|
ارصفة لأعقاب السجائر وفوارغ الرصاص
فاروق سلوم
الحوار المتمدن-العدد: 1457 - 2006 / 2 / 10 - 10:48
المحور:
الادب والفن
ينتزع المرء جسده المثقل من السرير الواهي في الصباح البغدادي الموحش.. ثمة توقعات وحدوس من كل لون..مع لعلعة الرصاص والتفخيخ ..والجنون.. وصخب العربات الى الجوار.. فيما يرتدي الصغار ملابس المدرسة الموحدة مدرسة ماما أ.. المختلطة الخاصة .. يغني الولد الصغير وهو.. يرتدي ملابس داخلية ثقيلة تحاشيا للرطوبة في غرف الدرس.. يغني : ماما أ..أ.. آي لوف يو جننتيني وات آي دو بعدك عني تونتي تو بالحقيقة آي لوف يو .. ..اضحك في اعماقي من نرجسية المعلمات ..ودكتاتوريتهن ..تاريخنا مبتلى بهذه اللعنة..اذ ثمة خصيان..ونساء مكبوتات ..ظلّوا يديرون حياة البلاد طوال قرون من ا لعقد والحرمان .. والكبت ..والجنون والمحرّم ..والمسكوت عنه ..اصيح بي في اعماقي الخاوية : هيا ياولد قم سخن محرك السيارة ..لكي توصل الصغار ..وانت تمشي ..زكزاك بين الرصاص والقواطع الكونكريتية..كما يردد صديقي الأسير الذي امضى ستة عشر عاما في السجون الأيرانية.. جراء حروب مجنونة.. يقول : امشي مثل لعبة الحية والدرج لكي اذهب للشغل وأعود لكن الحمد لله ..حتى الآن هناك ..بيرة البيرة التي كنت احلم بها طوال احد عشر سنة من الأسر !! انه مايزال يحب البيرة رغم الأسر الأسلامي في ايران والنمطية التربوية الدينية كل يوم في ذلك الأسر البري الرهيب.. مايزال يحب ..البيرة الألمانية ..البيرة التركية ..البيرة المعبأة في السفن العائمة في المياه الدوليه التي ترسل لبلادنا المجنونه....البيرة المسرطنة ..كما يسميها .. يقول لقد هجرت مدينة الناصرية منذ تحررت من الأسر لكي اكون قريبا من ...بيرة ....بغداد تحشر جواربي في قدمّي لأني لم أقلّم اظافري منذ زمن..كنت اشتريت ازواجا رخيصة وعملية عند بوابة المستشفى الجمهوري يوم كنت امضي في الشتاء الماضي .. الليالي في رعاية جد اطفالي..في مستشفى الوطن !! مهندس شيوعي من روّاد وزارة الأعمار ايام الملكية رماه المرض بعد ان أسهم لعقود طويلة في نصب مكائن أهم مصانع البلاد ..مصانع القار.. والمشتقات النفطية وعصير الطماطم ..والزيوت .. ..والسمنت ..والأدوية..والألبان..وخزانات الحنطة والشعير من القيارة في الشمال حتى الكوفة والعمارة والبصرة ..ومدن التراب والقصب والسكون ..لقد سجن وعذب في سجن الملعب الرياضي ..في الكرخ ..وفي سجن المثقفين ..وسجن الحلة الرهيب عام 63 يوم جاء البعثيون في القطار الأمريكي ..كما يقول هو ..مقابل قطارات السلام والأمل.. يحدثني طوال الليل عن سلام عادل .. الشيوعي الرائد في العمل والشهادة..مثلما يحدثني عن رفاق اعترفوا وسلّموا قوائم التنظيم السريّ للحزب ..ويضحك حين ادفع امامه علبة اللبن الرائب ..ويقول : انت تريد ان آكل ووزني لم يزد عن 55 كيلو غرام مذ خلقت ..لأني مقل في الطعام..وقد افادني هذا عندما عذبوني وعلّقوني في مروحة السقف لأعترف ..وقد خلعت اكتافي ..أغمي علي ..ولم اعترف ..لكن الرفاق . ضعفوا وكشفوا التنظيم ..ومنذ اعدم سلام عادل بطلت كل شيء الاّ ..الأعمال الكاملة للينين .. يطل بعينيه من نافذة.. المستشفى الجمهوري على قوة امريكية تحتل قصر صدام في الجانب الشرقي من دجلة في الكرخ ..و هي ترمي اطلاقات طوال الليل..ويضحك وهو في الرمق الأخير ..ولاتعليق.. تصيح الطفلة : يالله يابابا ..دق جرس الأصطفاف الصباحي اسرع اوصلنا..لنغني موطني ..موطني الجلال .. الجمال ..والبهاء .. هيا ..بسرعة الى العربة..أركض وفي اذني بقايا من آخر اصوات هواتف الليل..من هولندا ..والدنمارك ..والسويد ..وعمان والقاهرة..اصوات باكية متحشرجة تدعوني للحفاظ على ماتبقى ..عبارة صديقي الشاعر في آخر رسائله ..قبل ان يتحول الى كتابة ثانية لتاريخ الأحتلال!! ..أترك على مائدة المطبخ..مكافأأت لأناس سيمرون في الشارع اليوم وسيطرقون الباب .. وعلى المراة ان تنوب عني لتسليم هذه المبالغ .. لعمال رفع النفايات ..ولبائع زيت التدفئة ..وغاز الطبخ..ومصلّح المولدة الكهربائية الصغيرة ..ومنظف المجاري ..