|
الميلاد والموت
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1422 - 2006 / 1 / 6 - 10:56
المحور:
الادب والفن
الشهر الأخير من السنة الميلادية يوحي ، بطبيعة الحال ، بالنهاية . ربما أن إستهلال العام الجديد بملحمة ميلاد المخلص ، المسيح ، يعطي ، بدوره ، إنطباعاً معاكساً من ذلك ؛ أيْ بالبداية . في كلا الحالين ، ثمة ثنائية متلازمة ؛ الفناء والبقاء . يغدو النهار متضائلاً ، منكمشاً كما لو أنه مصابٌ بنزلة برد : الليل سيّد أول الكانونيْن ، إذاً . على أن منتصف الدورة الشمسية ، ويا للمفارقة ، كأنما أدبرتْ من الأشهر كافة لتحلّ بهذا الشهر ؛ وتحديداً في ليل الرابع والعشرين منه ؛ ليلة الميلاد . لا غرو أن تتفارق آراء المؤرخين واللاهوتيين ، إذ يؤكد الأولون بسند من الأراقيم الخزفية والنقوش الحجرية ، العائدة لعصر ماقبل الميلاد ، أن الإيرانيين الأقدمين عرفوا أصل هذا العيد ، المسيحيّ ، وأطلقوا عليه إسم مسيحهم ؛ " ميترا " ، الإله الميديّ المضحي لرب النور بقربان الثور المقدس " هوما " ؛ فعرف عند هؤلاء بإسم " عيد الشمس التي لا تقهر " . أياً كانت التفاسير والإعتقادات ، فكانون الأول شهرٌ طويلٌ ، زرعُهُ ينبت على حافتيْ ساقية الوجود : الميلاد والموت .
وإذ إختلف أهل الرأي في معضلة التواريخ والأصول ، فإنّ البشر، على إختلاف مشاربهم وعقائدهم ، قلما جمعهم شيءٌ مثلما يفعله عيدُ رأس السنة المصاقب لعيد لميلاد . لكل منا ، على الأغلب ، ذكرياته الحميمة المحلقة في الفضاء الواقع بين مناسبتيْ الميلاد ورأس السنة . لعل هذه الحقيقة ، هي ما تجعلني أتيه بمسارب الذاكرة ، إستعادة ً للمكان المفقود ، الدافيء ، في صقيع الزمن المديد للغربة : عيد الميلاد ، دمشقياً ؛ دروب الحيّ النصرانيّ العتيق ، الحجرية ، الممتدة بين بابيْ " شرقي " و " توما " ؛ و في هذا الأخير ، تحديداً ، الأكثر عصرية ، حيث الأرصفة المتخمة بصبايا الحيّ الأنيقات ، المتجلي في قسماتهن ملامح الجمال الإغريقي المطعّم بمسحة من سحر الشرق ؛ أين محلات الصِبا ومشاربه ، مثل " أبو وليم " و " قصر البللور " و " النادي العائلي " .. وغيرها ؛ أين مشام السمك المشويّ الممتزج بعبق العَرَق ، يطوّف في الأفق المضاء بملايين النجوم الساطعة ، المطلة على نجوم دروبنا المراهقة :
" ركنكَ ، هناك في " قصر البللور " . والضفادع المتبّلة أقلّ موتاً من السور العتيق ، ومن الأطياف الخفية المهوّمة همساتها عبْر الباب المفتوح أبداً كعين " توما " المثقوبة بنبلة بدويّ طائشة _ وواعية للغنائم المقبلة . هوذا النهر ، معابثاً يطوّحُ لسانه الطحلبيّ ، كسلوقيّ وعصافير متدانية . مساءٌ فضيّ من عَرَق وسمكٍ ، يحرسُ تهويماتنا من صحو ٍ متربص ٍ على رصيفنا المقابل : هوذا " أبو وليم " ، هائمٌ ومتسوّل "
ليلّ يزهو بقبته المرصعة نجوماً . ذاكرة متعبة تلهي الأشجان اليانعة أبداً . عمرٌ منامٌ ، لا مكان له سوى مجاهل بيتنا القديم . كأنما طائرُ الغربة ، الخرافيّ ، ينقرُ حلمي بحثا عن بذور حديقتنا الضائعة ؛ حديقة أبي ، الراحل منذ رحيله عنها . أذكرُ ليلة موته ، قبل عام كامل ، والموافق لشهر الميلاد هذا : هناك ، في غربة السويد الصقيعية ؛ في شقة المسنين ، الفارهة ، متمدداً على سرير الراحة الأخيرة ، متناهياً نزعه المؤلم . هو الذي كان ينده أمه في أيامه الأخيرة ، عارفاً أنه ملاقيها قريباً في جنة تشبه جنينته الشامية ، المغروسة بألوف أنواع الزهور المختلفة ؛ المعروفة والنادرة ، المظللة بأشجار مثمرة : زيتونة متوحّدة ، متهالكة على الكتف الأيسر للحديقة ؛ ثمة ، على كتفها الأيسر شجيرة كرز فتية ، تتباهى بفتنة ثمارها على أندادها من شجيرات الدراق والرمان والبرتقال واليوسفي والليمون الحلو ؛ وحيث شجرة الأكيدنيا أكثر هيبة تسترجعُ ، عبر جذورها ، رفقة صديقتيها الراحلتيْن ، شجرتيْ التفاح والتوت :
