أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فرات المحسن - محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز ج 2















المزيد.....


محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز ج 2


فرات المحسن

الحوار المتمدن-العدد: 5648 - 2017 / 9 / 23 - 15:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز ج 2

لقاء وتحرير
فرات المحسن

يفغيني بريماكوف رجل يعرف من أين تؤكل الكتف


كانت هناك قناعة عند بعض أعضاء اللجنة المركزية وأيضا بريماكوف بأن أطروحتي للدكتوراه سوف لا تنال نصيبها من النجاح، وبصورة مؤكدة سوف تواجه الرفض من قبل اللجنة العلمية التي مهمتها مناقشة الأطروحة والاستماع لدفاعي. ولكن خلال النقاش نال الكثير من مواضيعها استحسان ميرسكي وكذلك عميد كلية التاريخ، وقد أشادوا بما عرضته لواقع حال الصحافة المصرية وما قدمته من تحليلات قالوا بأنها جد صائبة وعلمية، وهذا هو المهم في الآمر. وقد عرضت للتصويت فوافق عليها بالإجماع وامتنع شخص واحد، وهذا الشخص وجه لي أثناء النقاش سؤال تهكمي قائلا هل للسيد بريجنيف رأي في العلاقة مع القيادة المصرية وطبيعة ومسار أفكارها وللسيد خليل عبد العزيز رأي مخالف في ذلك ؟فهل من الواجب والعقل أن اصدق خليل عبد العزيز أم أثق بالسيد بريجنيف؟ فأجبته مباشرة كلا يا سيدي، عليك أن تصدق بما يقوله بريجنيف. عندها علت وجهه ابتسامة عريضة وقال، السيد بريجنيف كان يخاطب السيد الرئيس جمال عبد الناصر وكذلك الرئيس أنور السادات بكلمة رفيق، فكيف لي أن أصدق عبد العزيز وأنا عضو في الحزب الشيوعي منذ الحرب الأهلية ودافعت عن ثورة أكتوبر العظمى ولذا أعلن مباشرة وقوفي بالضد من الأفكار التي قدمها خليل عبد العزيز في أطروحته، وكان الوحيد في موقفه هذا دون باقي الأساتذة، الذي كان مجموعهم ستة عشر أستاذا.
بعد مضي أسبوعين ومن حسن حظي حدث الذي كنت قد توقعته، فقد قام الرئيس أنو السادات بطرد الخبراء الروس من مصر. عندها وبالصدفة التقيت هذا الأستاذ الممانع فسألني، أي هاجس كنت تحمله وكيف لك أن تتنبأ بالذي حدث؟ فأجبته بأن جميع الوقائع على الأرض كانت تؤشر لذلك، وإن سوء الأوضاع وتضارب الأفكار والمناهج وتذبذب السياسات وانعدام أي معلم علمي مقنع لمسيرة المصريين نحو البناء الاشتراكي، هذا ما كان سبب تحليلي للواقع المعاش في مصر وعلاقتهم بطريق التطور اللارأسمالي أو الاشتراكي، شكرني وقال لي بأن موقفي كان صائبا وأنه بالذات من صوت بالضد من أطروحتي ونيلي الشهادة.
بعد انتهاء دفاعي وحصولي على النتيجة الإيجابية تقدم مني أعضاء الوفد الذي أرسله السيد غفوروف مدير معهد الاستشراق وأخبروني بأنه يطلب حضوري صباح الغد إلى المعهد. وجدت في ذلك فرصة مناسبة جدا أن ألتقي بأحد رجال السياسة والقرار الكبار في الاتحاد السوفيتي والمسؤول عن واحد من أهم معاهد البحوث الإستراتيجية، وسبق أن كان السيد باباجان غفوروف سكرتيرا للجنة المركزية للحزب الشيوعي في جمهورية طاقجستان السوفيتية وشارك في العديد من المعارك دفاعا عن الثورة الاشتراكية وعن الاتحاد السوفيتي ونال التكريم من القيادة السوفيتية.
