|
التحوّلات الكردية : أقلية وأكثرية
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1442 - 2006 / 1 / 26 - 09:51
المحور:
القضية الكردية
مجتمعُ الأقلية ، المغلق ، في المدينة الكبيرة تحديداً ، يتميّز بإزدهار الجريمة والخروج عن القانون ، بين بعض أفراده ؛ خصوصاً إذا كانوا منحدرين بأصولهم من إقليم تسوده روحُ العنف ؛ حالُ المجتمع الإيطالي في مدينة " شيكاغو " الأمريكية ، على سبيل المثال ؛ والذي بدوره حملَ داخله تقاليد المافيا الصقليّة . المفارقة في موضوعنا ، المتناول مجتمع الأقلية الدمشقي ، أنّ الشوامَ دأبوا حتى وقت قريب على وسم حيّ الأكراد ب " حارة شيكاغو ! " ؛ بالنظر لما عاينوهُ ، أو ما كان يتناهى إليهم ، من أخبار الثارات المتبادلة فيما بين أفراد العائلات الكردية ، المعروفة ، إلى تناهي سطوتهم خارجَ حيّهم . ضافرَ هذا الميلُ للعنف ، عند كرد المدينة ، عاملٌ هام سبق لنا أن نوهنا به فيما سلف من دراستنا ؛ وهو الجذور التاريخية ، العسكرية ، لمجتمعهم الشامي ، بدءً بتأسيسه على أيام بني أيوب ، مروراً بعهود المماليك والعثمانيين والفرنسيين ، وإلى منتصف القرن الماضي . هذا ما يمكن قوله عن مجتمع الكرد ، الغريب ، الذي وجدَ الكثير من أفراده أنفسهم في خدمة من يشجعهم على التمادي في العنف ؛ فماذا عن حال أسلافهم ، في موطنهم الأول ، الجبلي ؟ يذهبُ جيراننا الترك والفرس ، في عهد أعتق ، إلى التأكيد على أنّ النهب والسلب ، هما من مقومات " طبع الكرديّ " . وإلى هذا الحدّ أو ذاك ، شاركهما في هذا الرأي مصادرُ الرحّالة والباحثين الأجانب ؛ بتأكيدها على أنّ تلك الأفعال لا تعدّ أموراً معيبة أو جرائم ، بل هي لائقة بالرجل الشجاع ، حسب مفهوم الكرد . وهذا الباحث الروسي ، ليرخ ، يكتب على لسان أحد أصدقائه ممن عايش أقواماً عديدة في آسيا وأفريقيا : " أنه لم يرَ عند أي شعب من هذه الشعوب ، مثل هذه النزعة المتأصلة للسلب كما هي لدى الأكراد " ، منوهاً بهذا الشأن ، أن الكرد : " لا يمكن إجتثاث الجموح من طباعهم ، حتى عندما يكونون خاضعين لسلطة دولة من دول الشرق . لكن في الوقت ذاته ، هناك في الشرق رأي عام مؤداه ، بأنّ الكردي لا يعامل ضحاياه بتلك القسوة مثلما يفعله التتار والتركمان والبدو " (1) . إذاً ، فهوى السلب والنهب ، لهوَ نزعة ٌ متأصلة في نفسية الكرديّ ؛ مشكلة ً نصيباً من " قِسمَته " في الحياة . إنّ أبَ الأدب الأرمني ، آبو فيان ، الذي عاصر جيرانه الجبليين ، في حوالي منتصف القرن التاسع عشر ، يقول عنهم كلمات رائعة : " الروح الحربية ؛ الصدق والإخلاص الواعي لأمرائهم ؛ الوفاء بالعهد ؛ حبّ الضيف ؛ الثأر حتى بين الأقرباء ؛ الميل إلى النهب والسلب ؛ والإحترام اللا متناهي تجاه المرأة : هذه هي الصفات العامّة لجميع الشعب " . (2)
