أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ليندا كبرييل - تعالَ أعلّمكَ فنّ العَوْم في الحياة يا ابني !















المزيد.....


تعالَ أعلّمكَ فنّ العَوْم في الحياة يا ابني !


ليندا كبرييل

الحوار المتمدن-العدد: 5420 - 2017 / 2 / 2 - 15:53
المحور: الادب والفن
    


الأسماء الواردة في النص جاء ذكرها في المقال الماضي، والحدث يجري في اليابان في زمن بعد انتهاء الحرب الثانية . الرجاء التفضل بالعودة إلى المقال السابق وما قبله لربط الأحداث ، وشكراً.

تحت شجرة - ساكورا Sakura - *
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=545058



قال السيد " تاكاهاشي " وهو يرفع بيديه رجله المشلولة ليغيّر وضعية جلوسه :
ــ لاحظتُ تشابُهاً في الظروف، بين وضْعي كمُعاق مصاب بالشلل، وبين معاناتك يا " هيكارو كونْ " * من التأتأة، فوجدت أن أحدثكم بتجربتي . أنا لا أسلّيكم بقصة من ذكريات شبابي الأول . أحكيها لعلّك تجد فيها عبرة أيها الفتى الطيب . إنها انعطاف هام في مجرى حياتي . وقد ذكّرني سؤالك بالدرس الممتاز الذي تلقّيتُه حينذاك من والدي العظيم، وفيه الردّ على استفهامك، أرغب أن تسمعه قبل أن أتابع الحديث عن وقائع مباراة ( يوكوهاما ) المثيرة، في دوري كرة السلة.

فاز فريقنا في مباراة الدور الأول في المنافسات على كأس المدارس الإعدادية، ولم يرشّحني المدرّب للمشاركة فيها . انزعجتُ .. فعلامَ كان اهتمامه بي ؟ والتمرينات الجادّة تحت السلّة وعلى بُعْد منها، ما معناها ؟ ألمْ يقلْ إني اكتشاف ثمين ؟ اعتِناؤه بي كمُعاق أعشقُ كرة السلة أقْرب إلى السخرية مني إذاً ! عمّقَ من إحساسي هذا، عدم ترشيحه لي في مباراة الدور الثاني التي فزنا بها أيضاً . جلستُ يومها على دكّة الاحتياط وقلبي يمتلئ بالغيظ، ولم أشارك في الهتاف تشجيعاً لفريقنا.

في ذلك المساء، لاحظَ أبي قنوطي واستيائي بعد عودته من عمله . فجلس إلى جانبي وسألني :
ــ نهنّئ أم لا ؟
رفعتُ كفّي في الهواء متذمّراً وقلت :
ــ فازوا خسروا .. لا يهمّني.
تأملني أبي بوجهه اللطيف وقال :
ــ لِمَ همَدَ حماسك فجأة يا ابني ؟
فصرخت بنزق والدموع في عيني :
ــ مِن أين لمشلولٍ أن يشارك في ساحة البطولات المهمّة ؟ يكفيني اللعب مع الرفاق والأطفال في زاوية من الحديقة !
اِحْتواني أبي بنظرة حبّ رحْبة من عينيه الصغيرتين، ثم ضغطَ بكفّه الدافئ على كفّي بحنان وقال :
ــ المدرّب ينوّع في تشكيلته في كل مباراة حسب مستوى الفريق الآخر، ألا تعلم ذلك ؟
ــ الفريق الآخر متواضع الجهود يا أبي، ولاعِبوه لا يتمتّعون بالطول وشدّة المنافسة، وإنْ كانوا قد تفانوا في أدائهم . حتى فريقنا لم يشترك فيه إلا المبتدئون . كانت جهودي مناسبة جداً لِخوْض المباراة معهم حسْب ظروفي الجسدية.
رمقني أبي بنظرة عتاب وقال :
ــ أفهم رغبتك العارِمة للعب، ولكن عشرين لاعباً في فريقكم يحملون أيضاً نفس حماسك، أليس من الحق إعطاء كل لاعب فرصته حسب تقدير المدرب لإثبات الحضور ؟ نظرتك فيها شيء من الأنانية.
أطرقت رأسي وقلت بيأس :
ــ الفرص سانحة لزملائي الأصحاء، يبدو لي أن مدرّبي يستهين بي لأني مُعاق ؛ إذا لم أخُضْ المباراة مع مثل هذا الفريق فهل سيختارني للعب مع الطِوال الجِسام الأقوياء ؟
ردّ أبي متعجباً :
ــ ولِمَ لا يكون أنه يحتفظ بجهودك لمباراة الأقوياء ؟

ركّزتُ نظري في نقطة من الأرض، وعندي شعور أن أبي سيواجهني بموقفٍ لي فيما مضى، أمام المدير والأساتذة والزملاء في المدرسة الابتدائية، عندما نلتُ درجة متفوِّقة في الامتحان العام، فقلت للحضور في تلك المناسبة " أنه ليس من شيء يدفعني للاجتهاد والإقدام على الصعوبات إلا الشلل الذي أصابني من طفولتي، وأريد أن أثبِت للجميع أني لا أقلّ تفوّقاً عن زملائي الأصحاء ما دام عقلي سليماً ". ونلتُ على قولي هذا تصفيقاً حاراً من الحضور.
يومها انحدر دمعٌ عزيز من عيني أبي وقال لي : أفخر بك يا ابني.

حدّق أبي في وجهي، وكأنه قرأ ما جالَ في فكري . ثم قال بلهجة صارمة :
ــ أعتقد أنك أنتَ منْ يستهين بنفسه ! الأحلام الكبيرة لا تتغذّى من هذا الطموح المتواضع الذي لم أعرفك به . أراد مدرّبكم أن يقدّم لكم درساً في حق تكافؤ الفرص، فخاض فتيانه المبتدئون تجربةً تتناسب مع مقدرتهم الجسدية المحدودة، وتتوافق مع مستوى الفريق المنافس . أرى أن مدرّبك كان بعيد النظر عندما قدّر جهودك فوفّرها للمهمة المناسبة.
نظرت إلى أبي بتشكك وقلت له محتجاً :
ــ صحيح أننا فزنا بالمباراة يا أبي، لكنه كان فوزاً صعباً .. ولِعِلمكَ أعتبره هزيلاً هزيلاً ؛ فبسبب ضُعْف مقدرة زملائي اللاعبين خرجنا بنتيجة متقاربة جداً مع فريق مبتدئ، كادت قلوبنا أن تسقط خوفاً من الخسارة لو تعلم !
ــ ولعلمكَ أنت أيضاً، هذا هو المطلوب لإشعال شغَفِ الحُلم بالبطولة ! كان المستوى متقارباً فاشتعلَ الحماس من الطرفين لكسْب المباراة، وتوقّد التحدّي لاجتياز امتحانٍ هو في نطاق مقدرة الفريقَين . هل كنتَ ستجد هذا الحماس عند اللاعبِين لو كان هناك طرف قوي كاسِحٌ وآخر ضعيف مبتدئ ؟ يا لها من مباراة مملة إذاً !
صرختُ في وجه أبي :
ــ مملة ؟؟ والأقوياء يصولون ويجولون ويكتسحون ! عجيب تفكيرك يا أبي.
ــ يكتسحون ! مَنْ ؟ .. مَنْ لا حول له ولا قوة ؟ اكتساح غبي هذا !! تخيّلْ إذاً هذا المشهد ..
تبدأ المباراة والفريقان في ذروة النشاط والأمل لتحقيق الفوز . والناس في قيامٍ بهجةً، في قعودٍ خيبةً، والأذْرع ترفع الأعلام سعادةً، تهبط باللافتات يأساً، والصدور تشهق مع اقتراب الخطر خوفاً، تزفر مع ابتعاده ارتياحاً، وأنتم تصفّقون وتهتفون بحرارة وتهلّلون مع كل اقتراب من سلة الخصم . وما إن يمرّ وقت قصير .. حتى تجدوا أنكم تحرِزون الأهداف تلو الأهداف في شباكه، يقطع سيْلها بين حين وآخر هدف يتيم من فريق لا هو بخصم ولا منافِس، فتطمئن نفوسكم إلى ضمان الفوز . الاطمئنان : إشارة الخطر يا ابني ! الاطمئنان لا يخلق التحدّي في أرض العزائم، هنا .. يبدأ الخدر يتسلّل إلى حماسكم الهائل ! فتخْفت أصوات التشجيع، وينطفئ التصفيق الناري، فتبرد الأكفّ ويصبح التصفيق من رؤوس الأصابع، لتتركوا مهمة التشجيع لجمهور الفريق الضعيف، ثم تصيبكم اللامبالاة أكثر فأكثر، فتختفي الجدّية، ويستسلم جمهوركم إلى تبادل الضحكات وأحاديث لا علاقة لها بمجريات المباراة، أو تراه يتسلّى بأكل الذرة المشوية، وقد يغلبه النعاس .. فعلامَ بَحُّ الأصوات والمُكْتسَح مغلوبٌ على أمره ؟ هه .. أي مباراة هزيلة حقاً هذه ! عندما يكون التبايُن كبيراً بين فريقين، سيغيب التنافس والترقّب الحار والمتعة، وستكون وقائع اللقاء الرياضيّ رتيبة، باردة، خامدة، ومثاراً للسخرية والشفقة على الفريق الضعيف.
قام أبي ليصبّ قدحاً من الشاي وهو يقول :
ــ انتظرْ حينذاك مباراة ستموت في مهدها خلال مدة وجيزة.
وقبل أن يجلس، هزّ سبابته أمام وجهي وهو يقول :
ــ ولا تنسَ أن كل عمل رتيب سرعان ما يهْوي في النسيان، ويسقط من قاموس الذكريات .. ذكرياتك أنت ؛ غذاء الروح عندما تجد نفسك وحيداً.
فتحت فمي لأتكلم فقاطعني :
ــ الرتابة هي إعدام للحظةٍ من الحياة عن سابق إصرار وتصميم !!

