أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عبد العظيم طه - المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/4















المزيد.....


المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/4


أحمد عبد العظيم طه

الحوار المتمدن-العدد: 4265 - 2013 / 11 / 4 - 07:23
المحور: الادب والفن
    


(16)

في مشارف الليل (بعد أن شارك في طريقه بعدة مساعدات لأناس منكوبين), وعلى ضوء شعلات خشبية يمسكها بضع رهبان من الناجين, رأى الراهب رشدي مبنى الدير وقد تحول إلى ركام زلق, فبدا منطبقاً على الوصفِ "طلب أثرًا بعد عين". كان قد مر على بناءه قرابة القرنين بما علل لهذا التداعي الشنيع, فما أن وجد البناء الفرصة حتى استحال أغلبه إلى أتربة ناعمة, وحتى أن ما تكتل منه كان فائق الهشاشة.
انضم إلى الذين يحاولون تسلق الركام بحثاً عن صوت أنين, أو ربما أصابع بازغة, لكن أحدًا لم يُصب شيئاً لساعة ونيف. الناجون جميعهم كانوا إما بالحديقة وإما بالخارج. فكر الراهب رشدي أن ما حدث لربما يكون غضبًا إلهيًا (حقيقاً) على المقصرين في حق المتنيح, لكنه سريعًا ما قد أبعد الفكرة عن رأسه, وهو من كان لا يريد الدخول إلى هذا المعترك الكوني المذهل (حاليًا على الأقل), فقط هو الذي كان يدري بسريرته أنه ليس متأثرًا بالدرجة المبتغاة كالآخرين.

- أما جاء لأحد برأسه مبكرًا أن يروح الصحارة يستدعي فرقة إنقاذ أيها الرهبان.
- هناك مروحية مرت هنا.. وبعد أن عاينوا المنظر قالوا.. قالوا: سيرجعون.

كان جبرين دامع العين من الناجين, وقد تحدث إلى الراهب رشدي بحزم لائم, وعين دامعة, فحول الأخير وجهه عن المنتحبين من الرهبان (محملاً بالكم الكثير من الضجر والقرف) ووجهه إلى مجسم الكارثة. الصحارة. كانت تلوح منكوبة جدًا حتى من بعيد, وقد بدأت أضواء التوربينات اليدوية المميزة بخفوت سطوعها تزداد بعدة أنحاء منها, وكان دوي لفرقعات بعيدة يُسمع وكذا رفيف جماعي لمروحيات تدنو وتقصو بأجواز المدينة. جملة الأمور التي استعجلته في اتخاذ قراره بالعودة إلى هناك. لقد أحس أن انتماءه قد تحول إلى الناس الذين رآهم بزهادة يريدون الطيران إلى ذويهم في رباطة جأش, والناس الذين طلبوا مساعدته بلاهب من الحماس والأمل أثناء الطريق, وليس أبدًا لثلة الرهبان المتحلقين حول يقين من اليأس. هو ذاته كان لا يعرف الذي دهاه كيلا يبكي مثلهم ولا ينتحب على الرفاق, الأحباء, المفقودين, القتلى, أولئك الهلكىَ عند قاع الحطام.
وقد تبعه جبرين دامع العين كما حدث بالمرة الفائتة, عدا أنه للعجب كان قد توقف عن إصدار نشيجه المعتاد بين فينة وأخرى, وبما ظهر من وجهه على ضوء شعلة يحملها, بانت عيناه خاليتان من الدمع.

(17)

قبل الفجر كانت الوسائط الموجية قد عادت إلى العمل, ولكن بصورة متقطعة, كذلك التيار الكهربي, والبث المركزي للوسائط. فكان الأحياء والأموات بالصحارة قد علموا أن تهادي قد أبيدت عن آخرها, وأن حال روعة لا يختلف عن حال الصحارة في كثير, وأن البركان لم يذر خلفه غير جبل بارتفاع مئة وعشرين مترًا تقريبًا ولا زالت قمته تقذف الحمم والأبخرة السامة حتى اللحظة, وأن الخوف من أن تزحف هذه الحمم باتجاه وادي القصدير هو خوف وجيه وكذا...