منذ الصباح الباكر بدأت بالتحضر للزيارة بشكل مناسب. كنت مبهورا وأنا أدخل للمرة الأولى هذا الصرح العلمي الحيوي. أخبرت الاستعلامات بأن لي موعد مع السيد مدير المعهد فسألني الموظف عن أسمي وبعد أن أخبرته رحب بي ورفع الهاتف وأتصل ذاكر اسمي ثم أرشدني إلى غرفة المدير. طرقت الباب ودخلت فوقف السيد غفوروف وصافحني بحرارة وهنأني على نجاحي ونيلي درجة الدكتوراه في الصحافة، وقال أنت أبليت بلاءا حسنا وأنا قمت بواجبي، في تلك اللحظة لم يخطر على بالي أن أدقق جيدا بقوله هذا ولكن بعد عملي في المعهد عرفت دور السيد غفوروف في تذليل بعض الصعوبات والدفع لتسهيل مهمة دفاعي عن الأطروحة. بعدها سألني عن الذي أفكر به بعد نيلي الشهادة وما هي مشاريعي المستقبلية، فأجبته بأن ذلك يتعلق بموقف الحزب الشيوعي العراقي، فهناك قرار متخذ من الحزب بخصوص أعضاءه ممن ينهون دراستهم، حيث عليهم تطبيق شعار الحزب ( التفوق العلمي والعودة إلى الوطن ). رد غفوروف علي جوابي بالقول إن هذا لا يعنيني، وأنا أقترح عليك الآن العمل معنا هنا في المعهد، فهل توافق؟ لحظتها انتابتني مشاعر سعادة غامرة فلم أتردد بالجواب، نعم يسعدني ذلك جدا. ثم تداركت الآمر وقلت بأن المصادقة على شهادتي لم تصدر بعد فكيف لي أن أعمل عندكم، قال غفوروف أبعد ذلك عن ذهنك فليس له أهمية عندي وتعال غدا صباحا لتبدأ العمل في المعهد، فالموافقة على أطروحتك ستتم حتما في وزارة التعليم العالي السوفيتية.
صباح اليوم الثاني جئت مبكرا إلى المعهد فوجدت أمرا تحريريا قد صدر بتعييني بصفة باحث علمي أقدم في معهد الاستشراق. عندها فسرت هذه العجالة في تعيني كباحث علمي في المعهد بأنها جاءت وفق ما يظهر من خصومة مع السيد بريماكوف وجماعته وبالذات بعض أقطاب معهد الاقتصاد والعلاقات الدولية وأيضا مجموعة العلاقات الدولية في اللجنة المركزية بقيادة بناماريوف. فالسيد غفوروف أراد أن أكون أداة لتصعيد التنافس والتناحر من خلال عرض ما يفند أو يقف بوجه أطروحات بريماكوف عن الواقع السياسي وتطوراته في مصر، فالسيد غفوروف لم يكن ليعرف الأشياء الكثيرة عن حياتي وسيرتي الذاتية، ولكنه وجد نفسه يقف بجانبي بعد أن عرف موقف بريماكوف المتشنج والمعاند ومحاولاته العديدة لمنع مناقشة أطروحتي التي تفند العديد من آراء بريماكوف.
في اليوم الأول من مباشرتي الدوام في المعهد أطلعني السيد غفوروف على طبيعة عملي، ووضع لي قواعد عمل علي السير عليها، قائلا بأن لا علاقة لي بأي قسم من أقسام المعهد وإنما أرتبط به مباشرة دون سواه.ورغم وجود القسم العربي في المعهد والذي يديره السيد ليبيدوف فأن ليس لي علاقة بذلك القسم، ولكن يمكنني أن أتصل بهذا الشخص عند الحاجة أو حين يطلب هو مقابلتي. وأن أعمل معه أي غفوروف كمساعد ولن أكون مقيدا بنظام المعهد الذي يتطلب حضور الباحثين وأغلب العاملين في أقسامه مرتين في الأسبوع ، أما أنا فكان علي الحضور يوميا كمساعد للسيد غفوروف أو متى أراد مني الحضور.
خلال شهر من عملي في المعهد تأكد لي بشكل ناجز وجود خلافات عميقة وصراعات سياسية بين تلك المجاميع في مؤسسات الدولة وبالذات البحثية منها أو داخل أوساط اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي ولكن جميع تلك الخلافات تختفي تحت سقف الاجتماعات ويقدم للعالم بعد ذلك خطاب أيدلوجي موحد يعبر عن كتلة حزبية متراصة.