ضارعَ كردُ الشام جميعَ تلك الخصال والمثالب ، الموسوم بها أشقاءهم في موطن الآباء . ويمكنُ الكلام عن " فرادة " فيهم ، أيضاً ، بنزعة السلب والنهب ! هذه النزعة ، التي يمكن لنا تتبعها أوباً حتى زمن ترسّخ دولة الأيوبيين في مدينتهم . ففي اليوم الذي شاع فيه نبأ إحتضار السلطان صلاح الدين : " إشتدّ الرجف في البلد وخاف الناس ، ونقلوا الأقمشة من السوق .. وكان الناس قد شغلهم البكاء عن الإشتغال بالنهب والفساد ، فما يوجدُ قلبٌ إلا حزينٌ ، ولا عينٌ إلا باكية " (3) . وعلى هذه السيرة ، وصولاً إلى عهد العثمانيين ، الذي طشتْ سماؤه بما إنهمر على " الشام الشريف " من أصناف الجند الكردي ، النظامية والمرتزقة ؛ كالدالاتية والسكمان والسباهية واللاوند . هي ذي مدونات ذلك العهد ، ذاخرة بأخبار السلب والنهب ، الممارسة من لدن تلك الأصناف ؛ كما في يوميات الشيخ البديري ، الدمشقية ، العائدة لمنتصف القرن الثامن عشر . يسرد شيخنا حادثة " توسّط " العسكر الكردي لنزاع بين قبيلتيْن عربيتيْن في بادية الشام ، والذي إنتهى إلى التالي : " وإنّ الأكراد أخذوا جميع ما نهبوه وسلبوه من مال وجمال وغنم ونساء . وكانت الغنم لا تحصى والواقعة مهولة ، فجاؤوا بالأغنام للشام وباعوها ، وكانت سنة غلاء باللحم . فأقبل الناس على شرائها بالرخص ، مع أنهم يعلمون أنه مال حرام فلم يبالوا . فإنّ لله وإن إليه لراجعون ! " (4) . أخباريّ آخر ، من ذلك العصر الصاخب ، هو الأب رفائيل كرامة ، لا يُخفي شماتته بما أتبع فيضان نهر بردى ، الحاصل عام 1797 : " الذي خرّب في جريه نحو ثلث دمشق ، مع خان الدالاتية ، وغرّقهم وغرق كثيرين " . على أنّ هؤلاء العساكر الكرد ، ينتهضون ثانية كأسلافهم الجنّ ! هاهو كاتبنا نفسه ، يرصدُ تحركاتهم على طريق حمص ، مباشرة ً بعيْدَ واقعة الطوفان : " قطعوا الطريق على قافلة من أهل زحلة فشلحوها ، وكذلك فعلوا مع قفل ٍ شامي [ يقصدُ : قافلة ] عائد من بيروت " (5) . المدوّن الدمشقي ، حسن آغا العبد ، يقصّ لنا بالمحكية المحلية ، الطريفة ، حوادثَ العام 1804 ، الطاريء فيه وفاة الباشا الجزار ؛ أحد طغاة ذلك العصر : " والأكراد والشيخ طه [ قائد عسكر اللاوند ] وجنوده يعذبوا الخلق أنواع العذاب ، حتى يقرروهم على المال . وإشتغل مسك الأولاد من الشام ، كل يوم يمسكوا أربعة خمسة ويحبسوهم بزندان القلعة ، ويشتغل العذاب من الأكراد ، الذين باعثهم الجزار إلى الشام ، بالكاشات والحدايد والعصي وغير ذلك ، إلا أن ينهنهوا الرجل من العذاب ويطلبوا شيء كثير " . (6)
ظاهرة " الزكَرتية " ، التي عرضنا لها في حلقتنا السابقة ، خسّت في الشام تدريجياً ، إلى أن إنقطعت أسبابها منذ ستينات القرن المنصرم . كان اولئك الرجال الجسورون ، في العهود الخوالي ، يتمتعون بإحترام الناس ، تبعاً لميل الواحد فيهم للعطف على أبناء حارته وقيامه للدفاع عنهم ، وقت الحاجة . في حيّ الأكراد ، حمل رأسُ الزكَرتية لقبَ " سَرْبَست " ( أيْ : شجاع ، حُر ) . كان هذا يقوم أحياناً بمهمة زعيم الحارة ؛ بحسب صلته بأوساط الوالي أو قادة العسكر. على أنّ ظاهرة اخرى ، دعاها الأهالي بحق " الزعرنة " ، حلّت بمحلّ الزكَرتية ؛ ملتصقة بأشخاص ذوي صيت بالشرّ والإجرام ، ممن عرفوا بتجارة المخدرات وإدارة المقامر والإبتزاز ( الخوّات ) ، بشكل أساسيّ . في الحيّ الكرديّ ، بخاصة ، إشتهرَ بعضُ العائلات بتقاليدها في تلك الأمور ؛ مشكلة ً نوع من " المافيا " ، إذا صحّ التعبير. أدى هذا ، في كثير من الحالات ، إلى إصطدام أفراد تلك العائلات حول مصالح متضاربة ؛ وغالباً ما ينجمُ عنها حوادث قتل ، يتبعها ثارات متبادلة ، مريرة . وقد يمرّ جيلان أو ثلاثة ، والحارة مشغولة بثأر فلان أو دم علان . وفي الأخير ، ربما تثمر بعض المساعي في حل معضلة الثأر ، ودياً ، فيما يُعرف ب " الصلحة " ؛ بتعهد أحد الأعيان نفقاتها ورعايتها ، وبحضور المختار ووجهاء الحارة : لا بل إن مصالحة عائلتيْ " تنوكي " و " بوبو " ، في مستهل التسعينات المنقضية ، إثرَ ثارات دامية ، إستدعى حضور وزير الداخلية بنفسه ! على أنّ القتيل ، عادة ً ، يحظى بشرفٍ لا يقلّ عن تشريفات الوجهاء والوزراء : فما أن تنتهي حياته ، بتلك الطريقة المأساوية ، حتى يُنذرُ لها جنازة ؛ أو قلْ تظاهرة صخابة ، متخللة بإطلاقات نارية كثيفة ، فيما هتافات رفاقه تشق عباب السماء : " يا يادي يا يادي ، يا ويلاه يا ويلاه يا جنة إفتحي بابك ، هذا كردي من زوارك ! " (7)
أمّا بشأن المشروبات الروحية ، فالمعروف تاريخياً أنها مرفوضة بعُرف مجتمع محافظٍ ؛ حالُ المجتمع الدمشقي . بيْدَ أنّ الخاصّة والعامّة أقبلت على تعاطي المُسكرات ، بشكل متفاوت بين الجهر والخفية . كان صلاح الدين ، بحسب شهادة كاتب سيرته ، إبن شداد ، يقارعُ أقداح المُدامة طيلة فترة شبابه ، وإلى أن دعاهُ عمّه للإنضمام للعسكر المتوجّه لمصر (8) . علاوة على أن الأخلاف ، من سلاطين وملوك ، دأبوا على ذلك التقليد ؛ حدّ أنّ أحدهم ، وهو الملك القاهر ، زوج " ست الشام ، شقيقة صلاح الدين ، مات من إكثاره للخمرة صباحَ أحد الأعياد (9) . كما أنّ قاضي الشام ، في العهد الأيوبي ، إبن خلكان ، تعاطى إبنة الكرمة نهاراً جهاراً ، وكان يفاخرُ بذلك في شِعره (10) . إلا أنّ هكذا مجاهرة ، في مدينة كدمشق ، قابلها الأهالي بكثير من الإستياء ، بإعتبارها تحدّ لأمور الدين وحطاً من مشاعر المؤمنين وتقاليدهم . ففي عهد المماليك ، دار الشيخ إبن تيمية وأعوانه على دور اللهو والسُكر ، منتهزين فرصة خلوّ المدينة ، سواءً بسواء من جيشيْ التتر الغزاة أوالسلطان : " فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور ، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش ، ففرح الناس بذلك " (11) . في العهد العثماني ، عُرف من بين ولاة الشام المتزمتين ، الكَنج يوسف باشا الكردي ؛ الذي تشدد في منع الخمرة بيعاً وتعاطياً . يقال في هذا الوالي ، أنه عمد إلى حمل سلم الدين بالعرض لأمر ؛ هو محاولة تهدئة غلواء وهابيي الحجاز ، الذين كانوا آنذاك متمردين على الدولة ، وطريق الحج السلطاني تحت رحمتهم (12) . على أن الفاتح المصري ، إبراهيم باشا ، أنعش حياة الليل الشامية ، بفضل تسامحه ؛ مما كان من الأسباب التي تذرع بها عدوّه ، الباب العالي ، لتحريض مشايخ الخلافة ضده ، ووصمه بالزنديق وصديق الملة النصرانية . (13) شذ أفراد المجتمع الكردي الشامي ، عموماً ، عن ناس المدينة ، فيما يخصّ تعاطي الخمور . لقد نوهنا ، دوماً ، بطبيعتهم العسكرية الغالبة ، المستشري فيها ما كان يدعوهُ مدوّنو ذلك الزمان " الفساد والإفساد ". لقد إرتاد أفراد الأصناف ، الكرد ، من جند