أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - لقاء وحيد














المزيد.....

لقاء وحيد


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 5563 - 2017 / 6 / 26 - 02:18
المحور: الادب والفن
    


لقاء وحيد
كنتُ ضائعاً في موسكو. كان ذلك نهاية 1990، وحيداً أسكن شقة بعيدة منتظراً المجهول بعدما فارقت زوجتي وبنتي التي لتوها أكملت عامها الأول. يزورني العديد من رفاقي الثوار القدامى منهكين يائسين وهم يشهدون تهاوي مدينتهم الفاضلة وقتها –موسكو-. وكنتُ منغمراً في الخمر والحوار والدهشة والبحث والضياع والضحك الذي يشبه البكاء. فحينما تكون غارقاً في البؤس حتى القاع ليس أمامك سوى الضحك والضحك حتى الموت أن أمكن. لم أمت، لي روح قطة بسبعة أرواح، وكانت لي علاقات ثقافية وطيدة مع العديدة من قادة الحزب الشيوعي العراقي فهم يستأنسون بالحوار معي. كنت صريحا ليس لي طموح سياسي، وهم يفضلون هذا النمط من المثقفين، وأدرك لمَ فهو دليلهم الدقيق والشاهد الأهم من الحزبي المحيط بهم التافه المتملق. وكان يسكن في نفس البناية عضواً سابقاً في اللجنة المركزية وكان مسئولاً عن الفرات الأوسط وأشرف على عملية تسريبي لداخل العراق من الجبل وعودتي أيضاً، فربطتني به علاقة ودية وحوارية وهو فلاح بثقافته ونظرته ويحمل غيضاً على المثقفين والأدباء كونهم منفلتين من قيد الضوابط الحزبية، يعيش الآن في لندن "عدنان عباس". كنتُ في زيارة له فأخبرني بأن ثمة أديب مثلي يعرفه وصل منذ أيام إلى موسكو بانتظار لمّْ شمله مع عائلته في السويد، فسألته من يكون، فقال:
- محمود البياتي!.
فنهضت من مكاني مردداً:
- صحيح!.
كنتُ قد قرأت له مجموعة قصص قصيرة جدا "اختراق حاجز الصوت" حينما كنت في دمشق وأعجبت بها جداً، فالطريقة التي يكتب بها مميزة وتخصه، وهي من النمط الذي فيه الكثير من الكثافة والتأمل والضربة المفاجأة كذلك، وهذه قلما تجتمع في قصة قصيرة مكثفة.
فأخبرني بأنه يعرفه أيام براغ، وحكي لي عن حياته ونشأته، فهو ابن بغداد القح وأبوه "كامل عارف" عربي من رواد المصورين الشمسيين في العراق في مطلع القرن العشرين، أما أمه فناجية بنت الشيخ شكر الله كردية وأول مصورة ستديو في العراق "المصور الأهلي". وهو قريب أشهر الضباط اليساريين الأحرار "وصفي طاهر" الذي اغتيل مع عبد الكريم قاسم، فاضطهدت العائلة، واضطر لاحقاً إلى مغادرة العراق إلى برلين بعدما قامت السلطات باعتقال أعز أصدقائه وإعدامه في عام 1974 بالرغم من وجود تحالف بين الحزب الشيوعي والبعث. وهناك تعرفت عليه، ووصفه بالإنسان اللطيف والمسالم وأردف ضاحكاً:
- ستنسجم معه، أكيد فهو مثلك أديب وما ملتزم!.
وقهقه عالياً وأتصل به تلفونياً فتكلمت معه قليلاً كان ناعم النبرة شديد الهدوء فقلت له سأخرج في طريقي إليك. فردّ لي العنوان وقال:
- ستجدني على رصيف المترو بانتظارك!.
خرجت إلى ليل موسكو العاصف وبين يدي ورقة العنوان، وتوجهت إلى محطة المترو القريبة طائراً على أجنحة قصصه التي جعلتني أحلم وكأنني قرأت روايات، عن ذلك القارئ الذي هو أنا الذي يجّمع الكتب ويؤجل القراءة إلى وقت المرض أو الفراغ، أو الشيخوخة وإذا كان بطل محمود لم يصل شيخوخته فأنا وصلتها وفي مكتبتي مئات الكتب المؤجلة التي لا أعتقد بأني سأستطيع قراءتها، عن ذلك السائح الأمريكي والدليل الكردي في رحلته السياحية الذي يتعب فتصعد زوجته مع الشاب الدليل يلحق بهما بعد وقت طويل ويشك فيلقي بنفسه من أعلى قمة. عن ذلك المجنون الذي لديه رغبة بالصراخ فقط.. الصراخ فيذهب إلى غابة ويصرخ.. ويصرخ في مطلق وجود غامض ليس غير الصراخ حلّ.
في عمق الأرض ومترو موسكو الرهيب كنت أحلق في الغور وفي سماء لا تمنح لونها إلا لمن يذهب بالخيال بعيداً ليغور في غور الكاتب. لحظات كنت فيها لم أتبلور بعد ككاتب لكنني أعيش معه وأستطيع الرحلة فيه وهذا ما فعلته وأنا في طريقي للقاء محمود ذلك اللقاء الوحيد. جعلتني قصصه أهيم وأطير وأغور وأتذكرها وأنا الآن في شيخوختي لذا أحس هذه اللحظة وأستعيد بهجتي ولهفتي وأنا في الطريق إليه.
وجدته باسما على الرصيف، هادئ القسمات، متأمل النظرات، لم يمكث في نهره الساكن حينما أفردت ذراعي لأخذه إلى صدري وكأنني أعرفه منذ زمن بعيد. أمسكني بأصابع حنونة من ذراعي وقادني إلى شقته التي ما أن دخلتها حتى صعقت، مرتبة، نظيفة، واسعة إذ قارنتها مع فوضى شقتي وروحي، وقارنت في وقفتي لثوانٍ وفي لحظة عاصفة بين صخب قصصه ونهر يومه الساكن.
كان لقاء حلمٍ وحيد لم يتكرر!.
أبديت له كل ما أبديت بما كتبت الآن من مشاعر، فأنا عارٍ بلا ستار وهذا من أسرار سعادتي وسط البؤس والخراب. أبديت له شدة إعجابي بقصصه، بعالمه، وكان يجلس قبالتي ونحن نحتسي النبيذ الأحمر أنا مثل سكيرٍ عتيد وهو بطريقة ملكٍ خبر الدنيا. كان رابط الجأش وكنت مجنوناً ذاك الجنون الذي عبرتُ عنه في روايتي "الحياة لحظة" شربت كثيراً وترنحت ليلتها في الكلام، والحركة، والأفكار، وبحت بما لا يباح، كعادتي في الرغبة في العري.. والعري.. وسلخ الجلد والوقوع على اللب والحقيقة. فألحّ علي كي أبات ليلتي عنده، لكنني وأنا في غيمة السكر أصررت على المغادرة ويا ليتني ما أصررتُ. فأوصلني وقبلني في رصيف المترو ولا أدري كيف عدت؟!.
لم أراه بعد ذاك العناق على رصيف محطة مترو في طرف موسكو أبداً.
أبداً.
غمرتنا الحياة. شتتنا.. بالرغم من قربنا من بعضٍ فهو حلّ في يوتبوري السويدية مع عائلته، وحرص على التواصل معي وبعث لي مجموعة قصصية أصدرها وكتاب حنين لبغداد أصدره عام 2000 ووضع ريعه لفك الحصار عن العراق. كان مجروح القلب، لا يفكر إلا في العراق حتى أكل جسمه جسمه،
ليغادر الدنيا بصمت
بسبب سرطان لعين حيث ينفي الجسد نفسه
يغادر بهدوء
لم ينعه الحزب الشيوعي
لم يذكره المثقفين الذين تحت الضوء
وأنا مذنب جدا
لأني لم أمنحه اهتماما يتناسب مع فعله ككاتب وتجربة حياة بنفسي
هل كفرت عن ذنبي يا محمود؟
هل؟!.
قلبك باقٍ وكلماتك باقية