بعد مضي فترة سلمني غفوروف ملف عن أفغانستان. لم تكن عندي معلومات كثيرة عن ذلك البلد وكان حالي حال من يتابع الأخبار من خلال وسائل الإعلام. كان الملف يحتوي على تقارير الاستخبارات السوفيتية وكذلك تقارير السفارة السوفيتية ومقالات صحف والموقف الأمريكي ومثله البريطاني. كان الجيش السوفيتي يحتل أفغانستان وقتذاك، سألت غفورف عن المطلوب مني عمله مع هذا الملف إذا كان كل شيء فيه يتحدث بالتفاصيل الدقيقة عن الوضع هناك. فقال غفوروف أنه لا يريد الحديث أو استعراض وجهات النظر أو متابعة الأخبار الموجودة في الملف، وإنما يتطلع أن يحصل على معلومة تؤكد أو تنفي وجود خلاف حول فهم المسألة الأفغانية، وبالذات بيننا وبين الآخرين. وطلب مني أن أكتب رأيي بعد قراءة الملف ثم أجلس مع سعيد كميلوف لترجمته إلى الروسية. توقفت متمعن بجملة (وجود خلاف بيننا وبين الآخرين) عندها أدركت بأني أصبحت جزء من هذه الكتلة التي يقودها غفوروف.
في الجانب الآخر كان مركز يفغيني بريماكوف وبمرور الوقت يتعزز وبدأت الخصومة بين معهد الاستشراق ومعهد الاقتصاد والعلاقات الدولية تطفو فوق السطح وكانت الأحداث تتسارع في مصر وتتجه نحو الأسوأ. في ذلك الوقت كان غفوروف يطلب مني كتابة تصوراتي عن أحداث مصر ليقوم سعيدوف بترجمتها وترفق مع باقي التقرير العام الذي يعده المعهد ويرسل إلى المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، وكان التقرير يخلو من ذكر اسمي. فجأة وبعد عدة تقارير وفي أحد الأيام طلب غفوروف إدراج أسمي بين أسماء المشاركين في إعداد التقرير، عندها شعرت بحدوث نوع من التغيير في سياق العمل، فسألت عن السبب في هذا فأجابني غفوروف بأن هناك قرار صدر من المكتب السياسي للحزب يؤكد وجوب ذكر جميع من شارك في إعداد التقرير، شعرت وكأن هذا الآمر يعنيني بالذات وليس شخصا أخر، وأنه محاولة من بناماريوف ـ بريماكوف وجماعتهم للتمهيد لمؤامرة تخصني. لم تمض على مشاركتي في إعداد التقارير غير فترة ليست بالطويلة ربما شملت أربعة أو خمسة تقارير فقط، حين أخبرني غفوروف بأن هناك من أتصل به من أللجنة المركزية للحزب وسأله من يكون هذا الدكتور خليل عبد العزيز، فأخبرهم بما يتعلق من معلومة عني مؤكدا كوني شيوعي عراقي سبق وأن حكم عليه بالإعدام في بغداد، كذلك سألوه عن الكيفية التي تم فيها توظيفه للعمل في المعهد. فرد عليهم كونه يمتلك صلاحيات للتعيين وفق خياره، وسألوه إن كان قد حصل على موافقة اللجنة المركزية فأجابهم بأنه غير محتاج لهذا وصلاحياته يستمدها من المكتب السياسي للحزب.
ضمن خطط المنافسة والصراع الذي كنت أنا محوره، كانت تثار بين فترة وأخرى وبإلحاح مسألة وجودي كأجنبي في المعهد، وكان غفوروف يواجهها بعناد وردع قوي. في أحد الأيام أتصل بي رئيس دائرة الهجرة لعموم الاتحاد السوفيتي وطلب حضوري إلى دائرته مع جلب جميع الأوراق الثبوتية الخاصة بإقامتي في الاتحاد السوفيتي لغرض إتمام معاملة منحي الجنسية السوفيتية، في الوقت الذي شعرت بفرح غامر، توجست خيفة من هذا الآمر، وتساءلت لمَّ يتصل مدير دائرة الهجرة والإقامة مباشرة بي دون سابق معرفة أو مقدمات للطلب، لذا ذهبت إلى السيد غفوروف وأعلمته بالخبر وأنا منشرح الصدر مستعد لنيل الجنسية السوفيتية التي يتمناها الكثيرون. وقد اعتقدت بأن الجنسية السوفيتية سوف تساعدني وتغير نمط علاقاتي في المعهد ومع مؤسسات الدولة الأخرى، وتقف أيضا بوجه محاولات إقصائي وتحجيمي. وعند مقابلتي لغفوروف شرحت له ما حصل، ففاجأني بالقول عليك أن ترفض هذا العرض، فهم يسعون لتجميد عملك في المعهد أو أي مؤسسة أخرى. فتساءلت كيف ؟
