|
عن معيقات الحداثة في عالمنا العربي الإسلامي
الطيب طهوري
الحوار المتمدن-العدد: 5770 - 2018 / 1 / 28 - 20:57
المحور:
المجتمع المدني
خواطر
إذا كانت الحداثة في الغرب قد نشأت كإيديولوجيا أو جدتها الطبقة البرجوازية في أوروبا في إطار صراعها مع طبقة الإقطاع التي كانت الكنيسة إيديولوجيتها،وأمكنها في النهاية أن تجعل الدين قناعة شخصية لا مؤسسة تُلزم المجتمع بتعاليمها في إطار ما صار يعرف بالعلمانية، حيث تحرر المجتمع من قيود الكنيسة وعلاقات الإقطاع،وأوجد لنفسه علاقات جديدة تنبني على الديمقراطية والحريات الفردية والجماعية وجعل الفرد من ثمة مواطنا حرا مسؤولا ،حرا في الفكر الذي يتبناه، والمعتقد الذي يلتزم به في حياته الشخصية،فإن الحداثة في عالمنا العربي الإسلامي ظهرت كصدمة أصابت مجتمعه الراكد بالدهشة وهو يرى ما جاء به حاملوها إليه من تطور علمي وتنظيمي وعسكري، أساسا،في إطار الاستعمار، وما مارسه من ظلم وقهر واحتقار يتناقض كل التناقض مع ما كانت تدعو إليه حداثته..ولأن ذلك الاستعمار كان قد امتد لعقود طويلة يمارس وبوحشية ذلك الظلم والاستغلال والتجهيل والتفقير، فقد ترسخ في ذات الإنسان العربي ارتباط تلك الحداثة بتلك الممارسات، ومن ثمة تبنى موقف الرفض لها ..بعد تحرر المجتمعات العربية الإسلامية من نير الاستعمار العسكري فيما سمي بالاستقلال،احتلت العساكر كراسي السلطة فيها،باسم الأحزاب الثورية وبدعوى أنها هي من حررت البلاد، مستغلة جهل المجتمع وفقره وفرحه العارم بالاستقلال،من جهة، والعداء الإيديولوجي بين رأسمالية المستعمرين والاشتراكية، من جهة أخرى..استمر الوضع هكذا في الكثير من دولنا العربية الإسلامية..بينما كانت دول عربية أخرى ، دول الخليج أعني،ما تزال تعيش اجتماعيا في إطار علاقات البداوة .. ما إن انهارت المنظومة الاشتراكية حتى وجدت أنظمة الحكم العسكري الفرصة سانحة للتخلى عما كانت تسميه اشتراكية ،وتفتح المجال واسعا للدخول فيما سمته اقتصاد السوق، الذي هو في واقع الحال رأسمالية متخلفة ووحشية وريعية..وفي هذه الرأسمالية ظهرت طبقة برجوازية ريعية كونها المتنفذون في السلطة بأموال الخزائن العمومية، لا بجهدهم وعملهم المنتج..لقد كانت تلك البرجوازية وجها من أوجه الأنظمة العسكرية المستبدة الحاكمة..لا تناقض بينهما بالمرة..وبمعنى آخر ، كان من المستحيل على تلك البرجوازية الطفيلية أن تؤمن بالحداثة وتتبناها..تبنّْي الحداثة يتناقض مع مصالحها ومصالح أنظمة الاستبداد التي أوجدتها.. لقد انغرست تلك البرجوازية حتى النخاع في استهلاك منتجات حداثة الغرب..جعلت من تلك المنتجات مظاهرها الشكلية التي تترفع بها على الشعب وتحتقره، فيما راحت ، في المقابل،تعادي تلك الحداثة كنظام سياسي مبني على الديمقراطية، وكنظام ثقافي مؤسس على الاختلاف والنقد ، وكنظام اجتماعي يرتكز على الحريات الفردية والجماعية فكرا ومعتقدا وتنظيما.. أنظمة الاستبداد التي أوجدت تلك البرجوازية راحت بدورها ،حماية لمصالحها وحفاظا على استمراريتها في كراسي السلطة، تركز أكثر على تقوية القوى القمعية والتحكم في قياداتها ( شرطة ودركا وعسكرا وقضاء وإدارة ) لتقمع كل من يحاول المساس بها وبمصالحها تلك..