما ذهب لاستلام راتبه التقاعدي مثل أول كل شهر.. اصيب بجلطة في الطريق.. نقل إلى المستشفى ولم يعد ثانية إلى مدينته.. مات في مدينة أخرى..
لم يمت جدّي في فراشه ميتة خالد ابن الوليد.. ولم تكن ثمة معركة يقاتل فيها مع انتشار التمدن والاستيطان.. لكنه مات غريبا وهو يجول على قدميه.. في مدينة غريبة.. انتقل من الألفة إلى الغربة.. ومن الغربة بين أهله ومدينته.. إلى غربة بين الغرباء ومدن الغربة..
بيت جدّي القديم والكبير تحول إلى ذكرى.. قبل أن يتحول إلى أنقاض.. لم يحظ باهتمام أو صيانة أو متابعة.. ذلك الذي كان – ربما- أول بيت يبنى على هضبة وادي العوسج.. ولا أحد من قدماء المدينة يذكر شيئا عن البيت أو صاحبه.. ربما لم يبق أحد من القدماء هناك.. المدن أيضا تغير جلودها مع الوقت.. والبشر كذلك..!
ــــــــــــــــــــــــــ
• الوليد بن المغيرة المخزومي [557- 622م] من اعلام العرب قبل الاسلام، والد القائد والصحابي خالد بن الوليد.
• خالد بن الوليد [592- 642م] قائد عربي اسلامي من الحجاز، من الطبقة الأولى من أمراء الجيش في صدر الاسلام، انجز فتوحات العراق والشام ومعظم أسيا.
• البرزانية والطالبانية: تعبير شائع في الاشارة لاتباع اكبر حزبين كرديين في العراق، أولهما الحزب الدمقراطي الكردستاني بقيادة الملا مصطفى البارزاني [1903- 1979م]/(يعود تاسيسه لعام 1945م)، وثانيهما الاتحاد الوطني الكردستاني/(تأسس 1975م) بقيادة جلال الطالباني [1933- 2017م]، رئيس الدولة العراقية بعد خلع نظام البعث [2005- 2014م].


(11)
ولدتني أمي في عزّ الظهر.. كعصفور أسقط من شجر للذات وحيدا.. كنت الرابع في جدول ترتيب الأخوة.. لكن الأول مات شقيا فتقدمت.. فوق الحائط صورة ابرهة الحجاج*.. وفوق الوجه دموع.. لا تمسحها.. أتحسس قاع الحزن اللازق في حبلي السرّي المقطوع بسكين صدئة.. والمدفون بتربة منزلنا في جالولا تحت الشجرة.. قالت أمي..
- غدا أخذك إلى السجن.. سيفرح أبوك حين يراك..
- لماذا لا يأتي هو لأفرح حين أراه..
سحّت دمعتها الفيّاضة قالت..
- يا ويلي.. زمن ملعون.. ممنوع أن يخرج..
- أبدا؟..
- حتى يأتي زمن الخير..
- فلماذا لم تنتظري زمن الخير حتى تلديني يا أمي.. وأبي حاضر..
وضعت بقجتها البلدية فوق الزند ووضعتني فوق البقجة.. عصفورا.. يتعلم كيف يطير.. دفعوني في نفق القلّق*.. كان الضوء قليلا.. لكني.. تحسست الأعضاء البشرية فتمددت.. رأسي في الأرض.. واطرافي تتوزع بين الأجساد.. قالت أمي..
- كلّ يقول يا روحي.. إلا محمد يوم القيامة.. فهو يقول يا أمتي!..
- لماذا ولدتيني يا أمي في يوم القيامة..
- حشر مع الناس عيد..
فتسلل فرح في قلبي..
- اني لست وحيد..
قالت..
- لا تلعب بالنار..
قلت..
- لست أدخن يا أمي..
قالت..
- لا تتدخل فيما لا يعنيك.. فهذا الغول عنيد..
- هذا الغول عنيد..
وأشارت نحو الحائط!.
ـــــــــــ
• الحجاج ابن يوسف ابن الحكم ابن عقيل الثقفي [661- 714م] فقيه وسياسي وقائد عسكري من الجيل الثاني في الحكم العربي، من مواليد الحجاز انتقل للشام وخدم الحكم الاموي، وحكم العراق في مفاصل تاريخية حرجة. وفي الرواية تداخل بين شخصية ابرهة النجاشي [] من ملوك الحبشة الذي امتد| نفوذه شرقي البحر الاحمر، والمشهور ذكره في قصة (الفيل).
• القلّق: بضم القاف وتشديد اللام: تركية معربة بمعنى (الحبس) ولفظتها التركية (قلّجخانه). (23 اكتوبر 1998م)


(12)
منذ صغري وأنا أحبّ كتب السير الذاتية والشخصية.. أميل إلى الشخصيات التي تعتذّ بذاتها وتستمدّ منها قوتها لعمل شيء عظيم.. مثل تغيير العالم أو انقاذ الناس.. وكلما اطلعت على واحدة.. أشعر بأشياء مشتركة بيننا.. أشياء منهم فيّ.. وأشياء مني فيهم..
حين أتعرف اليهم أعيش مقاطع من حياتهم.. أشعر بظروف زمنهم وطبيعة العلاقات والأحداث التي سادت يومئذ.. مع الوقت صار لديّ شعور أو اعتقاد أو قناعة، أنني كنت أعيش قبل أن أولد.. قبل أن أتخذ هذه الهيئة وهذا الاسم وهذه العائلة.. أشعر أنني سبارتكوس داخل أغلال وهمية..
