أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - موفق كمال قنبر وفي - محادثات فلسفية مع صديقي (10)















المزيد.....


محادثات فلسفية مع صديقي (10)


موفق كمال قنبر وفي

الحوار المتمدن-العدد: 5396 - 2017 / 1 / 8 - 20:02
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


محادثات فلسفية مع صديقي 10

المحادثة العاشرة:

بعد رجوعي من بريطانيا في بداية الاسبوع الأول من السنة الجديدة 2017 اتصلت بصديقي تلفونياُ وسألته ان يرتّب لقاء مع شلّة الاصدقاء في مقهى الشابدر لمحاضرتي المرتقبة حول حرية الارادة. وبعد ساعتين اتصل صديقي بي واخبرني بأنه أعلَمَ الاصدقاء بذلك وسيكون لقائنا في المقهى يوم الجمعة المقبل الساعة العاشرة صباحاً. وفي صباح يوم الجمعة جاء صديقي ليقلّني من بيتي وبصحبته سمير وقيس وبعد القاء التحية والتبريكات بحلول السنة الجديدة توجّهنا بالسيارة الى منطقة الميدان. أوقف صديقي السيارة في ساحة وقوف السيارات المطلة على شارع الجمهورية قرب مبنى الحاسبة التابع لمديرية كهرباء بغداد. تطلّعت على مبنى الحاسبة وانا اتابع سيري وتداعت ذكريات عملي فيها مشغّلاً ثم مبرمجاً من سنة 1970 حتى سنة 1975. تزاحمت الذكريات في بداية شارع الرشيد حيث ساحة الميدان ... موقف سيارات مصلحة نقل الركاب رقم خمسة الذي كان يقلّني الى بيتنا في منطقة السبع بكار ... الشارع المؤدي الى مدرستي الثانوية ... الثانوية المركزية للبنين ... وهي ليست بعيدة عن محكمة الشعب التي حاكم فيها المهداوي "اذناب العهد البائد" كما كان رجالات الحكم في العهد الملكي يُسمّون بعد ثورة 14 تموز ... هم اشرف بألف مرة من رجالات الحكم اليوم ... وزارة الدفاع وبوابتها الجميلة تلوح عن بعد ... لم تسعف الزعيم عبد الكريم قاسم يوم تحصن بها من مؤامرة البعثيين ... خلف موقف سيارة "المصلحة" رقم خمسة دكّان في واجهته الواسعة تُعرض انواع الفواكه والتمور العراقية والى يساره دكّان صغير لا يتجاوز المترين عرضاً ... يكاد لعابي يسيل وانا اتذكّر الفطور في الصباح الباكر وقوفا امامه بصموّنة مليئة بالقيمر والعسل مع قدح من الحليب الساخن ... صاحب المحل هو ابو الرسّام المعروف ضياء العزّاوي واخوة المهندس كيلان صديق قديم لي ... بضع خطوات من مدخل شارع الرشيد على يميننا خربة كانت يوماً ملهى ليلي ... "تياترو" كما يسمّيها الممثل يوسف العاني ... يرتادها مع صديقه في فلم سعيد افندي ... لمحت وانا اتجاوز سوق الهرج محل كان يبيع تسجيلات صوتية وتذكرت يوم كنت طالباً للدراسات العليا في بريطانيا ومساهمتي في الاحتفال السنوي الذي يقيمه اتحاد طلبة العراق بمناسبة ثورة 14 تموز وكان من بين الحضور يهودي عراقي يكبرني سناً ... تعرفت عليه فسألني ان كنت اعرف شخص يذهب الى بغداد ويأتيه بعدة اشرطة صوتية للمقام العراقي فقلت له عندي هذا الشخص ولكن من اين احصل على الاشرطة التي ترغب بها ، قال في بداية سوق الهرج محل قديم متخصص بتاريخ المقام. واصلنا السير وتجاوزنا خربة اخرى كانت محل حلاقة محمود نديم ... حلّاق والدي وبعض من رجالات العهد الملكي اذكر منهم صديق