أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عبد العظيم طه - المؤسسة الوظيفية - فصل من رواية - 4/2















المزيد.....


المؤسسة الوظيفية - فصل من رواية - 4/2


أحمد عبد العظيم طه

الحوار المتمدن-العدد: 5573 - 2017 / 7 / 6 - 08:33
المحور: الادب والفن
    


بعد ثلاثة عشر يومًا، كانت عاملة الاختزال نرجس، ليست عاملة الاختزال نرجس. صارت تعرف كل شيء بالمؤسسة إلى الدرجة ما قبل الأخيرة. ولما كان ذلك مستحيلاً بالكيفية العادية، والقائمة على التلقي والفهم والحفظ، فقد أُجريتْ لها بمستشفى المؤسسة ثلاث عمليات "تلقين" باهظة التكلفة – من الفئة التي لا يخضع لحسابها سوى السادة دول الرؤساء. وقد جاءت النتائج مضمونة ومبهرة إلى حد مخيف (بالنسبة لي كحد أدنى)، إذ اختلف وجه عاملة الاختزال نرجس، متحولاً إلى وجه عصمة الرئيسة نرجس، قليلة الكلام، واثقة السمت، ذات النظرة الثاقبة كسهم، والعين العميقة كبحر...
لم تكن جميلة إلى الدرجة قبل ذلك، لكنها الآن صارت غادة رائعة الحسن، فاتنة الجسم، ترفل في ثياب وحلي لم تحلم امرأة بفئتها الوظيفية السابقة أن ترتدي قطعة منها. لقد تهيأ لي أن ما تمت طباعته بجوهرها، قد توافق بشكل سريع وغريب مع معدنها الأساسي، حتى وإن لوحظ هذا التوافق من خلال مؤشرات شكلية صرفة – تخضع لحقل المشاهدة...

"مرحبًا بعصمة الرئيسة.. نرجس في مكتبي الصغير.."
"مرحبًا.. بك ماذا لدينا اليوم؟"
".. حتى الآن لا شيء."
"إذاً وافني بمكاني بمجرد وجود شيء."
"تأمرين عصمة الرئيسة!"

فقط هي كانت تنتظر المهام التي ستكلف بها كرئيسة محدثة، بعد أن أبلت بلاءً جيدًا في اختبارات المعاملات الدنيا والعليا، وحققتْ درجة قياسية بتطبيقات الاستهداف والتصرف والثوران والتوازن.
ترتب على هذا النجاح ما أجبر الجميع (بما يشمل الحاقدين والمتشككين بالجدوى) على الإصغاء للأمر الواقع، وعدم الإفصاح عن مشاعر ذاتية لا تخص العمل في شيء، وكان ذلك تبعًا لتراكم خبرتي الوظيفية بموظفي المؤسسة: إما خوفًا من ماض يتكون، أو طمعًا بمستقبل قريب.

وبرغم أنه كان لم يزل لدي صلاحية منحها صلاحيات مؤقتة، مثلاً كأن تتولى الإشراف المباشر على تحرير إصدارات المؤسسة (مستفيدة من خبرتها الطويلة بالاختزال)، أو إدارة قطاع "الإنماء الداخلي" لشغور المنصب من سعادة المدير أنس إثر رحيله لشهرين انقضيا، إلخ.. إلا أنني وقبل القيام بأي من تلك التوافيق المتاحة؛ قد آثرت استشارة دولة الرئيسة ألفت، وقلت أنه ولابد سيكون لها رأيًا باتًا بالحكاية، بما حدث، أو ببعضه، والإله يستر بالطبع من رأي الرؤساء عامة.
أخذت معي عصمة الرئيسة نرجس التي أبدت اقتناعًا جافًا بفكرتي، وركبنا المصعد المتجه إلى باب مكانها.

عندما دخلتُ عليها، بدت خيبة الأمل كثيفة فوق محياها، فصافحتها مطرقًا، وصافحتها عصمة الرئيسة نرجس بوجه لم أره – وكنا في الصباح قبل الأخير من المهلة الممنوحة، وكان من الأجدى ألا أجلس هكذا صامتًا.. فحتمًا أنا قادم لاستشارتها.. سؤالها.. تغليب قرار على آخر عبر رؤيتها الحصيفة.. إلا أن.. كيف.. أو لماذا.. الكلام صار لا يطلع من فمي!..
فلما تَلتْ لحظاتُ صمتٍ حديثهما ذو الطابع المتحفظ عن الصحة والطقس وأحاسيس الحالة الجديدة؛ استأذنتْ عصمة الرئيسة نرجس في مغادرتنا. وأعقبتْ بأنها ستنتظرني لدى النافورة بمساحة الانتظار الملحقة بالمكان، وهي قد غادرتْ متفهمة للأمر أيما تفهم (سطحيًا على الأرجح)...

