سعدية العبود
الحوار المتمدن-العدد: 5616 - 2017 / 8 / 21 - 09:57
المحور:
الادب والفن
(مذكرات مهاجرة في نهاية السبعينيات)
في المحطات عندما تستوقفك الذكريات مع صديق قديم تستنشق عبق الجنان في صحراء التيه.أربعون عاما تعني الكثير لمن فارق أحبته ولقاء يحمل كل معاني الحب والألم والحزن
أنينُ القطارِ يثيرُ شجنَ الأنفاقْ
هادراً على سكةِ الذكرياتِ الطويلة
( من شعر عدنان الصائغ)
تنفست الصعداء أخيرا عند وأوشك على التوقف بسبب الخوف ما أعلن القطار نهاية رحلته, والتي استغرق ساعات طويلة. مرت ثلاثة أيام وهي تتخذ من هذا المقعد مقرا لراحتها ونومها , أصبح قلبها فارغا عندما كان ضابط الحدود يتفحص أوراقها, وما أن ختم الجواز عاد بريق وجهها .فقد حصلت على الجواز بوساطة قريب كانت تتوجس خيفة من كشف أمرها, بعد أن انفرط عقد الاتفاق مع الحكومة وباتوا مطلوبين من قبل رجال الأمن, فقد تم اعتقال احد زملاؤها وأرسلوا بطلب آخرين وهذا ما جعل ناقوس الخطر يدق ,ولولا مساعدة عمها المقيم في بلغاريا وحصولها على زمالة دراسية لكانت في خبر كان .
المبلغ البسيط الذي ادخرته بالإضافة إلى مساعدة الأهل لا يكفيها بالعيش هنا لذا عليها أن تقتر في إنفاقها, وكان أولها استخدام وسائط النقل والسكن .ستتخذ من هذا الفندق البسيط الموجود في اسطنبول مقرا لها لليلة واحدة ثم تنتقل إلى فارنا فقد تم قبولها في معهد الهندسة الكهربائية وسوف تكمل الماجستير وتفتح صفحة جديدة في حياتها .
سيكون سكنك في الاوبشيجيتي (القسم الداخلي )
ذلك ما قاله عمها وهو يستقبلها بالأحضان بقدر شوقه إلى الوطن فهو نزيل قديم فيه منذ قبوله ودراسته في الستينيات ولم يغادر إلى الأهل ,ويتبادل معهم الأخبار بصورة متباعدة .
لفت انتباهها جود ملصقات وحديث علني عما يحصل في العراق علقه طلبة اتحاد الطلبة أمام بوابة القسم الداخلي والجدران الداخلية جعلها تتوقف خوفا منكمشة على نفسها,قال لها :
لكِ الحرية في قول الحقيقة للعالم فأنت خارج سيطرة الدكتاتوريات .
كانت الأيام تمر هادئة وجميلة لولا الحدث الشخصي الذي حصل بين طالب من الاتحاد الوطني وأحد طلبة المعهد .بسبب شجار في المقهى سبب في قتل الطالب العراقي وهذا ما حدا بالحكومة العراقية أن تؤجج الصراع وتحوله إلى خلاف سياسي وسحب طلبة البعثات وسفارتها من بلغاريا ومنع سفر العراقيين إليها في عام 1979وهذا ما اثر على الوضع الاقتصادي في بلغاريا وكان من بنود الاتفاق اللاحق هو التشديد على طلبة اتحاد الطلبة كي تعود المياه إلى مجاريها .
كان ذلك أول إنذار جعلها تتحرك بحذر شديد ولأسباب أخرى غادرت بلغاريا قبل انهاء دراستها للعمل في جمهورية اليمن الديمقراطية عندها تم تدريبها عسكريا لغرض إعدادها للمواجهة .
كانت أحلامها اكبر من توقعها العودة إلى الوطن قبل إنهاء دراستها والالتحاق في صفوف المعارضة في شمال العراق . حملت معها لعبة صغيرة كانت تأمل تسليمها لابنة شقيقتها ,وكذلك بعض الحلي لشقيقاتها على أمل رؤيتهم لم يدر بخلدها إن الدخول سيكون عن طريق سوريا والقامشلي وصولا إلى شمال العراق عبر بهدينان .وهذا ما جعلها تتخلى عن الهدايا عند أول دار تم توزيعهم فيها ضمانا لسلامتهم وراحتهم .
تبسمت وهي تنظر إلى الأفق والسهل الأخضر المنبسط ,قيل لها لم نسر من هنا لان هذا يعني إنها تحت النظر والمراقبة والأهداف العسكرية ,إذ عليها العبور من داخل الأراضي التركية وعلى مسار خط النفط في طريق مليء بأبراج المراقبة والدوريات .
لم يبلغوا بالمغادرة بعد لان القمر يتوسط السماء سيكون الموعد في الأيام المظلمة لضمان سلامتهم,وبسبب وجود الإدلاء والحركة والتنقل السريع تم اجتياز المخاطر ,وسيكون عليهم العبور والسكن في الكهوف وعلى حافات الصخور الناتئة وتجاوز الأنهار ومسقط المياه المنحدر بسرعة .
تندر المرشد وهو ينظر إلى حجم الحقيبة التي تحملها فقد عبأتها بالهدايا لأصدقاء لها ولشقيقها ,قد تبحث عنهم في الموقع أو ترسلها مع احدهم فقد علمت انهم سبقوها ,ولكنه تعاطف معها ورفع جزء من حمولتها ,وهو يقول :
الطريق صعب ووعر ولا يمكنك حمل كل هذه الأمتعة عليك حمل ما هو ضروري لإدامة الحياة لأننا نفتقد إلى ابسط أمور الحياة في مسيرنا .
