أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم محمد - الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية















المزيد.....



الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية


ابراهيم محمد

الحوار المتمدن-العدد: 5370 - 2016 / 12 / 13 - 07:18
المحور: الادب والفن
    


الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية
ابراهيم محمد
لعبت الثورة الجزائرية دورا كبيرا في حياة الشعب الجزائري، وشملت العديد من مجالات الحياة، وقام بها الشعب الجزائري رغبة وإصرار منه لطرد المستعمر، وذلك من أجل التغير والخروج من الظلام الذي فرضته فرنسا عليه، فكانت الثورة بذلك صراع مستمر من أجل الحرية، والمطالبة بالحقوق الإنسانية، وكان ثمن ذلك موت الآلاف الشهداء، وكان العزم موجودا في روح كل جزائري حيث حقق به انتصارات عظيمة، فالتغيير كان تغييرا جذريا شاملا في جميع الميادين1
عندما برز الأدبُ المكتوب بالفرنسيَّة في الجزائر والمغْرب وتونس بعد الحرْب العالميَّة الثانية، كان يحمل همَّ شعوب مستعْمرةٍ وفقيرة، مغلوبة على أمْرِها، تطْمَح إلى التحرُّر والحياة الكريمة، فكان رسالةً إلى الطَّبقة المثقَّفة والسَّاحة الفرنسيَّة نفسِها لتدرك معاناةَ هذه الشعوب.
ويمكن الإشادة هنا بروايتي مولود فرعون "ابن الفقير"، و"الأرض والدم" كنموذجٍ معبِّر، لكن هذا الأدب انحرف شيئًا فشيئًا، حتَّى أصبح منقطِعًا عن المجتمعات المغاربيَّة ومبادئِها وقيَمِها؛ بل تطوَّر مع اشتِداد عُود الصَّحْوة الإسلاميَّة، وغدا أداةً للتنكُّر للانتِماء الحضاري، ومقاومة الرجوع للذَّات، والتَّشويش على المشروع الإسلامي، فلم نعُد أمام أدبٍ ذاتيٍّ منحاز للعقيدة أو الأرْض، أو الإنسان العربي المسلِم الحرِّ أو المكبوت؛ وإنَّما صِرْنا أمام إنتاجٍ غريبٍ في اللُّغة والمرجعيَّة والأهداف.
غدا أكثرَ حربًا على الأصالة ممَّا عمِل المستشرقون أنفُسُهم؛ إذْ آلى أصحابُه على أنفُسِهم أن يتحدَّثوا باسم شعوبهم عنوةً، ويَحتكروا الحقيقة المدَّعاة: أن لا سبيل للنَّجاة من التخلُّف سوى بتقليد الغرْب، بدءًا بالتنصُّل من الموْروث الدِّيني والثقافي، وتغْيير الانتماء من العربي الإسلامي إلى المتوسِّطي - في إشارةٍ إلى فرنسا والدَّولة العبريَّة المغتصِبة لفلسطين.

ويُلاحظ المراقب الحصيف أنَّ هذا المخطَّط التغريبي، الَّذي ازداد نشاطًا بعد استِقْلال دول المغرب العربي، واستفْحَل غداةَ بروز تباشير الصَّحْوة الإسلاميَّة، قدِ انقسم إلى جناحيْنِ يكمل أحدُهُما الآخر.

إذ نَجِد من جهةٍ عملاً فكريًّا يتوخَّى الطَّابع العلمي الأكاديمي، يقوم به باحثون مسلمون من خريجي الجامعات الفرنسيَّة والعاملين بها، ينصبُّ على إعادة قراءة الإسْلام: قرآنًا وسنَّةً وتاريخًا، وَفْقًا لما يسمُّونه: "المناهج العلميَّة الحديثة"، والواقع أنَّ علميَّة هذه المدرسة تقْتصر على أمرين اثنين:

أوَّلهما: مواجهة نصوص الشَّريعة ووقائع التَّاريخ "بدون أيَّة خلفيَّة أو موقف مسبق".
أي: بعقليَّة غير إسلاميَّة، وبعيدًا عن كلِّ انتماء شعوري للدين وللأمة في مسارها، وبالتَّالي القفز من فوق تُراث القرون والتراكمات الفكريَّة الضَّخْمة وضوابط الشَّرع.

وثانيهما: قراءة انتِقائية متحيِّزة للتَّاريخ ولإنتاج العلماء والمفكِّرين، فما يخدم أهْداف هذه المدرسة وينسجِم مع الذِّهْنيَّة الغربيَّة.

فهو علمي يُحتفى به، وأمَّا الأصيل، فهو أُصُولي أرثوذكسي حتَّى ولو أجمعت عليه الأمَّة، وهكذا تقدح هذه المدرسة في ابنِ تيمية وسيِّد قطب والموْدودي، وتتَّهمُهم بالإضرار بالإسلام، بينما تعتبر علي عبدالرازق ورفاعة الطهطاوي ومحمد سعيد العشماوي مناراتِ الهدى ومصابيح الدُّجى!

تلك هي علميَّة وأكاديميَّة هذا الفكر الذي ينخرِط في موكبه التونسيَّان: محمد الشرفي وهشام جعيط، والجزائريُّون: محمد أركون وسليمان زغيدور ورابح اسطمبولي، (وبالمناسبة رابح هذا كان هو مفتي الجرائد الشيوعيَّة في الجزائر إلى أن توفَّاه الله).

أمَّا في المغرِب، فهناك ظاهرة مغايِرة في الشَّكل، ومنسجِمة مع سابقتها في المنْحَى والغاية، إذْ نَجد عملاً فكريًّا يُدَنْدن حول القوميَّة العربيَّة، له تواصُل وثيق مع أقطابِها في المشرِق، يتجنَّى على الإسلام الأصيل، ويدْعو إلى إسلام "عقلاني"، يتَّفق مع أطروحات اليساريِّين العرب، وأهم أقطابِه المفكِّر محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، وهو مكتوب بالعربية يدعو إلى علمنة الإسلام.

أمَّا في الجهة الأُخرى، وإذا انتقلْنا إلى العمل الأدبيِّ البحْت، فإنَّنا نَجِده مرَّ بِمرحلَتين، فتدرَّج من الكتابة الكلاسيكيَّة إلى لونٍ جديد، هو استلهام النصوص الدينيَّة من القرآن والسنَّة والتاريخ الإسلامي، واستخدم ذلك في إبْداع رواياتٍ وقصصٍ تشتبِك فيها بعض الحقائق مع كثيرٍ من الافتِراءات، حيث يلوي المؤلِّفون أعناقَ النُّصوص، ويقْرؤون أحْداث التَّاريخ قراءةً انتِقائيَّة متعسِّفة من أجل "تدْجينها"، وخلق "إسلام إنساني تقدُّمي علماني معصرن" - هو الإسلام الحقيقي في نظرهم - في مواجهة "الإسلام الظلامي الأصولي المتحجر" الَّذي يتبنَّاه الإسلاميُّون.

فهو إذًا تطوُّر نوْعي عند الأُدباء الفرنكوفونيين الذين كانت جمهرتهم - وما يزالون - يتهجَّمون على الإسلام، باعتباره جسمًا غريبًا على النسيج الفكري والاجتماعي الَّذي يؤمنون به، فالمغربي محمد خير الدين، صاحب روايات يعدُّها النقَّاد الغربيُّون من عيون الأدب الفرنكوفوني، يعلن فيها بصراحةٍ إلحادَه واستهزاءَه بالدين الإسلامي، ويصوِّر الجزائريُّ رشيد ميموني في رواية (طمبيزا) مشهدًا في مدرسة قرآنيَّة يأتي فيه بعبارات، يخجل منها السفهاء، فضلاً عن الأتقياء، ولولا الحياء لأوردتُها ليطَّلع القارئ على مدى استهتار "الأديب المرموق" بالقيم والأخلاق والفضيلة.

فأمَّا الطَّور الثَّاني الَّذي تحدَّثنا عنه فأبطالُه: آسيا جبار من الجزائر، وفاطمة المرنيسي، والطَّاهر بن جلون من المغرب، فهذا الأخير ألَّف منذ سنوات روايةً عنوانها "اللَّيلة المقدَّسة" يقصد بذلك ليلة القدر، نال بها جائزة غونكور التي تعتبر أكبر جائزة أدبيَّة في فرنسا ومستعمراتِها القديمة والحديثة، وأحبُّ أن أنقل منها - بدون تعليق - النَّماذج التَّالية:
- يقول عن المؤذن: كان يستعمل ميكروفونًا لكي يسمعه الله على نحو أفضل.
- بما أنَّ الإسلام هو أفضل الديانات فلِماذا انتظر الله طويلاً حتى ينشره؟
- مؤمنون متعصِّبون أو منافقون لا يهمُّ، إنَّهم يتشابهون وليستْ لي أي رغبة في معاشرتهم.

أمَّا طريقة هذا الفريق، فأكثر ذكاءً وخبثًا، فآسيا جبار - التي رشَّحوها أكثرَ من مرَّة لجائزة نوبل في الأدب - كتبتْ روايتين، عنوان الأولى: "التي قالت لا للمدينة"، والثانية: "بعيدًا عن المدينة" (أي: المدينة المنوَّرة)، والعنوان وحْده في الرِّوايتين يحمل إشاراتٍ واضحةً، فالبطلة فيهِما هي السيدة فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - وتصوِّرها الكاتبةُ متمرِّدة على الدولة الإسلامية بقيادة الصدِّيق - رضي الله عنه - ومعه الصَّحابة الكرام، التي تظلم النِّساء وتهضم حقوقَهن، وفي مقدّمتِهِنَّ ابنة الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لذلك تقول: "لا" للمدينة، باعتبارها عاصمةَ الدَّولة الإسلاميَّة، وتريد أن تعيش "بعيدًا عن المدينة"، وفي الكتابين تُورد المؤلِّفة على لسان الصَّحابة - رضِي الله عنهم - بُهتانًا كثيرًا، لتنتهي إلى أنَّ فاطمة الزَّهراء - رضي الله عنها - رائدةَ حركة تحرير المرأة والدِّفاع عن حقوقها!

فكما زعموا أنَّ أبا ذرٍّ هو سلف ماركس ولينين، تزعُم هي ونظيراتُها أنَّ ابنة رسولِ الله قدوةَ نوال السعداوي وسيمون دي بوفوار وخليدة مسعودي!
وتستوْقِفنا فاطمة المرنيسي بكُتُبها "الإسلاميَّة"، وتصريحاتِها الكثيرة لصحافة الحداثة، فقد ألَّفت "الجنس والإيديولوجيا والإسلام" في سنة 1975؛ لكنَّها اكتسبت الشهرة بكتاب "الحريم السياسي" الصادر في 1987 بفرنسا طبعًا، والَّذي يزخر بالغرائب، لعلَّ أوَّلها وأخطرَها اتِّهامها للصَّحابي أبي بكر - رضي الله عنه - بالافتِراء، وبوضْع حديث "لا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة"؛ لأغراض سياسيَّة 25 سنةً بعد وفاة النَّبي - صلى الله عليه وسلم!