هذا الشعور يجعلني أعيش غريبا وسط عائلتي التي هي ليست حتما عائلتي.. ربما كانت عائلة غلط.. مثل بطاقة سفر غلط.. وقد تكون البطاقة صحيحة.. ولكنني في القطار أو الاتجاه الغلط.. ربما نزلت في المحطة الغلط.. ولذلك لا أشعر بتوافق مع المدينة المولود فيها.. ولا مع العائلة المولود فيها.. وكلمة (أب أو أم) لا تكاد تخرج من شفاهي بسهولة.. ولا أشعر براحة أو كيمياء عندما أنطقها.. أو أسمع أحدهما يدعوني..
تركت بيت أمي وعشت في بيت جدّي.. عندما عدت لبيت أمي حاولت الانتحار ثلاث مرات.. حاولت الذهاب للوظيفة للاعتماد على نفسي والتخلص من جوّ البيت.. أخيرا ذهبت للجامعة في أبعد مدينة في البلاد.. بعدما حاولت وفشلت طبعا.. في السفر للخارج للدراسة..
عندما حصلت على فرصة سفر.. كان الوقت متأخرا.. وانتهت فترة التقديم.. يومها كانت احد ثلاث مدن.. المنامة أو الاسكندرية أو ليفربول.. بعض الزملاء التحقوا بها ورأيتهم في زياراتهم للكلية لاحقا.. شعرت بألفة في المدينة التي أدرس فيها ولكنني لم أجد أهلا.. عندما أذهب مع أصدقاء الكلية وأبيت في بيوتهم.. أجدهم طيبين.. ولكن في داخلي غربة.. كنت بحاجة إلى عائلة.. جوّ عائلي.. شيء أكثر وأكبر وأعمق من عائلة.. لم أجده..
نصف مدة خدمتي العسكرية عشتها في تلك المدينة.. وكان في بالي.. بعد الجيش سأعيش هناك.. ساعمل هناك.. ستكون لي عائلة هناك.. في فترة الحرب تعرضت المدينة للدمار.. نزلت أسعار البيوت في المدينة.. كثيرون غادروها.. لم يخطر لي شراء بيت هناك يومها.. مجرد بيت لاحتمال ما.. كان ذلك سينفعني لاحقا..
لكنني ذهبت أبعد.. غادرت البلاد كلّها.. بغير تخطيط.. ومن غير خاطر سابق.. في داخلي كانت الطرق مفتوحة.. والجغرافيا بلا حدود.. كل شارع يسلمني للتالي.. وكل مدينة لأخرى.. وكل بلد لغيره.. وبعد ربع قرن.. لم أجد مدينتي ولا بلدي ولا بيتي ولا عائلتي الحقيقية.. مجرد روح هائمة وأجساد أثيرية حائمة.. لكنها بلا أحد.. ليست من هذا العالم.. ولا هي في عالم آخر..
أشعر أنني حيّ ميت.. موجود في هذا العالم.. وأعيش في العالم الآخر.. أتعامل مع أهل هذا العالم ولا أشعر بالانتساب إليهم.. لكنني أشعر بانتماء لعالم آخر أعيشه خلال الحلم.. أصدقائي من الموتى من كلّ الأزمنة.. ومن الناس البعيدين ولكنهم في هذا العالم.. أعيش معهم أكثر من الحقيقة.. وعندما أصحو أشعر بالغربة..
في العالم الآخر لا توجد دول ولا مدن ولا بيوت ولا عوائل ولا لغات.. يوجد فضاء لا نهائي وجغرافيا مفتوحة وتواصل روحي ونفسي وجسدي.. نتحدث ولا نتحدث.. نتفاهم ولا نتكلم.. نشعر ونريد أن نكون معا.. ونكون عندما نريد..
كانت أمي تقول.. الدم في الحلم يفسد الرؤية.. في عالم الحلم لا يوجد صوت ولا تناول ماء ولا طعام ولا تعاطي الجنس.. ولكن كل ذلك لا ينطبق عندي.. نأكل ونشرب ونتحرك وننام ونصرخ ونبكي وكلّ شيء.. أعرف الناس في الحلم بأسمائهم.. وأعرف النساء بأسمائهن وهيئاتهن والكلمات التي يقلنها خلال ذلك.. بعض الكلمات بلغات غريبة.. لكن في الحلم كلّ اللغات مفهومة.. يوغسلافية وآرامية وألمانية وأنجليزية..
أتذكر الأحداث والأرقام.. ما يتعلق بماض أو مقبل.. أرى أناسا لا تربطني صلة بهم.. وأحداثا ستقع لهم لا شأن لي بها.. لكني أراها في الحلم.. ولا أدري لماذا أراها.. لا علاقة لي بذلك ولا ينفعني في شيء.. هذا أمر محير.. لماذا اعرف أشياء لا تخصني ولا تنفعني..
قبل عشر سنوات ألغيت فكرة الانتحار من حياتي.. لأن موتي ليس بيدي.. حاولت أصعب الطرق وفشلت.. بل لم يحدث أي شيء.. وما زلت على استعداد لتناول سطل سمّ.. وكلي ثقة بعدم تأثيره فيّ.. أمر تعس فعلا عندما لا يستطيع المرء أن يمتلك قرار موته بيده.. هذا قاله أحد الفلاسفة أيضا.. أننا نولد رغما عنا.. لكنا نستطيع انهاء حياتنا بيدنا.. هذا الاحتمال أيضا لا ينطبق عليّ..
عندما راقبت بعض شخصيات عائلتنا الأقدم مني.. وجدت أشياء مشتركة كثيرة منهم في حياتي.. منذ الطفولة وأنا اجترّ أحداث ومواقف تخصّ حياتهم.. خيبات عاشوها وتتكرر عندي.. طموحات وأحلام تخصهم تلبست في كياني.. أشياء قالوها وسمعتها منهم.. تحوّلت إلى قدر في حياتي.. لا أستطيع الخروج منه أو تغييره..