هززت رأسي بقوة وقلت محتجاً :
ــ لا يا أبي .. نظرتك مثالية جداً . نحن في ساحةِ رياضة لا روضة لتدليل الأطفال والترفّق بهم . الرياضة كما قال مدرّبنا : ليست فقط وسيلة تؤدي إلى تنميةٍ صحيّة للقدرات الجسمية، الرياضة تعمل أيضاً على بناءٍ إيجابي للطاقات النفسية، فتساهِمُ في إحداث تبديلات في سلوك الإنسان وطباعه، وهي فوق هذا وذاك تدعم حركة تغيير المجتمع.
هل بإمكان الضعيف الكسول أن يفعل كل هذا يا أبي ؟ ليس للفريق الخمول العاجز مكان بين الأقوياء . الأقوياء فحسْب منْ بإمكانهم دفْع الرياضة إلى الأمام والارتقاء بمستواها ! في الميدان الرياضي لا يثبت إلا الأكثر قوة، الأكثر منفعة وهيبة وعظمة .. حيث يعبّر فريقان عن إرادة الفوز بالتنافس . لعب جاد، لا يعرف العواطف !
ألقى أبي نظرة إشفاق وأسى على رجلي المشلولة لعلي أتنبّه على خطورة قولي هذا، وأنا الذي أهيمُ عشْقاً بكرة السلة، وأحلم أن أكون بطلاً في ميدانها . لكن بريق الكأس بعثَ الكائن الطموح المتحيِّز المنغلِق على حقّ أبْكم .. وأخْمدَ في داخلي الإنسان المتطهِّر من التعصّب.
اقترب أبي بوجهه من وجهي وهو يشير بسبابته إلى صدري، ثم قال :
ــ يعجبني هذا الطموح الذي عُرِفتَ به في الماضي . ولكن منطقك هذا محفوف بالمخاطِر ؛ فاستِناداً إلى هذا المنطق النفعي، ينساق التاجر إلى الطمع والجشع واستباحة الكرامات، والقضاء على أحلام فتيّة تبحث عن مكان لها تحت الشمس .. وبذريعة هذا المنطق نشرْنا الرعب والدمار والموت، وبرّر به أصحاب النزوات عدوانهم وطغيانهم، وبيّض آخرون دَوْس الأقوياء للبؤساء بحجج دينية وأخلاقية . خرجْنا للتوّ من حربٍ خلّفت ملايين الضحايا، مؤجِّجو نيرانها قد تجرّدوا من كل عبْء ديني وأخلاقي، عندما اعتبروا الشرائح الضعيفة عالةً مستهلِكة يجب نفْيها واستبعادها من الحياة ؛ طريق الأقوياء فقط ! بحسَبِ هذا المنطق نكون كمنْ يعيش في غابة ؛ القويُ الغاشم يلتهم الضعيفَ الواهن.
ــ وبحسَبِ منطقك هذا يا أبي، فإن كل ما علينا هو أن نرْأفَ بآمال الكسالى ؛ فننبطح أرضاً لنهيِّئ مُرتَفعاً للفريق الضعيف ليهزّ شباكنا بأهدافه، ونتقصَّد إحباط مساعينا للفوز، لنسهِّل للضعيف إحراز النصر علينا هههه، فهذا يعمل على توطيد روح الصداقة والتعاون، فنخرج من المباراة متعانقين لا غالب ولا مغلوب، ولْيبْقَ الكأس في مكانه زينة . أبي .. هل رأيتَ صياداً يعيد السمكة إلى البحر بعد صيدها ؟! البطولات تحتاج إلى رصّ الجهود بكل الوسائل لتحقيق هدف الانتصار والحصول على الكأس.
ــ إلا الرياضة !!
هتف أبي ثم تابع بصوت جَهْوَري :
ــ إلا الرياضة يا ابني . مشروعيّة الوسيلة للوصول إلى الكأس أهمّ من الكأس نفسها !!َ! وبالجهاد النفسي والبدني والعقلي، وببذْلِ قُصارى الطاقة لتجاوزِ القصور . إنها حوار إنساني بين طرفين يمثّلان قوّتين متعاكستين، تحاولان إثبات الحضور بطريقة حضارية، لا بالتعسّف والدهس والخبط . أنا أعني التنافس كقيمة حضارية وليس كقيمة نفعية . تخيّلْ ثانيةً أنك تلعب بكل مهاراتك مع طفل صغير في الابتدائية، أو أنك تلعب بنفس هذه المهارات مع محترِف يملك فنون اللعب .. أمرٌ بديهي ستفوز على الطفل، أو سيفوز عليك المحترف . قلْ لي : هل تجد أي معنى أو صدى لمثل هذا العمل ؟ إلا أن يحقّق الفائز المغرور تعطّشه للسيطرة على عاجز !؟ ارتفعتْ في نظر جيلكم دعوات تنمية القوة والبأس على حساب الضعفاء، فانساقَ الإنسان لتأثيرها . وأنت تريد اليوم الوصول إلى الكأس ولو بالدهْس والرفْس والعفْس.
