أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عبد العظيم طه - المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/5















المزيد.....


المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/5


أحمد عبد العظيم طه

الحوار المتمدن-العدد: 4266 - 2013 / 11 / 5 - 09:56
المحور: الادب والفن
    


(21)

تحركت الحافلة بالسابعة والنصف تمامًا من هذا اليوم, وقد تضمنت مقاعدها ما لا يبلغ الأربعين نفرًا بينهم أطفال رفقة ذويهم. وباستثناء الموظفة تقى والأستاذ أنس بهاء-;- جميعهم كانوا من كتبة التقارير الراغبين بالمغادرة إلى العاصمة (فمن ثم إلى أماكنهم القديمة بمحافظاتهم الأصلية). وقد تقرر التصريح لهم بذلك اعتمادًا على بند تحسبي يكمن في ثنايا تعاقدهم الموحد مع "الإدارة المركزية لشؤون الانتقال" ويدعى بند المسار الحرج, التفصيل الذي يتيح لهم حق العودة حال وجود ما يُهدد حيواتهم وأسرهم. لقد ألحقها أمين شؤون المحافظة (مضافاً إليها زوجها), بالفوج الأخير من المغادرين بصورة قانونية. مع العلم بأن بنود تعاقدها المركزي مع الدولة تخلو تمامًا من شبيه للبند المذكور آنفاً.

كان مَخرج الحافلة من الصحارة يمر في نهايته من حي العطاردة, ومنه إلى الطريق المركزي السريع. وعقب أن لمحت لافتة مقهى زهادة ذاتية الإضاءة بما يعادل دقيقة, ضغطت الموظفة تقى بمقعدها زر التوقف. أدار السائق رأسه إلى الشاشة الداخلية, وتوقفت الحافلة بعد أن أمست مقدمتها على أسفلت الطريق المركزي السريع. نظرت سريعًا بوجه زوجها نظرة فارغة إلا من حيرة عظيمة – وقد بدا الأخير مباغتاً بتصرفها جدًا. ثم أنها بلا أية كلمات, ودون التفاتة على محمل التردد, توجهت إلى الباب وهبطت الأرض.

كانت تعلم من صميم قلبها أنه لن يتبعها. تربية يديها كما كان يتشدق بالمثل البيئي كلما اكتشفته بكذبة يكذبها. وعلى أية حال فالآن: وبصفته مدرسًا لما يتبع الفلك في شيء, فهو سوف يكون الأقدر على الاستبانة بأن طالعيهما قد باتا غير متناسبان.
بعد عدة خطوات كسولة, مفارِقة, التفتت بعنقها بطيئاً إلى الخلف. لم تجد الحافلة. تنهدت مستريحة. صرخت. كأنها أفاقت للتو من حلم ثقيل. وكان مطرًا خفيفاً قد بدأ في الهطول, فنظرت الموظفة تقى إلى السماء بامتنان, وجذل, ثم مشت تتقافز كطفلة لاعبة باتجاه لافتة زهادة.

(22)

كان لقائهما عاصفاً بنفسيهما على أقل تقدير, والسيدة قدرية التي كانت تتابع تلك النظرات المشغوفة (ببعضها البعض/ بعضها ببعض) بانتباه وتطرُّب, أحست فجأة أنه قد تسلل إلى انتباهها وتطربها ضيقاً خبيثاً, الشعور الذي صارت تعتاد مهاجمته لمهجتها كلما سعدت بشيء. الغيرة.. الحنين.. التمني.. لم تكن أسبابًا على الإطلاق عند هذه الحالة-;- فقط بقيَ النسيان.. نسيان ما يدعى به هذا الوميض البازغ من أعين المرأة.. ما اسمه؟... أيضًا ما اسم الإحساس؟.. الإحساس هام؟.. من ستسأل يا ترى إذا فعلت؟.. المرأة!.. الرجل!...