أي نعم، هكذا أصبحت "عالمة الاجتِماع" مختصَّة في الجرح والتعديل، تضعِّف حديثًا رواه البخاري! ثم تؤكِّد أنَّ رسول الله أرْسى قواعد الديمقراطيَّة، إلى درجة أنَّ الصحابة نسُوا (هكذا) جُثْمانه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثلاثة أيَّام بعد وفاته، ولم يفكِّروا في تغسيله ولا دفنه لانشغالِهم بانتخاب مَن يخلفه، أمَّا الحجاب فهو مخالف للمشْروع الثوري الَّذي كان يحمله الرَّسول، وهو من عقليَّة الجاهليَّة، اضطرَّ محمد - هكذا تقول - لقبوله تحت وطأة المنافقين الَّذين كانوا يرفضون تحرير المرأة!

وتقول: في المعركة بين حلم محمَّد – أي: في تحرير المرأة - وأخلاق المنافقين انتصر هؤلاء!
أجل، هكذا ترى المرنيسي المسألة: محمد رجل ثوري يحلم بمجتمع لا تَحرُس فيه المرأة سوى عقيدتِها، لكن يتغلَّب عليه مشروع المنافقين، وإذًا لا وحْي ولا رسالة ولا دين!

ولمزيد من الإيضاح في التَّعريف بحقيقة الكاتبة، نشير إلى إجابتِها عن سؤال في أسبوعيَّة "الجزائر الأحداث"، فبراير 1989، يتعلَّق بالتديُّن في الولايات المتَّحدة، تقول ما خلاصته: "النَّاس هناك على تديُّن حقيقي؛ لأنَّ الدِّين اختيار وليس أوامر"، ثم تنعَى على بلدِها أن يعاقِب منتهِك حرمة رمضان بالسجن؛ أي: إنَّها تلحق بموكب الحداثيِّين النورانيين، الَّذين يريدون إسلامًا كنسيًّا علمانيًّا ليس فيه أمر ولا نهي؛ ولهذا تُبدي حقدًا شديدًا على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - باعتباره ممثِّلَ التقاليد والعادات الجاهلية والانعكاسات الغريزيَّة!

وهذا الاتجاه في استِلْهام الإسلام نفسِه لمحاربته أدبيًّا، يتزعَّمه في تونس: عبدالوهاب مداب، الذي لا تَخرج كتاباته عن عمل نظرائه، ويبدو أنَّ هذه النزعة المغاربية ليس لها نظيرٌ في المشرق العربي، ربَّما بسبب وطأة العمل الاستِشْراقي والتنصيري المباشر الذي ساد شمال إفريقيا أثناء الحقبة الاستعماريَّة وبعدها، وكذلك لأنَّ بلدانه الثَّلاثة في طليعة الدول الفرنكوفونية الَّتي تعتبرها فرنسا حِماها الخاص، وعمِلَتْ على إلحاقها بها ثقافيًّا من خلال بعض أبْناء هذه البلدان؛ ولهذا نلاحظ أنَّ الأدباء الفرنكوفونيين تجَمع بينهم قواسم مشتركة، أهمُّها:

- جلُّهم يقيمون بفرنسا بصفةٍ دائمة أو أغلب الوقت، فعلى سبيل المثال نذكر أنَّ محمد ذيب – وهو من أقطاب الأدب موضوع البحث - مقيمٌ هناك منذ الخمسينيَّات، ولا يزور الجزائر قط، حتّى في المهرجانات التي تقام له، إلى أن مات في باريس ودُفِن فيها، وكاتب ياسين - وهو قرَّة عين فرنسا وأتباعها - عاش هناك أيَّامه الأخيرة وبها توفِّي، وهو يؤلِّف كتابًّا يحتفي فيه بالذِّكْرى المئويَّة لقيام الثَّورة الفرنسيَّة، وقد لحق بِمن يعتبرونها "الوطن الأم" كلٌّ من رشيد ميموني ورشيد بوجدرة في السنوات الأخيرة، لينتظروا من هناك قيام الجزائر العصريَّة! وعلى هذا المنوال نسج الطَّاهر بن جلون، وهو إلى اليوم يتهكَّم من باريس بالدِّين والمتديِّنين؛ بل وبحماس والمقاومة الفلسطينية أيضًا.

- أكثرهم تغدق عليهِم دوائر فرنكوفونية جوائزَ أدبيَّة كبرى، مثل غونكور، وجائزة الفرنكوفونية، وجائزة البحر المتوسط... إلخ، وتصِلهم جوائز حتَّى من كندا وأمريكا، ولا تكاد تمرُّ سنة بغير تكريم واحدٍ منهم أو أكثر بمثل هذه الجوائزِ ذات القيمة المادِّيَّة والمعنويَّة الكبرى، مع أنَّ إنتاجهم أقرب إلى الغثِّ البالي.

- كلُّهم متشبِّعون بالمثُل الغربيَّة عامَّة والفرنسيَّة خاصَّةً، وعلى رأسِها العلمانية، فلا ينظرون إلى الإسلام إلاَّ من خلالها، ويُفْنون أعمارَهم في الدَّعوة إليْها، ولم نعثُر عند أحدٍ منهم على الحدِّ الأدنى من التديُّن، أو مجرَّد الحنين إلى اللغة العربيَّة، باستثناء الأديب والشاعر الجزائري مالك حداد، الذي قرَّر التوقُّف عن الكتابة بعد الاستِقْلال؛ لأنَّه لا يحسن العربيَّة، وقال كلمتَه الشَّهيرة: "إنَّ الفرنسيَّة هي منفاي"، فضرَبَه زملاؤه عن قوسٍ واحدة، ورفضوا هذه الشجاعة وأهالوا عليه التراب، فلم يعد له ذِكْر، لا حيًّا ولا ميِّتًا، خاصَّة وهم المتحكِّمون في الشَّأن الثقافي الممْسِكون بخزانة أموالِه، لا يمكنهم القبول بمثل هذا الموقف.

- هذا، ولعلَّ نقطة القوَّة عند هؤلاء الأُدباء والكتَّاب تكْمُن في خلوِّ السَّاحة المغاربية - إلى حد كبير - من منافسين معربين ذوي شأن، وهو غياب له أسبابٌ يطول المقام بذكرها؛ بل الأدْهى أنَّ الكتَّاب بلغة الضاد منهزِمون - إلاَّ قلَّة منهم - أمام أولئك "العمالقة"، ولا يجرؤون على نقْدِهم، فضلاً عن التصدِّي لهم.

هذا هو الأدب الفرنكوفوني في بلاد المغرب العربي، أدب غريب عن لُغَتِنا ودينِنا، ونسَقِنا الحياتي، وانتِمائنا الحضاري، وهُوِيَّتِنا وشخصيتنا، هو مجرَّد مقلد وخادم للنَّموذج الفرنسي، ساعَدَه سيِّدُه على الانتشار والغلبة، رغْم قلَّة قرَّائه، وما زالت السَّاحة تنتظر أدبًا أصيلاً قويًّا - حتَّى ولو كان بالفرنسيَّة - يقاوم هذا الوافد ويُبْطِل سحره، ولها في الأستاذ مالك بن نبي - رحِمه الله - أُسوة حسنة، رغم أنَّه كان مفكِّرًا لا أديبًا2



يتميز الأدب الجزائري الحديث عن بقية آداب اللغة العربية في العالم العربي، بخاصية منفردة قلما نجدها، تجتمع في أدب العروبة قديماً وحديثاً، ويتمثل ذلك التمايز في جملة من الخصائص المركبة المعقدة، أنبتتها صيرورة تاريخية لا مناص منها, تدخلت في تشكيل الأدب الجزائري على مرّ العصور ثلاثة عناصر، العنصر المحلي، والعنصر العربي، والعنصر اللاتيني الفرنسي، وانصهرت العناصر الثلاثة لغة وحضارة عبر التاريخ، ثم لبست حلة عربية في مرحلة استرداد السيادة الوطنية في الربع الأخير من القرن العشرين.
التقت العناصر الثلاثة : . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لقاء الصراع والتفاعل والاندماج، وأثمرت في النهاية أدبا« جزائرياً» قبل أن يكون لاتينياً فرنسياً، وإن نطق باللاتينية والفرنسية، وقبل أن يكون عربياً أو وطنياً محليا، وإن نسج أحداثه وشخوصه من عبقرية الأرض والعروبة، وبناء على هذا التركيب العجيب، توحدت عناصر اللغة والفكر والبيئة والتاريخ والإنسان الجزائري، في صورة شديدة التعقيد والثراء، تولدت عنها صورة الأدب الجزائري المعاصر، الذي تعددت منابعه وتباينت أصوله ومشاربه, لكنها تصب جميعها في محيط أشمل، يتسع لكل الروافد, محيط الثورة الجزائرية، التي انصهرت فيها كل التيارات الفكرية واللغوية، وتخضبت فيها كل الكفوف الجزائرية بالدماء، مثلما تخضبت بالحناء في عرس الاستقلال ونيل الحرية1.
فعندما تندمج الروح الشرقية للجزائر بالثقافة الفرنسية، التي يستخدمها الكتاب الجزائريون، تكون النتيجة أدباً أصيلاً. فالأدب الجزائري مع ما له من خصائص عربية عديدة تميزه، يختلف عن الأقطار العربية، حيث لم يكن للاستعمار تأثير مشابه على التعليم والثقافة، بل أن التفكير الجزائري ذاته يعتبر مختلفا ومتبايناً، حيث إنه يشكل مزيجاً من العقلانية والمنطق والشاعرية. ولا يمكن لهذه العناصر المتناقضة، أن تكون جميعها وليدة ثقافة واحدة؛ فالجزائري يمتلك بطبيعته الروح الشاعرية والمتدينة والقدرية، وقد تحصل من ثقافة المستعمر على المنطق والعقلانية. أقبلت الرواية الجزائرية باللغة الفرنسية في العشرينات، تحمل في تضاعيفها هذا التاريخ المثقل بالتنوع والثراء وبالصراع والمقاومة، الأمر الذي يفسر غلبة طابع المقاومة على الإنتاج الروائي الجزائري.

الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية إشكالية اللغة والوطن: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يزخر تاريخ أدب العالم بأمثلة عديدة من الكتاب الذين كتبوا بلغة غير لغتهم الأصلية، إما طواعية منهم أو أنهم كانوا مضطرين لذلك لأسباب سياسية في بلادهم، فكتب بعضهم بالفرنسية وآخرون بالإنجليزية ولم يعتبروا نتيجة لذلك فرنسيين أو إنجليزا، ومن بين هؤلاء جبران خليل جبران وجورج شحاتة من لبنان، وادوارد سعيد وجبرا إبراهيم جبرا من فلسطين، وقوت القلوب وأندريه شديد من مصر وغيرهم.
شكلت الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية ظاهرة ثقافية ولغوية متميزة وأثارت بذلك حولها جدلاً كبيراًً بين النقاد والدارسين، منهم من عدها رواية عربية باعتبار مضامينها الفكرية والاجتماعية، والكثرة عدوها رواية جزائرية مكتوبة باللغة الفرنسية، باعتبار أن اللغة هي الوسيلة الوحيدة التي بها يكتسب الأدب هويته، ثم إن الكتابة الروائية بالفرنسية قد ساهمت في نمو الأدب الفرنسي، أكثر ما ساهمت في إخصاب الأدب العربي، ولذا فنحن حينها نقف عند هذه الظاهرة المتميزة، فإننا لا نفعل أكثر من إعطاء فكرة عن نشأة هذا الفن في ظروف حرجة في الجزائر أو في المغرب العربي عموماً.
ويذكر« جان ديجو» أنه يمكننا فيما بين سنة 1920 وسنة 1945، أن نعثر على محاولات قليلة في الكتابة الروائية، فقد ظهرت سنة 1925 أول محادثة لعبد القادر حاج حمو بعنوان« زهرة امرأة عامل الناجم» وفي هذه الرواية يقلد الكاتب تكنيك الرواية الطبيعية عند أميل زولا. وفي 1926 كتب سليمان بن إبراهيم بالاشتراك مع إتيان دينيه رواية بعنوان «راقصة أولاد نائل» وكذلك كتب عبد القادر فكري بالاشتراك مع روبير راندو حواراً قصصياً يتميز بطابعه السياسي بعنوان« رفاق الحديقة» سنة 1933. وفي سنة 1936 كتب محمد ولد الشيخ رواية بعنوان« مريم وسط النخيل»2.
إن هذه النصوص شكلت فيما بينها المتن الجزائري الأول، الذي تميز على المستوى الجمالي بطغيان سلطة «الدياليكتيك»، حيث إن الخيال الروائي والنسيج النصي، كانا يتأسسان على قاعدة« المقايسة» لنص كولونيالي، له تصوراته عن الإنسان الجزائري، تلك التصورات التي تنتجها الأيديولوجيا الكولونيالية، والتي ترى الإنسان العربي والإفريقي بعين« اكزوتيكية» إغرابية، تحقيرية ومتخوفة. إن وضعية هذه الموجة تشبه حالة النساخين لأساليب الكتابة الروائية، التي مارسها الكتاب الفرنسيون مثل: لويس براتراند، وروبير راندو، وغابرييل أود يسو، وإيزابيل إبهارد، وإيتيان دينيه، وبول بيلا، وإيمانويل روبلس، وغيرهم.
كانت كتابات هذه الموجة من الروائيين« الهالي» تتميز بنسخية واضحة، قدمت الإنسان الجزائري في صورته الفلكلورية السياحية الاستهلاكية. كما النص نفسه من حيث البناء الجمالي، لم يتخلص من كتابة مغامرات مبسطة وتافهة، وحكايات غرامية بين الأهالي و«الفرنسيات» و«المسلمات»، إذ تصور الإنسان الجزائري غريزيآ، وساذجآ طيباً، وخبيثاً دموياً.
لقد كانت هذه الموجة من الكتاب متوجهة إلى« الآخر»، تريد أن تشعره أولاً بأن الانتلجانسيا الأدبية الأهلية قادرة على الكتابة، التي هي ظاهرة حضارية، لكن الهموم والمشكلات المطروحة في النصوص، لا تتعدى أن يكون هذا« الجزائري» إطاراً وموضوعاً للتسلية والفلكلور، بمفهومه الاستهلاكي التحقيري. بدأت الحركة الروائية الجزائرية باللغة الفرنسية، تؤسس لنفسها متناً هو مرآة لذاتها، لطموح الإنسان في هذا الشمال الإفريقي، الذي بدأت الحداثة تهزه على لعلعة مدافع هتلر، وتؤسس الحركات الوطنية، وسقوط العشيرة والدم والقبيلة أمام المفاهيم المعاصرة.
كان على منتجي الرواية باللغة الفرنسية، خلق مسافة لتأمل التاريخ ونقد الذات، ونقد الآخر. فمن خلال هذه المسافة وفي ظل هذه المساحة، بدأ الإعلان عن نص روائي جديد يبشر بإنسان جديد وبعقل جديد، قلب موازين البطولة الروائية. فإذا كان الآخر« الفرنسي» هو المركز في الرواية الكولونالية،« الأنا» أي« الأهلي» هو الهامش. وفي هذا النص الجديد ولد إنسان جديد3.
ففي سنة 1942 أنهى الكاتب الجزائري علي الحمامي روايته بعنوان« إدريس» التي توصف على أنها كتاب محرر في شكل رواية. وهذه المحاولات من الناحية الفنية تعد أقرب إلى القصة الطويلة أو الحدوثة منها إلى الرواية الفنية. استطاع القراء منذ 1945 التعرف على قلة قليلة من الروائيين، الذين ارتادوا اللغة الفرنسية مباشرة، وعبروا عن واقع مجتمعهم. وقد عرفت هذه الفترة ولادة جديدة للقصص الجزائري، المكتوب باللغة الفرنسية؛ فنشرت مارجريت طاوس عميروش روايتها« الياقوتة السوداء» سنة 1947. ثم نشرت جميلة دباش روايتها« ليلى فتاة الجزائر». وفي سنة 1948 نشر مالك بن نبي روايته« لبيك3»
الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية
الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية يعتريه الغموض و التباس إلتباس لم يقتصر على مستوى أدب شمال إفريقيا فحسب بل تعداه إلى بعض الآداب الأوروبية، ككندا و الكيبك
1. أسباب الإزدواجية اللغوية
أسباب التي أدت إلى الإزدواجية اللغوية في الجزائر، و تمثلت في عدة عوامل منها
• العامل التاريخية
• العامل الثقافي
• العامل الإجتماعي
وهذه العوامل خلفتها بالدرجة الأولى المرحلة الإستدمارية التي حاولت طمس الشخصية الوطنية عن طريق محاربة اللغة العربية و أسهمت في خلق الإزدواجية اللغوية و تنميتها مما أوجد جيلا من الكتاب الجزائريين يكتبون بلسان و قلم أجنبيين بالضرورة لعدم انتباههم لهذه الظاهرة بسبب سيادة اللغة الفرنسية
والخضوع الواقع الثقافي للواقع السياسي و تطوره في ظروف مأسوية أدت حتما إلى تناقضات اجتماعية و فكرية أفرزت هي الأخرى بدورها أدوات تعبيرية أجنبية.
فتأخر الثقافة العربية في الجزائر، أوجد تخلفا في اللغة العربية، مما أوجد فجوة كبيرة في الحصول على أسلوب لغوي روائي مرن - في الأدب الجزائري بعامة، و القصصي بخاصة- فكان من البديهي أن يلجأ الكتاب الجزائريون إلى استخدام الأداة الأجنبية لملء الفراغ، فساهموا بطريقة غير مباشرة في تطور الفن الروائي نسبيا
يقول أحد الباحثين : "و قد ظل هؤلاء الكتاب في معظمهم معجبين كل الإعجاب بالحضارة الفرنسية، بوجه خاص، و الحضارة الغربية بوجه عام جاهلين بالتاريخ العربي غير ملمين بمعالم الحضارة الإسلامية، إذ أنى لهم أن يدركوا شيئا من ذلك و هم محرومون من الإلمام الكافي بلغتهم التي بواسطتها يطلعون على التراث العربي و كنوز حضارته الغنية بمعطياتها الإنسانية إطلاعا حقيقيا خاليا من الشوائب و الشرور4

2 الجنسية
في خضم تنامي الروح الوطنية، و تطورها تولد حقد ضد كل ما يمت إلى الإستعمار بصلة، فكان الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية في موقف الإتهام، فنظر إليه نظرة رفض و إنكار، و هذا على الرغم من تعبيره عن واقع وطني جزائري كما هو الحال بالنسبة لرواية "رصيف الأزهار لا يجيب " لمالك حداد، و "نوم العدل" لمولود معمري وقضية الهوية الأدبية ظلت تتنازعها أقلام و تحركها مذاهب عرقية مختلفة
اولا : رأي احمد منور في مسألة الهويَّة
يقول أحمد منور حينما عن مسألة هويَّة الادب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية هو إضافة للأدبين العربي الجزائري والفرنسي على السواء، ودم جديد أضاف لكليهما جِدَّة وحيوية وشباباً، وأعطاهما تجربة غنية وشديدة الثراء، أما هُويته فهي عربية بروح كتَّابها ومشاعرهم وبالموضوعات التي تدور حولها أعمالهم، بل حتى بأسلوب تعبيرهم الذي يستمدونه بشكل مقصود أو لاشعوريا من لغتهم وثقافتهم الأصلية، وهي من جهة أخرى هُويَّة فرنسية بحكم اللغة التي كُتب بها، ويكفي أن يُترجم هذا الأدب إلى اللغة العربية ليعود إلى أصله، ويكتسب هويته العربية الإسلامية كاملة5


ثالثا رأي الناقد الفرنسي كلود ماني
رأي الناقد الفرنسي كلود ماني في كون هذا الأدب يعيش عصر القصة الأمريكية باعتبار أن الظروف التي أفرزت أدبا قوميا في أمريكا - الذي كان محل إعتراف - هي الظروف نفسها التي يمر بها أدب شمال إفريقيا - المكتوب باللغة الفرنسية- كما أنه يحمل الشخصية و الروح الوطنيتين في دفاع هؤلاء الكتاب عن ماض و تقاليد جزائرية خاصة. و مما يزيد لهذا الرأي تأييدا، التصريح القائل بوجوب "الإعتراف بشخصية المغرب العربي، و لا شك أن الأدب الجديد في إفريقيا الشمالية يعطي سببا واضحا لهذا الإعتراف6

رابعا : راي عبد الله الركيبي
هو أن الادب الجزائري ادب ذو مضمون جزائري و واقع وطني ويعتبره أدب محلي وطن
خامسا: يرى الشاعر العربي عبد المعطي حجازي بعدم نسب الادب إلى اللغة التي كتب بها
آراء الكتاب الغربيين
أولا رأى " R. Queneau "
فيمكن الإطلاع على رأيه و بالتالي التماسه من خلال مصنفه "Histoire des littératures" في الجزء الثالث و هو جزء يحتوي على الأدب الفرنسي أو ما يعرف بـ"Les belles lettres" و الأدب الملحق "Littérature connexe" و الأدب الهامشي."Littératures marginales" إذ يخصص لأدب شمال إفريقيا جزءًا ضمن الأدب الملحق مما ينبئ بإنتمائية هذا الأدب إلى الأدب الفرنسي مادام الباحث عمل على تصنيفه ضمن الأدب الفرنسي، و إلحاقه به، غير أن ما إستدعى انتباهنا عند تفحصنا لكتاب تاريخ الآداب ج.3.
للباحث الفرنسي " R. Queneau " لاحظنا أن الباحث قد صنف أدب شمال إفريقيا – المكتوب باللغة الفرنسية – بما فيه الأدب الجزائري ضمن الأدب الملحق إلى جانب الأدب الهامشي، و يتكون الجزء الخاص بالأدب الملحق من 300 صفحة مع العلم أن المؤلف يحتوي على 2055 ص تقريبا فإذا كان أدب شمال إفريقيا – المكتوب بالفرنسية ينتسب إلى الأدب الفرنسي كما زعم المؤلف فلماذا صنفت هذه النصوص ضمن الأدب الملحق، و الأدب المشكوك في أدبيته كأدب الأطفال، و الرواية البوليسية في آخر المؤلف ؟ و لماذا لم يصنفها إلى جانب الأدب الفرنسي الخاص بـ "Les belles lettres" ؟7