لقد تبارى البحاثة عبر الشاشات في تحليلات جيولوجية بحتة (يغلب على بعضها سعادة علمية فجة) للعوامل التي أدت إلى انفجار بركان بهذا الحجم في أرض لم تذق بركانًا منذ عشرات القرون. البعض رأى أن الصحراء الغربية لم تلق رعاية بحثية من قبل بالصورة الواجبة, خاصة وأن "بحر الرمال الأعظم" قد أخذ جل الاهتمام لكأنه وحده من يشكل تلك الصحراء شاسعة الامتدادات. لذا فقد أنيط الآن بالدولة أن تفعل كذا وكذا كأسباب فاعلة--;-- حتى يقع كذا وكذا كنتائج مفترضة. وتحدث البعض الآخر بالتوازي مع عرض عدة مقاطع فضائية مصورة للبركان, وبحس منفعي صارخ, عن التقارير الخارجية الواردة من "المجمع الدولي لأعمال الرقابة على الأرض", وما يعتقده المراقبون من أن الحمم الكثيفة تحمل بين طياتها شيئاً مدهشًا, وليس مفهومًا إلى الآن من هذه المسافة, فهي تتمدد بشكل دوامي منتظم, يعمق أثرها بالمسطح الرملي الذي تزحف فوقه.

- زفت زفت.. شوفي!.. يتكلمون ولا كأن في ناس ماتت يا سيدة قدرية.
- العلماء دومًا هكذا.. كلاب علم يا أستاذذ...
- عبد المعز.
- يا أستاذ عبد المعز.. آسفة على النسيان.
- لا داعي للأسف.. النسيان بات ظاهرة ملحوظة في الصحارة.
- فعلاً؟!.
- نعم.

لقد صارا على شيءٍ من القرابة التي تصنعها المآسي بين البشر, وقد اضطر إلى تكرار اسمه أمامها عدة مرات منذ ليل الأمس. استأذنها ومضى إلى آخر الرواق الداخلي للمقهى كي يطمئن على المقدس ويصا. كان قد ابتكر له سريرًا بتجميع عدة مناضد إلى جوار بعضها البعض, وكان الأخير لا زال يغط في نوم عميق, وقد تقلص ما بين حاجبيه, وانفتح فمه بتصلب نائم (ما يدل أنه يرى أحلامًا سيئة).
في ذات الوقت كان زهادة قد نشط جدًا, وأصبح يداوم على جميع المستيقظين بالمشروبات الساخنة, فيُعدها بنفسه بعد أن خلا المقهى من أي عامل مساعد. كان يفعل بسعادة بالغة سببتها أجواء ما بعد الكارثة, الأجواء المؤاتية جدًا في صناعة الصداقات, وسرد ما يحبه من الحكايا والسير القديمة بغية اجتلاب حكمة القدماء. ولما كان بعض الموجودين يرابطون بالمقهى منذ عصر أمس خوفاً من توابع متوقعة, فقد استجاب كثيرون لهذا الحس القصصي وأعاروه أسماعهم, إما للقلق الوجودي الذي يصحب ليل كارثة ثقيلة ويقبل هكذا تسرية, وإما في مقابل المشروبات الساخنة عند الصرحاء منهم. ولكن الحقيقة أن زهادة كان يتفهم ذلك ويغفله ببساطة اعتيادية, مستمرًا في محاولته لخلق جوقة سماعية ثابتة من الساهرين. وهو صار فجأة شديد الاحتفاء بالأستاذ عبد المعز بالذات دونًا عن الآخرين, ليس فقط بسبب تذكره لوجهه المنقذ, إنما أيضًا لهذا الصد الرفيق عن الخوض في غمار الكلام والسماع, فأعد له "مشروب زهادة" عدة مرات متتابعة كتعبير عن صادق امتنانه, كذلك فقد سأله: عن الشخص الآخر الذي بادر بإسعافه عقب الزلزال؟. وأجابه الأستاذ عبد المعز: بأنه لا يعرف عدا عن كونه كان يرتدي زي الرهبان باهت الزرقة.