عندها أجابني بأن الغاية من منحي الجنسية هو تجميد عملك كليا، فعندما تصبح مواطنا سوفيتيا سوف تفرض عليك قواعد وقوانين منع التعامل مع غير المواطنين السوفييت، حيث يمنع عليك مقابلة أي مسؤول أجنبي دون الحصول على موافقة أمن الدائرة التي تعمل بها، وهذا سوف يعيق عملنا سوية ويهيأ الظرف للإطاحة بك كباحث علمي في المعهد، وإن خرقت التعليمات فسوف تواجه بما لا يحمد عقباه وعلى ابسط الأمور، وسوف تكون عملية طردك من وظيفتك سهلة جدا على صديقك اللدود بريماكوف.
منذ تلك الحادثة بدأت تظهر بحدة الخلافات بين المعهدين وكنت شخصيا واحدة من تلك السجالات والمشاكل، وما عاد بريماكوف يخفي محاولاته الحثيثة لإقصائي عن العمل في المعهد، ولكن قوة شخصية وتأثير غفوروف السياسي كان يثلم ويمنع كل تلك المحاولات، ولكن بريماكوف ما كان ليستكين. وفي ذات الوقت وبموازاة أفكار بناماريوف كانت سياسة الاتحاد السوفيتي تتمسك بالنهج الفكري الذي تغذيه هذه المجموعة. وكانت أفكار بناماريوف تتساوق وأفكار بريماكوف وكان كل ذلك يمثل حقيقة النهج السياسي للاتحاد السوفيتي ويعتمد في التعامل الدولي.
ورغم صعود نجم بريماكوف وارتفاع وتائر تأثيره في السياسة العامة وعلى مصادر القرار فأنه لم يكن ليتركني وشأني ويشير دائما لكوني معارض لسياسة الحزب الشيوعي السوفيتي وبالذات لرؤيته حول الأحداث والقوى السياسية وقياداتها في العالم الثالث، وكنت جزء مهم من خططه للصراع مع مدير معهد الأستشراق. وفي نهاية المطاف كان هذا الصراع الخفي أحيانا والعلني في أحيان أخرى هو السبب الرئيسي الذي عمل على إقصائي وإخراجي من وظيفتي في معهد الاستشراق.
كانت نقاشاتي مع بريماكوف تأخذ طابع التشنج فهو دائما ما يحاول استفزازي ويختار المواضيع التي تثيرني وتزعجي، ففي واحدة من تلك المرات طعن أمامي بالحزب الشيوعي العراقي وسألني سؤالا استفزازيا عما فعله الحزب الشيوعي العراقي لوطنه العراق.فأخذت أشرح له مواقف الحزب ونضاله منذ ثلاثينيات القرن العشرين وتقديمه القرابين على مذبح الدفاع عن الحريات المدنية والحياة الحرة الكريمة للشعب ومن أجل وطن حر وشعب سعيد وقدم حزبنا سكرتيره الأول فهد ثم سكرتيره الآخر سلام عادل وآلاف الشهداء لهذا الهدف السامي، فأجابني بأنه يتفق معي في ما ذهبت أليه، ولكن أجبني ما الذي قدمتموه للناس فأجبته، بأننا حفرنا في ضمائر أبناء الشعب حب الوطن والحرية وحرضناهم للمطالبة بحقوقهم وبناء وطنهم بعيدا عن الاستلاب والخوف والخضوع لسطوة الأجنبي وعملنا على تثقيف الجماهير وتوعيتهم بالحقوق المدنية، فقال وماذا يعني هذا ، فيمكن لأي شخص ومن خلال برنامج إذاعي واحد القيام بكل ما تحدثت عنه، وأني أرى بأنكم وبعد كل هذا المدة الطويلة التي مضت على تأسيس حزبكم، لم تستطيعوا أن تقدموا شيئا لشعبكم،وقد كنتم في فترة ما تؤيدون عبد الكريم قاسم رغم أنه لم يكن ليمنحكم منصبا في سلطته، ثم ختم حديثة بالقول، أنا لا أثق بسياسة أي حزب شيوعي عربي ولا أؤمن بأدوار لها في بلدانها، وأعتقد بأنها غير قادرة على فعل شيء ما ، أيضا على المرء أن ينظر لتجربة حزب البعث الذي استطاع السيطرة على السلطة في سوريا وكذلك العراق رغم قصر عمره في عالم السياسة بالنسبة لعمر حزبكم، أيضا أنا أنظر بعين الرضا والتقدير للتجربة الناصرية.