ثانيا : " Charles Bonn"
عمل على تصنيف هذا الأدب المكتوب باللغة الفرنسية - على أنه مزدوج الهوية لكونه يحمل في جوفه الهوية الأوربية، في الوقت ذاته الذي يحمل فيه الهوية العربية و لكونه قد تغذى من الثقافتين، الغربية و العربية في آن معا، و لا يستطيع تحديد الأولى إلا بالثانية غير أن الحضور الأيديولوجي هو الذي يحتم عليه تحديد قوميته أو هويته العربية الجزائرية دون الإشارة إلى اللغة، و هذا التحديد لا يمكن أن يكون له أي معنى إلا في حضور العنصر الأجنبي المتمثل في اللغة و الثقافة العربية 8
ثالثا : " Jean Dejeux"
لا يخرج عن دائرة الكتاب المغاربة، على الرغم من تشبعه بالثقافة الغربية، و مما يزيد رأيه ثبوتا تصريحه بـ "سيظل الكاتب المغربي باللغة الفرنسية يمثل مغرب اليوم في ثقافته و تحولاته، و تساؤلاته على الرغم من كونه يحمل البصمة الأجنبية في كتاباته"
هكذا يدرج " Jean Dejeux " الأدب الجزائري وفق الأدب المغاربي معترفا بهويته المغاربية، المعبرة عن مضامينه الحاملة للروح العربية المغاربية، و التي لا يجب إغفالها في إثبات هويته.
رابعا "J. ARNAUD"
فتقف في الصف ذاته مع "C. BONN" في نظرتها إلى هذا الأدب، في إعتبارها أن الأدباء المغاربة - ذوي اللسان الأجنبي - بما أنهم يشتغلون في الحقل نفسه الذي نعمل، فهم أقرب منا إلى الكتاب العرب المعاصرين أمثال طه حسين، و توفيق الحكيم و الطيب صالح.
نتبين من خلال هذا التلميح أن الباحثة " ARNAUD" قد عملت على إدماج الأدب الجزائري ذي اللسان الأجنبي ضمن الأدب العربي المعاصر، و هذا لكون أن هؤلاء الأدباء - الجزائريين - يشبهون إلى حد كبير الأدباء العرب، يجمعهم في ذلك الطابع العربي بما في ذلك التقاليد الفنية العربية، و التي لا نلقى لها صدى عند الكتاب الأجانب، و بالتالي يظل عنصر اللغة و غيره من العناصر التاريخية و الطباعية غير كافية لإلحاق هذا الأدب بالأدب الأجنبي و تغريبه عن موطنه و أصالته.
إذا كانت آراء بعض الدارسين السابقين اتسمت بالتوفيقية إلى حد غير بعيد، فإن بعضهم يكاد يميل إلى آراء بعض الدارسين العرب في نظرتهم إلى هذه الروايات الجزائرية في قولهم إنها روايات عربية مترجمة إلى الفرنسية لأنها كانت تحمل بصدق آلام هذا الشعب فمن العيب ضرب هذه الإنجازات الأدبية التي أوصلت قضية الجزائر خارج حدود المحلية …9
3المقارنة بين الادب الجزائري المكتوب بالفرنسية والعربية في المستوى والعبقرية
يقول احمد منور لا يمكن القيام بمثل هذه المقارنة لأن الرواية الجزائرية بالعربية حديثة العهد لا يتجاوز تاريخها الأربعين عاما، أما نظيرتها بالفرنسية فتعود نماذجها الأولى إلى سنة ،1920 بمعنى أن كُتّابها أكثر تمرساً بهذا الفن، ثم أن الأدب الجزائري تميَّز في الفن الروائي دون غيره من الفنون الأدبية الأخرى، وكتَّابه يستمدون تقاليده من الرواية الفرنسية، وهي عريقة في هذا الفن، لكن هذا لا يعني أن الرواية بالعربية تحتاج إلى ستين عاما لكي تلحق بنظيرتها بالفرنسية، والنماذج الموجودة بين أيدينا اليوم تشهد على أن الكاتب العربي يستوعب بسرعة، ويختصر المراحل، ثم أن المسألة تتعلق من جهة أخرى بالروائي نفسه، فإذا كان ملهما، وصاحب عبقرية فذة فإنه يستطيع أن يتجاوز زمانه، بل ويتجاوز كبار الروائيين وأرسخهم قدما في الفن الروائي في أي مكان في العالم، وإذا رحل فلا أحد يستطيع تعويضه، والروائيون عموما يختلفون في المستوى والعبقرية10
5ابرز كتاب جزائريين أبدعوا في الكتابة باللغة الفرنسية
من كتاب جزائريين ألفوا باللغة الفرنسية، واخترتها لوزنها الكبير على الساحة الأدبية… آسيا جبّار، مالك حدّاد، مولود فرعون.
آسيا جبار، الكاتبة المقاومة (1936 – 2015
آسيا جبار: اولا
الكاتبة التي “تصل للعين وما تشربش” مثلما يقول المثل الجزائري، ترشحت عدة مرات لنيل جائزة نوبل للأدب، غير أنها بقيت بعيدة المنال عنها وغير ذلك فقد حازت على جائزة ألمانيا للسلام عام 2000. وانتخبت كأول شخصية عربية في الأكاديمية الفرنسية التي تضم نخبة الكتاب باللغة الفرنسية سنة 2005. وقد كانت كتاباتها تصب في خانة مناصرة قضايا المرأة والنضال من أجل الجزائر واستقلالها…
يقول إسماعيل مهنانة أستاذ الفلسفة بجامعة قسنطينة والباحث في الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية إن آسيا جبار تمثل “للثقافة الجزائرية ما تمثله جميلة بوحيرد للثورة التحريرية، فهي رمز عالٍ في سماء التاريخ، وأيقونة المرأة الجزائرية في نضالها الطويل من أجل الانعتاق والحرية والحضور في أبعاده العالمية والإنسانية
ويضيف مهنانة أن آسيا “أكثر من مجرد روائية حققت شهرة ساطعة.. أعتقد أنها مرجعية كبرى في الحركة النسوية الجزائرية، ومخرجة سينمائية لامعة، وأكاديمية مرموقة كأول امرأة عربية وأفريقية شرفتها الأكاديمية الفرنسية للعلوم بعضويتها، وهي أيضا نموذج لذلك النوع من المثقف الجزائري الذي فضل العيش في المنفى حين لاحظ علامات إفلاس الدولة الوطنية وإجهاضها عند بداية الاستقلال، المثقف الذي رفض التدجين أو الدخول في ألعاب السلطة وغواياتها التي أسقطت الكثير من المواهب الجزائرية في الماء، فهي تنتمي أكثر إلى مثقفي الشتات الجزائري أمثال محمد أركون وكاتب ياسين ومالك حداد”
وبدل اسمها الحقيقي ” فاطمة الزهراء إيمالايان” نشرت باسمها المستعار آسيا جبار أولى أعمالها الأدبية “العطش” وهي دون العشرين ثم توالى إنتاجها الغزير باللغة الفرنسية بعد الاستقلال لتكون المرأة والنضال نواته الأساسية، ترجمت أعمالها إلى أكثر من ثلاثين لغة باستثناء اللغة العربية.
كتكريم لهذه المبدعة تم العام الماضي استحداث جائزة أسيا جبار للأعمال الأدبية الموجهة لفئة الشباب الذين يكتبون باللغة العربية والأمازيغية والفرنسية تقدم خلال صالون الجزائر الدولي للكتاب11
مالك حداد، شهيد العربية (1927 – 1978
2 مالك حداد
الوسيم صاحب العبارة الشهيرة ” الفرنسية منفاي ولذا قررت أن أصمت” ولما كان يشعر كاتب مثل مالك حداد بالاختناق من حروف لُقِّنت له إجباريا، ولما وجد رصيده باللغة العربية لا يستطيع أن يترجم ما في جعبته الممتلئة قرر أن يصمت… فعانى السجن واليتم، السجن الذي فرضه عليه المستعمر بتجريده من لغته الأم، واليتم كونه يتيم القرّاء..
“ملك أبيض” في تقديمها لديوان زوجها “سليمان العيسى” صديق قضية الثورة الجزائرية “صلاة لأرض الثورة” تطرقت لمعاناة الكاتب مالك حداد مع الفرنسية وصعوبة التواصل مع أبناء جلدته بلغته الأم، ومنهم أبناء دمشق حين ألقى فيهم محاضرته باللغة الفرنسية والثورة الجزائرية مشتعلة آنذاك، “كانوا يقرؤون كلماته في وجهه ويقاطعونه بالتصفيق، فلا يملك إلا أن تخضل عيناه بالدموع ويعلق: إن مأساتي تتجلى الآن بشكل أعمق إني أقف أمامكم، لا أعرف كيف نتفاهم!”
وقد كان الكاتب دائم الثورة على وضعه هذا ودائم السخط على ذلك الحاجز الذي كان الفيصل بينه وبين بيئته
” اللغة الفرنسية حاجز بيني وبين وطني أشد وأقوى من حاجز البحر المتوسط وأنا عاجز عن أن أعبر بالعربية عما أشعر به إن الفرنسية لمنفاي”
انتحر مالك حداد أدبيا حين قرر التوقف عن الكتابة، لأنه رفض الكتابة بحروف فرنسية بعد استقلال الجزائر ليخرج من سجن ويدخل في سجن أكبر من سابقه، كل ذلك وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، لكن قبل هذا كله كان قد خلف إرثا أدبيا لا يستهان به. حيث ترجمت أغلب أعماله إلى اللغة العربية لكن بترجمة لا تليق بمستواه وكانت رداءتها واضحة جليا في الكثير من الأعمال، و هناك أعمال أخرى لحدّاد بالفرنسية لم تنشر ولم تترجم وبقيت دفينة.
من أهم أعماله هذا الكاتب المبدع: التلميذ والدرس، ليس في رصيف الأزهار من يجيب، الأصفار تدور في الفراغ، سأهبك غزالة، الشقاء في خطر،
يعد الادب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية بصفة عامة ‘ و الرواية بصفة خاصة أحد نتائج الاستعمار الفرنسي و دلك عن طريق اتصال الثقافة الجزائرية بالثقافة الفرنسية فقد اتخد الأدباء اللغة الفرنسية وسيلة للتعبير عن الأوضاع المتردية للمجتمع الجزائري من جراء الاحتلال حين لم يكن في حوزتهم أداة غيرها يعتبر مولود فرعون أحد النمادج البارزة في هدا المجال التي آمنت بالثورة و رفضت واقع الجزائر السياسي و التقافي و الاجتماعي ‘ و لم تكن كتابته بلغة العدو إلا نتيجة حتمية لواقع لم تكن لهم يد فيه ‘ و على الرغم من دلك فإن هؤلاء الكتاب قد غمسوا أقلامهم في دماء قلوبهم لإعطاء صورة حية صادقة عن اللغة تسمع صوتهم للعالم12
مولود فرعون، ابن الفقير المناضل (1913 – 1962
3 مولود فرعون
ألهمت حياة مولود فرعون الكتاب خوسي ليزنيني حيث تطرق في مؤلفه “مولود فرعون الكاتب المناضل” إلى حياة هذا الكاتب الفذ من خلال سرد قصة حياته واستعراض مذكرات عن الكاتب ورسائل شخصية له
ابن الفقير هذا الذي لم يمنعه واقعه من التعلم، ولعل روايته الشهير “ابن الفقير” التي هي أقرب إلى السيرة الذاتية خير ما أمكنه أن يعبر به من خلالها عن نفسه وعن الوضع الذي عاشه في كنف أسرة فقيرة ومنطقة جبلية نائية في بلاد القبائل الكبرى، والأنكى تحت الاستعمار الفرنسي الغاشم.
وقد ركز فرعون في عمله الشهير على وضع منطقة القبائل تحت المجهر، حيث نقل عاداتها وتقاليدها ومآسيها بأوصاف أدبية متناهية الدقة، وعلى عكس مالك حداد فإن مولود فرعون لم يسمح لعجزه أمام اللغة العربية أن يكبّل نضاله، فقد استمر قلمه يكتب بحروف فرنسية لأجل قضيته الأولى والأخيرة “الجزائر”
من منصب التعليم إلى الانخراط في الصف النقابي كافح فرعون ضد التمييز العنصري الذي كان يعاني منه أبناء جلدته، إلى أن اغتالته يد منظمة الجيش السري الفرنسي. ليرحل مخلفا للقارئ الجزائري وغير الجزائري مجموعة كبيرة من الأعمال الأدبية
من بين أعمال الكاتب الشهيرة إضافة إلى ابن الفقير نجد له: الدروب الوعرة، عيد الميلاد، عيد الميلاد، ديوان رسائل إلى الأصدقاء وهذا الأخير فيه جزء من مراسلاته مع أساتذة وأدباء أمثال إيمانويل روبليس وألبير كامي13