والدي اللواء صالح زكي توفيق... وبعد محل الحلاق ببضعة خطوات وقبل محلات شربت حاج زبالة الشهير زقاق ضيّق يؤدي الى ساحة القشلة ... كنت لا اتجاوز العاشرة من عمري عندما مررت به بعد حلاقتي مع والدي وإذا بشخص يصيح من اعلى شناشيل بيت قديم ... كمال ... كمال ... نظرنا الى اعلى فأذا برجل نحيف يلبس بجامة مقلّمة بالازرق يرحب بنا ويطلب التفضّل عنده ... شكره ابي كثيراً ثم التفت الى وقال مؤشراً الى الرجل ... هذا عزيز علي ... نظر مرة اخرى الى الرجل وقال ابني موفق معجب بك جداً ... قفز قلبي من مكانه ... هذا هو المنلوجست العظيم عزيز علي ... الحّ علينا الرجل بالمجئ عندة وتوسلت بأبي ولكن ابي اعتذر متعللاً بشغل مهم ينتظره. وصلنا الى شارع المتنبي الذي كان يغص بالناس ثم دخلنا المقهى فاستقبلنا صاحبها عند بابها والاستاذان محمد وبهنام بحرارة. توجهنا الى موقعنا المعتاد عند ركن المقهى بينما نادى صاحبي على عامل المقهى طالباً الشاي ... وضعت حاسوبي على الطاولة وبدأت هكذا:
صدّقوني لو قلت لكم لولاكم ما تعنّيت لملمة افكاري ووضعها في محاضرة ساعدتني على فهم وتوضيح ما خفى من هذا الموضوع الشائك ... مرّت في فكري الكثير من الذكريات عند توجهي مع صاحبي وقيس وسمير الى المقهى ... وها انا هنا اتساءل هل ما حصل في تلك الذكريات كان امراً محتوم بالقضاء والقدر ام ان ارادتي تدخلت في صياغة أحداثها؟ اليوم سأعرض لكم ما توصل اليه عقلي ... عقلي وعقل كل الناس مجبول على البحث عن اسباب المسببات لأن في معرفتها ما يساعدة على تحسين حياته وتفادي الصعاب والمخاطر اضافة الى ارضاء فضوله ... ولكن الصعاب والمخاطر تأتي من كل صوب وحدب فان لم يأتي الموت منها جاء من كِبَر السن ... فبينما يبدو للانسان انه حر في اختيار وفعل ما يروق له من جهة يبدو له من جهة اخرى ان كل شئ محتوم بسبب لا حول ولا قوة له عليه ... فأين هي حرية ارادته؟ ... الدين ينسب الارادة والقدرة المطلقة الى خالق العالم ... يؤمن الذين ينفون حرية ارادة الانسان بأن الله قرر مسبقاً كل افعالنا... بينما يؤمن اخرون بان الله وهب الانسان حرية الارادة ليقرر مصيره وقدَره بنفسه ... وفي الحقيقة ان المواقف الدينية من موضوع حرية الارادة فيها تناقض كبير ... وقد يكون بعض اسباب هذا التناقض هو التفسيرات الخاطئة لرجال الدين والمشرعين ... سأقوم اولاً بشرح مبتسر لبعض مواقف الاديان الابراهيمية الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلام من حرية ارادة الانسان وارجو ان لا تبخلوا بمداخلاتكم لأغناء المحاضرة بما خفى عنّي ...
الله في الديانة اليهودية يتدخّل بصورة مباشرة في صناعة تاريخ البشر ففي التوراة اشارات واضحة لتدخلة في تقرير الاحداث فيمنح العناية الالهية لمن يودّهم ويغلظ قلوب اعدائهم :
"10 :1 ثم قال الرب لموسى ادخل الى فرعون فاني اغلظت قلبه وقلوب عبيده لكي اصنع اياتي هذه بينهم
10 :2 ولكي تخبر في مسامع ابنك وابن ابنك بما فعلته في مصر وباياتي التي صنعتها بينهم فتعلمون اني انا الرب"
فأين هي حرية الارادة اذن من ربٌّ كلّي القدرة والمعرفة يقرر مسبقاً ما ستفعله؟

