|
إضرابات -القفاز- بمناجم جبل عوام
عذري مازغ
الحوار المتمدن-العدد: 5763 - 2018 / 1 / 20 - 21:38
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
في أواخر الثمانينات دخلت مناجم جبل عوام كعامل منجمي، بدون أي ميزة، كادح تنقصه الخبرة والصلابة، طيلة السنوات التي قضيتها، تعلمت الكثير من العمال، سعة الصبر، التحمل، عدم التضايق من كثرة العمل، وتعلمت أكثر احترام زملائي العمال، كما تأكد لي أنهم أذكياء بامتياز ولهم حدس كبير في معرفة اتجاه خيوط المعادن أو الثقوب المنفسة وطريقة استعمال آليات العمل، أتذكر كيف كان الكثير منهم يتمكن من التحكم في آلة الثقوب (Perfotateur) بدون أن يجهد جسده وعضلاته، وكان الأمر بالنسبة لي غاية في الدهشة، آلة تثير الصخب كرشاش والعامل يوزن نبضها ويتركها تؤدي العمل دون أن يستعمل يديه إلا عندما ينهي ثقبه أو عندما يبدأ في ثقب جديد،هذا دون التكلم عن خبرتهم بالتفجير الناجح، اما العمال الذين مهمتهم هي تأمين ورشة العمل فكانو أيضا عظماء وأذكر منهم محمد انحدو انعيشة الذي كان يقيم مائدة الصيانة أمام فوهة المتفجرات وتبقى راسية رغم هول الإنفجار وكنت حين تعمل دوما مع احد هؤلاء الذين يتقنون وضع موائد الصيانة تكون مرتاحا تماما من التعرض لحادثة في الورشة، أما أولئك الذين لهم حدس اتجاه الخيوط المعدنية أو اتجاه الأبار والأنفاق، فأنا شخصيا حضرت لوجهات نظر بين عامل منجمي ومهندس اختلفا في وضع اتجاه الثقوب، فكان المهندس يلح أن تقام اثقوب في اتجاه معين والعامل كان له رأي آخر، وفي الكثير من هذه النقاشات كانت وجهة نظر العامل تنم عن خبرة حدسية هائلة وكان الكثير من أطر الهندسة يحترمون الكثير من العمال ولا يحتقرون آراءهم وأذكر بهذا الخصوص المهندس الذهبي والإطار حسن وغيرهم ويمكنني في هذا الصدد ذكر مهندسين بدأو بحماسة الشباب ونزوة الوظيفة لينتهوا متواضعين جدا كشكل منهم في اعترافهم بالعامل، وطبعا كانت هناك خصال أخرى متنافرة بين التقني والعامل قد تصل أحيانا إلى الخصومة والتهديد المتبادل، كان العمال في هذه الأمور يستندون إلى وحدتهم في صد تهديدات التقنيين وكان التقنيون طبعا يستندون إلى القوانين الداخلية للعمل والبيروقراطية الإدارية وكثير ما كنا نصبح على إضراب مفاجيء بسبب هذا التناقض، والكثير طبعا سيذكر تلك الخرافة الجميلة التي تتهم العامل بأنه، في تلك السنوات، كان يحتج على أبسط الأمور منها غياب قفاز لأجل العمل، وحصل الآن أن هاجرت إلى أوربا لأجد أن القفاز هذا الذي كان مثيرا للجدل هو أحد الضرورات في إنجاز عمل شاق، وأكثر من ذلك يستعمل حتى في الأعمال التي تبدو خفيفة بالنسبة لعامل مناجم جبل عوام، والحقيقة المرة، وفي كثير من المراة، كان القفاز الخرافة هذه، يشكل القطرة التي تفجر الكأس، وهذا يعني أن من وراء الإضراب حدس آخر أشبه بحدس العامل الذي تكلمت عنه ، حدسه في اتجاه خيوط المعدن أو اتجاه الانفاق او الآبار. لقد كان الصراع بين العامل والإدارة ومن ورائها أرباب العمل، هو دوما صراع استثمار، مع ظهور