مولود فرعون... وعي الذات والآخر . . . . . . .

وهكذا تضاعفت المحاولات باللغة الفرنسية في فترة الخمسينات، فنشر مولود فرعون عام 1950« ابن الفقير»، وفي سنة 1953 ظهرت له رواية« الأرض والدم»، وفي عام 1957«الدروب الصاعدة»، وصددت يومياته سنة 1969 في كتاب مستقل يحمل عنوان «مولود فرعون: رسائل إلى الأصدقاء»، وأخيراً نشرت روايته« الذكرى» عام 1972. ويعد فرعون أحد أكبر كتاب المغرب العربي ذوي التعبير الفرنسي شهرة، لقد كانت «ابن الفقير» روايته الأولى ولا تزال، أول عمل أدبي يبدأ به كل تلميذ جزائري اطلاعه على الأدب الوطني. وكان فرعون يلفت انتباه مواطنيه كلما أصدر كتاباً جديداً وكان آنذاك معلماً قروياً، انتقل للعمل في العاصمة قبيل هلاكه المأساوي على يدي غلاة الاستعمار الحانقين. وقد حاز إبداعه شيئاً فشيئاً على شهرة واسعة، ليس في وطنه فحسب بل في فرنسا كذلك، وترك موت الكاتب أثراً فاجعاً في قلوب كل الناس من ذوي الإرادة الطيبة. ساهم مولود فرعون كثيراً في دعم القضية الوطنية، وإيقاظ الوعي للشعب الجزائري، الذي هب لمعركته الخيرة والحاسمة ضد الاستعمار
إثر اغتيال مولود فرعون، صرح جان عميروش في استجواب له، لقد كانت جريمة المغتال الرئيسية هي رغبته في رؤية الإنسان سعيداً، يحمل باعتزاز اسمه الخاص، وسعيداً بتمتعه بوطنه، ومؤمناً بمستقبله ويمكن كل ابن فقير من أن يقرر مصيره4.
ويكمن في هذه الكلمات الثلاث (الحرية، الرسم، الوطن) مغزى وهدف إبداع كتاب شمال إفريقيا. الذين فرعون ينتمي إلى جيلهم. اغتالته المنظمة الإرهابية السرية، التي كانت تعمل من أجل جزائر فرنسية في حي الأبيار، وهكذا انتهت الحرب من أجل الاستقلال، التي دامت سبع سنوات، بشكل مأساوي بالنسبة لفرعون، قبل ثلاثة أيام من توقيع اتفاقية أيفيان، ودفن يوم 18 مارس 1962.
ويذكر إيمانويل روبلس، وهو كاتب من الجزائر من أصل فرنسي، كان صديقاً لفرعون ودرس معه في معهد بوزريعة، كما قدم له دعماً ومساعدة ثمينتين، حين أجبره على «الشروع في الكتابة»، يذكر أن فرعون لم يكن إنساناً طيباً وهادئاً فحسب، بل أهم من ذلك مثقفاً« كان يقرأ أكثر منا جميعاً، وكان يلتهم الكتب ببساطة، كان يضمر الإجلال للكتاب الروس، ويحب فرنسيي القرن الثامن عشر، ثم بعد ذلك كشفت له الأمريكيين»5.
وما يشهده على أن الكتاب الروس، كانوا من ضمن من أحبهم فرعون، كونه استهل أول تجربة أدبية له، وهي رواية« ابن الفقير» بكلمات انطون تشيكوف« سنعمل للآخرين الآن، وفي شيخوختنا من دون أن نعرف سبباً للراحة، وحينما تحل ساعتنا سنموت بخنوع، وسنقول هنالك في لحدنا بأننا تعذبنا وبكينا وتجرعنا المرارة، حينذاك سيهبنا الله من لدنه الرحمة». لقد كانت جمل تشيخوف، مفعمة بمعنى واقعي بالنسبة لفرعون، الذي كان يعي هكذا بالضبط مغزى وغاية إبداعه وعمله الصعب والنبيل لخير وطنه.
كتب مولود فرعون في« ابن الفقير»، مبيناً كيف يتكون« الطبع الحقيقي» للرجل القبائلي، حيث يولد الطفل في هذه المنطقة، من أجل المعركة في سبيل الحياة. وتشكل فلسفة وحكمة الحياة وعاداتها ومعتقداتها وشعائرها القديمة ، ذلك العالم الخاص والأصيل الذي تمثله قرية تيزي، حيث شب ابن الفقير« فورلو»، وهي في الوقت ذاته ذلك العالم النموذجي لقرية قبائلية نموذجية. وهذا العالم لا يزال في الرواية يحيا أساساً وفق سنن موروثة من الماضي البعيد، حيث تسود أخلاق وأنماط حياة الأجداد، وحيث لا يزال كل واحد يؤمن بالقدر. غير أن الشكل الثاني من الصراع هو صراع من أجل إجادة لغة غريبة وثقافة غريبة، والدراسة في ثانوية فرنسية حيث يشعر دائماً بنفسه غريباً، ويشعر بالخوف من الطرد بسبب إخفاق عارض ويصمم« فورلو» على لقاء هذا العالم الذي يجهله، وهذه الحياة الغريبة عنه:« وحدي، وحدي في هذه المعركة الرهيبة التي لا ترحم...»6.
تعتبر رواية ابن الفقير إلى حد بعيد سيرة ذاتية، تصف طفولة الكاتب ومراهقته، كما تغطي الرواية السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، لتصل نهاية العشرينات.
وتناول فرعون في رواية« الأرض والدم» أول مرحلة من عملية هجرة شمال أفريقيا للعمل بسبب الوضع الشاق للعمال والفلاحين في المستعمرات، التي بدأت بشكل مكثف من العشرية الأولى من القرن العشرين. وإذا كانت الهجرة الاضطرارية مرتبطة في البداية بالمعاناة الشاقة لفراق الأرض الأصيلة، فإن الأمر أصبح شيئاً فشيئاً عادياً، أملاً في الكسب السهل في فرنسا. وحدث أن العودة إلى القرية كانت مرفوقة بصدمة نفسية, فقد كان الإحساس بالفرق بين العالم المهجور –عالم الغرب- والعالم التقليدي- الوطن- وهكذا يعود عامر في رواية« الأرض والدم» إلى موطنه رفقة زوجته الفرنسية الشابة، بعد أن اشتغل سنوات عدة في فرنسا، وجرب كل أنواع الحرمان، التي كانت من نصيب المغتربين في أوروبا، لكنه لا يستطيع مدة طويلة، أن يتأقلم مع حياة قريته الصغيرة، التي بدت له متخلفة ومتوحشة، واحتاج إلى عامين كي يصبح قبائلياً من جديد، وكأنه لم ير الكثير في حياته، ولم تحنكه الصعاب، ولم يواجه الموت7.
تقع أحداث الأرض والدم في الفترة الواقعة ما بين الحربين العالميتين، وتنتهي في عام 1930، ويفاجأ عامر بالحرب حالما يصل إلى فرنسا.
ونشعر بأنفاس ريح التغيير، وريح التاريخ، ابتداء من الصفحات الأولى في رواية« الدروب الصاعدة»، التي تبرز ذلك العالم المنغلق، الذي لم يمسسه الزمن، وهو ينسف تحت هجوم العصر، وللطبيعة الشاقة والمأساوية أحياناً لتأثير هذا الصدام بين الجديد والقديم في وعي الناس وسلوكهم. والرواية دراما عاطفية، حيث نجد مثقفاً قروياً، منعزلا في قرية قبائلية نائية، ومنفصلاً عن العالم، وبعيداً عن التاريخ، نجده يكتب مذكرات لا حاجة لأحد بها في وقت يقوم فيه جميع المثقفين الجزائريين بالثورة، والرواية تصور حيرة وارتباك جيل نضج. ويستمر فرعون في الدروب الصاعدة، يصور عالم القيم القديمة المتفجر، في تغذية الأمل في الأشكال الإنسانية للتخلص من العبودية8.
وتعتبر الدروب الصاعدة امتداداً للرواية الثانية، وإن كان هناك انقطاع في الوقت، حيث أن يوميات عامر ترجع في تاريخها إلى الخمسينات، وتعتبر بمثابة سنوات اليقظة بالنسبة للجزائريين، أي بداية الثورة ونهاية صدام الحضارات، وكذلك بمثابة بوتقة تذوب فيها خيبة أمل الإنسان الجزائري وسخطه وعدم رضاه.
وسيظل فرعون ممثلاً نموذجياً لجيله، جمع فعلاً في ذاته« عالمين وثقافتين» ومثالاً للفنان المخلص والشجاع، الذي نجد في إبداعه أو محاولة جدية لتصوير حياة وطنه، وشعبه بموضوعية، وطرح المشكلات والمتناقضات التي زخرت بها مرحلة يقظة الوعي الوطني للجزائريين تلك المرحلة المرتبطة بالكفاح من أجل الاستقلال14
6 أبرز الفروق بين أدب جيل محمد ديب وكاتب ياسين وجيل ياسمينة خضراء ورشيد ميموني
برأيكم، ما هي أبرز الفروق بين أدب جيل محمد ديب وكاتب ياسين وجيل ياسمينة خضراء ورشيد ميموني؟
لكل جيل اهتماماته، ومواضيعه، وبطبيعة الحال كان الأوائل يكتبون عن زمانهم أيام الاستعمار، أما المتأخرون فقد صاروا يكتبون عما أفرزته مرحلة ما بعد الاستقلال، وقد استحوذت عشرية الدم والإرهاب في سنوات التسعينيات على اهتمام كل الروائيين، سواء من يكتب منهم بالعربية أو الفرنسية، لكن أعود إلى القول بأن لكل كاتب موهبته وشخصيته وتميزه، وما يميز الكاتب ليس فيما يشترك فيه مع جيله من الكتَّاب أو مع من سبقوه ولكن فيما يختلف فيه عنهم، وقد تميز من روائيي الخمسينيات كاتب ياسين،على سبيل المثال، بتمرده على كل شيء، بما في ذلك قواعد الكتابة وأساليب التعبير التي أدهشت الفرنسيين، وتميَّز الراحل رشيد ميموني من جيل الاستقلال بنقده اللاذع والشجاع للنظام، وبسخريته المُرَّة التي فاقت كل الحدود15