قبل ثلث الساعة تقريبًا دخلتْ لها الحجرة الزجاجية, وأيقظتها من غفوة رأسها على مكتبها. سألتها عن: الأستاذ عبد المعز؟.. أين أجده؟.. هل تعرفيه؟.. كان زبونًا للمكان!.. كنا هنا ساعة الزلزال أنا وهو!!. رأيناكِ ورأيتِنا!!!...
حينئذٍ, ما كان الأمر الغريب بالنسبة لها هو عدم تذكرها لشيء عن الاسم رغم ألفة إيقاعه بمسمعيها, الغريب كان أنها عادت وتذكرته جيدًا (وفرحت لذلك) بعد وصف الفتاة له صوريًا, تذكرته كصورة تتعدد, أو كتعدد صوري, فكانت من لا تعرف تسمية ما اعتراها (لذا فلقد يُقال بالأدق أنها تصورته في تسلسل شكلي بطيء مواز للوصف...). رأت صورًا بالأبيض والأسود.. باهتة.. ثابتة.. قديمة.. تتتابع...

نادت السيدة قدرية على زهادة, الشخص الوحيد الذي ما خلا يعاود المقهى ولم تنس اسمه بعد. أيضًا الذي ما لبث أن رأى الموظفة تقى حتى عرفها, فابتدرها ببث شكواه: كون الجماعات المسلحة قد سرقت تجارته عن آخرها, وكون حي القصدير من أكثر الأحياء تضررًا, وأن الناس هناك لا يزالون مدينين لشركة وادي القصدير بنصف أثمان بضائعهم على الأقل, ولا تأمين يتعامل بالمحافظة الجديدة إلا بشروط مجحفة كما تعرف هي منذ البداية وكذا...
قاطعته للإيضاح. قالت: أنها لم تأت إلى هنا بصفتها الرسمية كموظفة مركزية مكلفة, هذا أن الكوارث للفاجعة لا تعترف بالمناصب. نظر زهادة إليها بعطف, ومكر, وقال: كلمات متداولة عن واجب التضامن الانتقالي.. فالمنتقل شريك المنتقل.. وكلنا قلنا هنا.. وأنه يدري من موظفين عرفهم بقلة الإدارة المركزية مع موظفيها عند حاجتهم إلي دعمها, وأنه (عن نفسه) بخدمتها إذا أرادت مساعدته في إنهاء إجراءات التخييم أو أي شيء. فلما سألته: عن الأستاذ عبد المعز؟, بدا أنها قد استثارت لديه إحساسًا عزيزًا إلى نفسه, ويظهر عليه بهكذا مناسبات (إحساس الآدمي بكونه يعرف كل شيء).

- هل جرى شيء؟.
- لا.. لا شيء.. جئت أطمئن على المقدس ويصا.. اسمه هكذا صحيح؟.
- صحيح. دومًا موجوبة يا مدام تقى.
- .......
- .........

ذهبا نحو المخيم بكلمات قليلة في وسط من الصمت. وقد بدا للأستاذ عبد المعز في بعض اللحظات أنها قادمة للاطمئنان على المقدس ويصا حقيقة, إذ (حين وصلاه) بانت منصتة للأخير ومتفاعلة معه باهتمام وتأثر بالغين, وقد اندمجا في حوار طريف حول ما عنَّ لهما من أحاسيس لحظة وقوع الكارثة.. ثم بشيء من حرفة ملء الصمت, راح يتشعب بالحديث معها إلى ذكريات شبابه, أثناء زيارته لمحافظتها السابقة لمرات.. ومرات ثانية.. فكان الذي.. وما كان تم.. هذا أن...

كان المقدس ويصا يُعد حكاءً ماهرًا, وقد تعامل مع الموظفة تقى بالكثير من الأريحية واللطف مما خفف من منازعتها لنفسها بما فعلت (نزلت!؟), فبدت راضية واستقرت عما جاءت. لم يكن يعرف تفاصيلاً, إلا أنه من رأى بوجه الأستاذ عبد المعز تعابيرًا لم يرها منذ قيام صداقتهما, فسَرَّه ذلك وحاول المساعدة بطريقته, متأسيًا بخبرات حبيبة, قليلة, تثاءبتْ في قرار نفسه بمشاهدة هذا الزوج المتناسب.