صعود نجم بريماكوف

كان أغلب الصحفيين من العاملين في وسائل الإعلام السوفيتية لهم رأي جازم بكون السيد يفغيني بريماكوف يعمل في لجنة أمن الدولة المسماة كي جي بي، وحتى المصريين كانت قناعاتهم تصب في هذا الاتجاه ، ولكنه وعلى المستوى الشخصي دائما ما كان ينفي هذه العلاقة و يعلن بشكل متكرر بأنه يتحدى أي شخص يستطيع أن يثبت وجود مثل هذه العلاقة أو عمله في ذلك الجهاز. ولكون السيد بريماكوف كان مسرفا في تناول الكحول ويتعاطى الشراب يوميا، لذا في أحدى المرات وتحت سطوة الكحول وأمام جمع من أصدقاءه قال إن ليس لديه علاقة بالكي جي بي فهو يعمل في دائرة أخرى يطلق عليها المنظمة العسكرية المضادة للاستخبارات والجاسوسية. بدوري فقد حصلت على تأكيد لهذه المعلومة من شخصيات ذات نفوذ في السياسة السوفيتية ولهم علاقة ببريماكوف شخصيا.
كانت شخصية ومكانة السيد بريماكوف تتعزز مع مرور الوقت بسبب علاقته بعضو المكتب السياسي للحزب السيد بنماريوف لتقارب أفكارهم ورؤيتهم التي تنم عن عداء مستحكم للأحزاب الشيوعية في البلدان النامية ومنها الأحزاب الشيوعية العربية، وتأكيدهم الدائم على عدم قدرة تلك الأحزاب على قيادة المجتمع أو إحداث تغيير في طبيعة الحكم في بلدانها لصالح الطبقات الفقيرة.
تخرج بريماكوف من معهد الدراسات الشرقية وتخصص باللغة العربية، فعمل في القسم العربي من الإذاعة في موسكو، ثم عمل في جريدة البرافدا وأرسل إلى القاهرة كمراسل للجريدة وكان يقوم يوميا بإرسال تقارير إلى موسكو تتحدث عن الوضع في مصر والتطورات اللاحقة لهذا الحراك.ثم بعد قضائه فترة طويلة في القاهرة لعب فيها دورا حيويا في العلاقة بين البلدين وعزز مكانته بين المراسلين الصحفيين القادمين من الاتحاد السوفيتي وبات له مركزا مميزا هناك.تم إرجاعه إلى موسكو ليعاود العمل في أقسام صحيفة البرافدا ولكن بعد فترة قصير عين باحثا في معهد الاقتصاد والعلاقات الدولية، ثم صعد نجمه ليصبح مديرا لمعهد الأستشراق بعد خلو المركز الوظيفي إثر وفاة السيد غفوروف. ودائما ما كانت تثار التساؤلات حول صعوده السريع وتسلقه للمناصب. ولكن مثل هذا الاستغراب والدهشة يبطلان لو عرفنا بوجود لوبي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي والمكتب السياسي كان يدعم توجهات وأفكار بريماكوف لا بل يتبنى أطروحاته لذا تسهل له المهام وتدفع به للصعود في سلم المناصب.ويمكن القول بأن هناك كتلة قوية داخل السلطة والحزب الشيوعي تدير من الداخل وترسم سياسة الدولة السوفيتية وبعدها الدولة الروسية، يمكننا توصيفها بالدولة العميقة.