هل أنا هم.. أم هم أنا.. هل أنا قطع غيار مستعارة من هذا وذاك تم تجميعها وتلبيسها في شخص يحمل اسمي.. حتى الأمراض التي أصابتهم.. أصابتني.. كلّ ما عشته.. بكلمة واحدة.. لا يخصني.. يخص الآخرين.. سواء عرفتهم أو لم أعرفهم للآن.. أين هي حياتي.. أين أنا.. بلغت الستين وما زلت لم أكن..
مثل كافل خسار أدفع فواتير غيري(*).. صرت ضحية وفريسة أحقاد وثارات وخلافات لا تخصني.. أكثر من امرأة زعمت أنني زوجها.. أكثر من امرأة وفتاة طلبتني للزواج بالحاح وأنا لا أعرفها ولا أعرف من أين ظهرت أو عرفتني.. أكثر من طفل يضحك مني ويمدّ ذراعه نحوي ويقول لي بابا.. وأنظر إلى أمه التي تبتسم.. ولا أعرفها أو أذكر انني رأيتها في حلم..
ناس لا أعرفهم يحيونني بحرارة.. ناس أعرفم لا يهتمون بي.. أشخاص بالتلفون يسألون: ألست فلان وكنت مع فلان ونحن كنا سوية.. اسمي فلان هل تعرفني.. ذاكرتي لا تحتمل كلّ ما يحدث.. ولا نجاة لي إلا في الحلم.. ولكن حتى الحلم.. فيه أشياء غريبة..
الطفل يحتاج أما وعائلة ليشعر بطمأنينة.. يمنحونه اسما ويحمل اسمهم.. ولكن ماذا لو كانت أمه غريبة عنه.. ماذا عن الشعور.. الشعور لا يتصل بالبيولوجيا وجينات الوراثة.. أحدهم قال ان لا وعي المرء فيه معلومات قديمة لا تتصل به وبعائلته.. كيف يولد طفل ذكي في عائلة شبه متخلفة.. أو طفل مشوّه في عائلة سليمة..
أول وصولي إلى النمسا وتعلمي لغتهم.. وقع في يدي كتاب يحمل صورة شخص يشبه يلتسن.. لم يكن يلتسن يومها قد ظهر في الأخبار ولا الاتحاد السوفيتي كان مرشحا للانهيار.. المهم ان عنوان الكتاب يقول: الحياة تبدأ في الستين..
يومها كان عمري بالكاد يبلغ نصف الستين.. وكان مجرد الخاطر مضحكا.. حياة تبدأ في الستين.. الستين هي موعد الموت وتصفية حسابات العالم وترقين سجلات القيد.. الآن لا يبدو ذلك مضحكا.. رغم أنه لم يحدث.. ولا أعرف كيف سيحدث ومتى وأين..
الحياة التي تحدث غربية أم شرقية.. هناك أم هناك.. وما معنى الحياة.. هل هي اللذة.. العائلة.. الزواج.. العمل.. أم الجاه.. لا اعرف ما المقصود بالحياة الجديدة.. لم أقرا ذلك الكتاب الذي ما زال مركونا في المكتبة.. ولا أعتقد انني سأقرأه.. وإذا قرأته فلن أقتنع به.. ولكن القراءة والقناعة الشخصية لا تتوقف على شخصي.. فالأشياء تحدث رغما عني وعن كلّ شيء..
عندما قرأت في التوراة وصف حياة ابراهيم وتغرّبه في أرض الأحياء.. لمستني العبارة.. لمستني مفردة (الغربة) التي تعيش في أعماقي.. وعندما مات ودفن مع آبائه في أرض غربتهم.. شعرت أنني أعرف هؤلاء الناس.. أعرفهم بطريقة ما ومن زمن ما..
عندما قرأت عن فولتير الفرنسي* وكان له أخ يكبره متدين ويكتب الشعر أيضا.. تذكرت أخي الذي يكبرني وقد تدين لاحقا وكان فنانا مسرحيا.. الاهتمامات كانت متحركة.. ففولتير كان مسرحيا وأخوه الأكبر كان شاعرا.. وأنا كنت شاعرا.. وأخي الأكبر مسرحيا وقد هجره وتدين.. وقد قتله تدينه كما قتل (ارماند)..
خشيتي المريعة أن تطول حياتي مثل فولتير.. أم فولتير ماتت عند ولادته.. أمي لم تمت، انا متّ.. لكنني احتييت ثانية.. الداية توقعت أن لا يعيش الطفل فولتير لليوم التالي.. لكن فولتير عاش أربعة وثمانين عاما.. عاش مناكدا سلطات زمانه.. نصيرا للفقراء وداعية للحرية والمساواة..
لم يصادق أحدا.. لكن الملوك والأغنياء والفلاسفة كاتبوه وسعوا اليه.. في زمنه وبسببه غير المباشر تهاوت عروش وسقطت أنظمة وتعرض للمطاردة والنفي من بلده.. وعاش سنيه الأخيرة في بيت قديم اشتراه في سويسره عند الحدود الفرنسية.. لكنه في العام الأخير وهو يحس باقتراب أجله.. ذهب ليزور صديقا له في باريس ومات هناك.. مات في بلده.. وسط حفاوة شعبه..