علا صوت أبي وقال بصوت لا يتناسب مع حجمه الضئيل وسبابته تلوّح في الهواء :
ــ هذا تفوّق سخيف .. لا إنساني .. سلوك هدّام .. شيء أقرب إلى البطش !! يمكن أن يؤدي إلى تدمير نفسية الضعيف، ويتركه في حالة من الشكّ بنفسه والخوف من الإقدام على تجربة جديدة . أمِثل هذا الفوْز يتحلّى بالأخلاق الرياضية ؟
.....
ــ تكلّمْ .. لماذا سكتَّ !؟؟
أجبتُ أبي بصوت منخفض :
ــ كان يجب حفاظاً على هيبة فريقنا ألا نخرج بنتيجة هزيلة مع مثل ذلك الفريق الضعيف.
وقف أبي كأنه في خطبة حماسية، اهتزّ معها داخلي :
ــ ليست هزيلة بالنسبة إلى مبتدئين .. وحتى بالنسبة لكم، حتى بالنسبة لكم أنتم ! هل تدري أي خير جنَيْتم من هذا اللقاء أيها الشاب المغرور ؟ إن اللاعبين من الفريقين بتفاعلهم الإيجابي، قد بذلوا أقصى طاقاتهم وهم يسعون للفوز، وهذا بحدّ ذاته عمل عظيم، يتمرّد على البلادة والخمول . وأما المشاهدون، فقد عاشوا شتى الانفعالات المتوهجة، فاخترقتْ ركود النفس، وبرود المشاعر، ورَسَمْتم جميعاً لوحة إنسانية فنية مُبهِرة، أضاءها فريقكم بالنجاح، وسينعكس نوره بالتأكيد على الخاسر أيضاً في المستقبل . عملية أخْذ وعطاء ؛ أخذتم منهم سعْياً تكلّل بالفوز، وأخذوا منكم خبرة وتجربة . لا يمكن أن يخرج الإنسان من مثل هذا التواصل الرائع إلا كاسباً.
ــ لكن يا أبي نحن مُقدِمون على مباراة صعبة مع فريق يوكوهاما القوي، كان يجب برأيي أن يشارك الأقوياء منا لنخرج بنتيجة مُعتبَرة، ليستشْعِر الفريق الخصم الرهبة والقلق.
ــ إدارة استخدام القوة فنّ .. ستتعلّمه يا ابني مع تجارب الحياة، حيث نضع القوة المناسبة في المكان المناسب والزمان الملائم.
ثم ضرب أبي الهواء بقبضته وقال :
ــ ليس من الحكمة أن يخوض اللاعبون المُقتدِرون مباريات متواضعة المستوى، هذه ..
قاطعتُ أبي متحدِّياً :
ــ لا يجوز هذا التعالي والتكبّر يا أبي، واللاعب الذي ..
فقاطعني أبي وقال :
ــ هذا ليس تعالياً، بل حماية لموهبة اللاعب.
المدرب اليَقِظ هو الذي يقرأ أداء الفرق الرياضية قراءة حكيمة بغرض تحديد التشكيلة المناسبة من اللاعبين التي تتلاءم مع الهدف البعيد . ذلك أن اللاعبين مستويات في القدرة وحسن الأداء . والمدرب النَّبِه هو الذي لا يهرْوِل لزجّ اللاعب المتميِّز في مباريات متواضعة المستوى ؛ فموهبة اللاعب لا تتفجّر إلا في وسط يضجّ بالنشاط والتمرّد والحيوية . والمدرب الفَطِن، هو الذي لا يسْتثمر جهود المتفوّقين في أهداف صغيرة، إذ قد يتعرّض اللاعب المتميز إلى موقف طارئ ــ إصابة مثلاً ــ فتؤدي إلى عدم نجاح خطة المدرب عندما يخسر جهود هذا اللاعب.