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في تجربة مظفر النواب الشعبية -1- علاقة أشعار مظفر بالوجدان ا ...
- في الوسط الأدبي العراقي - الأديبة العراقية بنت بيئتها
- في حوار شامل، الروائي العراقي سلام إبراهيم: اليسار العربي ضع ...
- شهادات -1- ثابت حبيب العاني وبدر شاكر السياب
- أدب السيرة الذاتية العراقي
- قيامة في ليل
- كتّب لراحلين خفت أموت دونها
- بمناسبة فوز البعثي -وارد بدر السالم- بجائزة الدولة العراقية ...
- رواية -إله الصدفة للدنماكية كريستين تورب، ترجمة دنى غالي
- الروائي العراقي الصديق -حسين الموزاني.. وداعا
- من تجارب القراءة -2- القراءة قد تغير المصائر
- في الكشف خلاص
- من تجارب القراءة -1- طفولة القراءة
- الموت بالماء
- إلى روائي شاب
- الصداقة مثل السحر
- ناهض حتر*
- أوصيك: لاتخرب أيها الإنسان مخيال طفولتك
- الموت -1-
- لستُ نهراً


المزيد.....




- “فرحي أولادك وارتاحي من زنهم”.. التقط تردد قناة توم وجيري TO ...
- فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي ...
- ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ ...
- بعد مسرحية -مذكرات- صدام.. من الذي يحرك إبنة الطاغية؟
- -أربعة الآف عام من التربية والتعليم-.. فلسطين إرث تربوي وتعل ...
- طنجة تستضيف الاحتفال العالمي باليوم الدولي لموسيقى الجاز 20 ...
- -لم أقتل زوجي-.. مسرحية مستوحاة من الأساطير الصينية تعرض في ...
- المؤسس عثمان الموسم 5.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 باللغة ...
- تردد قناة تنة ورنة الجديد 2024 على النايل سات وتابع أفلام ال ...
- وفاة الكاتب والمخرج الأميركي بول أوستر صاحب -ثلاثية نيويورك- ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - لقاء وحيد