كلّ تلك المشخصات وظلالها حصلت معي وتنطبق إلى حدّ ما.. وأنا أقيم في بيت قديم اشتريته لدرء مخاطر الشيخوخة ونكد الزمان.. أعمل في الحديقة وأقطع ما فيها من حشائش وأشجار.. عكس فولتير الذي زرع أربعة آلاف شجرة في بيته في فيرني.. ودعاه (Les Delices).. يبدو أننا الاثنان نشعر بتحسن في الصحة..
ربما زرع جدّي أربعة آلاف شجرة بدلا مني.. ولكن لا أحد في عائلتنا بلغ السبعين.. وأنا لا أريد أن أستثنى في هذا.. بل أنني أكثر شوقا للخروج من خيمة الجسد.. فولتير عاش يكتب ويفكر ويكافح كلّ حياته.. وقد جمعت أعماله في تسعة وتسعين مجلدا.. وهو أكبر رقم قياسي لانتاج فكري فردي..
أما أنا فلا أدخل أية لائحة أرقام قياسية.. وأعاني من مشاكل في الطبع.. وليست لي سكرتاريا أو مديرة منزل تقوم على خدمتي.. وبالكاد تصلني رسالة بريدية.. ورغم تفكيري في العودة إلى باريس نهرين.. فلا أعرف أن ساعتي ستحين هناك.. وأن نصف الجماهير التي خرجت في جنازة فولتير ستتتبع جنازتي..
يهمّني اكمال هذه الرواية.. قول كلّ ما يمكن قوله أو ينبغي.. لتكون شهادة اعتراف ووصية لشخص عاش أكثر من حياة ومات بلا أحد.. شهادتي أنني لم أخسر ذاتي.. ولم أبدل مبادئي ولا أخلاقي.. ولا أنفقت فكري أو جسدي أو مالي في خدمة حكومة أو جماعة.. لكني أيضا لم أنتفع من الدنيا ولا مما تعلمته في حياتي من شيء.. شهادتي وثقافتي وعلاقاتي لم تسعف معيشتي..
تعجبني فكرة ايليا (*) مع أرملة صرفه.. ولذلك أحتفظ بصلة جيدة مع ايليا ومع الطبيعة.. ربما حصل في أيامه ما حصل في ايامنا من انقلاب عجلات الزمان التي جعلت غوته يحمد ربّه على حدوث ذلك وهو في شيخوخته.. راثيا للأجيال التي ستعيش كلّ حياتها في وضع مقلوب..
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
• الاشارة هنا الى سفر اشعياء بن اموص (أش53: 5)، المتعلقة بالحاجة الدورية للانسان/(الجماعة البشرية) لشخص يحمل على عاتقه/(مسؤوليته) تبعات وفواتير أخطاء وخطايا الاخرين، فيكون قربانا وأضحية عن المجموعة، بدل ان تتعرض الجماعة لعقوبة/ كارثة جماعية، لتنفيذ مبدأ العدل/ المنطق الوجودي/ (يوصف دينيا بالشريعة، وفي التعليم اليهمسيحي: (اجرة الخطية موت)و (لا كفارة بغير دم)). والعامة تتداولها بطريقة النذور والصدقات، لكن تأثيرها يتجاوز المادة والحيوان الى حياة الانسان، كما تمثلت في قول قيافا ريس السنهدريم(يو11: 50): "خير لنا ان يموت انسان واحد عن الشعب ولا تهلك الامة كلها!". وقد تم تنفيذ المبدأ في شخص/ جسد يسوع الطاهر البار. ومن أمثلته السابقة تاريخيا/ ميثولوجيا/ هي قصة (عروس النيل)حيث يتم اختيار الفتاة الباكر توا والاجمل لحمل خطايا الشعب واسترضاء غضب النيل الثائر/ ومنه كذلك/ ثيران عزازيل.
• فولتير [1694- 1778م] فيلسوف ومسرحي فرنسي، طبع القرن الثامن عشر بفلسفته وأفكاره.
• غوته [1749- 1832م] شاعر وفيلسوف الماني، تقول عبارته: [I thank God, that I am not young in so thorougly finished a world.].
• ايليا التشبي [875- 848 ق. م.]، هو باكورة انبياء عصر ما بعد القضاة في التاريخ العبراني، رفض الحكم الملكي لآخاب بن عمري بن بعشا[874- 853 ق. م.] وزوجته اللبنانية ايزابيل/(اميرة صور). وتتماهي/(تتناص) سيرة ايليا مع يوحنا المعمدان في الانجيل (مت11: 10- 14).


(13)
جاءت جدّتي وجلست على (قنفه) بجوار الحائط في يمين الباحة الكبيرة.. وعلى الفور اتجهت حركة الكامره باتجاهها.. كما يحصل في الحفاوة بكلّ زائر أو غائب يعود.. أنا كنت جالسا في عمق الدار.. الضلع الآخر من الباحة المربعة .. جدّتي هي هي.. كما كانت دائما.. لا تكاد تشعر بوجودها.. لا تكاد تقول أو تطلب شيئا.. ربما لا تكاد تنطق كلمات التحية والوداع مثل الناس..
ورغم حرارة الصيف القائظة فقد نزل مطر مفاجئ.. دوش سريع كما يقال.. بقيت جدّتي جالسة كما هي تحت المطر.. لكن اهتمامها صار يتركز في عباءتها اللماعة الجديدة.. في تلك اللحظة فقط انتبهت إلى عباءتها.. لولا المطر لما فطن أحد أنها ترتدي عباءة جديدة مقشبة بخيوط حرير وذهب.. مثل أميرة امبراطورية قديمة..
عندما رأيتها في حيرتها تلك.. سارعت لمساعدتها.. على الفور توقف المطر.. وبدأنا في تنشيف العباءة من البلل.. طلبت منها الانتقال إلى جانبي.. حيث تفصلنا سقيفة واسعة عن السماء..