خرج الأستاذ عبد المعز ليرى مشرق الشمس, وفوجئ بوصول الكثير جدًا من سيارات فرق دعم النكبات, وكانت مشحونة بالمؤن, والمعدات, والأغطية, كذلك بمئات التخييمات الهوائية التي يستعدون لإنشائها بمحيط البحيرة الاصطناعية كمنطقة آمنة. أعقب ذلك وصول فوج من المركبات الطوابقية تقل كثرة من الناجين غير المصابين بشيء, إضافة إلى أولئك الذين أخلوا وحداتهم السكنية لشكهم في تصدع بنيتها الداخلية. وقد لاحظ الأستاذ عبد المعز مبادرة عدد من المدنيين إلى مساعدة فرق دعم النكبات في نصب وفرش التخاييم, وكان من بينهم من يرتدي زي الرهبان ويعمل ببأس كبير.

في الحادية عشرة صباحًا كان الناس يسجلون أسمائهم وعناوينهم, ثم أمام عدسات مصوري "الوكالة المركزية للصحافة والتوثيق" يستلمون مفاتيح وأرقام تخييماتهم. كانت التخييمات مجهزة على نحو فائق الجودة, إذ عندما تفحص المقدس ويصا تخييمته من الداخل, وجد حمامًا به مياه عمومية, ونظام صرف آلي قد ألحِق بالصالح من شبكة المدينة, فأثنى على الدولة بصوت عال. وكان أن رأى بأن الحيز المخصص للمطبخ أوسع نسبيًا من اللازم, فقرر في نفسه أن يحضر بعض الأشياء الغالية من المحل قبل أن تسرق, حتى وإن لم يكن قد تعافى كليًا بعد.

(18)

كان جبرين دامع العين شخصًا مشغولاً بالموت طوال الوقت, وهو ما حضه مليًا على قبول الرهبنة بديلاً عن الموت بداء الحَزَن, بينما هو الذي في ربيعه العشرين لا يزال. كان فيما مضى من حياته شابًا عاديًا, يُقبل بقوة وفرح على عيشته الميسورة بكنف أهله, ثم في ذات مرة جرى ما جرى, وأكل البحر حبيبته بيوم نحس من صيف عام قد انصرم منذ عامين, فأصابه الهزال وذهب يهيم على وجهه بالطرقات باكيًا لا يستطيع التوقف عن البكاء, ولكنه ظل منكبًا على وعيه كي يبقى سليمًا (لدرايته بخطورة السكة التي أجبر قدريًا أن يسلكها في جلب سلوانه). وكانوا كلما بحثوا عنه, وأعادوه, يغافلهم ويمضي هائمًا على وجهه, باكيًا حبيبته الغارقة ومعها روحه. وإنه قد صار إلى هذه الحال مدة. حتى إذا جاء يومه الذي أضناهم به البحث عنه, صرخ أخ له بوجهه: أن استفق وإلا أهلكتنا بضياعك هذا في كل وقت يا أخي. ونصحه عم له: أن يتجه إلى الرهبنة كي يستنقذ بقيته من براثن البكاء, وأقله سيكون له مكاناً آمنًا, معلومًا, يجيئه من أراد رؤيته من الأهل. ووافق جبرين البَكّاء ناصحه بلا تردد, وأنجزوا له إجراءات انتقاله بوقت قياسي مشفوع بالمال, فانتقل, واستراح للطبيعة الساكنة تكتنف الدير, وفئة القاطنين به, لكنه لم يستطع التوقف عن البكاء.

سقطت دمعة فوق توقيعه, فواساه الموظف المسئول عن تسليم المفاتيح قائلاً: أنه على علم بما أصاب الدير من دمار مقيم. وبالمثل فقد عزاه المحيطين بالموظف جدًا. كان قد تشارك والراهب رشدي بتخييمة واحدة, بعد تأكدهما من أنه يوجد وفر تخييمي عن حاجة الناس, وهما كانا اللذان أسهما بجدٍ منذ فجر اليوم في مشاق أعمال التخييم, حتى أن وصلت الأمور إلى هذا الفائض المعقول.