كل من ينتقدها..كل من يعمل على تنظيم المجتمع وتوعيته ..عملت أيضا على التحكم في معيش الناس من خلال التحكم في القوة المالية وتوظيفها كسند لقوى القمع العصوي والقضائي والإداري، وهو ما يحتم غلق الأبواب على البرجوازية الوطنية المنتجة غير الخاضعة لها، حتى لا تنشأ قوى مالية مستقلة يمكنها تحرير الناس في معيشهم اليومي من القوة المالية التي تتحكم فيها تلك الأنظمة..ولأن وضعا كهذا لا يمكن ان يؤدي إلا إلى الإفلاس ممثلا في العجز عن تشغيل الناس الذين تتزايد أعدادهم بشكل أرنبي لا تحكم فيه ولا نظام له والعجز عن وتوفير مختلف حاجياتهم الضرورية والكمالية، خاصة وأن تلك الحاجيات قد تنوعت كثيرا بفعل ثقافة الاستهلاك المغرية ومختلف وسائل الاتصال والتواصل،فيما يعرف بالعولمة، فقد تغلغل اليأس بعيدا في نفوس الناس..اليأس الذي ارتبط بعجزهم التام عن تنظيم أنفسهم والنضال من أجل تغيير أوضاعهم نحو الأفضل..لقد جربوا النضال مرات ومرات، لكن عصى القمع والتفتيت كانت لهم بالمرصاد دائما..ومن ثمة كانت استكانتهم اليائسة لأوضاعهم المتردية وخضوعهم شبه المطلق لما تريده تلك الأنظمة منهم..صاروا صما ،بكما، عميا، لا يفقهون..صار كل واحد منهم يتحرك وحده ليخدم مصالحه الخاصة..يتحرك بالرشوة ، بالمحسوبية، بالوساطات..إلخ، وهي السلوكات التي عممها الفساد الذي تبنته الأنظمة المذكورة ونشرته في مختلف القطاعات وعلى كل المستويات، من أجل تكوين طبقتها التي بها تهيمن ، وفي كل مكان.. هكذا ألف المجتمع العربي التخلي عن مسؤوليته الاجتماعية..ألف انتظار الأنظمة التي تتحكم فيه لتفكر وتنظم وتسير وتقرر بدلا عنه، وبما يخدمها أساسا، لا بما يخدمه ويخدم مستقبل أوطانه وأبنائه ..ولم يجد أمامه في وضعه الحصاري المؤلم هذا، ومن كل الجهات، إلا السماء مفتوحة،ففر إليها هاربا ،ممارسا تدينا مفرطا وتغييبا شبه كامل لعقول أفراده، وكان من ثمة حلمه/ الوهم باستعادة الماضي الغابر الذي عمل رجال الدين على تقديم وقائعه له بشكل مثالي ، مفرط في مثاليته، كما عملوا على تقديم الأسلاف فيه وكأنهم ملائكة لا يخطئون..لقد جعلوا من ذلك الماضي بديلا عن تقدم الغرب الذي عجزوا عن الوصول إليه، ووقفوا شاعرين بالنقص والعجز أمامه، وعوا ذلك أم لم يعوا..أقروا بذلك أم لم يقروا..إنه التيه في واقع العجز واليأس وتغييب العقل، وفي واقع وروح الاتكالية المفرطة التي يبرزها إكثارهم الذي لا حد له من الأدعية التي لا تنتهي أبدا، والتي تتكرر بشكل اجتراري، رغم أنها لا تحقق لهم شيئا مما يأملون، الأمر الذي يجعل رجال دينهم يتهمونهم بقلة التدين ويدفعونهم أكثر إلى الإفراط في ممارسته، والتنفير أكثر من عالم الآخرين المتقدمين، خاصة عالمهم الفكري والسلوكي، بتصوير فكره وكأنه فكر إلحاد وحرية مطلقة ، لا يحدها ضابط..