رد الاستاذ محمد: اين هي حرية الارادة في القرآن ، ثم بدأ يقرأ من ورقة كان يحملها: "الاسراء(45) وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا".
قلت: هنالك اراء متضاربة حول حرية الارادة في الاسلام سوف آتي عليها ... ولعل ما تشترك به الاديان الثلاثة هو ارتباط حرية الارادة بالمعرفة العقلية ففي المسيحية التي خرجت من رحم اليهودية تطور ملحوظ في الرأي من حرية ارادة الانسان المؤمن في الحياة الدنيا وفي الآخرة ... يتطلب شرح هذه العلاقة معرفة قصة ادم وحواء التوراتية وعلاقتها بالمعرفة العقلية.
قال صديقي: اذا كنت ستذكر شئ عن المعرفة فأرجوا تذكيرنا بأهم ما فيها بجملتين او ثلاثة.
قلت: للتذكير كما طلب صديقي ... هنالك شكلان للمعرفة ، "معرفة كيف" وهي معرف مكتسبة من خلال الممارسة كمعرفة سياقة السيارة ة وكذلك يمكن اعتبار المعرفة الموروثة كالغرائز من ضمنها. وهنالك "معرفة هذا" وهي المعرفة المكتسبة عن طريق المعلومات المسموعة والمكتوبة والمرئية مثل معرفة تركيبة جزيئة الماء من ذرتين من الهايدروجين وذرة من الاوكسجين ومعرفة صورة للفنان بيكاسو مثلاً. في قصة ادم وحواء التوراتية وخروجهم من الجنة ما يرمز الى اسباب خروجهم المرتبط بإكتسابهم المعرفة العقلية ... خلق الله آدم ووضعه في الجنة ثم خلق المرأة شريكةً ورفيقةً له ليستمتعوا بخيرات الجنة الوافرة وهم عراة لايستحون من عريهم فهم لا يعرفون العيب ولا الخير والشر. ولكن الله طردهم من جنة عدن بعد ان اكلوا ثمرة من شجرة المعرفة فأصبحوا يعرفون العيب والخير والشر. ادم وحواء في الجنة لا يعرفون العيب ولا الخير والشر ... فهم في وضع مشابه للحيوانات التي تعيش مع نوعها في تجمعات تتحكم بها الغرائز وتقتصر المعرفة عندها على "معرفة كيف" اي المعرفة عن طريق الغرائز الموروثة والقليل من المعرفة المكتسبة عن طريق الخبرة ... تعبّر التوراة عن تزاوج ادم بحواء بأنه معرفة " 4: 1 فعرف ادم حواء..." فغريزة التناسل هنا هي معرفة ولكنها من نوع "معرفة كيف". وبغواية ابليس المتمثل بالحية اكل ادم وحواء من شجرة المعرفة فعرفوا الخير والشر وستروا عورتهم. ان شجرة المعرفة هي عقل الانسان وفيها المنظومة الاخلاقية التي رأت في عري ادم وحواء عيب ... لا مجال للتساءل عن حرية الارادة في حياة تحكمها الغرائز قبل ان يكون للانسان عقل ...
قال صديقي: ألا تبدو قصة ادم وحواء في التوراة والتي تجد ما يماثلها في القرآن كأنها ذم لعقل الانسان الذي خرج بعقلة عن طاعة الله وبدأ يتصرّف في حياته وفق عقله وليس وفق ما غرسه الله فيه من غرائز.
قلت: يبدو ذلك حقاً ... فلكي يكسب المؤمن رضا الله ثانية وجب علية اطاعة تعاليمه المسطّرة في الكتب السماوية عسى ان يرجعه الله في حياة الاخرة الى جنة الخلد التي فقدها ... الجنّة لليهودي الاصولي هي تلك التي فقدها ... جنة الاستمتاع بالاحاسيس الغريزية ... لا فكر ولا تفكير.
قال صديقي: أليست هذه ايضاً جنّة المسلم ... 72 حورية وغلمان مخلّدون ... وخمر واعناب ...
قلت: هذا هو الرأي السائد الذي روجت له المشايخ الدينية ... وهنالك اراء اخرى ...
قال الاستاذ بهنام: في المسيحية هنالك رأي مختلف ... الرب عقل كامل وعقل الانسان يقترب من عقل الرب عندما ينقى من شرور القلب بمقاومة الاغراءات ... فالجنّة في المسيحية هي جنّة العقل المنقّى الذي يعيش في كنف العقل الاعظم كما اعتقد.
قال صديقي: نبذ كل ما يتصل بالجسد المادي هو جزء من الفكر العرفاني الذي تأثرت به المسيحية كثيراً.
سأل قيس: العفو استاذ ولكن ماهو هذ الفكر الذي سميته العرفاني؟