منذ حلوله بالدير والراهب رشدي كان الشخص الأكثر شعورًا بتعقد حالته, لقد كان (على العكس من بقية الرهبان المغرقين بوعظية روحانية مؤملة بالأمجاد السماوية) يحثه على البكاء ويؤكد له أنه لا يجدر به التوقف عن اعتصار عينيه بل واقتلاعهما إن تمكن بعد كل هذا الحب والفقدان. لذا فبالأمس لم يجد بنفسه محيصًا من أن يتبع الراهب رشدي في طريقه, لاسيما وأنه على وعي ذاتي, منذر, بتضاعف حاجته إلى تلك الرؤية المادية الصارمة (أو أنها بالأحرى الرؤية القهرية الساخرة), والتي على أثر تكرارها قد أسهمت في التخفيف من البكاء وأحالته إلى دمع صامت في ذات يوم من الأيام قد سبق, فتغير لقبه بالدير من جبرين البَكّاء إلى جبرين دامع العين, وطرأت على قلبه هدأة لم يعرفها منذ أن غرقت روحه بالماء.

- تخيل يا جبرين أنهم باتوا لا يسمحون لأي شخص بمغادرة الصحارة. الناس الراجعة يقولون في مئات القتلى والسيارات المنسوفة نسفاً على الطريق المركزي السريع.
- لماذا يا راهب رشدي!؟.
- الناس الراجعة يقولون إن التعاقد بعدم العودة هو تعاقد نهائي.. بالإضافه إلى وجود بند يشمل النكبات والكوارث الطبيعية.. المركزية لشؤون الانتقال تتحجج بهذا.
- يعني إذا أردت الرجوع إلى أهلي.. لا يصح يا راهب رشدي؟!.
- لا.. لا يصح يا جبرين... إنما أنت حقيقة تريد أن ترجع لأهلك؟.
- ... اليوم لا أدري.

وقال جبرين دامع العين في نفسه: سأنام الآن وعندما أصحو سأتوقف عن شقائي بالكارثة ولو بالقليل, وسأتخذ القرار بنفسي. ولما استراح على سريره الجديد, الوثير, تذكر أن الدير لم يكن أثاثه مريحًا على الإطلاق. أدمع مبتسمًا للذكرى, حزينًا على الراحلين من الرهبان, ومشفقاً على الناجين منهم!. لقد اعترته المصيبة بما وازى المَصاب, فأبطأت من سحيح دمعه, وكان الذي غرق في النوم بغتة وجاءته رؤيا:. أن يا جبرين لا تغادر هذه المدينة وامكث مع الناس إلى أجل, وسيأتي أهلوك ويبصرون ما جرى ويصرخون بحزنهم عليك فلا يجيب عليهم من بين ركام الحطام أحدًا, وإنهم يطمئنون لمثواك بينما هم في طريقهم إلى البيت عائدين, وعندما سترجع بعد بضع سنين إلى بيتك, سيصرخون بالفرح, وتصرخ بالحق, وتنتهي لوعة قلبك, وتكف عينك عن الدمع الغزير.


(19)