- عندما تصلين إلى مكان.. أول شيء تفعلينه هو توظيب العباءة ولفها جيدا قبل الجلوس.. ذلك يضمن نظافتها وعدم تعرضها لماء أو ضرر..
هذا ما قلته لها.. هي لم ترد.. كانت سعيدة بتنشيف عباءتها وكونها موضع عناية الآن..
عباءة جدّتي هي أهم شيء في حياتها.. وخصوصا عباءة القشيب هذه.. ولها مثل مثل كلّ نساء زمانها من ربات البيوت ثلاثة أصناف من العباءات.. عباءة منزلية يومية.. ترتديها داخل البيت.. تلتف بها.. تتغطى بها عند النوم.. تفرشها على الأرض وتجلس عليها حين تلتقي جاراتها.. وتهرع بها إلى الجيران وقضاء الأشغال اليومية السريعة .. فهي أقرب إليها من حبل الوريد.. هذه العباءة تجدها في كلّ مكان.. على الأرض.. في المطبخ.. في الباحة.. على الدرج.. قرب الباب.. وهي بالمناسبة قد لا تكون وحيدة.. فيصدف أن تشتري عباءة منزلية جديدة أو تصلها على سبيل الهدية.. وتستمرّ محتفظة بالأقدم منها..
كما أن العباءة الثانية التي تسخدمها لزيارات عادية عندما يمضي عليها الزمن ويبهت لونها.. ينزل مستواها للاستعمال اليومي.. خاصة إذا اختفت العباءة الأقدم من أمام عينيها ذات حين.. الزيارات العادية هي زيارات الأقارب في محيط العائلة والجيران.. أو زيارات الواجب والمناسبات أو مراجعة مريض وكذلك الزيارات المتبادلة.. وهي على العموم الأكثر شيوعا واستخداما..
أما الزيارات التي تقتضي ارتداء أفضل الثياب والحلي الغالية إذا توفرت فهي زيارات نادرة شبه سنوية.. وقد لا تحصل غير مرات قليلة خلال أعوام.. زيارة مدينة ثانية.. شخص تراه مرة أو مرّتين في العمر.. زيجة ذات مستوى.. مناسبة لا تتكرّر.. ولا تحصل غير مرّات قليلة في العمر..
وبينما تخيط المرأة عديد عباءات النوع الثاني.. فتكون محظوظة لو امتلكت ثلاث عباءات قشيب في كلّ حياتها.. وأين هي المناسبات والعلاقات النادرة في ذلك الزمان.. عندما يولد أحدهم ويتزوج ويموت دون مغادرة حدود المدينة أو الخروج من محيط العائلة والقرابة..
لهذا كانت زيارتها اليوم بعباءة القشيب نادرة جدّا ومن مستوى عال.. كلّ جدّتي تبدو محتفية ومتألقة اليوم على غير المعتاد.. عندما يكبر المرء.. ويتحرّر من مسؤولية العائلة والخدمة والواجبات يتحوّل إلى شخص فوق العادة.. يتحول إلى موضع عناية وتوقير.. يقوم بزيارات حفاوة وافتقاد مرة أو مرّتين في عام لأحد ما.. وربما كانت هذه هي الأولى من نوعها.. زيارة غير عادية وعلى مستوى خاص.. كانت أميرة سومرية حقا.. كما رأينا صورتها في كتب المدرسة..
عندما جلست إلى جانبي.. وتأكدت من توظيب عباءتها بخير وسلام.. نادت أحد الأطفال.. وأخرجت قطعة نقد ورقية بيدها ليشتري لها ماء.. التفت إليها وقلت ان الماء موجود.. ويمكنها الحصول على حاجتها مني.. كنت ما أزال أحتفظ بصندوق من علب الماء الجاهز.. سحبت يدها ولم تعترض.. هذا يعني أنها تشعر بالعطش.. أو أنها ستبقى فترة أطول..
جدّتي هي بنت عمّ والدي من جهة النسب.. أي أنها بنت عمّي أيضا.. كانت صغيرة جدّا عندما تزوّجت من جدّي .. صبية في أول عمرها.. وأنا لا أجد فارقا كبيرا بين عمرها وعمر والدتي.. وهذا ينعكس على العلاقة بينهما التي تخلو من احترام أو عاطفة.. علاقة ندّية محكومة بالتحدي والتنافر..
لم تتقبل والدتي أي رأي أو مشورة من جدّتي.. ورغم محاولات جدّتي المشاركة بكلمة أو عاطفة عائلية.. كانت والدتي ترفع حائطا عاليا في وجهها.. وعندما تبكي جدّتي وتتألم من قسوة أمي.. وتغادرنا أحيانا بغير تأخير.. لا يظهر أي تأثر أو عاطفة من جانب أمي.. بل أنها تزداد قسوة.. فزيارتها مفروضة فرضا ولم تبعث في طلبها.. هل كانت تفعل ذلك لأنها بنت عمّ والدي.. الذي هو زوجها الذي لا تنسجم معه.. أم ثمة شيء آخر.. أولئك الناس لا يتكلمون كثيرا ويدفنون أسرارهم حتى الموت..
أمي هي البكر بالنسبة لجدّي.. وشقيقها التالي يصغرها بعام أو عامين.. لكنه يعاملها باحترام كبير.. باعتبارها أخته الكبرى.. وأمي مثل كثير من أقران زمانها تحبّ أخوتها فوق كلّ شيء في حياتها.. لذلك يبدو الزوج طارئا في حياتها.. طارئا مثل فريضة اجتماعية غير مرغوبة..