"حديقتنا مرآة ٌ لحورية النهر المتناعسة : الغوطة ! للأزهار ، فيها ، صخبُ العصافير ونكاتها البذيئة . وما من عبق ٍ بُعيْد الفجر الرقراق ، إلاّ في التماس بيد أبي ( كم من درب عبّده أثرُ النمل العامل ، لم يفتقد خطوكَ ؟ ) "
أسترجعُ ، من جهتي ، ذكرى صديقي ، حسون ؛ الذي إرتحل قبل والدي بثلاث سنين وفي نفس هذا الشهر الكانونيّ الحزين ، مشاركاً إياه في قدر الموت تحت سماء غريبة . صديقي وقريبي ، من إلتقيته بعد دزينة من سنوات الغربة ، وكان لقاؤنا هو هاجسه الوحيد ، سواءً في الوطن أو في ألمانيا ؛ محطة عمره الأخيرة . على أنّ وسواساً ما ، بلبله وأجبره على مغادرة السويد ، رغم إلحاحي عليه للبقاء أملاً في إقامةٍ دائمة تنهي تشتته. وكان وداعنا مؤثراً في ستوكهولم ؛ هناك في المدينة القديمة ، في مقهىً مركون ٍ على ناصية المستديرة المنتهي بها الشارع الرئيس . تعوطيتْ أقداحُ الفراق ، وجالت الأعينُ في أفواج السياح المتقاطرة ؛ الأعين المتغرغرة بدمع معلن . قال لي وهو يعبّ من قدح الشراب : " هل تعرف ، أنا على إستعداد للبقاء في مكاني هذا مائة عام .. " ، وكرر الرقم ، فيما عبرته تمتزج برحيق الكونياك الفرنسيّ ، الناريّ . عاد حسون إلى ألمانيا ثانية ، إلى وحدته وتعاسته في مجمع للاجئين قريب من مدينة " إسّن " . إنقطع الإتصال بيننا ردحاً من الزمن ، ثم كان يوم الحادي عشر من إيلول ، الأسود ، في نيويورك ؛ ليفاجئني هاتفه وهو ثملٌ كالعادة ، فراح يشتم ما أسماه " أمة الإسلام المتخلفة " ، مخففاً عن روحه أعبائها . وبعد أشهر ثلاثة ، جاءني نعيه . متوحداً أبداً ، معلقة روحه بين دروب دمشق الثكلى وبين مستقر جسده في مقبرة الغرباء المهملة على هامش تلك المدينة الغريبة ؛ بين قبريْن يضمان ، أيضاً ، كردييْن مثله ، من أمة الإسلام :
" ليلٌ أعمى ، يقودُ الرؤيا مبصرة ً إلى سردابِ نبيّ ٍ ؛ إلى مصاريع ٍ مترّسة بنصال الحاكم المرائي ومسامير المصلوب الأوّابِ
ذا طريقٌ إلى مدينتنا ، العذراء فليأتِ ، كلّ من مهبّه ، الغرباء "
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القصبات الكردية
-
المهاجر الكردية الأولى
-
كي لا ينام الدم
-
سنوات النهضة الكردية: مدرسة الشام
-
المصادر الاسطورية لملحمة ياشار کمال ..جبل آ?ري
المزيد.....
-
كيف مات هتلر فعلاً؟ روسيا تنشر وثائق -اللحظات الأخيرة-: ما ا
...
-
إرث لا يقدر بثمن.. نهب المتحف الجيولوجي السوداني
-
سمر دويدار: أرشفة يوميات غزة فعل مقاومة يحميها من محاولات ال
...
-
الفن والقضية الفلسطينية مع الفنانة ميس أبو صاع (2)
-
من -الست- إلى -روكي الغلابة-.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام
...
-
دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-.
...
-
-سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر
...
-
البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة)
...
-
تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
-
المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|