|
الحبُّ في زمن القهر
ضيا اسكندر
الحوار المتمدن-العدد: 5629 - 2017 / 9 / 3 - 20:28
المحور:
الادب والفن
منذ طفولتهما وهما يحبّان بعضهما.. كبُرا وتزوّجا. الشابّ وبتأثير من وجع الاستبداد والفقر والحرمان انخرط بصفوف حزبٍ يساري راديكالي متطرّف. والسلطات كانت بالمرصاد. ساقته إلى أحد الأقبية ليقضي زهرة شبابه في زنزانة ضيّقة تحت الأرض. زوجته التي رفضت كل مؤسّسات الدولة توظيفها، اضطرّت للعمل في أحد أفران المنطقة لتعيل أسرتها الصغيرة (ابنتها وزوجها المعتقل). تستيقظ كل يوم فجراً لتقوم بتحضير العجين، وعند اختماره ونضوجه تهيّؤه كأقراص تمهيداً لرقّه يدويّاً وتسلّمه لعامل حجرة النار. ليخرج رغيفاً لذيذاً تتلقّفه أيدي المشترين باشتهاء وفرح وسعادة. في مطلع كل شهر، وبعد وساطة من أحد الضبّاط المتنفّذين، تقوم بزيارة زوجها في المعتقل حاملةً معها بعضاً من أرغفة الخبز وما تيسّر من منتجات الضيعة الفقيرة، وبضع ليرات ادّخرتها لزوجها لتسديد بعض النفقات الضرورية في السجن. في بداية كلّ لقاء يضمّان بعضهما ويتبادلان القُبل. وتتعمّد إخباره بما يبهج القلب ويسرّ الخاطر، لتخفّف عنه آلام البعد ووحشة الفراق. ومع مرور الأسابيع والأشهر والسنوات.. بدأت تحنّ إلى دفء السرير مع رجل. قاومتْ بضراوة، قمعتْ مشاعرها وأحاسيسها، لكن استغاثات الغريزة كانت أضرى وأشدّ. عامل حجرة النار والذي يرتدي أثناء العمل قميصاً داخلياً صيفياً وبنطالاً قصيراً خلال كل الفصول بفعل الحرارة الشديدة المنبعثة من حجرة النار. شدّتها فتوّته ورشاقته ودماثته. فهو يغنّي بعض المقاطع من الأغاني الدارجة أثناء العمل، ويضفي على الجوّ نوعاً من الرواق الطروب. كانت تراقب عضلاته المفتولة وتصبّب العرق من كافة أنحاء جسده وهو يُدخِل رقائق العجين بواسطة رفش الفرن، ويُخرِج أرغفة الخبز الشقراء المرقّشة بألوان البنّي المحروق. وبين الحين والآخر يرتاح لثواني فيمسح عرقه بمنشفة غالباً ما يعلّقها على عنقه، ليتبدّى وجهه النضر الأحمر من شدّة التعب ووهج النار. وأكثر ما كان يثيرها وهي تسارق نظراتها إليه، عندما يمسح شعر إبطيه الكثيفين، فتسرح بخيالها إلى المناطق الأكثر حميميّةً في جسد هذا الرجل. مرّات ومرّات ضبطها وهي تنظر إليه بافتتان، فيصيبه بعض الخجل ويكتفي بالابتسام. في ظهيرة أحد الأيام وقد انتهت عمليات بيع الخبز وبدؤوا بإعادة ترتيب المكان استعداداً لليوم التالي، اقترب منها عامل حجرة النار وبغفلةٍ من صاحب الفرن المنهمك بعدّ الغلّة من النقود. وقال لها بصوتٍ خفيض: - يسعدني ويشرّفني أن تكوني زوجتي على سنّة الله ورسوله. ارتبكتْ، تلعثمتْ، لكنها لم تستطع منع تورّد ناري من الصعود إلى وجنتيها فأجابت بلَوْعة: - لكنني متزوّجة! قال لها: أعرف ذلك. ولكن ها قد مضى على غياب زوجك سنوات طويلة دون أن يعرف أحد متى سيطلق سراحه. وأرى أنه من حقّك التفكير بحاضرك ومستقبلك.. هزّتها موجة من المشاعر المتناقضة. حملت أغراضها القليلة وغادرت بصمت دون أن تنبس ببنت شفة. لم تنم تلك الليلة وهي قلقة تفكّر يتنازعها شعوران قويّان؛ ما بين عذاب هيجان الغرائز، وبين وازع وفائها لزوجها. في اليوم التالي طلبت من الضابط المتنفّذ أن يتوسّط ويؤمّن لها زيارة استثنائية لزوجها المعتقل. وكان الأمر. لدى وصولها لم يكن معها شيء؛ لا خبز، لا مأكولات، لا نقود.. حاول ضمّها وتقبيلها كالعادة، لكنها رفضت بأن وضعت راحتها على صدره مبعدةً جسده المشتاق. نظر إليها بعينين واسعتين مليئتين بالدهشة: خير؟ ما بكِ؟! قالت له: اعذرني، لا أستطيع ضمّك، فأنا أحبُّ شخصاً آخر. أسبل ذراعيه مبهوتاً وهو يحملق بها مروّع الوجه غير مصدّق وخرجت كلماته متعثّرة: - هل جئتِ لطلب الطلاق؟! تسلّل إلى صوتها نغمة من الأسى وهي تواصل سردها: - لا، لا! بل جئت لتساعدني، فأنا بحاجة إليك، أنت خير رفيق وصديق. ولا يمكن أن أستبدلك، قل لي ماذا أفعل؟ أطرق الزوج قليلاً وتنهّد بانكسار وقال مبتلعاً لعابه بصعوبة وقد اكتسى وجهه شحوبٌ مفاجئ: - من هو؟ أجابته بقلبٍ هابط وقد رقّ صوتها كما لو أنها توشك على البكاء: زميلي بالفرن.. قال لها وعيناه مسافرتان عبر النافذة المتشابكة القضبان: حبيبتي، أنا هنا إلى متى لا أدري. وبقائي وخروجي ليسا رهناً بمشيئتي؛ قد يُطلق سراحي اليوم، وربما غداً، وقد تطول فترة اعتقالي إلى أن أغادر هذه الدنيا اللعينة و.. سرعان ما وضعت راحة كفّها على فمه لمنعه من الاسترسال. وومض في عينيها اعتذارٌ وشيءٌ من حنانٍ قديم: - لا تكمل أرجوك! سأنتظرك إلى ما شاء الحاكم. لكن قل لي بربّك ماذا أفعل؟ شعر بنوعٍ من الارتياح، وتبدّدت قليلاً الغيوم الداكنة من سماء كآبته، بعد أن لمس رغبتها التمسّك به، وأجابها بصوتٍ متلجلجٍ منتقياً كلماته بحرص: - طالما أنتما معاً في مكانٍ واحد، سيصعب عليكما الابتعاد عن بعضكما. إذا كنتِ جادّة بالبقاء إلى جانبي لديك خياران، إمّا أنت أو هو.. يترك العمل. عند مغادرتها، استيقظ في داخلها شريطٌ من الذكريات بطلها زوجها وأهمّ المحطّات الجميلة في حياتهما خلال ثلاثة عقود. لدى اقترابها من بيتها لفحتها سحابة غبار ساخنة. توقفت في ظلال شجرة زنزلخت ريثما تهدأ عاصفة الغبار. لفت انتباهها وجود ورشة من العمال والعاملات منهمكين برصف طريقٍ فرعي جديد. طفقت تراقب المشهد متأمّلةً لدقائق؛ كانت شاحنة تقوم بإفراغ حمولتها من حجارة الصوّان، فتقوم العاملات بجمعها بواسطة قُفف من الكاوتشوك وإفراغها على الطريق، فيقوم العمال بفردها وتوزيعها وتكسير الأحجام الكبيرة منها بواسطة المطارق تمهيداً لتسويتها بواسطة المدحلة. التفتت إلى الخلف بعيداً باتجاه المعتقل، ونقلت نظرها صوب جهة الفرن، وسرعان ما عقدت العزم واقتربت من رئيس الورشة وسألته: - هل يلزمكم عاملة؟ نظر إليها متفحّصاً وخلع قبّعة القشّ التي كان يعتمرها ومسح صلعته من العرق بمحرمة وقال لها: - والله إذا كنتِ تتحمّلين التعب وحرارة الصيف القائظة.. يمكنك من صباح الغد المباشرة في العمل. رمقته بامتنان وهرعت إلى صاحب الفرن مهرولةً. وانهمرت دقّاتها على بابه إلى أن فتح. أبلغته أن يبدأ البحث عن عاملة غيرها.. وانصرفت دون أن تسمع قبوله أو احتجاجه. واتجهت مسرعةً إلى بيتها. كانت ابنتها بانتظارها على عتبة البيت تحمل بيدها قطعة خبز وقد توقّفت عن تناولها مرحّبةً بقدوم أمّها. عانقت ابنتها وقد اخضلّت عيناها بالدموع وقالت لها: - بابا مشتاق إليك كثيراً. ويقول لك سيعود إلينا قريباً، قريباً جداً، بل أقرب منّي إليكِ يا حبيبتي..
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وجهة نظر في بناء سورية الجديدة؟
-
فلاشات من هنا وهناك (6)
-
فلاشات من هنا وهناك (5)
-
التأمينات الاجتماعية وعمّال القطاع الخاص في سورية
-
أوّل لقاء..
-
قراءة في مشروع تعديل القانون الأساسي للعاملين في الدولة
-
وثيقة عهد
-
فلاشات من هنا وهناك (4)
-
السبب والنتيجة
-
فلاشات من هنا وهناك (3)
-
«القرضاوي» يشرح، ثم لا يجيب!
-
ياي، كل شيء فيها طبيعي!
-
عمّو الله، أرجوك لا تسهو!
-
اللغة «العصفورية»
-
فلاشات من هنا وهناك (2)
-
فلاشات من هنا وهناك (1)
-
الزنود السّمر
-
حُبّ تحت المطر
-
شهامة
-
لينين والقذّافي
المزيد.....
-
تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
-
المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز
...
-
طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه
...
-
بوتين يمنح عازف كمان وقائد أوركسترا روسيا مشهورا لقب -بطل ال
...
-
كيلوغ: توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف تأخر بسبب ترجم
...
-
عرض موسيقي مفاجئ من مانو شاو وسط انقطاع الكهرباء في برشلونة
...
-
مسقط.. أكثر من 70 ألف زائر بيوم واحد للمعرض الدولي للكتاب
-
محاربون وعلماء وسلاطين في معرض المماليك بمتحف اللوفر
-
إخترنا لك نص(كبِدُ الحقيقة )بقلم د:سهير إدريس.مصر.
-
شاركت في -باب الحارة- و-هولاكو-.. الموت يغيب فنانة سورية شهي
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|