بين عمر والدتي وخالي الأكبر.. وعمر شقيقتها والخالين المتوسط والأصغر ما يزيد عن عقد إلى عقدين من السنين.. بل أن أمي تبدو في سنّ الوالدة لخالتي وخالي الأصغر.. وفيما كانت تحبّ خالي الأصغر كثيرا.. كانت تغار من خالتي وتعتبرها ندّا لها..
في حياة والدتي قبل زواجها حقبة، كانت خلالها ذات سطوة ومكانة عائلية واجتماعية.. كانت بكر عائلتها وكانت تعمل في الخياطة في شبابها.. بما جعلها مركز نساء المحلة والمدينة.. وقد التقيت بضعة من أقران صباها الفائت ذلك.. وهن يمتدحنها مديحا بلا مثيل.. يمتدحنها في كلّ شيء.. بما فيه جمالها وحكمتها ومعارفها وشخصيتها وشعرها الطويل الذي يصل أسفل الظهر.. لا أدري أهمية الشعر والظفائر الطويلة عند نساء أيام زمان..
أكثرهن مديحا وتعلقا بوالدتي كانت (غزالة) التي تزوجت شخصا غريبا يومها.. لكنه اغتنى وصار مقاولا كبيرا.. أول وأكبر مقاول في تلك المدينة. بسببها كانت أمي تلوم حظها العاثر الذي هوى بها من عليين ورفع سواها إلى عليين..
عزاء والدتي الوحيد هو غناؤها الحزين ودموعها وشكواها من الزمان.. وعندما توفي جدّي بقيت جدّتي وحيدة.. تقضي بضعة أشهر في بيت خالي الأكبر.. ثم تأتي عندنا لبضعة أشهر.. وماذا كانت تفعل.. تدخن.. وتدخن فقط.. لا تتكلم.. لا تفعل شيئا.. تبقى صامتة.. تدخن..
نادرا ما تجد أحدا من الأطفال تكلّمه أو يقول لها كلمة.. ضعف نظرها كثيرا.. وهي الوحيدة التي كانت ترتدي نظارة في العائلة.. أول من ارتدى نظارة لتقوية نظرها من الجيل الأول.. لكنها فقدت نظرها في النهاية.. لا ترى غير شبح أو بصيص تستدل به في حركتها القليلة..
وعندما ماتت.. كان ذلك في بيتنا أيضا.. كانت مثل نسمة.. نعم مثل نسمة.. تمرّ فلا يشعر بها أحد.. لا تؤذي.. لا تتسلط.. لا تتدخل في شيء ولا حتى بكلمة.. كانت أرقى وعيا بكثير من أبناء هذا الزمان.. الذي يتكلمون في كلّ شيء.. ولا يهتمون بالمهم والضروري.. وما يتركونهم من جراح في غيرهم..
في الموت فقط تبرأ النفوس.. عند الموت تنسحب الكراهة وفواتير الثأر.. إذا لم تجد أحدا آخر من نفس الجيل أو العقب تنتقل إليه.. ربّما تغيّرت مشاعر والدتي قليلا بعدها تجاه والدي.. فقد صار كلّ منهما الهدف اللاحق المرشح للموت الآن..
إذا كان الموت مخيفا أو لاغيا لكلّ شيء سواه.. فلماذا تحتقن الحياة بكل المطامح والمطامع والمشاعر والأحقاد.. أليس من الحكمة عدم تحميل الحياة فوق طاقتها.. ليكون غياب الانسان سهلا وخفيفا على نفسه وغيره.. كم من الكراهة تجعل الناس يتمنون موت فلان أو علان.. وكم يتكرر ذلك الشعور ويكون متبادلا عند الآخرين تجاهه أيضا.. فنحن نعيش في بحر كراهة.. وننتظر الموت لتحريرنا من أنفسنا ومن الآخرين..
قال أحد الوعاظ مرة.. عليك أن تحبّ الشخص الواقف بجنبك.. أن تقبله كما هو.. لأنك ستعيش معه أبديتك في العالم الآخر.. فإذا كنت لا تحتمله في سني عمرك القليلة.. ستكون مجبرا على احتماله طيلة الأبدية.. لكن الأرض يا سيّد.. الأرض تفيض بالكراهة والشرور أكثر وأكثر مع الأيام.. والانسان يفرغ مشاعره وخيبته في أخيه الإنسان.. فماذا سيحصل تحت التراب..
هنا في الغرب يقولون ان المشاعر والضمير والعقل أمور دنيوية تتعلق بالحياة.. وستموت كلّها وتضمحلّ وتختفي .. ويتحول كلّ كيان المرء إلى تراب ودود.. لن يواجه عذابا ولا حسابا بعد الموت.. لن يكون ثمة ضمير أو وخزة أو ندم.. الغرب اخترع كلّ شيء يسعد به نفسه في الحياة والموت.. ولم يتورع أن ينسب نفسه للحيوان والتراب ليشبع غرائزه التدميرية وموت الحكمة عنده..
لو كان لذلك صحة.. كيف يقول الانسان بعد الموت: يا ليتني كنت ترابا.. فالتراب لا يتمنى أن يكون ترابا.. كما هو في ذاته.. ثمة شيء آخر في الانسان سيصرخ.. ويصرخ.. ويهرب منه الناس في الحياة.. ولن يجدوا منه مفرا عندما يصبح حقيقيا.. بل الحقيقة المطلقة في الوجود!..


(14)
تسافيتا هي آخر ممرضة دخلت ردهتنا.. يميزها صغر حجمها الذي يجعلها أصغر من عمرها.. ربما كانت هي صغيرة العمر فعلا.. لكن صغر الحجم ليس غريبا في طاقم التمريض الأسيوي والهندي في أغلبه.. لكنه بياض بشرتها وجنسيتها البرازيلية..