وتصوير سلوكه وكأنه ليس إلا عالم رذيلة، مركزين في ذلك على الجانب الجنسي أكثر، حيث يبدو ذلك الواقع وكأنه ماخور كبير..إلى جانب تهديد واتهام كل من يدعو إلى تبني الحداثة من أبناء هذه الأمة العربية الإسلامية.. لا ننسى ما تمارسه الرأسمالية ذاتها كأنظمة وشركات متعددة الجنسيات من تخويف لأنظمة الاستبداد العربية ،التي تجذرت كثيرا في إفساد شعوبها ونهب خيراتهم ،من إمكانية التخلي عن حمايتها وإيجاد الوسائل التي يمكن ان تدفع بتلك الشعوب إلى الثورة عليها، إن هي تخلت عن خدمة مصالحها، ولم تحافظ على بقاء تلك الشعوب سوقا استهلاكية مفتوحة الأفواه والأيدي لتصريف منتجاتها التي لا حد لها.. هكذا التقت أنظمة الاستبداد الحاكمة والرأسمالية الغربية وطبقة رجال المال الفاسد المشكلة للطبقة البرجوازية الطفيلية، وذلك التدين الهروبي المفرط للناس، ورجال الدين، في معاداة الحداثة ومنعها من تحقق الوجود والانتشارفي عالمنا العربي الإسلامي.. هكذا بقينا في عالم تخلفنا الذي صار تخلفا مزمنا، لا أمل يلوح في الأفق للخروج منه..
#الطيب_طهوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين الهند والجزائر
-
أن ينتقِدوا، ذاك حقهم ..من واجبكم مجادلتهم والرد عليهم بالحس
...
-
من المسؤول عما نحن فيه؟
-
هذا ما يفعله مسؤولو ال تحت في شعوبنا العربية
-
عن الإيديولوجيا..عن مخاطرها
-
في معنى الأصالة
-
عن ديمقراطية الشعر..عن لا ديمقراطيته
-
عن القصيدة/ القبيلة العربية ومجتمع حاضرنا العربي
-
مجتمعنا العربي وعالم الحداثة
-
بين ثقافة الولاءات وثقافة الكفاءات
-
مقبرة الحجارة
-
هنا، لا أمام لي
-
من آخرته عاد أبي
-
عن الحب..عن القبائل الأمازيغ في الجزائر
-
الإسلاميون والخوف
-
رمالا تعوي ريح ُ عباد*
-
لنبني حدائق ثقافية لأطفالنا
-
العرب المسلمون يعيشون مخياليا في الماضي
-
بين تقدم الغرب وتخلفنا..الأسباب أساسا
-
تأملات فيسبوكية
المزيد.....
-
نائب روسي: قوات كييف أقامت غرف تعذيب بمنازل المدنيين في مدين
...
-
البرلمان العربي يدعو لحماية حقوق الإنسان في ظل التحديات الرا
...
-
أونروا: حجم المعاناة التي شهدتها غزة زعزع إيمان العديد من ال
...
-
حملة دهم واعتقالات إسرائيلية جديدة في الضفة الغربية طالت 40
...
-
الأمم المتحدة تطالب إسرائيل بوقف قصف سوريا
-
والي هاتاي للاجئين السوريين: وداعا بطريقة جميلة
-
-فرص عظيمة ومخاطر شديدة-.. مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا عن
...
-
العدل: مساع لتطوير المنظومة التشريعية الوطنية الخاصة بحقوق ا
...
-
تعاون ألمانيا وفرنسا مع سوريا الجديدة -مرهون بحقوق الإنسان-
...
-
اللاجئون السوريون يستعدون للعودة بعد الإطاحة ببشار الأسد
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|