أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الرزاق عوده الغالبي - تجارة لن تبور















المزيد.....

تجارة لن تبور


عبد الرزاق عوده الغالبي

الحوار المتمدن-العدد: 5781 - 2018 / 2 / 8 - 16:17
المحور: الادب والفن
    


وينفجر الزمن، عبوة ناسفة تتبعثر أشلاؤه كرات من خجل، تحت قدميها النصف حافيتين من مظاهر الدنيا، بريئة من كل ما يحدث في ذات العالم المنهار، وكل شيء فيه عندها يساوي كسرة خبز، نصف الحذاء هذا تتباهى به القمامة، يعانق قدميها بشوق ولهفة ، ينفخ صدره بكبرياء ، أنه لا يزال لم يفقد هيبته ، ربما كان يوشح أرجل غادة، وحين ذلك فهو يملك الحق بهذا الكبرياء، لو علم أنه يطأ ذهبًا ، تلفها تحت الأسمال حزم من نور، تنطلق مبعثرة بعفوية من سجن البؤس الغني بما أعطى الله من بريق، تنتشر في ظلال المكان بفوضوية عارمة تبهر النواظر وتهز الشهوات والندم معًا، تنبعث من الثقوب والرقع التي ترصع تلك الأسمال وكأنها تغلف قالبًا جليديًا يرتجف من شدة البرد، يحاول أن يخفي إشراقته بارتباك مكشوف، محفوف بوقاحة التلصلص، والتواء الأعناق تحت عواصف العوز المغلف ببداعة الخلق، تغط حتى أذنيها في بحر الاستحياء، حتى تكاد تغرق، تستجدي أنفاسها بصعوبة، إلا من بقية في طرف اللسان، ترمي بنفسها كرة من رهبة تتدحرج فوق قارعة الأمل المرتمي بين ذراعي الإفك، تخرج بنت شفة واحدة وينقطع الرجاء بتلك النبرة المتهالكة، تحت أمواج الأهوال المترامية من انكسار وحرقة :

-"لم أتناول طعامًا من يومين...!؟"

وانحسر الصوت، فغر الزمن فاهه وبرزت أسنانه القاسية، وبات يقترب من ضحيته ، هذا الكيان المزهر ليسرق نظرة محمومة، وهو مندهش من أنه فعل كل هذا….!؟….كأنه يريد أن يقضم آخر لقمة من وجبته الدسمة بعد أن أتى عليها كاملة، لكن صوت ارتطام رأسها في الأرض، أغضب النخوة وجمّد الصراخ فوق الشفاه، هرعت الرجولة والأنوثة والإنسانية معًا...هي نخوة في ساعة انكسار...!

بدأت الشفاه تلوك، والألسن تلعن، تتحرك كعجلات مركبة من ريبة، طمست في وحل من شفقة أملس لا تثبت فيه أقدام، تعبت من أحمال رزايا الفعل المنحرف، واستهتار الزمن المخبول، تغطت بغطاء الهمس والتساؤل حتى أذنيها، ويجول الهمس في كل صوب، ذلك لم يعق برد الشوارع والأرصفة، الذي رتع في أنحاء أرض كيانها الغارق في أوحال اليتم والوحدة والفقر والموت والهلاك والحزن وأسباب الزمن السوداء، كتلة سوداء غطت بجناحيها جميع معالمها المبهرجة

بالثقوب، ربت خفيف فوق خد لذيذ ناعم أعاد نصف عينيها نحو الوجود ولهذا الهجير اللاهب بالأسى، لكن الحزن بات رفيقًا يعزف سمفونية العويل الدائم، والموغل في القلوب، أنشودة الديمومة التي لا تنسى ولا تمل ولا تموت وجاءت الثانية:

-" أين أنا.... ومن أنتم....!؟"

طارت بنات شفاهها بصوت التعب المستميت فوق ساحات حظها العائد توًا من حرب خاسرة بين الجوع والظمأ، البرد والتشرد، الأمومة والمسؤولية، الموت والحياة، العفة والانحدار ....كفاح مستميت في ساحة حرب غير متكافئة، تمزقت فوق جثث جوعها بشائر النصر والانكسار معًا، فهي تقاتل في الجبهتين، رغيف خبز ضائع تطارده في جبهة، بين أحلام مفقودة، وسيف آلام يقطر دمًا و تقطع أوصال دواخلها الفارغة في جبهة أخرى... أجابت الكتلة السوداء الجاثمة فوق أثيرها المهموم جوهر السؤال:

-" لا عليك يا ابنتي، اعتبريني واحدة من بنات هي ...!؟"

وتسابقت مع الرد، فأردفت قائلة:

من أنت وما قصتك.....!؟"

تلفتت المأساة كمجتمع من الأسى، حول محورها بغرابة وكأنها تبحث عن فردوسها المفقود ، رغيف خبز حار، هو منتهى طموحها ، بان لها في غيبوبتها حلمًا، وقد اختفى الآن في الغميضة، عند الدور الأخير، نطقت الثالثة أشد من السابقات:

-" أطفالي، لا أدري أين تركتهم بعد اشتداد البرد والجوع والقصف.....!؟"

لم تمهلها تلك الكتلة السوداء الجاثمة فوق أثيرها المكلوم، قدح امتلأ حتى الحاشية وفاض همًا، وجعًا، دمعًا، وحزناً :

-" ولماذا تركتهم، وصرتي هنا....!؟"