لا أعرف لماذا لم أقتنع بشخصيتها.. في البدء أعتبرتها مبتدئة.. أو في دور التطبيق.. رغم أن حالة التطبيق الوحيدة في القسم كانت صاحبتها الأكبر حجما وسنا.. كانت فتاة مغربية تدرس الطب.. وتقتضي لذلك اكمال مدة تمريض قرابة العام..
المغربية كان اسمها (زهرة).. وهذا هو معنى كلمة (تسافيتا) التي تقابل اسم (سارة) الشائع في كل اللغات.. (زهرة) المغربية جرّبت أول زرقة ابرة في بطني.. وكانت هي فرصتي الوحيدة للتحدث بالعربية.. والشعور بشيء من الوطن في غربة الغرب..
بين كلّ طاقم التمريض كانت تسافيتا مميّزة.. بشكلها.. بحجمها.. بلون بشرتها.. بحيويتها الظاهرة واعتدادها الكبير بذاتها.. بكثرة متابعتها لسيرورة العمل.. بكونها تأتي مبكرة لعملها وتتركه متأخرة.. بكثرة الأقلام وأدوات العمل والفحص في جيبوبها وحول رقبتها.. بالقلم الذي تضعه وراء أذنها.. وباستجابتها السريعة لكل صوت.. بحيث لا يكاد يفوتها شيء في فضاء حجرتنا يغيب عن ملاحظتها واهتمامها.. ذلك كلّه هو تسافيتا.. وكلّما لاحظتها.. أحاول تجاهلها وأتمنى أن لا تقترب مني أو من جسمي..
ولغير حسن حظي.. فقد أضيف بجانبي مريض طارئ كان في رحلة جماعية بالباص حول أوربا عندما تعرض لحادث في غابات ألمانيا وبقي اسبوعا في مستشفى هامبورغ.. لا أدري لماذا دخل المستشفى هنا مجددا.. ربما للحصول على أدوية أو استكمال كورس العلاج..
كان يريد المغادرة من اليوم الأول.. ربما أرغمته صديقته البرازيلية على التأكيد على صحته أو سلامة ساقه.. يبدو متذمرا منها خلال زياراتها اليومية له.. يرسلها لشراء جريدة رياضية.. ولا يجيب أو يتجاوب مع كثير من كلامها ومحاولتها التعاطف معه..
اهتم المستشفى الانجليزي به عندما عرف أنه كان في مستشفى ألماني.. نزعوا منه كلّ المعلومات والأدوية والعلاجات ولماذا كان هناك لاسبوع ولم يستمر عندهم.. بل لماذا دخل المستشفى هنا إذا كان قد تعالج في ألمانيا.. تحدثت معه بالألمانية معتقدا أنه عاش في ألمانيا.. تشاركنا في الرأي حول امتداح العناية الطبية في مستشفيات ألمانيا والنظافة وكلّ شيء.. وكان يقول لطاقم المستشفى هنا أن المعاملة والعلاج في ألمانيا أفضل..
ورغم أن طاقم المستشفى الانجليزي ليس فيهم انجليزي واحد غير الطبيب المقيم المطبق وهو يحضر في الصباح فقط لمراجعة الملفات وادخالها في الكمبيوتر.. فقد كان الطاقم يتصرف بعقلية وغيرة انجليزية أمام ذكر اسم ألمانيا .. بما فيهم الطبيب الجزائري المسلم وهو المسؤول الثاني عن القسم.. لم يناقشه أحد.. لم يعترض عليه أحد.. ولكنهم رفضوا السماح له بالمغادرة كما دخل..
بقي في ثيابه المدنية ورفض ارتداء ثياب المستشفى حتى اليوم الثاني.. رفض استلام العلاج وزرق الأبر.. بعد يومين أجبروه على استلام أدوية المستشفى وربطوا الاسلاك بذراعه وصدره ونقلوا له الأمصال الانجليزية.. رغما عنه وهو في غاية التذمر..
هنا ظهرت تسافيتا.. كانت تلك أول مرة أراها تزرق أبرة في ردهتنا.. أحضرت كل العدّة باهتمام وحرفية زائدة.. وضعت لنفسها كرسيا بعلو مناسب.. ورتبت مكان الذراع الذي يستلم الزرقة.. استمرت العملية نصف ساعة بغير توفيق.. غيّرت مكان الزراقة أربعة مرّات بغير طائل..
كانت تزرق الأبرة داخل الجلد وتدوّرها هناك في كلّ اتجاه دون أن تعثر بالوريد.. لم أكن استطيع مراقبة وجه جاري.. لكي لا أتحسس بما يجري هناك.. بينما تواظب هي البحث عن مجرى الدم باصرار وعبث..
لم يتكلم جاري بشيء خلالها.. لكنني أنا تذمرت بوضوح.. بعد نصف ساعة كانت الممرضات خلالها يراقبن عن بعد.. بعضهن يأتي ويذهب.. في النهاية قامت.. جاء شاب هندي نصف ممرض.. وظيفته الأصلية تبديل الأفرشة وتنظيف الردهة والمساعدة في توزيع وجبات الطعام.. خلال دقيقة انجز الشاب الزرقة وبان الانشراح على وجه جاري الذي نطق عندها بتذمره..
لم تكن مجرد زرقة.. كانت المثلث الذي ينقل المغذي داخل الجسم.. وكانت ابرة الكوندول كما يسمونه طويلة تحت الجلد وتبقى لعدة أيام هناك لا تزيد على أربعة بحسب التوصيات الصحية.. كانت مخاوفي وشكوكي تجاه تسافيتا في موضعها إذن..
