|
الكارثة الموقوتة
عبد الرزاق عوده الغالبي
الحوار المتمدن-العدد: 5325 - 2016 / 10 / 27 - 01:34
المحور:
الادب والفن
الكارثة الموقوتة
عبد الرزاق عوده الغالبي
قذيفة عمياء ضلت طريقها ، من طائرة أمريكية ، ساقها القدر نحو بيت آمن ، من ثلاثة أبرياء ، الزوج ، طبيب جراح وزوجته الطبيبة وطفلتهما ، صاحبة الستة أشهر ، أدى انفجارها واجبه بإخلاص وحرفنة وجدية ، فائضة عن حدّ المعقول ، فتساوى البيت مع الأرض بمن فيه ، بشكل أنيق ومرتب وملفت للنظر ، يستحق رامي تلك القذيفة نوطاً للشجاعة من إبليس شخصياً ، فهؤلاء مبدعون في صناعة الموت وأدواته في عالمنا المبتلى بالعنجهية والتخلف والظلم ، في زمن انحسرت الشمس من سمائه غضباً واحتقاراً لساكنيه ، وصار ليله كفيفاً ، هجرته الأقمار والنجوم والأشياء ، فتوالدت الشياطين في زواياه المظلمة ، ليطمر الحب والنقاء والألفة بين الناس في مقابر اليأس ، فصارت الصفرة عنواناً للموت ، والحمرة عنواناً للدم والقتل والفناء ، انحسرت الألوان المبهرجة ، وغادرت السعادة أثيره المزدحم بالصراخ ، دون رجعة ، ودع أهله الابتسام والضحك ، وانتشر القبح والعويل وصوت الأنين ، ليل بلا قمر ولا نجوم ، لا قيمة له فهو نذير من وجع ، ولا صوت هسيس للحشرات ، فقد هجرته خوفاً من الضياع ،أحياناً أتشوّق للسعة بعوضة أو مرأى فأر أو طنين ذبابة أو مشهد نملة تحمل حبة رز ، حتى تلك الحشرات التي كانت عنواناً للإزعاج وهدفاً للملاحقة بالمبيدات ، أمست مظلومة ومشردة ، أسماء محببة في قائمة الشوق والحنين......
زمن ضيق كضيق القبر ، هجرنا الفرح فيه ، وأدار القدر ظهره عنا ، وجعل الموت والفناء سيداً مطلقاً فينا ، تهت في هذا الموقف الغيبي ، فسمعت ،شيخاً يرفع يديه بالدعاء لله وهو يقرأ بحشرجة مسموعة دعاءه ويقول :
-"ربي اعفو عنا ....!"
هزني هذا القول كثيراً وقلت وماذا فعلنا لنغضب الله ، هو أعطانا الخير وجعلنا بلداً دبقاً يجتذب الجراد والحشرات من كل أصقاع الأرض ، وهل ذنبنا أنّنا طيبون ....؟...، وهممت باستيقاف الشيخ وسؤاله عن جريمتنا ، لكن هاجساً في نفسي ، كسر شوكة عزيمتي باستيقاف الرجل ، وصوتاً من داخلي ، أظنّه صوت أبي صرخ في وجهي :
" نعم نحن المجرمون ونستحق الأكثر....!"
انتبهت لنفسي وكأنني في محادثة جدية مع هذا الصوت وقلت بصوت مسموع:
-" وضّح ماذا تقصد....!؟ "
وحين تعالى الصوت قليلاً ميزته ، فهو صوت أبي فعلاً ، فتذكرت جميع أقواله فامتزجت الذكريات مع الواقع و صوت ضميري و صوته ، هما عندي صوت واحد ، تذكرت ، حينما تتعرض العائلة لموقف صعب كهذا ، يمسك مسبحته ويصمت تماماً ماعدا شفتيه تطلق بسبسة تتناسق وحركة إصبعه على خرزات المسبحة ، وبعد مرور دقيقة يقول كلمته المشهورة بين أفراد العائلة :
" يا الله...! ... من الباب للكوسر فرج....!"
وأنا غارق في غيبتي تلك ، مع بسوس نفسي وضميري ، وكأنني مقاتل في تلك البسوس الشرسة....كررت قول أبي بصوت مسموع ، مرتين وربما أكثر فقد شغل انتباهي عن ذلك ، تجمهر الناس والسيارات على البيت المقصوف ، وبدأ الناس يحفرون للبحث عن أحياء داخل الأنقاض ، عثروا على جثتيّ الدكتور وزوجته ، وضعوهما في سيارة الإسعاف وقبل أن تغادر، انتبهوا لصراخ طفلة تحت الأنقاض ، بدأ أهل الخير بالحفر ورفع الصخور والأنقاض ، وصوت الطفلة يقترب حتى وصلوا إليها ، طفلة لا تزال في القماط ، بعمر ستة أشهر، أخذوها مع جرحى القصف الأمريكي نحو المجهول ، إلى مخيمات (رفحة) في السعودية ، وهي مخيمات أعدت للهاربين من الوطن من القصف الأمريكي ومن ظلم تجار الدم ، بعد الانتفاضة الشعبانية عام٩١....