تقنيات الحفر الجديدة، كان المستثمرون يرون ضرورة تقليص عدد العمال وكانوا هم من يفجرون الإضرابات ل"أتفه الأمور"، وكان ذكاؤهم أيضا يفوق ذكاء العامل ضمنيا، والامور التي يدركونها بالحدس، كون أغلبهم أميون، لا يدركون كيفية إنزال حدسهم ليكون بمثابة نظرية، بل كانوا يدركون الأمور استنادا إلى تاريخ نضالهم المنجمي، لقد كان الصراع بين العامل والإدارة ومن ورائها أرباب العمل، هو دوما صراع استثمار، مع ظهور تقنيات الحفر الجديدة، كان المستثمرون يرون ضرورة تقليص عدد العمال وكانوا هم من يفجرون الإضرابات ل"أتفه الأمور"، وكان ذكاؤهم أيضا يفوق ذكاء العامل ضمنيا، والامور التي كان العمال يدركونها بالحدس، كون أغلبهم أميون، لا يدركون كيفية إنزالها من مستوى حدسهم لتكون بمثابة نظرية، بل كانوا يدركون الأمور استنادا إلى تاريخ نضالهم المنجمي مع الإدارة، فهم يعرفون تماما، أنه عندما تنزل أسعار منتوجهم في السوق الدولية، عليهم أن يتوقعوا بعض مسلكيات الإدارة المستفزة، وهم جربوا ذلك في إضرابات سابقة كانت الإدارة المنجمية فيها تملصت من بعض التزاماتها كالزيادات التي تقيمها الدولة مثلا في الأجور، كانت الإدارة في أيام هبوط الأسعار تلجأ إلى التملص من تلك الزيادة بالتحايل على قوانين الشغل بالإستناد أن أجرة العامل تفوق الحد الادنى للأجر باحتساب التعويضات الإجتماعية التي هي مكسب تاريخي للعمال، ومما كان ينمي حدس العمال اتجاه هذه الحيل للإدارة، وطبعا بالاستناد إلى تاريخهم النضالي أن الشركة في أحد الإضرابات في الثمانينات قبلت الإلتزام بضم زيادة الأجر كما أقرته الحكومة نظرا لتغير السوق الدولية بارتفاع مفاجيء للمنتوج، أكثر من ذلك أضافت زيادات أخرى في التعويضات الإجتماعية مما اعتبر انتصارا كبيرا للعمال. والحقيقة أن التنبيه لأمر القيم السوقية كان قد تم بفضل عينة مهمة من الطلبة الذين انضموا للعمل بالمنجم منتصف الثمانينات، فلأول مرة ، في تاريخ مناجم جبل عوام، بفضل تلك العينة تم التنبيه إلى الكثير من الحقوق الإجتماعية التي تغافلتها الشركة طيلة السبعينات وبداية الثمانينات والتي تعتبر عرفا في المناجم موروث من الحقبة الفرنسية وبنصوص توثيقية (مايسميه العمال بالبروتوكول) وكان الفضل في ذلك كما أشرت يعود إلى أبناء عمال كانوا طلبة (واغلبهم كان لا يزال يتابع دراسته بالجامعة برغم عمله في المنجم) هؤلاء الطلبة يعود لهم الفضل في نخر رفوف الإتفاقيات التي أبرمها العمال مع الشركة والتي كانت مكتوبة باللغة الفرنسية، وكشفت أيضا تناقض التلاعب في النصوص القانونية الجديدة والقديمة في قانون الشغل، كانت توظفها الشركة بازدواجية بالشكل الذي يتناسب مع استغلالها للعمال، فكانت تستند في امر ما إلى القانون الفرنسي الموروث وفي امر آخر إلى القانون المغربي في التشريع الجديد، على أنه يمكن القول بدون التردد أن قانون المناجم كان قانونا فرنسيا في الأساس لم تصبه التشريعات المغربية في شيء لأنها أساسا لم تكن تهتم بأمر المناجم.. كان من اهم الامور الذي أثارته هذه العينة