قالت: هل أحببتها أم ماذا؟!.
قلت: ليس الأمر هكذا أبدًا دولتِك.
قالت: أنت أضعت فرصة عمرك يا بني. أضعت.. فرصة.. عمرك!...
قلت: لكنني أنجزت المهمة.
قالت: تبًا للمهام يا أخي.. أنت متحذلق بزيادة لم ألحظها من قبل!.. صحيح.. القرد بعين أمه.. لقد أقفلتني المفاجأة لدرجة أنني تعففت عن محادثتك بعد اختيارك العجائبي هذا.. اعترف بأنك أخطأت في حق نفسك.. اعترف...
قلت: نحن نتاج أخطائنا دولة الرئيسة.
قالت: الفلسفة فارغة من الواقع يا لطفي.. فارغة.. الواقع أهم بكثير...

تحدثتْ بمرارةٍ صارخة (أعتقد أنها أسمعت نرجس): عن كم المجهود النفسي الذي بذلته من أجل إقناع الرئيستين المكلفتين بفكرتها؛ وما فكرتْ بها إلا من أجلي.. عن كيف كانت حجة دولة الرئيسة فلة قوية حين مانعت في الأمر؛ بنية اتقاء فساد نفسية الموظفين.. وساءلتْ نفسها بصوتٍ مُستعجِب: "أين كان عقلي ذاهبًا بينما أعمل ما عمِلت؟!"..
وهي راحتْ تشتُّ وتتذكر أبي، أو أنها بالأحرى كانت تتخيله.. فكم كان سيفرح بما اهتدتْ إليه لتنترني إلى هذا الارتفاع فألتصق بداهة، وكم كان سيلعنني على ما فعلتُ بمستقبلي المؤسسي وما ضيعت من دنياي.

/

تحولتْ الرئيسة نرجس على الجميع. وبدا أن موظفات مثل المديرة قِسمت لقطاع "الإنفاق"، ونهى رسامة الأوتوكاد، وأخرياتٍ كُثُر، قد صرن يغرن وينقمن بشكل واضح على ما جرى.
فمن هذه عاملة الاختزال التي بين أيام ولياليها قد أمسكت مديرة لقطاع رغيد كـ"الإنماء الداخلي"، بل والأكثر من ذلك أنها تعمل ذلك وهي بدرجة رئيسة ذات عصمة!!!.
هن كن لازِلن يرينها عاملة الاختزال نرجس، المنعزلة، الساهية، عادية المظهر والمخبر. وكانت هي لم تنفك تراهُنَّ نسوة بربريات، جاهلات، غير مصقولات إلا بمقدار محدود وإن أبدين غير ذلك.
كذا يمكن القول بأن الموظفين من الرجال – خاصة هؤلاء الذين كانوا يُمنون أنفسهم مدة شهرين ونيف بالمنصب الشاغر، قد أصابهم ما أصاب النساء ولكن بقدر عملي. فواحدٌ مثل عناية المسئول شكري صموئيل – نائب مدير ذات قطاع "الإنماء الداخلي"، سيُرى يهمس لمقربيه: أنه كان الأولى تقنيًا على الأقل بهذا المنصب، وأن حسبة الرئيسات المكلفات جاءت خاطئة منذ البداية، فالفكرة السطحية لا تناسب من الأصل سياقًا عميقًا، فما الحال إن كان العمق مؤسسيًا يا ناس!. ثم إنه يطرح سؤالاً ينهي به الحديث كنوع هذه التساؤلات: هل يَصح أن تلقي بسمكة شبوط في المالح؟ كيف لنا أن نخمن طفرة تجيء بها العصافير! هل تعتقد أن من يقوم بمكانين من أهل الخطوة؟!...