رد صديقي بعد لحظات استجمع فيها ما يعرفه: هنالك فكر فلسفي عم منطقة الشرق الاوسط ونضج في فلسفة افلاطون التي تدّعي الازدواجية في الانسان ... عقل لا مادي لا يموت وجسد مادي يموت ... تسرّب هذا الفكر الى المفاهيم الدينية التي تنسب حياة الانسان وعقله الى روح تعيش في جسد تفارقه الى عالم الارواح عند الموت .. الروح في صراع بين متناقضين ... جسد مادي فاني يجرّه الى اسفل وعقل لا مادي يتسامى به الى اعلى ليندمج بالعقل السرمدي الاعظم ... ظهرت جماعات قبل مجئ المسيح ... ربما بأكثر من مئة سنة في منطقة الشام التي تشمل فلسطين تدّعي معرفة سر الحقيقة الكبرى وطريقة التواصل مع العقل الاعظم ... ومن هنا جاء اسم العرفانيون ... وفي الانكليزية هم Gnostics)) وهي كلمة محوّرة من الاصل الأغريقي.
قاطع السيد بهنام: تقصد بالعقل الاعظم الرب ... الله ... اليس كذلك؟
رد صديقي: هو المقصود بالفعل ولكن ربما حمل اسماء اخرى غير الرب او الله ... فهذه الجماعات التي تدعي معرفة طريق التواصل مع العقل الاعظم ابقت هذا السر قريباً من صدورها ولكن ما تبيّن من اثارها يدل على ان كثير منها عاش حياة الرهبنة في المناطق الصحراوية النائية او في مغارات الجبال.
قال الاستاذ بهنام: لعل مخطوطات قمران التي عُثر عليها في مغارات قرب البحر الميت اواسط القرن الماضي هي جزء من تراث بعض هذه الجماعات.
رد صديقي: هذه اللفافات كما اذكرهي جزء من التراث اليهودي لجماعة معروفين بالأسيين وكان قسم منهم يعيش حياة التقشّف في الكهوف... يعود قسم من تلك اللفافات الى مئة سنة قبل ميلاد المسيح ولعل فيها الكثير من تأثير الفكر العرفاني ... قسم متطرّف من العرفانيين كان ينبذ كل مافي الارض والحياة عليها فهي شر مطلق خلقة شيطان الدِميورج (Demiurge) ويعيش بعيداً عن الناس الى يوم تتخلّى روحهم عن الجسد الفاني الذي اضعفت شهواته حياة الرهبنة والتبتل عند الموت لتحيى الى الابد برفقة الروح او العقل الاعظم كما يعتقدون... وكما اعتقد فان الدين المسيحي هو تزاوج بين الدين اليهودي والفكر العرفاني ... فحياة المسيح كما تروى في الكتب المسيحية هي حياة راهب نبذ الحياة الدنيا من اجل ملكوت السماء ... والله فكر مطلق ازلي متسامي على المادة.
عقّب الاستاذ بهنام: "في البدء كانت الكلمة وكانت الكلمة مع الله وكان الله هو الكلمة" هذا ما يبتدء به العهد الجديد ... الانجيل.
قلت: اغنيتمونا بمعلوماتكم القيّمة ... في الحقيقة ان تأثير الفكر العرفاني على المسيحية واضح من مما ذكرة الاستاذ بهنام ... وبصدد شرور القلب اي كل ما له علاقة بالغرائز والعواطف اذكر ما جاء في سفر التكوين: "6 :5 وراى الرب ان شر الانسان قد كثر في الارض وان كل تصور افكار قلبه انما هو شرير كل يوم".
قال الاستاذ محمد: اجد ان هنالك تناقض بين ما ذكرة السيد بهنام من ان الجنّة في المسيحية هي جنّة العقل المنقّى الذي يعيش في كنف العقل الاعظم وبين هذا الاصحاح من سفر التكوين الذي ذكرته بمعنى ان افكار القلب شريرة ... المتعة العقلية لا تأتي إلّا مع نوع من العاطفة ومن دون تلك العاطفة فأن العقل لا يتعدى كونه آلة تقوم بعمليات منطقية وحسابية ... فما قيمة هذه الجنّة العقلية من دون تلك العاطفة التي يسميها هذا الاصحاح بشرور القلب.
علّق صديقي: كأن هذه الجنّة مجموعة من الحاسبوات المتّصلة مع بعضها (Networked Computer).
واصلت حديثي: ولكن اين حرية ارادة الانسان في مثل هذه النظرة الفلسفية التي تجعل من الانسان المؤمن مذنب منذ ولادته ... بنت الكنيسة الكاثولوكية اسس هيمنتها على المؤمنين من خلال عقدة الذنب التي تتطلب الاستسلام الكلي لرجال الدين بعقولهم واجسادهم من اجل خلاص ارواحم ...
قال صديقي: في هذا الصدد وفي ما يخص الاسلام تعجبني كثيراً رباعيات الخيام ... خصوصاً تلك النسخة المترجمة من الفارسية لعبد الحق فاضل ... هو مفكر عراقي فذ ولكن مع الاسف لا يعرفه الكثيرين منّا ... اذكر منها:
ابدع الصانعُ تركيب طباع البشرٍ
فلماذا شانها بالنّقص اوالوضَرِ؟
فأن جاءت ملاحاً فلماذا خرّبها؟
أو تكن جاءت قباحاً فعلى من عيبُها؟