لمدة ثمانية أيام بقي جاري في المستشفى بغير لزمة.. غير كونه مريض ألماني سابق.. كان مهندس بناء.. عمل أثني عشر عاما في السعودية وشارك في بناء سلسلة مستشفيات فيها بينها المستشفى الجامعي الكبير في الرياض.. في حرب الخليج الثانية أنهت شركته أعمالها مثل غيرها.. وبعد ربع قرن ألتقيته في لندن..
استغرق اكمال أوراق المستشفى يومين.. أعطوه عدة ملفات وظروف كبيرة.. وقدموا له كارت خاص للمراجعة في أي وقت أو الاتصال بهم من الخارج إذا لزمه أمر.. كانت تلك أغرب حالة سلوكية لاحظتها من المستشفى الانجليزي..
عند مغادرة المهندس صرت أنا أقدم مريض في الردهة.. ولأنّ تسافيتا تكون هي مسؤولة طاقم التمريض في وجبتها.. والطاقم يتكون من أربعة عناصر.. فقد أصبحت متابعة حالتي من مسؤوليتها.. وهي بالمناسبة تخدم في النهار فقط.. من الثامنة صباحا حتى الثامنة مساءا.. ولا تبقى خلال الليل حيث يستلم طاقم آخر.. صرت أنا آخر مريض تتفقده قبل المغادرة.. وتسرع إليه في الصباح.. حيث تسبق موعد عملها بنصف ساعة دائما..
ولأنني أعاني من هبوط سريع في الضغط والسكر خلال النوم.. صرت موضع اهتمام خاص.. بالطبع منها هي التي صارت شبه مسؤولة عن ردهتنا باستمرار خلال الأيام الأخيرة.. اقترابها مني لم يكن له صلة بزرق الأبر.. اقتصر على متابعة الأدوية ومراقبة الطعام والفحوصات..
الطبيب الجزائري شبه المسؤول عن القسم اقترح تقليص حبوب الضغط وتغييرها إلى عيار أقل.. لملاحظة حركة الضغط.. وهنا حصل تحسن نسبي في الضغط.. بقي السكر.. وبقيت تسافيتا تفكر في موضوع السكر.. كانت طريقة المستشفى معالجة الانخفاض بحقنات كلوكوز وجيل تحت اللسان.. وكان ذلك مقززا.. الطريقة الأخرى تعويض نقص السكر من خلال الطعام.. إضافة الشاي والحليب للقهوة والشاي رغما عني.. زيادة وجبات الطعام وتقديم مزيد من شرائح الزبدة والمربى وعصير الفاكهة..
فكرة تسافيتا الجديدة هي تناول شرائح زبدة ومربى مع الشاي قبل النوم.. وجبة إضافية بعد العشاء.. أو عشاء ثاني.. وكانت هي التي تقوم باعداد تلك الوجبة ووضعها على المنضدة مع تأكيد.. لا تنم قبل تناولها.. كانت الفحوصات تجرى ثلاث مرات خلال الليل.. عند منتصف الليل وفي الصباح المبكر وما بينهما.. أي بمعدل مرة كل ساعتين أو ساعتين ونصف..
أتناول وجبة العشاء الثانية مع القهوة وأنام.. وفي الساعة السادسة.. بعد موعد الفحص الأخير خلال الليل.. وضع (ريزا) الممرض الباكستاني وجبة زبدة ومربى مع الشاي المحلي بالسكر والحليب على منضدتي.. نظرت إليه بتساؤل.. طأطا برأسه كأنه يقول تناولها.. وأضاف.. لرفع السكر..
هكذا أضافت لي تسافيتا وجبتين فطور على المعتاد.. بالأحرى.. صرت أتناول ثلاثة وجبات فطور.. واحدة قبل النوم وأثنين بعد النوم وهكذا بدأ معدل السكر الانتظام في جسدي.. في اليوم الأخير قبل المغادرة جاءت تسافيتا للوداع وتقديم أطيب التمنيات.. وهي تقول بابتسامة طفلية تختلج لها جفون عينيها..
- لا تنس.. تناول وجبة فطور قبل النوم!..



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كاموك- رواية- (1- 7)
- في علم اجتماع الجماعة- ج2
- في علم اجتماع الجماعة- خمسون حديثا عن الانسان والانتماء والا ...
- انتبهْ!.. الوطنُ لا يُباعُ وَلا يُستبدَلُ.. وَلا يُطرَحُ للإ ...
- ما بعد الحداثة/ ما بعد الانسان..
- نحو علم اجتماع عربي..
- محاضرات في لاهوت العولمة
- (المسيح الثائر) في اسفار الشاعر الاشتراكي المصري أمل دنقل
- (المسيح واللصوص) للأديب والفنان الاشتراكي نجيب سرور
- (اعترافتان في الليل، والاقدام على الثالثة) للشاعر الاشتراكي ...
- منفيون في جنة ابليس
- مقامة الثامن من أوغشت..
- باسكال: بين الشك والايمان
- الميّت الماشي- قصيدة الأديب الاشتراكي توماس هاردي
- انا عندي حلم/ I Have a dream رائعة المناضل الانساني مارتن لو ...
- (سلطان الكلمة) قصيدة للاهوتي الالماني مارتن لوثر
- في علم اجتماع الفرد- خمسون حديثا عن الواقع واللامعقول واللغة
- (تعزية..) للشاعرة النمساوية الملكة ماريا فون هنغاريا
- (ايكو هومو).. قصائد للفيلسوف الالماني فردريك فيلهيلم نيتشه
- قرار ترامب ورجسة الخراب في القدس ..!


المزيد.....




- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - كاموك- رواية- (8- 14)