الدالاتية والسكمان واللاوند وغيرهم ، المقاهي والخانات سعياً لمسرات المدامة . وبلغت بهم القحة حدّ العربدة ، علناً ، في شوارع المدينة القديمة ؛ حتى لقد أصدر أحد الولاة أمراً منع بموجبه تجوّل الحريم في شوارعها ، تجنيباً لهنّ من التحرش أو الإختطاف (14) . بالمقابل ، إتخذ سراة الكرد وأعيانهم مظهراً أكثر تحفظاً ، تقديراً منهم لوجاهتهم وحساسية مركزهم ، فيما يتعلق ب " رجَس ٍ من عمل الشيطان " . فالإخباريون الدمشقيون ، راعوا هذه الإعتبارات ، بمنحهم اولئك السراة صفات الطهارة والخلُق القويم ؛ وعلى هذا ، فلا فائدة ترتجى من إشاراتهم . كان لا بدّ للقرن التاسع عشر ، أن يأذن بالإنطواء ، كيما تصلنا شهادة المنوّر الكرديّ ، صالح بك بدرخان ، المشيرة دونما مواربة إلى تعاطي الخمرة ، المتفشي في طبقة الأعيان . هاهو في مذكراته ، يستعيدُ لنا رحلته المقدسية : " كنت أمرّ كل يوم على مقهى في " باب الخليل " ، في الذهاب والإياب . كنتُ ألعبُ البليارد وأحتسي بضع أقداح من الكونياك . الواقع أنني بدأتُ بتعاطي الخمرة في دمشق ، لكنني أدمنتُ هنا . كنت قد أعتدتُ على هذا المنكر في المدرسة " . (15)
ما عتم تعاطي الخمرة أن أضحى ، لاحقاً ، مسألة إعتيادية في الحياة الشامية ، بشكل عام ؛ وأن ظلّ بيعها مقتصراً على النصارى . هذه الحقيقة ، تؤدي بنا إلى ما كانه وضع أهل الذمة في دمشق . الواقع أن الباب العالي ، ومنذ بداية الفتح العثماني ، ترك الحرية لطوائف الأقليات الدينية في حيازة مؤسساتها المذهبية والثقافية ؛ الحرية ، التي حُرمَ منها بعض الطوائف الإسلامية الهرطوقية ، أو المنسوبة لها ؛ كالعلوية ( النصيرية ) والإيزيدية . وإعتباراً من القرن الثامن عشر ، سعت الدول الأوروبية إلى الحصول على إمتيازات خاصة ، في الدولة العثمانية ، تحت يافطة " حماية النصارى " . منذئذ ، سنرى كل معاهدة وقعتها السلطنة الهمايونية مع دولة غربية ما ، متضمنة بنداً يضفي الصفة الرسمية على حماية طائفة شرقية ، مرتبطة بها مذهبياً . لا غرو إذاً أن يعقب أي إصطدام بين الدولة العلية وهذه الدولة الأوروبية نفسها ، أن يتناهض المتزمتون الجهلة لنفخ نفير الجهاد المقدس ضد " طائفتها " المسيحية ، بزعم كونها " طابوراً خامساً " ! المفارقة ، أن الدول الغربية ، من جانبها ، لم تقصّر في هذا المجال : كان كل طرف يعمل ، من جهته ، على تحريض الباب العالي لمضايقة الطائفة الشرقية ، المحسوبة على منافسته . وها نحن نقرأ في تاريخ ميخائيل الدمشقي ، خبراً كان طازجاً في حينه ، عن الوالي الكردي إبراهيم باشا الدالاتي : " وفي زمانه رجعت كنائس الكاثوليك ، في صيدنايا ، إلى أصحابها ورفع الإضطهاد عنهم " . (16) على صعيد كرد المدينة ، وهم جزء من الأغلبية المسلمة ، كانت الصورة مغايرة عما أسلفنا من تسامح الوالي الدالاتي ؛ بما طيّحها من تزمت الكَنج يوسف باشا الكردي ، أو طيش آغاوات الجند الآخرين ؛ من أمثال الشيخ طه الكردي ، في تعدياتهم غير المبررة على أهل الذمة ، إرضاءً لجشع الولاة . ثم إبتدهتْ فتنة جبل لبنان ، بين النصارى والدروز (1860) ، إنطلاقاً من دسائس الباب العالي ؛ والتي سرعان ما إمتدّ لهيبها إلى دمشق ، تبعاً لإثم المحرّض ، ذاته . الملاحظ أنّ موقف بعض القادة العسكريين الأكراد ؛ مثل أحمد بك بوظو وغيره ، كان ُمشرفاً وشجاعاً ؛ بتجاهلهم أوامر قيادتهم و قيامهم على صدّ عوام الدروز ، في البقاع والجبل (17) . إلا أن أبناء قومهم ، وتحديداً آغاوات الأصناف العسكرية ، الكردية الدمشقية ، إنصاعوا لأوامر الدولة وشاركوا بنشاط في المذبحة الحاصلة بحيّ النصارى . وهذه شهادة المستر روبسون ، الذي كان متواجداً وقتئذ في الحيّ المنكوب : " في ذلك اليوم ، تراكض الرعاع من أحياء الميدان والشاغور والصالحية . إن الباشبوزق الموجود بإمرة سليم آغا المهايني ومصطفى بك الحواصلي وغيرهما ، والأكراد مع زعيمهم محمد سعيد آغا شمدين ورجال الشرطة ، كانوا في مقدمة الذين أسرفوا في القتل والنهب " (18) . كان شمدين آغا ، المذكور ، على رأس الصنف العسكري الكردي ؛ المعروف ب " العونية " ، وسبق له أن عقد تحالفاً مع زعماء الدروز السوريين واللبنانيين على حد سواء . وبهذا المعنى ، تأتي شهادة المسيو شارل اوبانك ، أمام الجمعية الشرقية : " إن الدخان الكثيف الذي تصاعد من الحيّ المسيحيّ ، حرّك مطامع عصابات الرعاع المجاورة ، فإنقض الدروز والأكراد على هذه الغنيمة مطمع أطماعهم " . (19) على أنّ زوال الليل العثماني ، المبشر بإشراقة العصر الحديث ، رمى جانباً كل تلك الآلام والمظالم ومشاعر الريبة والبغضاء . فما عتم أن أضحت الحياة الدمشقية أكثر يسراً ، لمكونات مجتمعها المختلفة ؛ وتعددت أسباب اللهو والبهجة ومجالات التسلية وقضاء أوقات الفراغ خارجاً ، دونما خشية من عسكر أو مرتزقة . شيئاً فشيئاً ، خرج أهالي الحيّ الكرديّ من عزلتهم ، متصلين بنواحي الحياة الشامية ، الإقتصادية والعلمية والثقافية والسياسية . ساعدَ على ذلك دخولُ المواصلات الحديثة إلى مناطقهم ، ووجود المعامل والمدارس والوظائف ، وغير ذلك من دور الحكومة ، في داخل المدينة القديمة . صارت ظواهر الزكَرتية والعصبية القبلية من ذكريات الجدّات ، يروينها لأحفادهنّ . علاوة على أنّ التشدد في مسألة تعاطي الكحول بات ، أيضاً ، من مخلفات الماضي ؛ لدرجة أنّ بعض المقاهي في حيّ الأكراد ، تحوّل إلى خمارات . فضلاً عن إنتشار محلات بيع الخمور ، والتي ما عادت محتكرة للنصارى ، بل عاد ملك بعضها لأفراد من عتاة الحارة . كما أنّ العلاقات بين الكرد وغيرهم من الأقوام المتجاورة معهم ، داخل الحيّ أو على أطرافه ، إتسمت منذئذ بالودّ والتفاهم ؛ حتى أنّ نسبة المسيحيين والعلويين والدروز وغيرهم من الأقليات ، في حيّ الأكراد ، تعدّ الأعلى بالنسبة للأحياء الدمشقبة ، الإسلامية ؛ الحيّ الذي ما لبث أن خرج من عزلة القرون الوسيطة ، متخلياً عن الكثير من طبائعه وأعرافه وتقاليده ، مندمجاً بالتحولات المتأثرة بالحداثة الشاملة أوجه الحياة الشامية جميعاً . وفي هذا الصدد ، يكتب نصوح خيّر ، أنّ أكراد دمشق : " فقدوا مع الزمن كثيراً من عصبيتهم القومية والقبلية ، وقلت الفوارق بينهم وبين باقي سكان دمشق حتى كادت تنمحي . فعلى الرغم من أن كل كردي يعرف إسم عشيرته التي ينتمي إليها ، فإن روح التعلق بالقبيلة والمفاخرة بها قد أصبحتا اليوم في طريق الزوال " . (20)