مضت دقائق صمت, واستئذنهما المقدس ويصا في المغادرة بحجة التريض, وقال: أنه من الجائز أن يقضي بزهادة وقتاً قيد السيدة قدرية وبعض معارف الكارثة.. واستطرد ساخرًا: أن هذا للعلم إذا تقدر له أنهما يبحثان عنه.
بمجرد أن جاوز المقدس ويصا باب التخييمة تنهدت الموظفة تقى, ثم أفضت: بعناوين ما عاشته منذ افترقا عند باب شقتها. كانت تتحدث بسرعة ملحوظة حتى أن بضع عبارات بدت منها كغمغمة, ما جعل الأستاذ عبد المعز يستبطن أنها لا تريد إفلات جرأة اللحظة فلم يقاطعها مستفسرًا عن شيء. وحالما انتهت كان ما فهمه عليها قد أصابه باضطراب شديد, فما قدر سوى على أقل الكلام, ولم تواته لحظة جرأة كيلا يُفلتها.

(23)

ستة أيام على الكارثة

بالضحى, أصيبت السيدة قدرية بالإغماء بينما كانت تقرأ اللائحة التي وزعتها إدارة المخيم بأسماء القتلى والمفقودين بالصحارة (إثر الزلزلة). لقد كان اسم السيدة شاهندة صادمًا لذاكرتها, الذاكرة التي أصبحت تتآكل بشدة (وعلى شاكلة عجولة), فإلى الحد الذي أنساها الاطمئنان على حال قريبتها لأسبوع كامل!.

لما أفاقت كان وجه المقدس ويصا هو أول من طالعها بمستشفى المخيم, تلاه وجه الأستاذ عبد المعز يتوسط الموظفة تقى وزهادة. اعتدلت من رقادها ومازالت علامات الاضطراب النفسي تكتنف قسماتها. تحدثت: عن النسيان.. عن كراهتها له.. شبهته بالموت في لغة مأساوية. قالت: أنها تشعر اليوم برائحة الموت تنفذ إلى رئتيها مختلطة بالهواء... وبوجه أليم صمتت السيدة قدرية, وأفاضت عينها بالبكاء, فأدمع الجمع في صمتٍ مواز لصمتها, عدا أن الأستاذ عبد المعز الذي اقترب منها مربتاً فوق رأسها لم يكن يدمع, وقد شرع في مواساتها بشيء من الحزم المقصود, لكن ذلك لم يكن ليُفلح في إيقاف بكائها, بل كان أن أزاد عليه نهنهة وتشنجًا.
برفق أزاح المقدس ويصا بدن الأستاذ عبد المعز وحلّ بمكانه عند رأسها. نظر بحدقتيها الغائمتين (من حجم الدموع) وألمَّ قبضتيها بكفيه, وصار يهمس في أصابعها كلامًا لم يَسَع الواقفين سماعه, لكنه نهاية ما أتى بنتيجة حسنة, إذا استتبت السيدة قدرية شيئاً, فشيئاً, إلى أن اكتنفتها مشاعر الهدأة والسكينة وارتدَّتْ كما ألفوا بداية.

عندما دخل الطبيب, كانا بصحبته يرتديان زي التمريض الأزرق, ويفعلان بحماسة ما يؤمران به من أشياء بسيطة (كالقياسات الحيوية). وكانت هالة سوداء قد بدت تحت عيني جبرين دامع العين-;- ما وشى بعدم انتظام نومه لليال متواصلة.
أقر الطبيب الجميع بصوت عال, وقال جملاً طبية معهودة: عن طرق الوقاية من انخفاض الضغط الدموي, ومنطقية تأثر معدلاته الطبيعية بأجواء ما بعد الكارثة النفسية المضطربة. وبينما كان الفريق الطبي يتحرك مغادرًا, اسْتبْقتْ السيدة قدرية على الراهب رشدي بأن أمسكته من ذراعه بوهن. أشارت له بأن ينزل بأذنه إلى فمها, ولبضع دقائق صارت تهمس له: بشيء.. حتى أومأ أخيرًا بالإيجاب وهمس لها: أن تطمئن.