مولود معمري . . . الحنين المفقود ونهوض المنسي

وفي سنة 1952 نشر مولود معمري« الهضبة المنسية» كما نشر رواية« سبات العادل». وأعمال معمري تسير في خط متواز مع تطور الوقائع السياسية في الجزائر، فرواية « الهضبة المنسية»، تبتدئ وقائعها في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، لتصور الوضع في الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي، ويعبر الكاتب عن مآسي الشعب وأحزانه وبؤسه. إنها فترة اليأس والقنوط بدون إمكانية للعثور على حل، لأن الاستعمار لا يقدم حلولاً، وأيا كان الأمر، فإن بوادر الأمل بدأت تلوح، كنتيجة للتغيرات التي طرأت على الوضع السياسي في الجزائر9.
أما رواية«سبات العادل»، فتأخذ البطل ارزقي إلى داخل المجتمع الغربي، وهو مشبع بالآمال والتوقعات العظام، بيد إنه سرعان ما يرفض، فيخرج من التجربة وهو يشعر بالمرارة، وكأنه يسير في الفراغ. يعتبر ارزقي واحداً من الذين داروا حول الحلقة في جميع مراحلها؛ فقد بدأت رحلته في المدرسة الفرنسية في قرية جزائرية، وفي هذه المدرسة تعلم كلمات مثل: المساواة، العدالة، الإنسانية. وكانت حياة المدرسة بالنسبة لارزقي تجربة مريرة، ولكنه لم يعترف بما قاساه آنذاك إلا بعد مرور فترة طويلة عليها. فقد لاقى صعوبات بالغة في تعلم مواضيع عسيرة بلغة أجنبية، بل والأكثر من هذا فقد كان منبوذاً10.
ولكن اعتزازه بما حققه من نجاح في مدرسته دعم جهوده الضخمة، وساعده على تخطي التجربة، وكان هناك أيضاً إيمانه بالعلوم التي تعلمها، فقد استوعبها جيداً لدرجة ملكت عليه كل مشاعره وكل شيء حوله، وقد أرد أن يعرف شعبه أفكاره، ولا يتردد بأن يبوح بما عنده في أول فرصة تتاح له. ويحدد مواقف ارزقي مرحلة جديدة من العلاقة بين الأب والابن، بحيث إن التعدي على سلطة الوالد، تعتبر بمثابة الخطوة الأولى الهامة، نحو إضعاف الروابط العائلية، ومن ثم تفكك المجتمع الجزائري.
ونشر رواية« العفيون والعصا» سنة 1965، التي تمثل ظاهرة بالغة الأهمية في الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية في عهد الاستقلال، وهي أول نتاج أدبي عن الثورة الجزائرية، ألفه كاتب ظل وفياً لمبادئ إبداعه الباكر قبل الحرب، وليس صدفة أن ينشر معمري روايته هذه بعد نهاية المرحلة التاريخية التي يصفها، ذلك أن الكاتب يفضل اتجاهات الواقع، التي تحددت وبرزت بوضوح وليس تلك التي ما زالت في طور الارتسام. ومع ذلك فلا ريب في جدة الموضوع الذي اختاره، ولا يتخلى الكاتب عن السرد التوسعي في الأغلب، ويسعى إلى بحث وضع الأمة، مصوراً وعي الفئات الاجتماعية، الوعي الناقد،الذي يجسده البطل الرئيسي الطبيب البشير، والوعي الدوغمائي.
وما يثير الاهتمام هو أن معمري، يصور البطل رمضان، الذي غادر في طفولته مسقط رأسه، وراح يدرس الكتب بلا انقطاع في خلوة، عند عمه الذي يقطن المدينة، أين أصابه السل، يصوره فاقداً لطبقته، ومضيعاً لروابطه بالأرضية الطبيعية. ولعل هذا هو سبب فراغه الروحي المتميز، وقد أشار الكاتب إلى أن رمضان« كان يحب أن يماثل نفسه بمن يسميهم الشعب» ملمحاً بذلك إلى الطابع الاصطلاحي لهذا المفهوم على لسن بطله»نحن غير متعلمين»، هكذا سمى رمضان نفسه في رسالة إلى بشير11.
من المنطقي أن تثقل الحرية كاهل أبطال معمري، وتبدو التهدئة النفسية لرمضان حين زج به في المعتقل. ويستخدم معمري مراراً في روايته أسلوب دحض الرأي الذي يتشكل في البداية عن هذه الشخصية، أو تلك في محاربته لأية أحكام قبلية. وهكذا فمن بين شخصيتين متعارضتين: العادل رمضان، وبشير الذي يظهر في البداية أنانياً مخنثاً، يتضح أن البطل الإيجابي هو بشير بالذات، وعلى امتداد تطور الرواية، تبرز الكثير من شخوص المؤلف أفضل مما كنا نتوقع. وتكمل عضوباً الخلفية الشعبية للرواية، التي تشكلها صورة حياة الجماعة الفلاحية في عهد الهزات الرهيبة، صورة البطل المركزي بشير، الذي يبحث عن الحقيقة لخير المستقبل الوطني. إن تصوير الارتباط العميق لشخصية تقدمية مفكرة بالكل الشعبي في رواية« العفيون والعصا» يحدد المغزى الاجتماعي لهذا الأثر الأدبي البارز. فالرواية تعنى بحرب الاستقلال ذاتها؛ بمحاسنها ورعبها بأصدقائها وأعدائها16.
ونشر محمد ديب« الدار الكبيرة» سنة 1952، وفي سنة 1955 أضاف لها الجزء الثاني من الثلاثية« الحريق». ويعد محمد ديب رائداً للرواية الجزائرية الحديثة المكتوبة باللغة الفرنسية، امتصت هموم الإنسان الجزائري، الذي كان الشعر والأدب الشفهي عامة هو زاده الروحي الرئيسي. وتأتي ثلاثيته في مقدمة الأعمال التي تؤرخ لمولد الرواية الجزائرية، وكما مثلت سيرة شخصية لصاحبها، مثلت« مذكرات الشعب الجزائري» هكذا وصفها أراجون، أو هي الجزائر نفسها كما قال معظم النقاد، فهي تتناول حياة العمال في المدينة، وحياة الفلاحين في القرية، وتنتهي إلى« أن النار قد بدأت ولن تتوقف أبداً. إنها تستمر مشتعلة ببطء وبعماء إلى أن تعم ألسنتها الدموية البلاد كلها بحرارتها المدمرة».
وبصورة عامة لا تخرج الدار الكبيرة عن أطر تقاليد الكتابة عن العادات التي يمثلها معمري وفرعون أحسن تمثيل، وقد صور ديب في هذه الرواية الحياة اليومية لحي في المدينة، من خلال إدراك طفل يكون العالم بالنسبة إليه جديداً وممتعاً، برغم جوانب الحياة المأساوية؛ من بؤس وجوع وعسف السلطات الاستعمارية، كما أن أسلوب الرواية أكثر حداثة من أسلوب فرعون ومعمري، فهو وجيز ومعبر، وفي الوقت نفسه فإنه مشبع بالمشاهد المطولة، تلقي بعض الظلال بشكل غير مفيد، على مقاطع تمثل نموذجاً رائعاً في الوضوح، وتتعاقب شاعرية خفيفة مع نزعة طبيعية. ويخلف الإحساس باليأس والخوف الصوفي الإدراك المادي الجلي للعالم. ويتابع ديب في الثلاثية رصد سيرة بطله« عمر»، ويقرر أن يضيف إلى قصته المتواضعة معلومات اجتماعية مستفيضة، عن طريق التصريح وليس التعبير، ملمحاً بذلك إلى المعارك الطبقية القادمة، وإلى دور العمال البارز، وواعداً بتحولات اجتماعية قريبة. ويفقد بوضوح ديب، الذي وقع تحت سطوة القالب الذي استعاره من الروائيين الفرنسيين المعاصرين، اهتمامه بالبطل نفسه، وتتحول قصة حياة عمر وعلى الأخص في النول إلى تراكم لتفاصيل صغيرة وشاحبة، ينضفر منها نسيج الرواية الطويل وغير المعبر. ولم يتح لعمر رغم أنه كبر أن يصبح راشداً فيفقد تدريجياً ليس السمات الشخصية لطبعه فحسب، لكن كذلك كل ميزاته الفردية. حقاً إن فقدان البطل في« الحريق» يعوض لحد ما، بتصوير شاعري لرحاب الريف الجزائري وسكانه، الذين يحملون فكرة ضرورة الكفاح من أجل مستقبل أفضل.
تتوقف الثلاثية عند أعتاب« النبوءة» بما سيكون، تاركة ما كان إلى روايته، التي صدرت عام 1959 تحت عنوان« صيف إفريقي» وتتميز هذه بإحكام فني شديد، يتجاوز به ديب حدود الزمان والمكان، يواكب الثورة الجزائرية التي اندلعت، ويعمد إلى اختيار نماذجه من« الجزائر» كلها؛ يختار التاجر وصاحب الأرض والموظف الصغير، والطالبة والخادمة والفلاح، يختار أيضاً الثوري والخائن والمتردد، ويختار« فرنسا» بكل ما يمثل استعمارها من قيم تخون الثورة الفرنسية يختار لها وجهها الهمجي المتوحش، الذي يعبث بكل قيمة. لا يعمد ديب في بناء «صيفه الإفريقي» إلى العقدة الكلاسيكية بل ينسج بناءه الفني من الشخصيات.
لقد كانت رواية« من يذكر البحر» 1962 انقلاباً جمالياً جزائرياً، تولد عن خروج ديب من عباءة بلزاك من أجل صياغة طرق كتابة رؤيوية جديدة، قائمة على الحكم كبديل للواقعية والتوثيقية، كان دخول الرواية ورشة الأحلام مع ديب، أنقذ المتن الجزائري بالفرنسية من إيديولوجية« كالوظيفة» وأدخل الروائيين في مغامرة مع العالم والكتابة. تدخل ديب بجرأة إشكالية حديثة. وتسحق هنا تماماً المقولات الكلاسيكية للتمثيل الروائي، التي كانت سائدة في الثلاثية: زمن خطي ذو اتجاه واحد يرسم منحى مصير، شخصيات تتوافق مع نماذج اجتماعية، وصف ذو وظيفة درامية وقيمة أخلاقية، حبكة تنظم القصة، رؤية موحدة للمؤلف –الرواية الكلي- المعلم. إن الوظيفة الاتصالية التي يقيمها الراوي من خلال نصه، مع المتلقي المفترض تغير شكلها ووظيفتها، فمن وظيفة موجهة جوهرياً إلى القارئ قصد التأثير عليه، تكتفي من الآن فصاعداً بأن تقترح عليه مشاركة في البحث عن معنى.