هوامش ومصادر :
1 _ ب . ليرخ ، دراسات حول الأكراد _ الطبعة العربية في دمشق 1992 ، ص 20 2 _ مينورسكي ، الأكراد _ الطبعة العربية في بغداد 1968 ، ص 80 3 _ إبن شداد ، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية _ دمشق 1979 ، ص 369 4 _ الشيخ البديري ، حوادث دمشق اليومية _ القاهرة 1959 ، ص 89 5 _ الأب رفائيل كرامة ، تاريخ حوادث لبنان وسورية _ بيروت بلا تاريخ ، ص 144 6 _ حسن آغا العبد ، حوادث بلاد الشام _ دمشق 1986 ، ص 102 7 _ يادي ، تعني بالكردية : أمّاه 8 _ إبن شداد ، مصدر مذكور ، ص 9 9 _ خير الدين الزركلي ، الأعلام _ بيروت 1980 ، ص 160 ج 4 10 _ المصدر نفسه ، ص 220 ج 1 11 _ نقولا زياده ، دمشق في عصر المماليك _ الطبعة العربية في بيروت 1966 ، ص 35 12 _ يوسف جميل نعيسة ، مجتمع مدينة دمشق _ دمشق 1986 ، ص 350 ج 1 13 _ مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا على سورية ، لمؤلف مجهول _ دمشق 1982 ، ص 65 14 _ الشيخ البديري ، مصدر مذكور ، ص 96 15 _ صالح بدرخان ، مذكراتي _ الطبعة العربية في دمشق 1991 ، ص 39 16 _ ميخائيل الدمشقي ، تاريخ حوادث الشام ولبنان _ دمشق 1982 ، ص 16 17 _ كمال الصليبي ، تاريخ لبنان الحديث _ بيروت 1984 ، ص 134 18 _ مجموعة المحررات السياسية والمفاوضات الدولية عن سورية ولبنان ( 1840 _ 1860 ) ، من أرشيف الدول الأوروبية / الطبعة العربية في بيروت 1980 ، ص 223 ج 1 19 _ نفس المصدر ، ص 27 ج 3 20 _ نصوح خيّر ، مدينة دمشق : دراسة في جغرافية المدن _ دمشق 1982 ، ص 23
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإجتماعيات الكرديّة : تقاليدٌ وتجديد
-
الإجتماعيات الكردية : طِباعٌ وأعراف
-
الإجتماعيات الكردية : فقهٌ وتصوّف
-
القصبات الكردية (2 / 2)
-
الإجتماعيات الكردية : عامّة وأعيان
-
رؤيا رامبو
-
الميلاد والموت
-
القصبات الكردية
-
المهاجر الكردية الأولى
-
كي لا ينام الدم
-
سنوات النهضة الكردية: مدرسة الشام
-
المصادر الاسطورية لملحمة ياشار کمال ..جبل آ?ري
المزيد.....
-
الأمم المتحدة: أكثر من مليوني سوري عادوا إلى ديارهم منذ ديسم
...
-
الشرطة الإيرانية: اعتقال 18 عميلا للاحتلال صمموا مسيرات
-
أهم تدخلات وزارة الدولة لشؤون الإغاثة خلال العام الأول لحكو
...
-
في ظل الحرب المدمرة مع إيران.. أنباء عن إرسال إسرائيل وفد تف
...
-
منظمة حقوقية: مقتل 639 شخصا وإصابة 1329 بالعدوان الإسرائيلي
...
-
هيئة الأسرى تحذر من خطورة استمرار الاحتلال في منع المحامين م
...
-
مقاتلات إسرائيلية تقصف خيام النازحين وتقتل عشرات الفلسطينيين
...
-
اعتقال 6 عميلات للكيان الصهيوني غرب إيران
-
اقتحامات واعتقالات في الضفة الغربية والقدس المحتلة
-
إيران تعلن اعتقال 6 نساء بتهمة التعاون مع الاستخبارات الإسرا
...
المزيد.....
-
“رحلة الكورد: من جذور التاريخ إلى نضال الحاضر”.
/ أزاد فتحي خليل
-
رحلة الكورد : من جذور التاريخ إلى نضال الحاضر
/ أزاد خليل
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
المزيد.....
|