قلت: هذا جميل ... الخيّام يلخص مشكلة حرية ارادة الانسان في الاديان بصورة عامة ... فالاسلام كما هو معروف وليد اليهودية والمسيحية ولكنه تشبّع بفكر البلدان المحتلّة التي اسس فيها امبراطورياته وخصوصاً العراق بما يحمله من ارث الامبراطوية الساسانية وسوريا بما تحمله من ارث الامبراطورية البيزنطية ... ترجع اصول مسألة حرية ارادة الانسان الى صدر الاسلام وبوادر فكرة القَدَرعند معبد الجهمي ... وفي حكم الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز ظهرت فرقة القدرية ومؤسسها غيلان الدمشقي الذي اخذ من فكر معبد الجهمي ... فهو يرى ان الاحداث البشرية هي بمشيئة البشر وليست بمشيئة الله ... وعلية فاالله لا يعلم بالشئ الذي يقوم به البشر إلا بعد حدوثه ... وقد اختفت هذه الفرقة بعد ان صلب الخليفة هشام بن عبد الملك صاحبها ... وفي الفكر الصوفي الذي ظهر انذاك ايضاً بوادر تفكير معاكس ينسب قَدَر الانسان الى الله ولا طريق الى الخلاص إلّا بالتسامي فوق عالم الدنيا بالتفاني في حب الله ... وخير مثال لهذا الفكر هو رابعة العدوية التي عاشت في البصرة في القرن الهجري الاول.
قال الاستاذ محمد: لرابعة العدوية قصائد بديعة منها تلك التي غنّتها ام كلثوم:

عرفت الهوى مذ عرفت هواك واغلقت قلبي عمن سواك
وكنت اناجيك يا من ترى خفايا القلوب ولسنا نراك
احبك حبّين حب الهوى وحباً لأنك اهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكراك عمن سواك

القصيدة طويلة وهذا فقط مقطع منها ...
استفهم الاستاذ بهنام: انا لا اعلم لماذا هذه القسوة في قمع من له فكر مخالف مثل فكر غيلان الدمشقي ... في تاريخ المسيحية القديم بشاعات وتنكيل لا يوصف بمن خرج عن خط الكنيسة الايدولوجي ... محاكم التفتيش وسنين الحروب بين البروتستان والكاثوليك اضافة الى الحروب الصليبية التي اذاقت مسيحي الشرق الويلات.
قلت: لأن فكر حر ... وخاصة مثل فكر غيلان يشجع الناس على استعمال عقولهم ونتيجة ذلك الحتمية ... عدم تصديق حاكم يدعّي ان سلطته وملكه وخنوعهم لحكمه وفقرهم هو قدَر من الله ومقاومته كفر ... وعليه اصبحت عقيدة الدولة المسلمة على مر العصور هي عقيدة قضاء الله وقدره فقرّبت كل المشرعين الذين برروا خط الخنوع لخليفة المسلمين عدا من فترات قليلة انتعش فيها الفكر الحر ... بعض المفكرين اتخذ من الحركات العلوية ضد السلطة ملجئ يتقّي به بطشها وهو محصن بمذهب التقيّة او انظم الى منظمات سريّة يمكنه من خلالها نشر افكاره الحرة ... مثل جمعية اخوان الصفا وخلّان الوفى التي كتبت اول انساكلوبيديا للعلوم ، كانت النظرات الحائرة لقيس وسمير تدل على استعصاء فهم بعض ما ذكرته فانبرى صديقي بالتفسير: مذهب التقيّة هو احد مذاهب الشيعة الاثناعشرية في اخفاء المعتقد خشية الضرر المادي او المعنوي ... برره الامام الصادق ايام حكم العباسيين التي اضطهدت أئمة ال البيت بايات قرآنية واحاديث لا اتذكرها.
قال الاستاذ محمد: الاية من سورة آل عمران " لا يَتَّخِذُ المُؤمِنُونَ الكَافِرِينَ أَولِيَاءَ مِن دُونِ المُؤمِنِينَ وَمَن يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَيسَ مِنَ اللهِ فِي شيءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُم تُقَاةً".
شكر صديقي الاستاذ محمد واكمل حديثه: ... اما اخوان الصفا فهم جماعة من المفكرين والعلماء الذين اضطروا في جو الاضطهاد الفكري زمن العباسيين الى العمل بالسر ويقال ان ابن سينا كان واحد منهم ... وبالمناسبة فأن اطروحة رئيس جمهوريتنا فؤاد معصوم لنيل الدكتوراه في مصر كانت عن اخوان الصفا ولدي نسخة الكترونية منها لمن يريد الاطلاع.
تابعت حديثي: قلت كانت هناك فترات قصيرة انتعش فيها الفكر الحر في ظل الامبراطوية العباسية (750 - 1031) فقد تكالب المترجمون السريان على ترجمة نتاج الحضارة الاغريقية ونشأت المذاهب الدينية التي اسست لحضارة اسلامية تعتمد القران والسنّة النبوية ... رافق ذلك احتدام الصراع الفكري بين أتجاهين اسلاميين ... اتجاه المؤمنون بحرية الارادة واتجاة المؤمنون بالقضاء والقدر وحملت لواء الاتجاه الاول فرقة المعتزلة التي ظهرت في البصرة في نهاية العصر الاموي وازدهرت في العصر العباسي واعتمدت على العقل في تأسيس عقائدها وقالت بوجوب معرفة الله وتفسير اياته في القران بالعقل فقدّمته على الشرع اذا تعارضا ... وقالت ان قدَر الانسان بيده ، ولذلك سُميت تلك الفرقة بالقدرية ايضاً ... رأيها ان الله اعطي الانسان حرية الارادة ولهذا كان جزاءه يوم القيامة بما ارتكبت ايديه من فعل الخير او الشر ... اما فرقة القضاء والقدر ، الذين سُمّيت بالجبرية ، وعلى رأسها اتباع المذهب الحنبلي فتقول ان الله كلّي القدرة والعلم وهو وحده من يقرر مصير الانسان وقدَره ... كل فريق يسند رأيه بأيات قرآنية من مثل "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" و " قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ" للفريق الاول ومن مثل " قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " و " قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ" للفريق الثاني ... وفي فترة حكم الخليفة العباسي المستنير المأمون (812 - 833) اصبح مذهب المعتزلة هو مذهب الدولة الرسمي وتم قمع انصار المذهب الحنبلي واضطهادهم ولكن الانفتاح الفكري الذي دشنه عهد المأمون انتكس الى موقع الجبريين بعد وفاته فتم القضاء على المذهب المعتزلي وظهرت في الافق مذاهب اسلامية متحجره على مفاهيم رجعية استمرت حتى يومنا هذا.
سأل الاستاذ محمد: لماذا بأعتقادك انتهى المعتزلة من دون رجعة حتى يومنا هذا؟
قلت: تأثر الفكر الاسلامي كثيراً بالفكر اليوناني فسارت الفلسفة الاسلامية على درب الفلسفة الافلاطونية والافلاطونية الحديثة وكان المعتزلة يتبعون طريقة جدلية تسمى علم الكلام وهي مشتقة من منطق أرسطو الجدلي (Syllogism) الذي يصل الى النتيجة المرجوة من خلال استنتاح من المقدمات المطروحة.
قاطعني صديقي: قف عندك قبل ان تواصل الكلام واشرح لنا بأقتضاب ماهي الافلاطونية الجديدة وكذلك اعطنا مثال على منطق ارسطو الجدلي.
قلت: الافلاطونية الجديدة تنسب الى فيلسوف اغريقي عاش في مصر في القرن الثاني بعد الميلاد اسمه (Plotinus) وفلسفته تقوم على ثلاثة مبادئ هي الواحد ، اي الله ، والعقل والروح وقد اعتمدت عليه الفلسفة الدينية المسيحية والاسلامية وكان يشار اليه بالشيخ الكبير ... مثال على منطق ارسطو الجدلي