وفعلاً فتجربة الحدود التي يخوضها المؤلف، يخدمها السحري على طريقة كافكا، الذي يعالج اللامعقول كجزء من الحياة، حياة كابوسية، وتغزو الكثير من أساليب العجيب والسحري هذه القصة الخيالية، التي تنبذ الواقعية وتبعد المرجع الاجتماعي الرمزي ، ما هو إلا نتيجة لعمل نصي يأخذ المعنى المجازي بكل حرفيته، ويعرف تطورات غير متوقعة، لكنها تخضع لمنطق معين. رواية« من ذا يذكر البحر» وعن طريق نفس عملية استغلال استعارة التوحش بالمعنى الحرفي، شخصيات أسطورية تمثل غزاة المدينة القديمة. ومنذ ذلك الوقت فمن الطبيعي أن يصبح الصراع القائم بين حماة البناءات الجديدة وسكان المدينة القديمة ضرباً من السحر، يحتفل به سرياً من خلال طقوس مؤذية، صحبة جوقة من الكلاب والانفجارات المرعبة
إنها إرادة الاكتشاف وانتزاع الفنان لمكانته الخاصة في جوقة الأدب العالمي، التي تدفع هذه الانعطافة في جماليات محمد ديب. ولهذا السبب يرافق هذه المحاولة الجديدة عمل فكري حول الأدب، وتشاطر بذلك اهتمامات موجة الرواية الجديدة، التي كانت تحتل آنذاك مقدمة الساحة الأدبية في فرنسا. لكن لا ينبغي الخلط بين مقاصد المؤلف وشكلانية معاصريه الفرنسيين، فهو يعبر قصداً عن رؤية للعالم مختلفة في جوهرها عن رؤيتهم، ومن وجهة النظر هذه أعلن ديب عن انتقاله إلى رؤية جديدة للعالم في ذيل روايته« من يذكر البحر»، وقد صيغ وداع الماضي في هذه الرواية أكثر صراحة، ويتخلى عن المنهج الذي يسمى واقعياً، ويعلن سطحيته وعجزه عن إنارة الهوة المظلمة بأضواء كاشفة، كما يتخلى عن تثبيت الأحداث، وتصوير الحياة المحسوسة والصدق، ويعتبر أن مهمة الفنان هي نقل الهلوسات والنزوات الباطنية، التي تعبر عن وجهة نظره الحقيقي للإنسان، وتميز وضعه في العالم المعاصر.
فالرواية في« من يذكر البحر» يبرز أكثر من قلق ويستشف أكثر من خطر، يترصد مستقبلنا عن طريق البحث عن الحقيقة التي تميزه، ويحدد البحث الذي يقترحه النص مثلاً في مجالين مفضلين، هما التصوف وانعتاق المرأة، وكذا الصراعات الإيديولوجية في جزائر ما بعد الاستقلال. تريد« الرواية الجديدة» لمحمد ديب بالضبط تجاوز حدود تقاليد« الواقعية» وهذا يقود المؤلف قبل أن يحكم طلقته، إلى تفضيل اللامعقول أساساً، وإلى إنتاج رؤية شبه فصامية للواقع المؤسس على تفرغ ثنائي أساسي بين الإنسان والأشياء. والواقع أن الجنون الذي يتحكم في العالم في زمن الحرب، يمكن أن يضفي مصداقية معينة على رؤية كهذه. فبينما تستسلم المدينة ظاهرياً للعمى العبثي لعنف بلا رحمة، يظل الأبطال الإيجابيون يتمتعون بصحو يأتيهم ليس من فهم عقلاني للأحداث، لكن من معرفة خفية نقلت عبر مسالك غامضة، تظهر في أثناء احتفالات يتعذر شرحها. ويقيم هذا الرمز، الذي يعده العمل الأدبي جوهرياً، صلة سحرية بالعالم الذي يربط من جديد، وراء العقلانية اللائكية للمثقف، الذي كونته المدرسة الفرنسية بالروحانية، التي تسبح فيها السلوكيات الشعبية لمواطنيه، ومن هذا الجانب الصوفي الذي يستغله عمل الكتابة, وهذا الغموض في المعنى واستعصاء فهمه في المجال الديني، يلتقي بنفس المفترض في المجال الجمالي، ويساهم في دعم العالم الأسطوري، الذي يقترحه عمل محمد ديب الأدبي كحاجة عن التساؤل السياسي والوجودي.
ويصبح من الآن فصاعداً هذا الانتباه إلى الظاهرة الصوفية والباطنية بعداً جوهرياً لنص محمد ديب الروائي. وفي« رقصة الملك» يتحول إلى عنصر للتأمل، يعيد رضوان بواسطته تشكيل وجوده المهدد بالانفصال والانطواء ويتطور في رواية« الله في بلاد البربر»، حيث تطرح« خصوصية» الشعب الجزائري. والواقع أنه ليس من المهم بالدرجة الأولى أن يكون تمفصل السياسي والأسطوري مثلاً في مؤلفات محمد ديب، صحيحاً من وجهة نظر التحليل التاريخي الدقيق للظاهرة، ما دام الأمر يتعلق برؤية أصيلة متوقفة على مكانة محمد ديب الخاصة جداً، في المجتمع كفرد وكاتب في آن واحد. ومن هذه المكانة يعالج محمد ديب المسألة النسوية، التي مثلها مثل المسألة الدينية، لا يمكن لأي نقاش أو تفكير في المجتمع الجزائري المعاصر أن يتفاداها. وكان من اللازم انتظار« رقصة الملك» للعثور على بطلة: إنها عرفية المجاهدة القديمة في حرب التحرير، التي تؤكد نفسها على ساحة النص كموضوع فردي مستقل، وتكون صورتها سليمة من أي ابتذال. وهي نظرة تجمع بين التسامي بالمرأة وبغضها. وعرفية مثلها مثل نفيسة، التي تنتمي على الأقل إلى عالم خيالي، فهي مصداقية ليس باقترابها من الحقيقة، لكن بحقيقتها كتجسيد لتطلعات الانعتاق النسوي.
تأثر محمد ديب بعيد بالكاتبة« فرجينا وولف» ولا سيما بكتابيها« الأمواج، وإلى المنارة» وأن وسيلة تيار الوعي لهذه الكاتبة هي التي تركت صداها العميق في روايته «رقصة الملك» فنرى شخصيات تلك الرواية تثير التساؤلات حول سخافة الحياة، وتتأمل مرور الزمن معبرة عن رغبتها بإيقافه، مثلما تفعل شخصيات رواية«الأمواج» ورضوان هو الشخص الذي يجسد هذا الموقف من خلال إثارته ذكرى حياته الماضية. وتساؤلاته حول المستقبل. وقد تعرف ديب قبل تأثره بوولف على الكتاب الفرنسيين، وكان شعراؤه المفضلون«مالارميه وفاليري»، ومنهما استقى أسلوباً نقياً ميز شعره ورواياته.
وهذه المرحلة الثانية من إنتاج محمد ديب الروائي، هي إذن مرحلة يوسع فيها التماثل من الواقع، المبعد من خلال مزج الاصطلاحات الرمزية والأسطورية والواقعية، مشروع شهادته المؤرخة في الثلاثية، إلى مقصد أكثر شمولية وغموض. وفي الوقت ذاته يتمسك البحث الأدبي لمحمد ديب، بشحذ أداة روائية جديدة قادرة على ترقية تعبير متحرر من المتطلبات البلاغية واستغلال الوظيفة الخيالية. وهو المشروع الذي يستمر في« ركض على الضفة المهجورة» في شكل بحث سوريالي، متعمد يخلق ميثيولوجية شخصية قوية، تتخذ من خلال الإحاطة بالواقع صيغة ذاتية للغاية، ومنها استئناف وتطوير مشروعه الروائي بعد الاستقلال. يبرز كقطيعة مع المرجعية الاجتماعية التاريخية، وتجريب الأدب في بعده الخيالي الخالص.
إن القاسم المشترك بين روايات ديب الأخيرة هو البطولة المشتركة، وبعض السمات الشاعرية المتشابهة، وقبل كل شيء المونولوج، أو الحوارث الداخلية لكثير من الأشخاص، التي تعبر عن وجهات نظر مختلفة حول طريقة إنقاذ البلاد، كما أن هناك أمراً مشتركاً بينها، هو بحوث الأبطال المولعة واصطداماتهم.
منذ عام 1962، فاجأ ديب قرّاءه بتغيير مفاجئ في مسيرته الروائية، فقد أصدر روايته« من ذا الذي يذكر البحر» وكانت شبيهة بروايات علم الخيال –الواقعية الخرافية، التي التزم بها الكاتب طوال حياته الأدبية، حيث أصبحت رمزية غارقة في الغموض والشاعرية. في رواياته الأخيرة سما ديب بالثورة الجزائرية إلى قمة التصوف« الرمزي الخيالي»، صار الاستعمار آلات وحشية غريبة، كأنها تنزل من كوكب بعيد، وفي مواجهتها كان الثوار بشراً متمردين، يقاومون بأسلحة صغيرة لكنها سرعان ما تخرق الصمت، وتذيب صلب الآلات الوحشية. وبعد هذه الرواية واصل« تصوفه الخيالي» خاصة في« الجري وراء الضفة الأخرى» ورواية «سطوح اورصول». في هذه الروايات ظهر«أدب المنفى» واضحاً لدى الكاتب، والبطل ينتهي إلى العزلة التامة والضياع القاتل، وتنتهي رواياته بمونولوجاتها الطويلة المليئة بالأسئلة الثاقبة للذاكرة العائدة.
فإذا كان ديب في رواياته الأولى يكتب عن العادات والتقاليد في الأغلب، فهو الآن يعمل مع أوهام الخيال، ويترك هذا التحول انطباعاً عن حيرة الفنان. إن هناك تناقضاً كبيراً في الإبداع السابق لمحمد ديب، ينبئ بتطوره المعقد، الذي ما زال مستمراً على ما يبدو إلى يومنا هذا17.
مالك حداد . . شعرية القص ورمزية النص