فحين توفى السيد غفوروف مدير معهد الأستشراق بقي مكانه فارغا، وكان موته خبرا سعيدا لتلك الكتلة وبالذات الموجودة في معهد الاقتصاد والعلاقات الدولية. قدمت أسماء عديدة لتحل محل غفوروف ومنهم بروفيسور من أصل كوري اسمه كيم . كان هذا جديرا باحتلال الموقع ولكن هذا الطرح واجه اعتراض شديد من قبل أعضاء في اللجنة المركزية للحزب وقرروا أن يملأ الموقع الوظيفي بشكل مؤقت لحين تهيئة البديل، ولكن لم تمض غير فترة قصيرة حين عين بريماكوف مديرا لمعهد الاستشراق رغم بعده المهني والعلمي عن طبيعة المعهد ومهامه. ولم يدع بريماكوف الوقت يمضي فسرعان ما عمل على تسريح وإزالة جميع من كانوا على علاقة بغفوروف.
عند فتح أرشيف اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي أمام الباحثين في شهر آب (أغسطس ) من عام 1991 أثار ذلك الكثير من الشهية للإطلاع على خفايا السياسة السوفيتية، وقد صدر عن ذلك كتاب ظهرت فيه مجموعة رسائل لعلماء سوفييت مرموقين كانت موجهة إلى قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي، يطالبون فيها باتخاذ إجراءات عقابية بحق يفغيني بريماكوف الذي كان في ذلك الوقت مديرا لمعهد الاستشراق السوفيتي وجاء في نص أحد الرسائل ما يلي:
* الشيوعيون في معهد الاستشراق لأكاديمية العلوم السوفيتية يطلبون منكم اتخاذ الإجراءات القاسية بحق الأكاديمي بريماكوف والذي لقبه الحقيقي ( كيرشنبلات)، نظرا لما يقوم به من أعمال تعسفية وغير قانونية كالارتشاء وسوء استخدام مركزه الوظيفي واستغلاله لمصالحه الشخصية والذي دائما ما يفرض أعماله تلك على معهدنا. إن قائد المافيا الصهيونية هذا دائما ما ينتهز ويسخر موقعة الوظيفي لمنافعه الشخصية، وهو وطوال عام العمل يقضي أوقاته في مهمات أيفاديه خارج الاتحاد السوفيتي، كذلك يجمع الرشوة من زملائه في العمل وبالذات منهم من الذين يعملون ويعيشون في الخارج.وقام ببناء قصره الريفي الفخم الواقع في منطقة (ماليازيملي) من تلك الأموال.
يفغيني بريماكوف ـ كيرشنبلات ـ لا يهمه أي شيء فيما يخص موارد الدولة ولذا يبذرها على مصالحه الشخصية الطامعة في الكسب غير المشروع. لقد دمر بريماكوف المعهد بأكمله وقام بتقسيم المهام وكذلك زملاء العمل، على مجموعة من الموالين والمقربين له من اليهود ، أما من هم خارج هذه التقسيمات من العلماء فيعدهم بريماكوف غير مفيدين أو غير مؤهلين. انتهت