ولكن للحقيقة أن عصمة الرئيسة نرجس حين قامت باستبدال شكري صموئيل من منصبه، كانت شفيقة به إلى حد بعيد، فقد انتدبته بقطاع "التوثيق والحفظ" - الشيء الذي هو من صلاحيات مدراء القطاعات، حال أن يُشفع بمخاطبات توافقية بين مديري القطاعين، المُحتاج للمنتدب لصالح العملية المؤسسية، والمُستغنِي عن المنتدب قناعة منه بصالح العملية المؤسسية. ومستبدلة به إياي فقد استقر مآله بعد عدة أيام بمكتبي بقسم "الأرشيف الوظيفي"، واستقر مآلي توًا لدى سكرتيرة مكانها، أوقع أوراقًا، وأحتسي قهوة، وأنتظر عودتها من جولة تفقدية لمجريات القطاع.
لقد بدا لي هذا الانتداب التبادلي كنوع فظ من مقايضة الخدمات بين طرفين، فمثلما سترتاح هي من التلسين الخفي لشكري صموئيل حول حيثيات شغلها لمنصبها؛ سيرتاح المدير إحسان لقطاع "التوثيق والحفظ" من شكوكه حول نواياي المستقبلية، ومدى بقائي معضدًا من دول الرؤساء، بعد أن صار مرءوسي مدة خمسة عشر يومًا متصلة!...

لم يشكل ما جرى مفاجئة لي بقدر ما شكل رهبةً، أو خوفًا كبيرًا – إن شئنا تسمية واقعية للحدث. فها أنا ذا أقترب من نواة التجربة بأسرع مما توقعت. كما أنني في حِلٍ من إيهام نفسي بأن الأمور تمشي هكذا على عواهنها؛ إذ قطعًا كنت أدري في قراري بأن العواقب من نوع ما ستجيء جسيمة على نحو ما، حتى أنني حاكيت حالي بكوني أشبه إلكترونًا بمستوىً رئيسيٍ لذرةِ صوديوم، ما يؤهلني تمامًا لهذه المبادلة المنطقية (الجديد مكان المُنضب)، لكن الشيء المحير بذرة الصوديوم هذه؛ أنه لا تجري المصادمة على هذا النحو الواشي بإرادة النواة في التصادم.

استلمتني الرئيسة نرجس في أول أيامي بالقطاع استلامًا مريحًا، إذ أمرت بإعفائي من القيام بنصف إجراءات الانتداب تقريبًا، وقالت بينما تجلس إلى مكتبها وتحاول إدغام ابتسامها بالتكلم بسرعة: "عناية السيد لطفي.. أهلاً بك عندنا.. أنرت القطاع يا سيادة النائب". رددتُ عليها بتحية موازية، غير أن ابتسامتي التي ملء فمي كانت قد تحولت إلى ضحكة خافتة، بينما هي تشيح مبكرًا بحدقتها عن حدقتي.
أوكلت إليَّ بقراءة بعض الملفات، ونوهت: بأنها تمس "الشق الاقتضائي" للأمكنة التي تحتلها مشروعات المؤسسة بالخارج، وأنها تفكر في نيابتي بهذا الجانب مدعومًا بثقتها المطلقة (ويكون ذلك بالطبع قائمًا على إرهاصها بأنني شخص مجتهد، يحتاج إلى فرصة يثبت ذاته من خلالها وكذا وكذا)، في حين ستتفرغ هي لإدارة "الشق التحديثي"، المركزي، ذو الطبيعة المكانية الفريدة من حيث قابليتها لنشاط إنمائي.

كنت أعرف نرجس من قبل، أعرفها جيدًا، وبالتأكيد لابد أن يوجد ما يبرر ذلك الشعور بالمعرفة، إلا إنه قطعًا ليس معرفتي بعاملة الاختزال نرجس، أو صاحبة الحظ الثمين في مخصصات "النقلة السنوية" الرئيسة نرجس، إنه شعور بمعرفةٍ أعمق من ذلك بكثير، أشعر أنني رافقت نرجس من قبل، ولفترة طويلة، هناك صدىً بعيدًا لصراخها في وجهي يقبع بقاع ذاكرتي السمعية، بالركن المظلم من تلك الذاكرة، ولكنه يضج بأذني كلما فاهت بكلمة بها جيم ساكنة...