دخلت أمي وهي تقدّم كأساً من الماء مع دواء لأبي، وجلستْ إلى جانبه . لاحظتُ ذلك، لكن تفكيري تركّز في الشك الذي بدأ يتسرّب إلى نفسي، وأنا أرى أبي لا يلين أمام أفكاري . فكان دفاعي الأخير عن وجهة نظري المتصلِّبة . قلت له :
ــ حسب تفكيرك هذا، كان يمكن أن نخسر المباراة.
هزّ أبي رأسه وهو مغمض العينين وقال :
ــ لو كان المدرّب يعلم أنكم على وشك الخسارة، لدفَعَ بعناصر قوية لتحسم الأمر لصالحه . لا أحد يقدِّم صالح الآخرين على صالحه، هذا غباء .. صالحنا أولاً، وبشرط : ألا نُخِلَّ بالاعتبارات الإنسانية.

شعرتُ بالتعاطف مع رأي أبي، لكن قولاً آخر ما زال في داخلي يلحّ علي . فتحت فمي لأتكلم، ثم تراجعت، لكنه شجعني على البوح بأفكاري . فقلت له :
ــ معذرة يا أبي، أرى أن اللقاءات الرياضية، دافع هامّ لتحريك الطاقة الكامنة في اللاعب . والمجال الوحيد ليعرف الرياضي مستوى قوته هو هذه المباريات . اللاعب عندما يتهيّأ للمنافسات يعلم أن هناك فوزاً وهزيمة، فيتقبَّل خسارته بروح رياضيّة . لذا عليه الاستعداد نفسياً لمواجهة الأقوى منه، بأن يعمل على تجهيز نفسه بالتدريب الشاق، ومغالبة الأهواء، والتمرّد على الضعف، والتحرر من سلطان التسليم المتواضع بالنتائج . لا أرى ضرراً يا أبي من الاحتكاك الرياضي مع مختلف المستويات.

