أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - جلال مجاهدي - تشييء الانسان














المزيد.....

تشييء الانسان


جلال مجاهدي

الحوار المتمدن-العدد: 5415 - 2017 / 1 / 28 - 19:38
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


الحداثة و الثورة الصناعية أفرزتا النظام الرأسمالي الذي حشر الانسان بين قوسي الانتاج و الاستهلاك حين جعل من محوره تحقيق الربح عوض إعلاء إنسانية و ذاتية الانسان , المسار الحداثي و الرأسمالي المادي كان لابد أن ينتج آثاره على هذا الانسان باختزاله من كينونته الانسانية إلى شيء , و من كونه غاية إلى أداة و وسيلة , الارتباط النقدي و المالي للإنسان , هو ما أدخله في ماكينة الاستهلاك و الانتاج , فعمله و إنتاجه لا ينظر إليه إلا بمقياس المقابل المادي الذي يحوله إلى سلع و بضائع و خدمات و هكذا يستمر في الدوران في دائرة الانتاج و الاستهلاك , هذه الازدواجية التشييئية للإنسان تغلغلت في كل جوانب الحياة , فكل شيء أصبح له وظيفة تشييئية و يقاس بمقاس العرض و الطلب , الجامعات و المعاهد لا تخرج إلا تقنيين و خبراء بمقاس السوق و الاعلام لا يخدم إلا ثقافة الاستهلاك و العلاقات الانسانية أصبحت كالعلاقات التعاقدية التبادلية , لا وجود لها إلا بوجود مصالح مادية نفعية متبادلة و ما إلى ذلك .

مفكري عصر التنوير و عصر الحداثة مثل ماكس فيبر و زفيك راتيونيل و في خضم انبهارهم بالعقل البشري و الثورة الصناعية و الفكرية التي أحدثها , لم يدركوا بشكل كاف خطورة طروحاتهم على إنسانية الإنسان , العقل الأداتي حينها كان يهدف إلى إيجاد الوسائل الكفيلة لإحكام سيطرة الإنسان على الطبيعة و على كل مناحي الحياة , و هكذا كان أعضاء مدرسة فرانكفورت و على رأسهم ماكس فيبر يتحدثون عن أمر أسموه بالترشيد المادي , بحيث يتحكم الانسان في الواقع و يتحول المجتمع إلى آلة بشرية ضخمة كحالة المصنع حسب تعبيره , هذه النظرة التي هي نظرة مادية حاطة من قدر الانسان, استمرت و ترسخت واقعيا عبر مرور الزمن و لازمت النظام الرأسمالي الليبيرالي إلى عصر العولمة , فأصبح بذلك الانسان مجرد كائن متناسى و مهمش , فالأولوية تعطى للمنظومة الاقتصادية عوض الانسان من حيث هو إنسان , هذه الرؤية كانت محل انتقاد من طرف العديد من المفكرين الغربيين مثل هابرماس و ليوتار و هوكايمر و ادورنو , و انضاف إليهم بعض المفكرين المشرقيين و على رأسهم المفكر عبد الوهاب المسيري , فبالنسبة إليه فإن العلم الذي اعتبره فرانسيس بيكون قوة بالأمس , أصبح اليوم خطرا يهدد الطبيعة و الانسان و يسلبه حريته و يحاصره ماديا و معنويا و يحييه في عالم مادي تقل فيه مناعته للمقاومة ليصبح بذلك كائنا متشيئا بامتياز .

مترابطة الرأسمالية و الحداثة و العقلنة المنفصلة عن غايتها التي هي الانسان و الغارقة في قيم اقتصاديات السوق الحر , قادت إلى فك ارتباط الانسان بانسانيته و بكينونة ذاتيته , فأصبح كائنا نمطيا دون قيمة , يعاني من بؤس الفراغ , مجرد كائن منتج مستهلك , تدور حياته حول الحصول على مزيد من المال لتنمية رصيده الرقمي البنكي , الذي يشعره بشيء من الامان و يسعفه في تلبية رغباته الاستهلاكية, هذا الانسان ,هو ما سماه فيما قبل هربرت ماركيوز بالإنسان ذي البعد الواحد و الذي عرفه المفكر جلال أمين , بكونه الانسان المحدود الثقافة و التعليم والذي تستهويه أخبار الفضائح و الكوارث, ما دامت تحدث لغيره ,لا صبر له على التعمق فيما هو ثقافي , يفرح بالسيارة الكبيرة كما يفرح الاطفال , أكثر معلوماته ما يتلقاه من التلفزة و الجرائد , يصدق دون أن يشك أو يستخدم عقله و يهتم بكل ما هو سطحي و يعيش في عالم ضيق و محدود , أناني و فرداني و مريض بحب التملك .