من الشباب الطلابي قانون يتعلق بمسألة الترسيم ومحتواه (واعتذر عن عدم ذكر الفصل وما غلى ذلك لتواجدي الآن بعيدا عن المنطقة) قانون يقر بأن أي عامل أمضى أكثر من 15 يوما في المنجم الرئيسي يلزم الشركة بترسيمه، في منتصف وأواخر الثمانينات كانت الشركة تعتمد في الترسيم قوانين الشغل العامة والتعديلات فيها التي تمت تحت قوانين إعادة الهيكلة ثم قوانين مغربة المؤسسات والتي لم تكن تمت إلى المناجم بصلة، وكانت الشركة المنجمية تبقي العامل في المنجم الرئيسي أكثر من ثلاثة أشهر التي سنتها إعادة الهيكلة وأحيانا أكثر من سنة بمبررات السياسة العامة للدولة في ما تسميه تشجيع الإستثمارات التي صراحة لا تمت بصلة بخصوصيات العمل في المناجم.. لقد كانت إضرابات أواخر الثمانينات وبداية التسعينات في العمق من بصمة هؤلاء الشباب، وبفضلها تم ترسيمنا نحن الذين ننتمي إلى الجيل مابعد هذه العينة، حيث كان توظيفنا في المنجم بطريقة غير رسمية مهددا لوحدة الصف العمالي. في إضراب التسعينات (اقصد 1990). كانت الشركة تراهن على عملنا نحن المجموعة الجديدة مشهرة قانون الحق في العمل لمن يريد العمل في الإضراب (قانون تشريع مغربي يبني للبرالية الإقتصادية، مشجع للإستثمار وفق سياسة الدولة)، لكن لخطأ قانوني أيضا مارسته الشركة في حق مجموعة من العمال بسبب دعوتهم لإضراب (طرد بعض عناصر المكتب النقابي) كرد فعل للعمال أوقفوا جميع العمل في المنجم سواء كان العامل رسميا أو مياوما. لقد كان إدماجنا في العمل بصفة غير رسمية خطة للشركة لإفراغ دور العمال المرسمين (وذلك استنادا إلى قوانين التشغيل الجديدة في المغرب، مع نفس الملاحظة، هذه القوانين لا تمت بصلة بوضع التشريع في المناجم، وهو أمر وعلى ما أعتقد، لا زالت الدولة المغربية لم تقر في التمييز بين الشغل العام والشغل في المناجم أو في البحار )، وكان عددنا كبيرا وامضينا أكثر من سنة في العمل بدون ترسيم. في هذا الإضراب، تم تحييد حتى عمال عمل الصيانة وتسبب الإضراب بإغراق الأنفاق التحتية في الماء (انفاق رقم 12 و11 وجزء من 10 وصل الماء فيه أكثر من نصفه) وهي خصارة مكلفة بكل تأكيد (ونحن هنا لا نتكلم على أنفاق عادية بل نتكلم عن أنفاق قد تصل إلى ثلاث كلمترات) وكلفت الشركة أكثر من ثلاثة أشهر في العمل على استخراج الماء فقط. هذا الجرد هو واحد مما سمي حينها بإضراب القفاز، إضراب على إثر غياب وجود قفازات العمل لدى الشركة، والحقيقة كانت تهييء مفتعل، من جهة مبني على تناقضات قيم المنتوج في السوق الدولية ومن جهة اخرى ظهور آليات جديدة متطورة للعمل، ومن جهة أخرى استثمار التشريعات القانونية المغربية لتقليص العمال، والإعتماد على عمال المياومة، وطبعا لا نغفل سياسة إركاع العمال.. يبقى أن أشير إلى نبض آخر، ظهر في المغرب ما يسمى بالتعدد النقابي، وظهرت أيضا إشكالية التوفيق بين رؤى مختلف النقابات بالمنجم، ما كان يوحي بغضراب القفاز في المنجم هو قراءة أخرى للإضراب من طرف نقابة كانت سابقا خاصة بالتعليم، وترى أن إلاضرابات الطويلة الأمد