يومان

كانا يومان, وقد عبرا على جثة الصحارة, الحية, المُثخنة بالجراح. وكانت الأحوال قد آلت إلى صورة اجتماعية مستقرة بمخيم البحيرة الاصطناعية, عدا أن موجات الاتصال والبث المركزي للوسائط قد عاودت الانقطاع بشكل نهائي, وذلك بعد عملها الرديء لما يقل عن نصف يوم عقب الكارثة. تواردت الأنباء الشفهية عن إدارة المخيم (والمتصلة بالعاصمة عن طريق شبكة طوارئ أحادية تخص الكيانات المركزية) وقال الناس لبعضهم البعض: أن البركان توقف عن قذف الحمم, وإنه قد انحسرت احتمالات وقوع توابع زلزالية إلى الحالة الزرقاء الآمنة.
وبينما كان الأستاذ عبد المعز يئِد بقوة الذي يكتنفه من أحاسيس الافتقاد, فيلقي بأذنيه إلى ما تناثر من الكلام (يسمعه بأكثر من مكان), ويتمشى بين الناس المؤتلفين في جوقات جدالية على شاطئ البحيرة الاصطناعية, فقد تصادف أن التقى بعدة وجوه مألوفة من جيرته بحي "القانونلي", وكان يبادر بالتحية فيردها عليه البعض ويتجاهله البعض. كذلك التقى الآنسة صافي مدرسة الفيزياء العملية في صحبة عدة تلميذات من رواد "النسائم الانتقالية المشتركة" فكن اللائي سعدن بلقائه إلى حد بعيد, وخاصة الآنسة صافي التي عبرت بقولها: أنها فقط توًا قد شعرت بالأمان.
تجاذبا أطراف حوار, فعلم أن أحدًا من أسرتها لم يُصَب بأذىً, وأن حي "تمزغ" جميعه يكاد يكون غير منكوب في شيء, لكن الكثيرين من قاطنيه قد آثروا السلامة, وتوجهوا إلى المخيمات خوفاً على حيواتهم وأطفالهم من همزات الجماعات المسلحة (وضحكات أفرادها العالية غير الموحية بخير أثناء انطلاق مركباتهم المكشوفة في شوارع الحي).
أبدى الأستاذ عبد المعز دهشته بقول مستنكِر, وأتبع بالتفسير والأسف, فوقعت الدهشة منه بقلبها أن ذلك حتمًا يكون خوفاً عليها, ما حدا بعينيها الخضراوين إلى النظر بعينيه نظرة شديدة اللمعان والخصوبة.
هو صمتَ, وهي تحدثت (مرتبكة): أنها تنتوي طلب تخييمة مركزية من إدارة المخيم لجعلها مَدرسة مصغرة, وأنها ستقوم بإعلان كل تلامذة المرحلة الانتقالية المخيمين بوجوب مواصلة الدراسة كيلا تضيع أوقاتهم سدىً, لاسيما وأنه قد اقترب موعد الاختبارات الانتقالية العامة. وقد أحس الأستاذ عبد المعز بمدى براءتها الذهنية, فأثنى على فكرتها, وأعطاها رقم تخييمته, ووعدًا بالمساعدة متى تم البدء. وعلى أثر أن عثر عليه زهادة وأسره شيئاً بحماس منفعل, اعتذر منها, وكان أن مضى باتجاه مقهى زهادة في شبه هرولة.

(20)

بضعة أيام

بعد بضعة أيام(1), كانت الجماعات المسلحة الخاصة قد انتشرت بصورة مزعجة بين كل جنبات المدينة تقريبًا, وكان هذا بحجة الحفاظ على الأمن. عدا أن الجميع كانوا يعرفون بالغرض المركزي لقدومهم ألا وإنه السرقة.. الاستيلاء على الثمائن من بين الأنقاض التي هجرتها فرق الإنقاذ.. إفراغ ماكينات صرف النقد.. أيضًا كان لا مانع من تفقد الشقق والدور التي غادرها عمَّارها إلى المخيمات الإيوائية طبقاً لدوافع نفسية مختلفة, كالخوف, إيثار السلامة بالابتعاد, الأطفال, وما إلى ذلك!.

كانت قوة "ملزم الشرطة الرئيسي" لا تجاوز بضع وأربعين من الضباط والجند, ولم تأت إمدادت أمنية من أي صوب لتلبية مطلب رئيس الملزم بضرورة إمداد سريع--;-- كي تتحقق التغطية الأمنية اللائقة بكارثة ضخمة. ثم آل الذي كان يحسبه تلكؤاً إلى رفض صريح, وذلك تبعًا لخطاب رسمي صارم يشرح وجهة نظر "الإدارة العليا للمقار الشرطية العامة", والتي ارتأت أنه لا داعي لأية أعداد زائدة قد تستثير مشكلات فرعية (لا وقت لها) في ظل عمليات الإنقاذ غير المنتهية بعد. كذا وأن الشِق الأهم من الكارثة (وهو الشق الخارج عن حدود المدينة) قد بدا مُؤَمَنًا بشكل محكم, ويلغي فرص الانسراب خلسة, لطالما طائرات الرصد المركزي ترف حول حدود الصحارة ليل نهار, فلم يُعرف أن أحدًا لم يَقفل تبعًا للتحذير الأولي, أو أن أحدًا قد تجاوز مسافة الأميال الثلاثة من الطريق المركزي السريع.