عندما دلف الراهب رشدي مغادرًا من باب التخييمة, عرفه زهادة من صوته إذ يتمنى الشفاء للمريضة ويلقي سلام المغادرة (تذكره صوتاً يحثه على ضرورة الإفاقة, وأن الدماء توقفت عن النزف, وأنه لا يصح لرجل أن تفصله بطحة عن الوعي), لذا فقد تبعه من فوره إلى الخارج وأضحى يذكره بنفسه, وبدمه, كي يقطع الشك باليقين.


(24)

كان الليل قد أزف حين وصلا إلى المخيم المنصوب بحي النسائم, وهو ثالث مخيم سيبحثان به عن شخص يدعى راجي مراد ناروز وزوجته (لم تستطع السيدة قدرية تذكر اسم الزوجة آن التوصية بالبحث والجلب). سأل الراهب رشدي أحد أفراد إدارة المخيم فأشار له إلى مكان القائمة الحصرية للمخيمين, وقد وجد الاسم مسجلاً بآخرها وقال مسرورًا: لقد وجدت الاسم. ما حدا بجبرين دامع العين إلى التنفس بارتياح من قوة التعب, وقد التمس شايًا من إحدى التخييمات الخدمية, وصار يغيب في نفسه بعيدًا عند كل رشفة, فلا يسمع الراهب رشدي في قول...

- السيدة قدرية مريضة جدًا.. وترغب في رؤية حضرتكما للأهمية.
- هي مازالت حية؟!.. قصدي يعني تحيا بشكل سليم!.
- نعم. إلى حد ما.

- قد تموت (قال جبرين دامع العين).
- ..........

المباني المنهارة كانت تتناثر قربًا وبعدًا فتبدوا ليلاً ككومات عملاقة على طريق الإياب, ورائحة غريبة صارت تهب من آن لآخر في دفعات هواء شديدة, فتبدو قريبة من رائحة احتراق شيء معدني. وقد كان الراهب رشدي وجبرين دامع العين يتقدمان السير بصمت, ويتناوبان في حمل حقيبة لأغراض الزوجين, وكشافًا ذاتيًا (يعمل تناسبيًا كلما انحسر الضوء بأحد الشوارع(1)). في ذات الوقت الذي يتبعهما راجي ناروز – بادي سعادة الافتخار, وقد تأبطت كليزار ذراعه بأرستقراطية لم تُلحظ متكلفة كمثله. كان يميل عليها بين حين وثان قائلاً: شيئاً خفيضًا. فيجول بصرها بطلل, أو صدع, وتصدر عنها ضحكات مرتفعة غير مبالية للغريبين. أيضًا عبارات تركية, غنجة, مسموعة, لكنها غير مفهومة بالطبع.

طوال ما قطعوه من الطريق لم يروا (السائرون) سوى الكثير من الخراب, وآثار الدماء المطبوعة على الأرصفة والأسفلت, والقليل من العابرين بهم (أولئك المشردون), والذين يرجح القول بأنهم كانوا أشخاصًا تم انتقائهم ليصبحوا غريبي الأطوار. فقد عدا صبيان كالريح فزعًا برؤيتهم. واستعاذ رجل بالله العظيم وطفق يكلم نفسه منكس الرأس وانعطف عند أول مفرق. وثأثأ آخر في وجوههم بالقول فصرفه الراهب رشدي عن طريقهم بالحسنى ومضوا عنه. ثم شوهدت العجوز التي تدق العصافير على جانبي رأسها وهي تطلِع من مدخل وحدة سكنية, مهجورة, يرافقها شاب ذو سلاح تبزغ فوهته من خلف ظهره. اتجها إلى سيارة صحراوية وكانت دائرة, وقد حدجت العجوز بالجمع (خاصة بكليزار), وصوبت لأشخاصه نظرات امتعاضية أثناء تقاطع السير, وآن ركوبها بمقعد السائق, ومن خلف الزجاج, قبل أن تنطلق السيارة كطلقة بحلكة ليل مجهول.