مهلكة للعامل أيضا وهي موضوعيا تستند إلى أمر واقعي، ففي الحوار النقابي في جبل عوام كان قد هضم فعلا فاعلية التعدد النقابي، وبرغم أن الإتحاد المغربي للشغل كان يشكل القوة الأولى إلا أن هناك إشكال البقاء على نسبة الإضرابات التي كانت تفوق 80 في المائة، وعليه تم استيعاب وجهة نظر الكونفدرالية المغربية للشغل في تقييمها خسائر العامل في الإضراب، كان اقتراحها هو العمل على خلق شكل نضالي مختلف للتقليد العمالي: إضرابات موجعة للشركة وغير منهكة للعامل، وشخصيا أعتبر هذه الوجهة النظرية هي إبداع أبناء عمال مناجم جبل عوام أكثر من أن تكون وجهة نظر الكونفدرالية، وكانت تستند عمليا إلى القيام بإضرابات قصيرة مع جس النبض للشركة وهو ضمنيا ما تحول إلى سخرية القفاز بعد نجاح إضراب 1990.
#عذري_مازغ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عودة إلى أزمنة مهدي عامل الرائع
-
التجمع الوطني الكاتالاني
-
تحية خالصة للحوار المتمدن في ذكراه 16
-
الزفت وقانون تغريم الراجلين
-
إلى الجحيم من لا يتضامن مع فلسطين
-
هل يجب أن نستغل الإنسان كما نستغل البغال
-
فلسطين، المغرب ومهدي عامل
-
رجلين لحمامة، فين خدامة
-
أزوفري
-
مشكلة الحسيمة بالريف شمال المغربي .
-
الديموقراطية
-
الأمازيغية: قضية أم مسألة؟
-
جبل عوام: الثعلب لذي انتقل من مجرد عامل تقني إلى مالك راسمال
...
-
مرثية لروح والدي الطاهرة
-
جينيالوجيا الشيوعية (2)
-
شذرات أمازيغية: الأمازيغي و الهوية!
-
حول ضربة -زعطوط-(1) الأشقر
-
جينيالوجيا الشيوعية
-
آدم عربي : العمل المنتج والعمل غير المنتج
-
ماماس: الشاعرة الأرضنية المغربية
المزيد.....
-
تشديد الاجراءات العسكرية في بيت أمر والخليل واعتقال 24 فلسطي
...
-
عبر الرابط الرسمي.. خطوات التقديم على منحة البطالة في الجزائ
...
-
“خبر مفرح لكل العراقيين”.. وزارة العمل تصدر خبر هام للمواطني
...
-
اتفاق ينهي إضراب عمال موانئ الساحل الشرقي لأميركا
-
بعد مجزرة طولكرم.. إضراب بالضفة ودعوات للتصعيد ضد الاحتلال
-
ناشطون يهاجمون مقر جامعة الدول العربية في تونس احتجاجا على
...
-
لماذا رفعت الحكومة المصرية مبلغ شراء القمح من المزارعين لأعل
...
-
النسخة الألكترونية من العدد 1817 من جريدة الشعب ليوم الخميس
...
-
جدول صرف رواتب الموظفين هذا الشهر أكتوبر الجاري 2024 حقيقة ت
...
-
ارتفاع طفيف لعدد طلبات إعانة البطالة الأسبوعية بأميركا
المزيد.....
-
الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح
...
/ ماري سيغارا
-
التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت (
...
/ روسانا توفارو
-
تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات
/ جيلاني الهمامي
-
دليل العمل النقابي
/ مارية شرف
-
الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا
...
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها
/ جهاد عقل
-
نظرية الطبقة في عصرنا
/ دلير زنكنة
-
ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|