شغلني هذا الموضوع لفترة – وبصورة حسية مشفوعة بقناعات إدراكية – ذلك رغم كونه ليس موضوعًا محوريًا فيما آلت إليه التجربة بمرحلتها الأخيرة. كانت الرئيسة نرجس لا تريد الفشل، وبالتالي فقد كان جلبي إلى هنا كنائب لها يعد خطوة منطقية، بل وخطوة تحتوي على قدر عال من الفطنة وحسن التقدير.
اليوم أستطيع القول: أنني بالنسبة لها أكاد أكون الشخص الوحيد الذي يُمْكنها التعامل معه بأريحية نهائية (كرئيسة بالطبع)، دون تشغيل ذاتيات دفاعية تدربت عليها جيدًا وتجيد تحويلها إلى هجومية عند اللزوم.. دون شعورها باغتراب نفسي قاس عليها، إذ هي التي لم تقو على ترك هذا الشعور يتبخر إلى غير رجعة بوعاء الصلاحيات الجديدة، فهو الشعور الوحيد المتبقي لتذكيرها بنفسها الحقيقية، من دون تكلفٍ سلطويٍ شريرٍ يُغرضُ لا إراديًا في إظهار كرة السلطة بأحوزةِ موظفاتٍ وموظفينَ بأعينهم، الكرة التي ما كانت تجرؤ على الحلم بأقل أبعادها.. الآن أقول لي: أنا من حولتها على عيني، وهي تعلم ذلك علم الحدوث. لذا سألقاها تكلمني على إطلاقها، وتضوع بما في صدرها من استفهامات وأشجان.

/

كانت نهى رسامة الأتوكاد تتلوى في سريرها، قبل أن تدفعني فجأة سائلة: لِم لَمْ تخترني أنا؟. لُذت بالصمت مبديًا تبرمي الشديد بالحركة المفاجأة، والتقطتُ سيجار الفانتير البازغ من جيب قميصي (والذي أهدانيه السيد حسن أمين المخاطر في هذا الصباح)، لكنها لم ترتدع، وكررت سؤالها بينما تقرب أصابعي من شفتيها وتسحب نفسًا ضخمًا من السيجار، ثم أردفت بغنج واعد: أنها تريد إجابة.. إجابة قاطعة تخرس السؤال اللاعب بعقلها!.
حدثتها: بأن الأمور قد صارت جبرًا منذ بدايتها، حتى إذا هي قد رأت غير هذا أثناء تأديتي لما أُوكل إليَّ القيام به، فالرؤساء هم المقرِرون في النهاية بما يخدم توجهاتهم، التوجهات التي لا أعلمها حتى الآن، فقط هم كانوا يريدون قناعًا أو هيكلاً أو ما شابه، شيئاً يديرون المسألة من ورائه، وعندما سألتهم عن تفسيرٍ لذلك، قالوا: أنه بنية اتقاء فساد نفسية الموظفين عبر التحجيم من أهمية "النقلة السنوية" لهذا العام؛ كون الذي سيدير الأمر موظفًا عاديًا وليس رئيسًا!.
ضحكتْ ساخرةً، وأومأت بعشوائية تدل على اقتناعها اقتناعًا مكافئاً لكذبي، قالت: إذًا هي ليست أفضل مني؟.
"أنتِ الأجمل طبعًا"
"قلتَ لي!"
"والأجدر"
"هكذا أفهم أنا"

بدا عليها الارتياح فأكملنا ما قطعَته، وقلتُ بنفسي منتشيًا: "ليتها تقطعه كل مرة"، وانتهينا، ثم ارتديتُ ملابسي، ورفضتُ المكوث إلى الصباح (بحجة ضرورة إنهاء بعض الأعمال المتعلقة بجدولة الإنماء السنوي لمشرعات المؤسسة بالخارج – بالمنزل).

انطلقتُ في الشوارع، أفترسُ ما سنح من الواقع، أجرعُ عصيرًا من كل المَعاصر، أشتري أكلاً وألقيه للضوال، وأُدققُ بالمارة كتدقيق المعارف، أُشبعُ رئتي من هواء الصيف الليلي كأنني لم أتنفس من قبل، كأنني غبت عن الحياة شهرًا وعدت.. كنتُ لا أولي على شيء، لا أكثر من أني أمشي لوجه المشي – ممارسًا وجودي الحركي، ثم في النهاية أصابني الحنين إلى المنزل، فأوقفتُ سيارة أجرة وقلت لسائقها: مساكن المؤسسة الوظيفية يا طير.