.دخول الحدود العراقية كان اخطر من سابقها لان المسير على الطريق الرئيس الموازي لخط أنبوب النفط ,قال الدليل وهو يستحثهم للسير بسرعة:
سينكشف الصباح ولابد لنا من إكمال عبور الجبل ونهر الخابور قبل الفجر , ثم استدرك هناك دورية مقبلة .لم تستطع تبين كيفية معرفته بذلك لكن تموج الطريق كان يسمح بظهور الإنارة حينا و إخفاؤها حينا آخر.
كان دليلا آخر ينتظرهم عند النهر وقد هيئ إطارات يتم نفخها عند المجرى الهادر كي لا يسمع صوت النفخ وينكشف المكان ,ثم يتم وضع الخشب وتغطيته وربطه ليصبح جاهزا للعبور. فجأة سمعت صوت تعرفه يرحب بها ,كان احد زملاؤها الأكراد من ايام الدراسة وكانت حينها تشعر بأن شيء ما يشدها إليه , شعر بخوفها من عبورها هذا المجرى الخطر , امسك بيدها بقوة وهمس بأذنها لا تخافي إنا معك .
قال لها ؛
سأدبر أمرك في تهيئة بعض الاحتياجات وعليك تدبير الباقي ,تصرفي بهدوء لا أريد لفت أنظار الآخرين .
وعندما عبروا إلى الضفة الأخرى كان بانتظارهم آخرين هيئوا لهم الأكل الدسم والشاي وبعض الحطب للتدفئة وهم يتخذون من الكهوف ملاجئ لهم.واحتفلوا بسلامة الوصول .
الطريق إلى المواقع المتقدمة أكثر خطورة حيث سيستمر المسير بضعة اسابيع تعرضوا إلى أكثر من استهداف وخاصة عندما العبور إلى الجهة الثانية ,وعليهم الاقتصاد في الأكل وعدم لبس الساعات أو الدبل اليدوية أو أي شيء ممكن أن يلمع تحت الظلمة كي لا يصبح هدفا للنيل منهم .
زلت قدمها ذات مرة مما سبب التواء الكاحل وجعلها تجد صعوبة في المسير ,ولولا قدرة زميلها على معالجة الحالة وتأجير بغل لما استطاعت المواصلة معهم .
وجوده قربها خفف من معاناتها وخوفها من المجهول وكان لها ملاذها الآمن .وبعد وصولهم إلى المواقع المتقدمة اتخذوا أماكنهم ورتبوا أمورهم في الاستقرار والمواجهة .
سألها ذات يوم هل تقبلين بي سندا لمستقبلك ,ترددت قليلا ثم قالت:
عندما نحقق هدفنا الذي ضحينا بالكثير من اجله و بمصير أهالينا ووضعهم القلق مع رجال الأمن ,عندها نتفرغ لبناء أسرة كما نحلم .
الأحداث تتسارع والقلق من المجهول وخوف من الخيانات وخاصة بعد إحداث بشتاشان وما رافقها من تضحيات بسبب خيانة الحليف وطعنه من الظهر وفرز الأسرى وقتلهم على أساس عرقي , سبب في خلق شد بينهم لأنها سمعته يقول :انتم العرب ,استهجنت منه ذلك وقالت :
امن اجل ذلك وصلنا إلى هنا ؟,هذه الأرض سالت عليها دماء مسلمين ,اشورين ,ازيديين ,صابئة ,أكراد ,أطفال وشيوخ لم ينحازوا إلى عرقهم أو طائفتهم أو مذهبهم ولم نعرف عنهم سوى أسماء مستعارة كان همهم خلق مستقبل للأجيال عبدوه بدمائهم. وأنت بعد هذا تثير نعرات قومية وطائفية.,هل هذا تفكيرك وعقيدتك التي نذرت نفسك لها ؟
وبذلك أوصدت الأبواب أمامه ,وأسدلت الستار على الحكاية ,واتخذت من المهمة الصعبة التي أوكلت لها طريقا للمضي في إعادة تنظيمات الداخل, ولم تخش خطورة المهمة وكأنها أرادت الانتحار.
كان لإحداث عام 1991سببا في فشل مهمتها, بعدها غادرت إلى دولة أوربية بعد توالي الخيبات .
وطني حزينٌ أكثر مما يجب
وأغنياتي جامحةٌ وشرسة وخجولة
سأتمددُ على أولِ رصيفٍ أراه في أوربا
ليس ما أحمله في جيوبي جواز سفر
وإنما تأريخ قهر(من شعر عدنان الصائغ)
وبعد إحداث 2003 عادت إلى الوطن تنشد الحرية والأمان ورمي ما اثقل حملها طوال سنوات الاغتراب.
رن الهاتف النقال ذات يوم كان الرقم غريبا ولكن صوت المتحدث معروف,كان في نبرته شوق وفي صوتها نبرة عتاب لم تقرب المسافة بينهما.
سألها عن حياتها الشخصية تهكمت في إجابتها ,طلب منها أن يراها رفضت, زوجته وأبناؤه يرحبون بها لكنها زادت حواجزالعزلة بينهما .قال لها ذات يوم أريد أن أراك اجعليه طلب أخير ربما لا نلتق ,صحتي سيئة, امنحيني فرصة لتبرئة موقفي و و و ولكنها كانت صماء .
اتصل بها ثانية وقال أتوسل إليك, حققي رغبتي قبل الرحيل من عالمكم ,صوته الضعيف الراجي لين من موقفها.
قالت زوجته وهي تستقبلها :لقد وصلت متأخرة كانت عيناه على الطريق ينتظر وصولك ,كنت بيني وبينه طيلة حياتي معه . اغفري له لقد أضاع حياته وحياتي وحياتك .
#سعدية_العبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