عند مشارف العطاردة أوقفتهم سيارة مصفحة, ويطل من سقفها ثلاث رجال ذوي لحيات كثة, مشعثة, ويرتدون العمامة المميزة لجماعة "عُصبة العِصم". وجه أوسطهم الحديث إلى الراهب رشدي بينما عيناه كانتا تتفحصان كليزار بتلمظ واضح: من أين وإلى أين؟.
- من مخيم حي النسائم إلى مخيم البحيرة الاصطناعية.
- لماذا؟.
- ................

ألقى الراهب رشدي القصة باختصار, ونوه عن أهمية الوقت, وكيف أن (البائسة) قريبة هذين الزوجين كانت حالتها الصحية سيئة للغاية عندما أوصته بالبحث عنهما. تشاور الرجل ورفيقاه, ودام الرجل يبتسم, وأجرى اتصالاً موجيًا قال على أثره بلهجة جذلة: المرأة أجنبية!.
- معها إقامة دائمة يا شيخنا.
- أين هي؟.
- وحدتنا السكنية انهارت وفيها كل أوراقنا وأشياءنا.
- ليس مبررًا كافيًا.. لابد من أخذها للفحص.. والتدقيق.
- سنأتي معهما!.
- وحدها.
- لأ...

كان جبرين دامع العين هو صاحب القطع الأخير بالرفض, قبل أن يتكاتف مع الراهب رشدي فيتصدران للزوجين كواجهة حمائية. وكان هذا ما حدا بالتماع نظرات متحفزة, شرسة, يتم تبادلها بين أعضاء الجماعة قبل أن يهبطوا الأرض...

لقد كان الشيء الغريب جدًا (حقاً) عقب انتهاء العصيان على هاته الصورة المسحولة, هو ألا تصدر كليزار أي صوت لاستغاثة, أو حركة لاستعصاء, لما كانت ستركب السيارة قسرًا. ولا يمكن تفسير هذا كنوع من رد الفعل الذاهل, المنقاد, التابع لوقوع صدمة (مثلاً), إذا هي بدت تسوي من ثيابها عند الجلوس, وتتطلع في وجوه الخاطفين بمزيج من الفرح والمرح, حتى أنه على الضوء الداخلي الخافت للسيارة قد ندت فوق شفتيها ابتسامة (مخصوصة) للمجاور لها بالمقعد!.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (على الرغم من كم التقدم المذهل الذي حققته البشرية بعلوم الضوء, إلا أنني لم أجد شبيهًا حاليًا لكشاف ذاتي يعمل تقنيًا بالتناسب كهذا.)


(25)

"... فإذا نحن افترضنا جدلاً أنه قد أُوجد "شكل بسيط" يؤدي رؤية معقدة – مثلاً ككاميرا كونية بحجم رأس دبوس, فإننا بهذه الحالة سنكون إزاء تجسيم دقيق لمفهوم "فلسفة حدث تاريخي". الحدث الذي قد يكون ممثلاً في انفجار نجم بعيد, قديم, نراه عبر الكاميرا. فيكون ذلك تطبيقاً على رؤية عقولنا القاصرة بعد للأمر."