لهكذا تعليلاً لزجًا, أصيب رئيس "ملزم الشرطة الرئيسي" بغضب وإحباط شديدين, وكان يلعن بصوت زاعق كتبة التقارير الذين أودوا به إلى مَهلك المحافظة الجديدة. وهو بالنهاية كان مضطرًا إلى اتباع نفس منهجية "الإدارة العليا للمقار الشرطية العامة", فأرسيت السياسة المهادنة للجماعات المسلحة الخاصة, وعدم تطوير ما وقع من مناوشات إلى صدامات استمرارية قد تطيش باتجاه الدم. من ثم فقد دعا الرجل إلى اجتماع تعارف عاجل, حضره قادة أرتال الجماعات المنتشرة بأرجاء الصحارة. وخرج الاتفاق: على أن "ملزم الشرطة الرئيسي" هو الجهة الوحيدة المنوطة باحتجاز الناس, وأن الجماعات المسلحة الخاصة جاءت إلى هنا للمساعدة في حفظ الأمن العام للمدينة, وذلك بالتنسيق مع "قوة الملزم الأساسية الحافظة".
كانت جماعة "المؤلفة أذرعهم" بلحاهم المميزة وأسلحتهم البلجيكية البراقة, هي أكثر الجماعات انتشارًا بشوارع وأحياء الجزء الشرقي من الصحارة – وهو الجزء الأكثر تضررًا – تليها جماعة "رمال حمراء" والتي يتحرك أعضائها بسيارات صحراوية مكشوفة في ثلل منتظمة على طريقة الدوريات. ثم طفت مؤخرًا عدة جماعات غير ذائعة الصيت كـ "عُصبة العِصَمْ", و"شمس الغايات الكبرى"(2), و"مناضلو فقط"...

عندما دخلت الموظفة تقى رفقة الأستاذ أنس بهاء إلى حجرة مكتب رئيس "ملزم الشرطة الرئيسي", أبرزت هويتها الخضراء فيما يشير إلى أنها موظفة مركزية من الفئة الثانية, ما جعل الرجل يصافحها وزوجها بتوقير بالغ, فكان يبدي درايته بقيمة الدرجة التي يعاملها, وكذا التي يتوق لنيلها ولا يدري متى بالضبط سوف يحدث ذلك!.
طلبتْ منه: إجراء اتصال هام بأمين شؤون المحافظة عبر الشبكة الأحادية الخاصة. وهو أبدى تحفظاً, وقلقاً, قبل أن تذيبه كلماتها المنتقاة بخبرة مركزية وممعن بتوظيفها جيدًا, فيلبي طلبها. لقد ثمنتْ مقابلته على هذا النحو برغم جسامة مهام عمله خلال الظروف الاستثنائية, ولا ضير من أنها ستصرح له باقتراب موعد اختيار لائحة "التصعيد السنوي النسبي", وعن كونها ستثني شخصه المجتهد بـ "المجمعام" عند عودتها إلى هناك.