وعامل الهاتف الذي سيعيد خط الأتصال المقطوع ..وفريق تصليح كيبلات الكهرباء الوطنية التي تقطعت تحت المطر بسبب قدمها ..والشحاذين ..والمواطنين الصالحين في القرن الحادي والعشرين الذين يعاونوك على ادامة الحياة في ضاحية المدينة التي يحميها القدر القاتل .. هنا حيث يغيب الرب وتغيب الدولة . ولاشيء غير القدر الذي قد يكتب لك يوما آخر ضمن سيرة الحياة ( اتذكر كلمات الشيخ المتقاعد بألأمس ..في واجهة المقهى : والله صار الموت اكثر راحة من هذي الحياة )ان اية امكانية مختلفة للشعور انك ليس في صومال عراقي بهيج. تبدوا قضية مستحيلة.وأنت في الخامسة والخمسين تدفع عن حاسوبك وعن جسدك وروحك ..الوان الفايروسات التي تداهمك تلك التي خلفتها سنوات الظلام ..وسنوات الديموقراطية ..المحببّة اليوم !! أنت ضائع في مدينتك ..مثلما ضعت في مدن العرب العاربة والمستعربة..ولاأمل في لمسة لسخونة الحياة في مدن يتحول المؤء فيها الى محاسب يدفع الفواتير..ومدققا لتلك الفواتير في الليل..هنا تبدو الحياة ساخنة حيث يظهر الموت قريبا منك في كل لحظة قد توقفك سيارة ليسلبوك ركابها المسلحون.. عربتك واموالك وهاتفك النقال..او قد يهبط على منزلك في الليل من كان يحرسك في النهار وينفذ فعلته بعد ان استلب سلاحك الشخصي المصرح به..او تقف امام الصيدلية لتتأكد بالهاتف النقال من مريضك ان الدواء ذي علامة دولية هو الذي اشتريته ..فيقتحم لحظتك تلك مسلحون يستلبون هاتفك ومحفظتك وروحك ..إلاّ اذا كان الرب الغائب يحضر لحظتك المجنونة..لكن المدينة مليئة بالروح وهي مدينة للتراب والأزبال والوجوه الكالحة الغريبة ..مدينة دون مدنية ...مدينة لاتعرف كيف تتدبر حياتك ..وأنت تحتال على الزمن ..لكي تشطب يوما آخر على لوحة التواريخ والحوادث والعمر..لكنها مدينتك!!..التي اجترحت فيها ضمون حياتك المستحيلة.. يترجل الصغار عند باب المدرسة ..يستقبلهم حارس المدرسة المدجج..بالكلاشنكوف..الوحيدة امام التفخيخ والأختطاف ..والقتل الجماعي ..والتكفير الزائر.. والتشدد المقيم في عقول اهل البلاد!! تقرر ان تترك العربة ..لتمضي على قدميك حتى مكتبة الضاحية لتشتري جريدة ذلك الصباح.. يأخذك الرصيف في فرصة للتأمل والسكون الروحي لتراجع سيرة الأيام لتتدبر الطريق الى ذاتك دون ان تخسرها.. لتظل فريبا من الجوهر.. وعلى الرصيف يفاجئك ..كما كل يوم ..خليط مبعثر من اعقاب السجائر وفوارغ الرصاص بكميات هائلة حيثما تخطو ..وكأن الأمة لم تعد تمتلك غير ادوات الموت.. التدخين والرصاص.. ------------------------ بغداد
#فاروق_سلوم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظهيرة صحبي
-
تداعيات الرحيل
-
The family international ..angels
-
فوتو لأمرأة ..وأبجدية
-
كتابة أخرى
-
جدارية مؤيد نعمة
-
قصائد مسائية
-
رموز صغيرة للوليتا
-
شكرا غارنر ..شكرا لمبرد ....وليمة اصطياد الفيل
-
سنوات الحرية والحوار والتنوع تجربة شخصية
-
وردة ثالثة
-
تأثيث ألصفنة
-
سكون المنزل وضجيج الرصاص
-
تقريـر يومي لسكان المنــزل
-
شـجرة غاردينيا قديمـة
-
اشـجار مورقة ..ورائحة قداح قـديم
-
المـدينة فـي غـواية السـرير والدم
-
أمــــــــرأة
-
العــزيز الـوزير ..المؤزّر
-
رســائل سـعدي يوسـف
المزيد.....
-
البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة)
...
-
تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
-
المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز
...
-
طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه
...
-
بوتين يمنح عازف كمان وقائد أوركسترا روسيا مشهورا لقب -بطل ال
...
-
كيلوغ: توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف تأخر بسبب ترجم
...
-
عرض موسيقي مفاجئ من مانو شاو وسط انقطاع الكهرباء في برشلونة
...
-
مسقط.. أكثر من 70 ألف زائر بيوم واحد للمعرض الدولي للكتاب
-
محاربون وعلماء وسلاطين في معرض المماليك بمتحف اللوفر
-
إخترنا لك نص(كبِدُ الحقيقة )بقلم د:سهير إدريس.مصر.
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|