كل البشر يموتون
سقراط بشر
سقراط يموت

نرجع الى موضوعنا ... قلت ان المعتزلة استخدمو علم الكلام لتبرير عقائدهم وحدث ان واحد منهم ضليع بعلم الكلام وهو ابو موسى الاشعري خرج عليهم واصبح من دعاة الفريق المعادي فدحض كل مقولات المعتزلة مستخدماً علم الكلام نفسه ... وهذا مثال على ان المنطق العقلي لا يمكن دحضه إلا بمنطق عقلي مضاد احسن منه ... اضيف الى ذلك ان المنطق مهما كان حسناّ قد تدحضه التجربة العملية وعليه وجب التفكير بمنطق يناسب نتائج تلك التجربة العملية.
علّق صديقي: هذا يذكرني ببعض الاحزاب السياسية سواء كانت دينية او غير دينية ... تدّعي ان منطق حزبها مضبوط 100% وحتى ان بعضهم يقرنه بالعلم ... الاشتراكية العلمية ... وينسون او يتناسىون حقيقة ان المنطق والعلم وخصوصاً في السياسة يتطلب التجربة والممارسة العملية التي فشل فيها الجميع.
قلت: كلامك صحيح يا صديقي ... للأشعري مساهمة في موضوع حرية الارادة اراد بها التقريب بين وجهتي النظر المتعارضة لتتعايش القدًرية مع الجبرية ... وفيها ان هنالك عاملان لكل فعل بشري العامل الاول هو الجبر الذي خلقه الله في الانسان والعامل الثاني هو حرية ارادة الانسان (قدَره بيده) ليختار او لا يختار جبر الله فيه ... بكلمة اخرى ... كل الطرق التي تؤدي الى الفعل الانساني هي من صنع الله وما على الانسان إلا ان يختار منها فأن اختار الطريق الذي املاه الله جزاه الله في الآخرة خيراً ... طبعاً هذا الكلام منطقي ومعقول ولكن يمكن مجابهته بمثل ما ذكره صديقي في رباعية عمر الخيّام ... اي كيف يمكننا ان نختارالطريق الصحيح من دون ان نزل منه الى طرق الظلال بسبب ان الله خلقنا غير كاملين ... لقد انتهيت من مسأله الارادة الحرة في الاديان السماوية وسوف اتطرق الى وجهة النظر العلمية حولها ولكن بعد فترة الاستراحة ، صحت على عامل المقهى: چایات تجديد ... بينما اخرج سمير وقيس بعض الكعك والحلوى من كيس كان معهم ووضعوه على الطاولة.



#موفق_كمال_قنبر_وفي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محادثات فلسفية مع صديقي 9
- محادثات فلسفية مع صديقي 8
- محادثات فلسفية مع صديقي 7
- محادثات فلسفية مع صديقي 6
- محادثات فلسفية مع صديقي 5
- محادثات فلسفية مع صديقي (4)
- محادثات فلسفية مع صديقي الملحد (3)
- محادثات فلسفية مع صديقي الملحد (2)
- محادثات فلسفية مع صديقي الملحد
- امي المؤمنة ونار جهنّم
- عراقي
- شيخ الازهر والطالب النجيب قصة قصيرة ذات عبر


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - موفق كمال قنبر وفي - محادثات فلسفية مع صديقي (10)