/

بعد مرور ما يناهز ثلاثة أشهر، كان كل شيء بقطاع "الإنماء الداخلي" قد أخذ لمسة الرئيسة نرجس، بما عده البعض إنماءً ساحرًا لإحداثيات القطاع، وعده البعض الآخر تغييرًا سطحيًا لا يتجاوز شطحة الشكل ولا يرقى إلى وصفه بالإنماء. لذا فقد أصغيتُ لها بتركيز وإعجاب وقلق وهي تقول: أريد أن أحدث الفارق يا سيادة النائب لطفي، بالضبط كما كان دول الرؤساء يتحدثون في البداية، أنت طبعًا تتذكر ما قالوه لك عندئذ!.. لا أعلم ما الذي كانوا يرونه بك!، تحديدًا دولة الرئيسة ألفت، لكن أنا حتمًا أثق في ذوقهم جميعًا – كيلا تفهم استفهامي بصورة خاطئة..

"لا أبدًا عصمتك.. من عادتي ألا أفهم الأشياء على غير صورتها."

(كانت قد شبكتْ أصابعها خلف ظهرها وراحت تتحرك جيئة وذهابًا بينما تتكلم): أيضًا أصارحُكَ بأنني حاولتُ أكثر من مرة أن أصنع مخططًا جبارًا، يُبْهر الجميع بما يحققه من ترقية لفكرةِ الإنماء ذات نفسِها، إنما يَظهر أن المشكلة في قريحتي الصدئة، فهي التي لا تسعفني على إنتاج هذا المخطط المعجزة!.. أنا أريد مساعدَتك يا لطفي.. وأطلب منك هذا بشكل شخصي.

"أنا هنا لمساعدتِك عصمة الرئيسة نرجس."
"قل لي نرجس.. فقط نرجس.. نرجس.. أوحشني اسمي مجردًا جدًا."

أستطيع القول أنها قد سمتْ كثيرًا بتعاملاتنا الثنائية في الآونة الأخيرة، كما أمستْ لا تشيح بوجهها كلما أطلت التحديق بعينيها. رحنا نتكلم، وتقول لي يا لطفي وأقول لها يا نرجس، وكنتُ أجتهد في صوغ وجهة نظر معتبرة تشتمل حلاً للمشكلة المطروحة، فقلت: أنه ليس ثمة داع قهري يدفعها إلى حرق المراحل، والتسرع في محاولةٍ قصوى للظهور، إذ لم يمض وقت يذكر على شغلها منصبها، ثم إنه إن كان يشغلها كلام الناس عنها، وعن حيثيتيها الوظيفيتين، السابقة، والجديدة، فيكفيها أن تتذكر أن هذا لن يغير من الواقع شيئًا، فهم يظلون المرءوسين بكل ما تحتوي شمائلهم من خير وشر، وهي تظل المديرة (الرئيسة) المضطلعة بإنماء ما يخص هؤلاء الناس!، الإنماء الذي سيأتي حتمًا عبر اكتساب خبرة مناسبة تتكون بتراكم السنين فوق بعضها البعض، مما سيجعل باستطاعتها عندئذٍ أن تحقق لهم ما يقدرونها لأجله، ويحمدونها عليه، فمثلاً مدارس مؤسسية متطورة لعيالهم تُعنى بالتهيئة الوظيفية للعيل بحيث يمكن زيادة نسبة تشغيل أبناء العاملين بالمؤسسة بالمؤسسة.. التعاون مع مصحات استشفائية خاصة بدلاً عن العامة التابعة للتأمين الصحي الحكومي.. توفير ميزانية بناء شقق حديثة للمقيمين خارج مساكن المؤسسة الوظيفية، وهكذا فإنه..

"لا."
"علام؟!"
"أنا لا أرى ما تراه بعينك الرومانسية هذه، بل أرى أن الأحوال لابد أن تصل سريعًا إلى حد بعيد، مفاجئ.. لا يمكنني احتمال هؤلاء الناس الذين تقصدهم دون أن يتحقق ما أسعى إليه، سأنفجر في وجوههم يومًا ما.. أيضًا يبدو لي أنك لا تريد مساعدتي."
"ناوليني طرف خيط أغزل من نسجه، لا أعتقد أنني سأجلب شيئًا هكذا من المطلق!"
"حديث مُرتب، ومختلف عن سابقه، ويعجبني، لكنني قبل مناولتك ما تريد.. أريد منك عهدًا بالكتمان."
"أعاهدكِ."
"ما الذي ينبغي عليَّ إنجازه كي أحظى بلقب الدولة الرئاسية؟"
"آها.. بوصفي أرشيفيًا إلى النخاع، كما أنني من قلائل قد اطلعوا على الأرشيف التأسيسي، سيتوجب عليَّ إعلامك أن هناك من الألقاب ما هو خاص فقط بعمومية الرئاسة، إذ يصير كل أعضاءها أناس مؤسسون منذ البدء وإلى الآن وكذا، فلا ينطبق عليهم وظيفيًا ما ينطبق على بقية الفئات الوظيفية، كما أن أحدهم لم يجرب الموت بعد، لذلك ستلاقينهم على غير اضطرار في إجراء أية تغييرات حالية باللائحة التأسيسية."