كانت الساعة قد بلغت التاسعة والنصف صباحًا, تقريبًا, وقد اكتظت تخييمة المدرسة المؤقتة بالعديد من التلامذة المعنيين بالمنهج الدراسي المقتطف منه بعاليه. كذا تواجد المقدس ويصا والموظفة تقى بمقعدين متجاورين. إضافة إلى تواجد بعض القادمين بغرض الائتناس أو التسلي وفقاً لعدم اكتراثهم كثيرًا لما يقال. تمثيلاً لذلك كان الأستاذ جلال صبحي مدرس الرياضيات الكمية يهامس ابنته الجالسة عن شماله بشكل متكرر (يثير الضيق إذا توفر المتابع له), وقد ظل يتصيد عينا الأستاذ عبد المعز كي يرفع يده بالتحية كلما وفق في هذا.

أيضًا كانت الآنسة صافي مدرسة الفيزياء العملية من جُلاس الصف الأول المواجه للوحة الشروح (ومن ثم فلوجه الأستاذ عبد المعز أثناء اندماجه في التوفر على الشرح وضرب الأمثلة الخطية), لطالما أغرقت بشفتيه تصورًا إلى حد الصمم عما يقول, الأمر الذي لاحظه الأستاذ عبد المعز جراء توجهه لعدة مرات بخطاب تكميلي إلى الحضور وظهورها كغير منتبهة.

سألت الموظفة تقى: عن جدوى فلسفة "حدث" قد انتهى وبات من الماضي؟, مضيفة لكونها ترى أنه من الأجدى فلسفة "آثارالحدث" على الحاضر بغية تصنيفها, ففهمها جذريًا, من ثم فالتعامل الأنجع معها. وإلا فمن وجهة نظرها البسيطة أنه لا فائدة ملموسة سوف ترتجىَ من شرح مفاهيم "فلسفة التاريخ" كمفاهيم قطعية, بؤرية, وهي المتعددة بتعدد صيغاتها كما يعلم الجميع. اللهم إن استثنينا مسألة إطلاق هذه المفاهيم لنوع من الخيال الفكري غير المؤطر "حول حدث ما" كفائدة. الشيء الذي تقريبًا قد يمت إلى الفن بأكثر كثيرًا مما سيتصل بالفلسفة!.
نظر إليها المقدس ويصا الجالس إلى جوارها نظرة إعجاب. والتفتتْ الآنسة صافي إلى الخلف كي تدقق النظر بغريمة محتملة. وطاشت عدة تعليقات سطحية قصيرة من هنا وهناك. والأستاذ عبد المعز واضح انفراج الأسارير كاد يعمل في الإجابة, لولا أنه لم يذهب بإجابته بعيدًا عن جوفه. فقد سُمعت حركية جلبة خارجية, وأصوات مرتفعة تقترب, وتبتعد, وتأتي بعبارات مستنكِرة, تتخللها نابية. كذلك استُمع استهلال بيان تحذيري يُتلى بمكبر الإذاعة الداخلية (حول خطورة الانسراب ليلاً عن حدود المخيم). الأمور التي في أولها قد تسببت بانسلال أغلب التلامذة إلى الخارج كفعل جماعي مُلحٍ-;- لم يعد يتطلب استئذانًا. ثم كان أن أعقب الجميع بالخروج من غير أقل تردد.