كنتُ أتكلم وأنا أنظر إلى الحائط وكأن هناك شخصاً حاضراً أخاطبه . ولما انتهيت من كلامي التفتُّ إلى أبي فوجدتُه يرمقني بابتسامة سعيدة . هزّ رأسه وقال :
ــ أنا مطمئن إلى أنك ستمضي رجلاً ناجحاً في مستقبلك . ولكن يا ابني، لي ملاحظة حول رأيك . الفوز والنجاح لا يتقرّران بمحاولة القوي إثبات سيطرته وتفوّقه، عن طريق سحْق الضعيف أو كسْره، هذا سلوك غير حضاري، وخرْق للقيم والمبادئ الإنسانية . نحن نحتاج إلى القوة الراشدة المدعومة بالحسّ الأخلاقي.
تقلّصت عضلات وجه أبي وهو يحاول ابتلاع الدواء المرّ، ثم تابع بجهد واضح :
ــ الصعوبات هي التي تخلق التحديات .. والدافِع الذي يحرّك الإصرار والعزيمة . والحماس هو الوقود الذي يفجّر نشاطاً عارماً غير متوقَّع من الإنسان .. وعلى الأقوياء منا أن يقودوا الشرائح الضعيفة إلى أسباب القوة، والصحة، والمنفعة، والإتقان، لتنشيط ملَكاتها . هل تفعل كل هذا المباريات السخيفة الرتيبة بين قوتين غير متكافئتين ؟

وقف أبي، فظننت أنه انتهى من كلامه وقد امتلأتُ سعادة وانشراحاً برأيه الحكيم، والتفتَ إلي ليتابع، فدفعتْه أمي برفق من كتفيه وهي تقول له :
ــ سخّنتُ شوربة ( ميسو ) * مرتين، وبردَ طعامك.
فالتفت إليها وأجابها :
ــ حقاً ! أشعر بالجوع . ولكن يا ابني لا تنسَ ..
فاحتوتْ أمي كتفَيه بذراعها ورافقتْه نحو غرفة الطعام . فمضى وأنا أسمعه يقول :
ــ في ظلّ فريق قوي ساحق، وفريق آخر ضعيف مسحوق لا يمكن أن يلِد الإنسان الرياضي الذي يدفع بهذا النشاط الحياتي إلى الارتقاء.
ومن فوق كتف أمي نظر إليّ بربع عين وقال :
ــ يلِدُ السمك الذي لا يعود إلى المياه بعد صيده.
ثم سمعتُ صوته بعيداً يعاتب أمي أنها لم تُعطِه مصروفاً كافياً ليشرب ( ساكيه ) مع زملائه بعد العمل.

بعد أسبوع من هذا الحديث يا هيكارو كونْ ...
احمرّ أنف السيد تاكاهاشي، والتهبت جبهته، ثم وجهه، وقال بصعوبة :
ــ وقع أبي في مكان عمله ... مات ..
.... مات أبي .. مات بالجلطة القلبية.
كان مطرقاً رأسه، لكنه تماسك، ثم قال وذقنه يضطرب :
ــ لكن أبي ترك لي أعظم ذكرى.

يتبع

 ميسو Miso ، هو معجون فول السويا المخمّر، ومنه يُصنع الحساء التقليدي، ويقدم إلى جانب الأرز المسلوق بشكل يومي.



#ليندا_كبرييل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحت شجرة - ساكورا Sakura - *
- المُتأتِئ مذيع، والمشلول لاعِب كرة !
- - هيكارو - إذا سلقَ البيضة تحت إبطه !
- كُدْتُ أغرق في فنجان !
- ومع ذلك فهو أدونيس وذاك جبران وذاك المتنبي !
- الأعْوَجون (الأضْعفون) أوْلى بالمعروف
- الأعوجون أوْلى بالمعروف
- البوذيون فتافيت بشرية ؟!
- الشيطان لا الله .. يضمن لنا راحة البال !
- حدّثتْني شهرزاد البوذية فقالت :
- سلام عليك .. يا ابنة بوذا وحفيدة آلهة الشمس
- ( بوذا ) إذا استمعَ إلى نكتة الحشاش !
- وكنتُ كآدم الذي أكل التفاحة
- فإما نجْم كالشمس، وإما قزم كبلوتو! 1
- في مدينة الموت: الأشباح أحياء بعقلهم يرزقون.
- قدَرُ اليابانيين أن يلِدوا في زمن اللهب المقدس !
- من بلاد الشمس المشرقة: كل فمتو ثانية ونحن بخير
- وداعاً مليكة اليهودية .. وإلى اللقاء.
- كل رأس ارتفع فأيْنَع، قُطِع !
- المَرَة.. لو تكسِر قضيب الذهب ! *


المزيد.....




- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ليندا كبرييل - تعالَ أعلّمكَ فنّ العَوْم في الحياة يا ابني !