كفتْ الرئيسة نرجس عن الأخذ والرد، وطغتْ على قسماتها أمارات التفكير العميق، ثم حدثتني عن فكرتها الخام (التي بان لي أنها كانت تحرجم منذ البداية كي تخلق مساحة لقولها)، فأصابني ما قالته بالتوتر والانزعاج، أو لنقُل الخوف (لا ضير ههنا من قول الخوف)، كما أنها باتت شديدة العملية عندما وقفت منهية المقابلة بإعطائي مهلة محددة للرد.

لنقل أن عاملة الاختزال نرجس قد تحولت إلى الرئيسة نرجس على الصعيد التقني للمسألة، ولكن من شبه المؤكد أن الأمر لم يكن كذلك على الصعيد الشعوري، إذ قوبلت عملية الترقية الشعورية بالكثير من العثرات، والتي كان أهمها أنه لا وجود لعمليات تلقين يمكن إجراؤها للشعور (وقد فسر لي الأطباء الأجانب ذلك ساعتها: بأن ما يدعى بالجهاز الشعوري هو جهاز وهمي في النهاية.. هل رأى أحدهم شعورك من قبل؟.. إنه يرى قسمات وجهك وتعابير أطرافك!.. أليس كذلك؟.. المشاعر تعيش في أذهاننا يا master lotfy.. لكننا على وجه التحديد لا نعرف أين!.)، فقط هي كانت بضع جلسات تأهيل نفسي لا غير، وحتى هذه قد جرت في ظل حس استيفائي لجوانب التحويل، فالمختصون بهذا الشأن كانوا يقولون كل شيء ثم ينصرفون بعد ساعة أو اثنتين، غير عابئين حقيقة بما استقر في وجدانها وما لم يستقر. نعم هم كانوا يشرحون ما يقولونه شرحًا كماليًا، هادئًا، مدعومًا بالوسائل الإيصالية فائقة التقنية والحداثة والنتائج، لكن المشكلة الكبيرة قد كمَنَتْ في أن أحدهم لم يبد عليه يقينًا بما يفعل!...

إذًا هو كان تحولاً عقليًا بحتًا.. مجرد نوع من إحلال وتجديد البيانات ليس إلا.. وكنت مدركًا لهذا، لكنها كانت التي لا تبدو مدركة له – ببساطة لأنها لم تَسأل عن شيء، لا عما أُجري لها من عمليات، ولا كم كانت مخصصات "النقلة السنوية" التي صُرفت عليها كاملة، ولا عن مصير الجزء المحذوف من ذاكرتها الباطنية بغية إفساح المساحة للزائد الحديث!..
كان من المفترض فيه أن تسأل، أن تعرف ما حل بها كي تعرف ما رحل أو ما تعذر وصوله، تتروى قليلاً، إنما هي لم تبادر بشيء من ذلك، لقد قبلتْ النتائج كما انتهت إليها، بلا أية مراجعة ذاتية، وكأنها لا تريد تعذيب نفسها بالتفكير في أي شيء قد يظهر لها النقص، التذبذب، عدم الثقة... لقد رضختْ عاملة الاختزال نرجس لصلاحيات الرئيسة نرجس، وتقنيتها، وقوة باعها المعرفي الجديد، وتوازيًا مع ذلك فهي أيضًا قد استجابت لتنبيت أكوام الملح فوق مشاعرها، فإن كان ثمة تغيير يخص الشعور فسيكون ممثلاً بهذه الأكوام، تلك التي بالطبع لا أستطيع رؤيتها، لكنني أستطيع تذوقها من مكاني هذا.



#أحمد_عبد_العظيم_طه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المؤسسة الوظيفية - فصل من رواية - 4/1
- منطقة عشوائية
- تُرب الإنجليز
- المصح النفسي -فصل من رواية- 4/4
- المصح النفسي -فصل من رواية- 4/3
- المصح النفسي -فصل من رواية- 4/2
- المصح النفسي -فصل من رواية- 4/1
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/7
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/6
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/5
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/4
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/3
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/2
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/1


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عبد العظيم طه - المؤسسة الوظيفية - فصل من رواية - 4/2