اندلقت عيناها فيضًا من وجع، شلالًا فوق أرصفة شوارع العوز والهم المجروح، يسنده غيث حسرات محمومة تسقي همومها العطشى، تطفو فوق هزيع موج الدموع سفن الذل والانكسار، و بين تلك الأمواج العاتيات، رمت الرابعة، أشد السابقات:

-" اشتد القصف و الجوع والبرد معًا ونحن لا نملك سوى خيمة ممزقة لا تستر حتى نفسها....!؟"

عند هذا الحد المسور بالألم نسى الزمن القاسي نفسه وهجر وقاحته العمياء تمامًا، وأجهش بالبكاء، دموع ثكلى وعويل مكلوم، اشرأبت أعناق الملائكة وخجلت الشياطين وهجرت المكان حين حضرت العافية، بانت قبضات التساؤلات والألم تتحرك اتجاه البعض، أظنّ بسوسًا ستشتعل بين فينة وأخرى، حتمًا سترسو على شاطئ هذا المكان سفن الخير والشر معًا، غطى صاحب المحل الموقف بغطاء الرجولة والإنسانية والحكمة وبساطة الأهل حين يشتد أوار جحيم الملمات :

-" لمٓ جئت لي.....!؟"

شعرت المأساة بقرب الانفراج ولاح في الأفق أمل حزين مبلل الجفنين تتأرجح لؤلؤة من أطراف رمشه، أترع الموقف بسيل من إعصار نخوة، حضرها الخير واضعًا يده فوق صدره، متعهدًا بالوفاء تلك المرة، هرب إبليس، حين لفح النور فوق وجوه الألسن، ونطقت المأساة، ثم أردفت صاحبَ المكان بنخوة خامسة :

-" حلم قد يكون صعب المنال، بطانية لأطفالي، وما يحتل جيبي لا يكفي رغيف خبز واحد، أروم سد رمق أفواه تنتظر هناك، زارها الطعام منذ يومين، و هرب الفأر منها وأقسم ، لن يزرها بعد اليوم....!؟"

رعدت سماء الموقف بشدة، واكتظت الغيوم فوق عيون الموجودين مزنًا من غيث حسرات وعلامات تعجب وإستفهام وآهات وفيضان مقل، وتحركت عواصف من عواطف بأرجل من حديد، تسابق الخير والريح، وتمسح وجوه الأخوة والأمومة والأبوة، هي ثورة من علائق، ديدن أهلنا الفقراء حين يشتد أوار الظلم والعوز، لم يكسر صاحب المكان حياء مجمع المآسي تلك، مسح عرقها بقول مشبع بالرجولة وأسباب الله:

-"عندي طلبك، بطانيات ثلاث، اشتريتها قبل عام، ولم يشترِها أحد مني، فهي قصيرة، سعرها نصف ما يسكن جيبك، خذيهم جميعًا ليأتي فال اليوم مترعًا بالرزق...!؟"

أشرقت سماء وجهها، وانحسرت الغيوم ابتسامة تفضح سطرين من حجاج في حالة السجود، و رذاذ خفيف و نث بارد من عطر فردوسي يرطب الموقف والوجوه أظن أن سربًا من الملائكة قد بهرها الموقف، وربما عين الله التي لا تنام تراقب هذا


الموقف الجليل، نسمات خفيفة قلبت الموقف دفئًا، رائحة وعبق زكي غزا المكان خجل الجوع من نفسه، وأخفى سوطه خلف ظهره، فهدأت الآلام في جوفها، ورحل البرد من جسدها المنهد وتنفست الصدور بشهيق عذب من المروءة والحب ...هي الإنسانية تتسيد الموقف، و يلوح بيده الجوع مودعًا ذلك الألم الدفين، فقد هزم فوق قارعة طريق الخير والإنسانية، وأريق دمه بسهم من سهام النخوة، غادر المكان متجهًا صوب مأساة أخرى، هو حال الدنيا، احتج أحد الزبائن ووجه كلامه بغضب لصاحب المحل :

-" لمَ بعتني ذاتها بثلاثين ألف دينار وبعتها لغيري الآن بنصف نصف نصف سعر غير معلوم ؟ والله أمرك عجيب يا أخي...أظنك مجنون.....!؟"

إبتسم صاحب المحل وأجاب بهدوء وسكينة :

-" لا يا أخي....أنا لم أبعها شيئًا، أنا تبايعت مع الله، حسبت الرزق بفرق السعر، كلما قللت زاد، هي صدقة في السر، لقاء لعفاف زينة البؤس، وهل يا ترى إن فرق السعر يستوفي إراقة دماء وجه معوّز لو أجهرت .... بعت و كسبت بما قدرت عشرة أضعاف ما بعتك.....!؟"



#عبد_الرزاق_عوده_الغالبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جنس ادبي جديد
- حتمية انحسار الحداثة تحت الضغط الذرائعي وعودة الاجناس الأدبي ...
- اشكالية التعقيد والغموض والتكثيف في الأدب العربي من وجهة نظر ...
- هل النقد انشاء ام الانشاء نقد...؟
- غياب الضبط والتنظيم في ساحات الأدب العربي
- سهام النخوة
- حكاية يرويها سكين نادم
- انتحار قلب
- خيانة كلب
- ان قلت اعلم ، فأنت فعلا لا تعلم
- زمن الانتهاك
- الكارثة الموقوتة
- تسواهن
- الحنين إلى الناصرية والوطن في شعر الشاعر العراقي الشفاف
- lمقتل سلحفاة
- هل الغربة وطن....؟
- انتحار قلم
- انكسار
- ندم
- امبراطورية الصفيح


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الرزاق عوده الغالبي - تجارة لن تبور