الانسان بهذه الصفات , هو سليل النظام الرأسمالي الليبيرالي , الذي حول كل أمر ذي قيمة إلى شيء تافه , ابتداء من أقل الأمور شأنا إلى الإنسان نفسه , هذه التفاهة و المستوى التافه الذي وصل إليه الانسان حاليا , كانت هي موضوع الكتاب الاخير للفيلسوف الكندي آلان دونو الذي حمل عنوان " هكذا حكم التافهون العالم " و الذي لا يخلوا من روح مرحة تهكمية ,حين يقرر بأن التافهين استطاعوا أن يحكموا العالم دون الحاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة , و حين يقدم نصيحة للإنسان ,عبارة عن نكتة سوداء عند قوله بأنه "لا لزوم لهذه الكتب المعقدة , لا تكن فخوراً ولا روحانياً, فهذا يظهرك متكبراً, لا تقدم أي فكرة جيدة, فستكون عرضة للنقد, لا تحمل نظرة ثاقبة, وسع مقلتيك, أرخ شفتيك, فكر بميوعة وكن كذلك , عليك أن تكون قابلاً للتعليب, لقد تغير الزمن, فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة" و في معرض تفكيكه لبنية الظاهرة عرج الفيلسوف المذكور على مفاهيم تشييء العمل و الوظيفة و على إفرازات نظام السوق الحرة , كالاستهلاك و النمطية و الاحتكار و الفردانية و المصلحة الخاصة ليخلص إلى أن الانسان المشيء هو إنسان تافه .

المفكرون الذين تحدثوا عن ما بعد الحداثة و عن نهاية التاريخ و عن ثقافة العولمة , لم ينطلقوا من فراغ أو من مجرد تخمينات , بل من واقع ما أفرزته الواحدية المادية التي أصبحت توجه كل ما يتعلق بالإنسان , بحيث حسب هذه المقاربات, سيصبح إنسان ما بعد العولمة و ما بعد الحداثة و ما بعد التاريخ , على نمط و نموذج واحد و تختفي بذلك الخصوصيات و الصراعات و الثنائيات و التضاد . هذه المقاربات ترتكز كلها على الانسان الاقتصادي في الغاء تام لكل احتمال يرتكز على محورية ذاتية الانسان كجوهر و كروح و كقيمة .

و السؤال الذي يتحدى توقعات هؤلاء المنظرين يبقى مطروحا , فهل من سبيل للحيلولة دون انتصارا المادة على الانسان و هل سيستطيع الانسان الخروج من بوثقة المنعكسات الشرطية المادية إلى تحقيق ذاته و توازنه الروحي و إلى استعادة منظومته القيمية و الأخلاقية , و بصيغة الاجمال هل يستطيع الانسان إعلان ثورة جديدة مضادة لتشييئه ؟

هذا التساؤل الشمولي إن كان مطروحا ليجيب عنه التاريخ , فإن الفرد بصفته فردا يستطيع الحفاظ على إيقاعه الانساني و على ارتباطاته التاريخية و الهوياتية و الروحية و الثقافية و على اهتماماته الانسانية المجتمعية اللامادية و الدفع في هذا الاتجاه , لكن مسألة الوعي بتشييئه هو أمر في غاية الاهمية و هو المنطلق لتحقيق ذلك .



#جلال_مجاهدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مساحة الفراغ بين الواقع و الإدراك
- العقلانية بين مفهوم العلم و مفهوم المعرفة
- ثقافة المجتمعات من التثاقف إلى التثقيف إلى ثقافة العولمة
- المذهب الوهابي منبع إرهابي سطر تاريخه بالدماء
- ما وراء التعثر المؤقت في تشكيل الحكومة المغربية
- البوليزاريو و انعدام الشرعية و الصفة لتمثيل الصحراويين
- إصلاح القضاء في المغرب و الأركان المظلمة المسكوت عنها
- الخطاب القومي الأمازيغي المغربي و ضرورة إعادة الصياغة
- استخدام و توظيف مفهوم القيمة و فائض القيمة لكارل ماركس
- توصيات الصناديق الائتمانية الدولية و عرقلة الاقلاع الاقتصادي ...
- ضوابط استعمال رجل الشرطة لسلاحه الوظيفي في مواجهة مسلحي الشو ...
- نظام الحكم المخزني المغربي في مواجهة تفاعلات الحراك الفكري ا ...
- أمازيغ المغرب و الاستعراب و إشكالية الانتماء
- الالحاد سقوط في اللاعقلانية – الجزء الثالث-
- الالحاد سقوط في اللاعقلانية – الجزء الثاني -
- الإلحاد سقوط في اللاعقلانية – الجزء الأول -
- ثقافة الثورة
- القرآن من تسامح النبي الى تعصب المسلمين
- القرابين البشرية و المنابع النصية للفكر الارهابي
- حزب العدالة و التنمية المغربي ليس حزبا إسلاميا


المزيد.....




- كاميرا مراقبة ترصد لحظة اختناق طفل.. شاهد رد فعل موظفة مطعم ...
- أردوغان وهنية يلتقيان في تركيا السبت.. والأول يُعلق: ما سنتح ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا القصف الإسرائيلي
- الدفاع الروسية تكشف خسائر أوكرانيا خلال آخر أسبوع للعملية ال ...
- بعد أن قالت إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.. أستاذة جا ...
- واشنطن تؤكد: لا دولة فلسطينية إلا بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل ...
- بينس: لن أؤيد ترامب وبالتأكيد لن أصوت لبايدن (فيديو)
- أهالي رفح والنازحون إليها: نناشد العالم حماية المدنيين في أك ...
- جامعة كولومبيا تفصل ابنة النائبة الأمريكية إلهان عمر
- مجموعة السبع تستنكر -العدد غير المقبول من المدنيين- الذين قت ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - جلال مجاهدي - تشييء الانسان