بالأيام السابقة كانت قد حاولت القيام بدور في مجلس إدارة الكارثة بالمحافظة, ولكنها اكتشفت بعد وقت قصير أن سَمت وظيفتها الرقابية الخالص كان لازال كثيف الحؤول بينها وبين بقية أعضاء المجلس. حتى في ظل هذه الحالة الصادقة من التكاتف الإنساني بين الجميع, هم كانوا أناسًا منتخبين, وقطعًا هم جاءوا إلى مواقعهم عبر مبررات ووسائل مختلفة تمامًا عما أتى بها إلى ذات المكان. أيضًا ارتأت الموظفة تقى أنهم في الأغلب الأعم يقومون بأدوار تنظيرية فارغة (بما يشمل المحافظ المنتخب), إضافة إلى التفنن في إصدار أوامر تافهة في معظمها إلى شخوص العدد الذي لا بأس به من الموظفين المكلفين (الذين ما انفكوا يواظبون على الحضور), وحتى هؤلاء فإنه قد استولت عليهم إدراة مجمع التخاييم بالأساس في حصر وتسجيل الوفيات والمواليد والممتلكات الخاصة. لقد صارت مركزية السلطة بين جنبات مبنى المحافظة ظاهرة بجلاء لأعضاء إدارة مجمع التخاييم على أعضاء الإدارة المنتخبة للمحافظة (بعد عدة أيام لا غير), فبدا الأمر لكأنه يمثل حنينًا من قبل الموظفين المكلفين تجاه ذلك الشكل المركزي من الإدارة.

- لا أصدق نفسي.. أخيرًا سنفلت من المحافظة الزفت.. الجديدة.. زفت.
- فرحان؟.
- طبعًا.. ياريت هذا البركان كان حصل من سنين.
- ولا تعرف.. مش جايز ساعتها كنا أصبحنا ممن تحت الأنقاض!.
- لا يُهيأ لي.. عارفة لِمَ؟.
- لِمَ؟!.
- لأننا ببساطة مازلنا عايشين.. لسنا ميتين!.
- القدر.. أنا بتكلم عن القدر.
- وانا بتكلم عن الحياه.. الحياااااه...
- ........

كان الأستاذ أنس بهاء قد تحول إلى ضحك عميق فبدت لوجهه قسمات شريرة!. والموظفة تقى كانت تحاول مجاراته في حبوره إلا أنها لم تقدر على ذلك, فهي داخليًا (أمام مرآة ذاتها) لم تستطع نكران أحاسيس لحظة صدمتها بمرآه حيًا, فقط بعد هذا الكم الفظيع من الجثث التي أبصرتها في الطريق إليه. فقط؟. هل كانت سعيدة؟. نعم؟. هل برق برأسها "غير ذلك" أثناء جرجرة الأستاذ عبد المعز لها من يدها إذا هما يركضان ويلهثان؟!. كم بدا لها أنس بهاء شخصًا باردًا وهي توقظه من النوم؟. كم بدا؟!.
لقد غدت تُساءل نفسها بلا هوادة, ولا تسمع زوجها بكلتا أذنيها. بينما صار الأخير كائناً يدخن بشراهة, وينظر إلى سقف الحافلة العاكس للأشياء متحدثاً عن الحرية: وكيف أن الإنسان قد يكون مرغمًا على التقيد بما يخالف إرادته الحقيقية, لولا أن الحياة ترسل بأقدارٍ كهذه في الوقت الذي تراه مناسبًا.
أعجبها شيء بعبارته الأخيرة. رفعت حاجبًا وراحت تكررها ببطء – للفهم على الأرجح. ذلك الذي جعل الانتشاء يسري بصوته ويحثه على الاستزادة من هذا الحس الفلسفي, العميق, المفاجئ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذكر المقدس ويصا في غير مرة أنه قد تعرض لعدة ملابسات زمنية بعد وقوع الكارثة, فكان أحيانًا يستشعر يقينًا ما بأنه قد عايش بعض المواقف التي تجري في حاضره في ماضيه من قبل. أو يتفاجأ أنه قد أنجز بالأمس ما انتوى القيام به صباحًا.

(2) على حد ما تورده المراجع التأريخية – الناجية من الحرق – لتلك الفترة, حبذا المعنية منها بالتأريخ الشعبي, والمهمومة به, فقد كانت هذه الجماعة لا تمتلك سوى عرقيتها الضئيلة نسبيًا, وتستخدم التقنيات الزرقاء "المُجرمة مركزيًاً" في الوصول إلى أغراضها الأساسية الداعية إلى التوحد على نحو لا مركزي.




#أحمد_عبد_العظيم_طه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/3
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/2
- المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/1


المزيد.....




- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عبد العظيم طه - المحافظة الجديدة -فصل من رواية- 7/4