كان بريماكوف ذكيا جدا ويعرف جيدا من أين تؤكل الكتف، فهو يتمتع بحدس كبير وبقدرة سياسية واجتماعية فائقة قادرة على التأقلم مع الوضع والتغيرات، وحتى العلاقة بالأشخاص خاصة من الدرجات الحزبية والإدارية العليا. ففي عهد بريجنيف كان السيد بريماكوف ملتصقا بالقيادة ويلبي ويساير مختلف السياسات السوفيتية، ويبدو وكأنه داخل طاقم السلطة وقريب من قرارها،ثم كان من حاشية غرباشوف حين وصل الأخير إلى سدة الحكم وكان يساعده على ذلك السيد ياكفليف عضو المكتب السياسي للحزب والذي سبق وأن عمل سفيرا لموسكو في كندا، وخلال تلك الفترة صعد نجم بريماكوف ليصبح عضوا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي. وحين أطيح بغرباشوف وأعتلى سدة الحكم الرئيس يلتسين عين بدوره بريماكوف مديرا للمخابرات العامة ثم أصبح وزيرا للخارجية وارتفع نجمه ليصبح بعدها رئيسا للوزراء رغم وجود رأي عام ضده في عموم الاتحاد السوفيتي ثم في روسيا .
في فترة من الفترات حين كان يعمل بريماكوف في الصحافة كلفته القيادة السوفيتية الذهاب إلى العراق لمحاولة نزع فتيل الأزمة بين الحكومة العراقية والحركة الكردية بقيادة الملا مصطفى البرزاني، وكان هاجس القيادة السوفيتية هذا ينظر بعين الريبة إلى علاقة الأكراد بسلطة شاه إيران والخوف من إن يستغل الشاه تلك العلاقة لمصالحه في المنطقة. لذا كلف بريماكوف للذهاب إلى هناك ومحاولة جسر الخلاف بين الحكومة العراقية والحركة الكردية. كانت اتصالات الاتحاد السوفيتي بأكراد العراق تتخذ طريق طهران للوصول إلى كردستان العراقية، ولكن هذه المرة أصر بريماكوف الذهاب مباشرة إلى بغداد ومن ثم الانتقال منها إلى كردستان، معلل السبب في طلبه هذا، بعلاقته الطيبة بصدام حسين وقدرته التحاور مع القائد العراقي بشكل صريح ومنفتح.

دخل بريماكوف العراق بصفة مراسل لوكالة أنباء تاس السوفيتية وتحدث مع القيادة العراقية وبالذات صدام حسين وطلب منهم تسهيل مهمته وتوفير وسيلة لتنقلاته بين الطرفين، وفر له الجانب العراقي ما أراد من تسهيلات فراح يتنقل بثقة بين طرفي النزاع . ورغم أنه جاء بتكليف من قادة الاتحاد السوفيتي وبمهمة محددة فأنه دائما ما كان يعلن بأن مهمته تتعلق بإجراء تغطية صحفية خاصة للأحداث .
كان بريماكوف يحضر لمقر وكالة تاس في العاصمة العراقية كلما عاد من مهمته في كردستان.وكان يعمل في مقر تاس رجل عراقي يعمل مترجم هناك أسمه فاضل فرج وهو خريج الاتحاد السوفيتي ومن الشخصيات الديمقراطية التقدمية. كانت طلبات بريماكوف من السيد فاضل فرج تتعلق بما يرد من أخبار يومية في الصحافة العراقية وكذلك كان يتحدث حول مهمته المتعلقة بالصلح بين طرفي النزاع، ولقد أخبر بريماكوف السيد فاضل فرج بأنه منح الضوء الأخضر من صدام حسين وصلاحيات للتفاوض مع الملا مصطفى لغرض إنهاء الاقتتال ووضع حد للمشاكل والعلاقات المتشنجة. فقدم السيد فاضل فرج نصيحة لبريماكوف قائلا له بأن عليه أن لا يثق بصدام حسين وبسياسات حزب البعث فأجابه بريماكوف بأن هذا الكلام كلام الشيوعيين وأنه يثق ثقة كبيرة بصدام وسوف تكون هناك في القريب العاجل نتائج ايجابية.
كان بريماكوف وفي كل مرة يعود بها إلى بغداد يذهب إلى الغرفة التي يعمل فيها السيد فاضل فرج في وكالة تاس ويحدثه عن وقائع لقاءاته مع قادة الأكراد وأين وصلت المباحثات فلا يجد من السيد فاضل غير الموقف السلبي والمضاد لحزب البعث وصدام حسين، وحين وصل الاتفاق إلى مراحله النهائية قال بريماكوف، أريد أن أحمل لك البشرى بأن الأيام القليلة القادمة سوف تفرج عن أتفاق يعقد بين الطرفين يوقف القتال ويمنح الأكراد حكما ذاتيا، عندها أخبره السيد فاضل فرج بأن حزب البعث وصدام من المستحيل أن يكونوا صادقين في نواياهم وسوف لن يطول الوقت ليتخلوا عن أي أتفاق كان، وأنت ولكونك توفيقي، لا تشاهد ما خلف اللوحة، وعليك أن تفهم بأن هؤلاء فاشيون ولن يتخلوا عن فاشيتهم تحت أي ظرف كان . عندها أبدى بريماكوف انزعاجه وأكد أن الأطراف جميعها اتفقت وسوف توقع الاتفاق، وأنت حالك حال جميع الشيوعيين العراقيين. فلم يتردد السيد فاضل فرج بوصف بريماكوف بالتوفيقي مرة أخرى.
بعد ذلك أصبح مدير وكالة تاس السيد ماتيوشيك يعامل السيد فاضل فرج معاملة غير جيدة وفي نهاية المطاف أخبره بأنهم استغنوا عنه كمترجم في الوكالة، وحين سأله عن سبب ذلك أخبره المدير بأن بريماكوف قد أتصل به هاتفيا من موسكو وطلب منه طرد السيد فاضل من العمل في وكالة تاس، وبعدها تم تعيين السيد كاميران قره داغي مترجما في وكالة تاس بدلا عن السيد فاضل فرج.