كان الخبر قد شاع سريعًا بين جنبات المخيم, وراح الناس يتكلمون ويستفهمون بضراوة. وعند متوسط المكان الذي اصطلح عليه المنكوبون ميداناً قبالة شاطئ البحيرة الاصطناعية-;- يُرى الراهب رشدي متورمٌ وجهه ويصرخ في الجمع الذي يزداد قطر التفافه من حوله. بينما يُرى جبرين دامع العين وراجي ناروز متكوران على الأرض في حال إعياء شديدة, وتبدو آثار الصعق الإشعاعي على المتكشف من سيقانهما. ولقد صار الراهب رشدي يقص الواقعة لنوبات متتالية كلما لاحظ ازدياد الناس, فاستمر قدرًا وسطاً من الوقت إلى أن فصَلَ خطابه بالقول: يا سادة.. يا فضلاء.. يا نبلاء.. يا كرام.. إن اختطاف امرأه تسير في صحبة زوجها من قبل جماعة مسلحة لهو كارثة أفظع مما نمر به جميعًا.. وأكرر ما حكيت لحضراتكم: رئيس ملزم الشرطة الرئيسي رد فعله كان في قمة السلبية.. بل قمة الدونية إذا أردتم الصراحة.. فهو حتى لم ينزعج وكل ما قاله كان: "سنحاول التفاهم معهم". لذلك أنا أحمل الجميع مسؤولية ضياع هذه المرأة و...
- طبعًا دي مسؤوليتنا جميعًا. جميعًا.
- لكن نعمل إيه؟.
- يعني إيه؟!.
- المركزيون متواطئون.
- عرفتوا اسم الجماعة اللي منها هؤلاء الناس؟.
- المؤلفة أذرعهم!. بتوع إدارة المخيم بيأكدوا على هذا.
- أول ما طلعوا ما كانوا بهذه الضعة.. أنا أتعجب!.
- أجنبية!.
- إذن فرسالة إلى سفارتها.. ليتصرفوا بمصير إحدى رعاياهن.
- عن طريق ماذا؟ كل الموجيات والوسائط أصبحت معطلة.
- بدأت أشك في أن فصلنا عن العالم مقصود.
- بل تأكد.
- وموضوع النسيان مقصود أيضًا.. ساعات كنت اشم ريحة غير مضبوطة زي الريحة المنتشره حاليًا ويقال عليها ريحة الحمم.
- كذلك ليس ببعيد أن يكونوا هم الذين دبروا هذا الزلزال!. هو حد كان شاف البركان؟!.
- فعلاً.. في أول يومين لما كان البث الموجي يعمل كانت كل الصور المعروضة للبركان صور فضائية فقط.
- صور غامقة ومغبشة ولا تفهم منها شيء.. رأيتها كلها.
- معقول كان لا يوجد عندهم طائرة تصوير حديثة تصوره من أرض الواقع؟.
- هناك تواطئ مركزي يا رفاق الكارثة.. هلا صدقتموني!.
- حتى ولو لم......
- لاسيما إن كان.......

لقد أذكى زهادة شيئاً من اللغط الجماعي المؤسس على الشك, وهذا بطرحه المتواتر: عن مؤامرة قد أحيكت بليل لتسبيب ما يواجهونه من إبادة منظمة إذا جاز القول (في حين كان زهادة يرمق الموظفة تقى من طرف خفي بنظرات لئيمة متقطعة). وهو قال في عبارة حماسية خاتمة: بأن جميع المنتقلين إلى المحافظة الجديدة بمختلف علاتهم الانتقالية كانوا على درجة كبيرة من السذاجة والبله, فقد صورت لهم خيلاء أنفسهم أنهم سينجون بفعلتهم هذه.

بدا إحباط على وجه الراهب رشدي, وكان بدافع ما آل إليه الناس من أحاديث جانبية هي من وجهة نظره أقرب إلى التهاتر والجدل – منها إلى الجد. لذا فهو صمت, ولم يُجب سائلاً, ولم يُعقب على أحد.
وعلا صوت الأستاذ عبد المعز على حين غرة موجهًا حديثه إلى أعين الجميع, فقال ما مفاده: أن ممارسة الكلام وحدها ليست كافية في إيجاد حل معقول لمشكلة كارثية عويصة كهذه, وإنه إذا كان هناك من لديهم مقترحات عملية يتولون مسؤولية تنفيذها بأنفسهم, فليجتمعوا بعد نصف ساعة من الآن بمقهى زهادة. كذا هو لم يجد ضيرًا من التنويه: بأن من سيأتي الاجتماع متطوعًا على محمل الفضول, أو التباسط, فهو لن يكون مرحبًا به بشكل عملي كذلك.



#أحمد_عبد_العظيم_طه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/4
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/3
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/2
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/1


المزيد.....




- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عبد العظيم طه - المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/5