أدركت كل ذلك ، من سؤالي المستمر عن طفلة دائمة البكاء ، وأنا مستلق على سريري دون حراك ، بسبب الإصابة الخطرة التي تعرضت لها في الوطن نتيجة القصف ، وما حدث لي ليس بالشيء المهم ، بالمقارنة لما حدث لطفلة كتب القدر عليها أن تعيش يتيمة بعد ولادتها مباشرة ، فقد أخذني الحنين إليها دفعاً بيديه الرقيقتين الحانيتين ، وجعلها تحتل تفكيري ، خلال فترة مكوثي في المستشفى هناك، وبعد انجلاء الغمة وإرخاء الليل سدوله ، عدت إلى الوطن مع ابنتي التي تبنيتها وسجلتها باسمي رسمياً ، قمت بتربيتها مع أولادي وأحسنت ذلك ، ونشأت بينهم واحدة منهم ، وكان حناني وحبي يطّرد لها و يكبر مع الأيام ، ومع نضوج جسدها ، فهي أعز من أبنائي الآخرين ، واستمرت الأيام والسنون بالعدو والهرولة والتغيير بسرعة وقساوة ، و بان ذلك كثيراًعلى أجسادنا ووجوهنا ، وبياض الشعر في رؤوسنا وهروبه منها ، هو خير دليل لقساوة الأيام والسنين.......
في يوم منتظر ، زارني أحد مجهول ، يدّعي أنه عمها ، و يروم استرداد دمه ولحمه ، كما قال ، وكانت تلك الزيارة مؤشراً لدرجة تمسكي بهذا الدم واللحم الذي عشت معه ألم اليتم و وحرارة الفراق وقساوة الزمن والظروف ، شاركتها اليتم والألم دون أن تحس و تدرك ، وأنا الآن أشاركها الخوف ، الذي لا تعلم حجمه ، وموقفها ، حين تعرف يوماً حقيقتها وحقيقتي ، وما حملني على هذا التفكير ، زيارة هذا الشخص الذي طلب مني فحص ال(DNA) ورفضي القطعي لما يطلب ، لكن قوله هذا وزيارته الغير منتظرة ، كزائر الليل ، فتحت نار الجحيم في عقلي ومخيلتي ، أقضّت مضجعي ومنعتني من النوم ، فالعدل يقول ، أن تحكم وتكون عادلاً في الحكم ، هو أن تتصور نفسك لنصف دقيقة ، مكان من تحكم عليه ، فإن هان الحكم على نفسك ، صار حكمك عادلاً على من تحكم ، فكيف بي أن أكون عادلاً ، وأنا عشت مع نفسي هذا التصور عشرين سنة تقريباً ، وأنا أراه يكبر معي كل يوم ، وهو معمد بالخوف المزدوج ، بين أن أفقدها يوماً ، وما تعيشه من ألم في عمرها الآن لو علمت ، والذي بني على مأساة لا يستطيع عقلها حتى تصورها ، فرجحت قول الرجل بالحق حين يأس مني :
-" أنا لدي ولد بعمرها أو يكبرها قليلاً ....،دعنا نجمع الشتيتين ونعيد الدم لمجراه الطبيعي ، ونزوجهما...!؟"
وكان ردي رفضاً ، متأرجحاً بين عذر إكمالها الدراسة الاعدادية ، التي هي فيها الآن ، و حكمة قوله ، وبعدها سيحكم الله في ذلك ، ردي هذا لم يقطع الخيط الرفيع الذي مددته بيني وبين ذلك الرجل بأمل خفيف شفيف ، قد يرجح له يوماً ، أو لا يحدث أبداً ، لكن ذلك القول نال مني ، وجعلني أفكر فيها إن متْ ، وما يحصل حين يُكشف كل شيء ، وبدأت أسائل نفسي بغضب وحيرة وتردد ، عن موقفها مني ، وأفترض :
-" هل ستلعنني أم تعطيني العذر....؟"
الكوسر = الحائط القريب من الباب
الحبكة حقيقية حدثت فعلا عن الاستاذ السيد ناصر اليعقوبي من مآسي الاعتداء الأمريكي على العراق عام ٩١
#عبد_الرزاق_عوده_الغالبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تسواهن
-
الحنين إلى الناصرية والوطن في شعر الشاعر العراقي الشفاف
-
lمقتل سلحفاة
-
هل الغربة وطن....؟
-
انتحار قلم
-
انكسار
-
ندم
-
امبراطورية الصفيح
-
غفوة
-
كارثة
-
ادب الحرب عند الاديب السوري الكبير عماد الشيخ حسن
-
سكن
-
قراءة نقدية لنص الاديبة السورية الدكتورة عبير خالد يحيى
-
العبور الى الضفة الاخرى
-
العيش بين شفاه امراة
-
وهل العفوية جنون؟
-
الاقتضاب والتدوير والعمق الرمزي
-
رحلة المصير
-
زهرة من عالم الغموض
-
هي فينوس ام شبعاد......؟
المزيد.....
-
هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف
...
-
وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما
...
-
تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
-
انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
-
الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح
...
-
في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
-
وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز
...
-
موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
-
فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
-
بنتُ السراب
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|