#فرات_المحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز1
- الوهابية والاخوان المسلمين، صراع الأخوة الأعداء هل يتحول لقت ...
- بوسترات
- كارل ماركس في العراق / الجزء الأخير
- كارل ماركس في العراق / الجزء الخامس والثلاثون
- كارل ماركس في العراق / الجزء الرابع والثلاثون
- كارل ماركس في العراق / الجزء الثالث والثلاثون
- كارل ماركس في العراق / الجزء الثاني والثلاثون
- كارل ماركس في العراق / الجزء الواحد والثلاثون
- كارل ماركس في العراق / الجزء الثلاثون
- تنويه
- الدراسة في الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية
- كارل ماركس في العراق / الجزء التاسع والعشرون
- كارل ماركس في العراق / الجزء الثامن والعشرون
- كارل ماركس في العراق / الجزء السابع والعشرون
- كارل ماركس في العراق / الجزء السادس والعشرون
- السياسة السوفيتية والأحزاب الشيوعية العربية/ ج2- لقاء صحفي م ...
- السياسة السوفيتية والأحزاب الشيوعية العربية/ ج1- لقاء صحفي م ...
- كارل ماركس في العراق/ الجزء الخامس والعشرون
- كارل ماركس في العراق / الجزء الرابع والعشرون


المزيد.....




- روسيا تدعي أن منفذي -هجوم موسكو- مدعومون من أوكرانيا دون مشا ...
- إخراج -ثعبان بحر- بطول 30 سم من أحشاء رجل فيتنامي دخل من منط ...
- سلسلة حرائق متتالية في مصر تثير غضب وتحليلات المواطنين
- عباس يمنح الحكومة الجديدة الثقة في ظل غياب المجلس التشريعي
- -البركان والكاتيوشا-.. صواريخ -حزب الله- تضرب مستوطنتين إسرا ...
- أولمرت: حكومة نتنياهو تقفز في الظلام ومسكونة بفكرة -حرب نهاي ...
- لافروف: أرمينيا تسعى عمدا إلى تدمير العلاقات مع روسيا
- فنلندا: معاهدة الدفاع مع الولايات المتحدة من شأنها أن تقوض س ...
- هجوم موسكو: بوتين لا يعتزم لقاء عائلات الضحايا وواشنطن تندد ...
- الجيش السوداني يعلن السيطرة على جسر يربط أمبدة وأم درمان


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فرات المحسن - محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز ج 2