والشيء نفسه ربما يكون قد فعله مالك حداد مع بعض الخصوصيات، التي رافقته طول حياته، فمن« رصيف الأزهار لا يجيب» إلى« سأهبك غزالة» إلى« الشقاء في خطر» ظل حداد يحمل مأساته المزدوجة، وربما بحس يختلف عن الآخرين، هذا الهم المزدوج« الاستعمار واللغة» هو الذي حدد مسار كل أعماله. فبالرغم من مأساة اللغة ظل هذا الأديب نقياً، يعبر عن هموم وطنية وقومية وإنسانية، برؤية تقدمية في شكلها العام، بعيدة عن كل روح شوفينية، الأمر الذي ساعده على عدم السقوط في التعميم والغموض، مثل بعض الكتاب الفرنسيين المتواجدين في الجزائر، الذين أفرزتهم الثقافة الاستعمارية.
تتمثل الرؤية الأكثر عاطفية تجاه ثورة التحرير في أعمال« حداد» فهي تعتبر مجموعة من العواطف والأحاسيس أكثر منها مجموعة للأفكار والآراء. تشكل رواياته قصائد تأثيرية، تظهر فيها من حين لآخر تصريحات وطنية وحماسية، وهو ينظر إلى الحدث كشاعر بقلبه قبل فكره. الحقيقة أن حداد له مفهومه الخاص للالتزام، ففي روايته« سأهبك غزالة» يروي قصة حب بين سائق شاحنة وفتاة شابة، تعيش في الواحة التي يتوقف فيها السائق ليستريح، وهو في رحلته عبر الصحراء. فالكاتب في رأي حداد لا يلتزم إلا بشخصيات رواياته. لكنه لم يهمل ثورة التحرير والمجاهدين، الذين كانوا يقاتلون من أجل أن يحققوا السعادة والخير لشعبهم، أو من أجل الغزلان20.
وتكاد تجسد رواية« التلميذ والدرس» لمالك حداد أعمق الوثبات الفنية للمتناقضات الدامية، التي يكتوي بها وجدانه. والشكل الفني نفسه يكاد ينطق بغلبة الدماء الجديدة، وحداد يبدأ صياغته من الكلمة فالجملة إلى بقية النسيج الروائي، ولا يفعل العكس: أن يصمم هيكلاً روائياً للأحداث والشخصيات والمواقف، ثم يملأه بالكلمات. أي أن الشاعر ببساطة يسيطر على الروائي. وتكاد الرواية في كثير من المواضع تتحول إلى قصيدة شعرية. وهذا يفسر أن البناء الذي انتهت إليه هو« المونولوج» إن« التلميذ والدرس» في جوهرها مونولوج طويل، فنحن لا نتعرف طوال الرواية إلا على شخصية واحدة لهذا الطبيب الجزائري الكهل، القاطن في إحدى المدن الفرنسية، وحيداً بعد أن ماتت زوجته. والمفارقة الروائية التي ينطلق منها حداد هي أن الطبيب –الأب- حريص على إبقاء حفيده بين أحشاء الابنة –المناضلة- التي جاءت عليه راغبة في الإجهاض. يكشف لنا حداد عن رمز البطولة في المقاومة الجزائرية، من خلال هذه الرواية.
وضع حداد في روايته الأب وابنته وجهاً لوجه، الابنة التي تعمل في صفوف المقاومة. ومثل هذه المواجهة، تعتبر مظهراً آخر لصراع الأجيال، الذي تجلى واضحاً في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وفي الواقع فإن حداد هذه تعتبر أفضل رواياته وهي أكثرها تماسكاً وحيوية ومحتوى، بالرغم أن الدور الكبير يتركز في معظمه على مشاعر الوالد وهو يفكر ويتأمل سلوك ابنته. لقد اختار حداد منذ الوهلة الأولى أن كون « المنفى» هو المهاد الذي يبذر فيه رموزه، واختار أيضاً « جيل المنفى» هو الصغيرة المعبرة عن رؤيا المقاومة في رواية « التلميذ والدرس». يقدم إبداع مالك حداد فكرة عن الدرجة النوعية الجديدة التي ارتقت إليها الرواية الواقعية الجزائرية. وقد صادف إبداعه برمته فترة الحرب، إذ أن المؤلف لم ينشر أي كتاب بعد انتزاع الاستقلال. وتنقل مؤلفات حداد واقعاً جديداً إذا ما قورنت بإبداع كتاب التقاليد والعادات. وقد كرست رواياته للعالم الداخلي للبطل المثقف، أو لذلك الإنسان الذي إن لم يكن مماثلاً للمؤلف، فهو على أية حال شديد الشبه به روحياً. ولا يمكن التأكيد أن سيرة أبطال حداد تفتقر إلى الأحداث الدرامية بصفة خاصة، فكل واحد منهم يشعر بشكل أو بآخر بآلام قاسية، كموت القريب أو انهيار الآمال الشخصية. غير أن هذه الأحداث لا تلفت في حد ذاتها انتباه الكاتب، وهي فقط ضريبة حتمية، يدفعها للزمن كل واحد من مواكبيه في تلك السنوات، التي أصبح فيها مفهوم الجزائري – كما يقول الكاتب نفسه مرادفاً للشقاء. إن موضوع حداد هو الحياة الروحية للشخصية، التي تنطوي على قدرة فائقة على معارضة هجوم القوى الهدامة والمعادية للإنسان. وهذه القدرة لا تتجلى في أحداث خارجية باهرة تسترعي النظر، لأن بطل حداد يحوز انتصاراته في الحياة اليومية غير المحسوسة، وهذا لا يحط بتاتاً من مغزاه. وعادة ما تنكشف أمام بطل مالك حداد إمكانية سلوك الطريق السهل، والرفاهية الشخصية على حساب تسوية مع ضميره الخاص، غير أن البطل يرفض بحزم سلوك هذا الطريق. ويوافق تماماً الأسلوب الإبداعي للكاتب محتوى مؤلفاته، التي يبرز فيها تعقد الحياة الاعتيادية وغير المحسوسة، والبساطة الأزلية اليومية، كما يفتقد سرده مثلاً إلى الزخرفة الأسلوبية والفصول المطولة.
دارت روايات حداد حول الثورة الجزائرية، وتلمسها من قريب ومن بعيد في دوامة من المشاعر والعواطف، هذا وأن شخصية الكاتب والثورة تشكلان نبعاً غزيراً لرواياته، وحب الوطن يقوم بمثابة رباط الحياة، الذي يربط كافة الحوادث ببعضها بعضاً يبرز حداد في رواياته كاتب شعر أكثر منه كاتب قصة. فقد تأثر بالشاعر الفرنسي « أراغون»، وكذلك بالفيلسوف« برغسون»، الذي ترك أثراً واضحاً على أعماله18


كاتب ياسين . . . « نجمة» الأسطورة والرمز: . .

فإذا جاءت« البيت الكبير» كانت بشير مولود الرواية الجزائرية، فإن« نجمة» كاتب ياسين، تبرز من بين معظم المحاولات والتجارب، وبالرغم من كل هذا من تمزقات، تبرز دليلاً يقينيا على أن الرواية الجزائرية قد ولدت. وما جراحها إلا جراح الجزائر وعذاباتها. وتعد« نجمة» من أعظم منجزات الأدب الجزائري الحديث، كما يذهب النقاد الغربيون والعرب على السواء. وتنبع أهميتها في تقديرنا من أنها تجسيم بالحجم الطبيعي لرحلة العذاب، التي خاضها كاتبها ووطنه جميعاً. إنها تجسد شكلاً ومضموناً كافة مراحل التطور، ومختلف أشكال التناقضات واتجاهات الصراع ونتائجه، التي انتهت إليها الرحلة الدامية؛ إنها حققت درجة عالية من الوحدة الدينامية في العمل الفني، حتى أصبح من الصعب تصنيفها إلى شكل ومضمون، كما أنها حققت درجة عالية من روح الخلق حتى أصبح من العسير تصنيفها إلى خيال وواقع.
تبنى كاتب ياسين موقفاً متميزاً في كتاباته، فهو يبحث عن الموطن الأم، مشخصاً إياه في شخص امرأة يسميها «نجمة» وتصبح الجزائر حقيقة مجسدة، وتكون نجمة بمثابة روح البلاد التي تسري والحادثة التي أثرت تأثيراً بالغاً على أعمال ياسين الأدبية هي مذابح سطيف، وكانت الكتابة هي الأسلوب النضالي الذي اختاره في نصرة القضية الوطنية الجزائرية. وتعتبر الجزائر بالنسبة للكاتب الينبوع الثري، الذي لا ينضب كمصدر إلهام فقد تناول تاريخها في أثناء الاحتلالين التركي والفرنسي، منشغلاً دائماً بوجود الوطن وبقائه.
والشكل الفني في« نجمة» قريب غاية القرب من الفن التشكيلي، في أحدث مراحله، إذ هي تبدو كلوحة تجريدية، وبالتالي تخلو من البناء الكلاسيكي في أية صورة من صوره. يجتمع الماضي والحاضر والمستقبل في« نجمة» اجتماعاً حياً مشخصاً ماثلاً، لذلك فهي قد تتشابه مع قصة« الصخب والعنف» لفوكنر، أو قد تتشابه مع« رباعية الإسكندرية» للورانس داريل؛ من حيث أن لكل شخصية زمانها الخاص ورؤيتها الخاصة، التي أملت على كل من فوكنر وداريل، هذا التجديد في بناء الرواية الحديثة. تتشابه« نجمة» مع هذه الأعمال في انتساب الزمن إلى التكوين الداخلي للشخصية؛ تجسد تجربة بدايتها تمتد إلى الماضي السحيق، وتمتد نهايتها إلى المستقبل البعيد. تشكل شخصية« نجمة» البطلة المحورية، فهي ابنة الجميع وعشيقة الكل« هي روح الجزائر الممزقة من البداية، والمهددة بمختلف التوترات والتمزقات الداخلية« كما وصفها كاتب ياسين في بعض تصريحاته. هذه الروح هي الثورة والثورة هي التجربة، التي امتصت زمانها الخاص على نحو شديد التعقيد من الماضي والحاضر والمستقبل، فهي أشبه بالبناء الموسيقي، كما قال الناشر الفرنسي في طبعتها الأولى.
إن التطور« اللولبي» للأحداث في نجمة، يذكرنا بمبادئ بنية روايات« فوكنر» ولعل هذه المقابلة لم تكن تخطر على بال أحد، لو لم يتحدث كاتب ياسين علنا وصراحة، عن حبه لفوكنر، وجيمس جويس، الذي أثر تأثيراً كبيراً في إبداع فوكنر، وهكذا فإن صلة الروائي الشاب بجويس وفوكنر، سمحت باستنتاجين وهما أن كاتب ياسين اقتبس البنية الزمنية من فوكنر، وتقنية تيار الوعي من جويس. يلجأ الكاتبان فوكنر وياسين إلى استعمال فقرات جديدة تمتد على صفحات عدة، بدون أية علامة ترقيم. وهناك تشابه يبدو أكثر وضوحاً في« ابسالوم ..ابسالوم» لفوكنر، و»نجمة» لياسين، خاصة في مجال العلاقة اللاشرعية، التي تنشأ بين بعض الشخصيات. ويظهر عدد من الأطفال غير الشرعيين في الروايتين. نجمة التي يتصارع الرجال ليس فقط على حبها، ولكن على إخضاعها أيضاً، وكذلك الحال مع« كليتمسترا وشقيقتها» في رواية فوكنر. وتشترك الروايتان في الغموض، الذي يكتنف أصل بعض الشخصيات. وهذه حقيقة تطبع جل شخصيات روايات ياسين، فبدون معرفة اسم عائلة الشخص يصعب معرفة أصله. وجو كلتي الروايتين يكتنفه غموض المصير، غير أن نجمة لا تحمل الروح الشيطانية الجهنمية، التي تحملها ابسالوم ابسالوم.
هذا وقد تأثر ياسين كثيراً بالشاعرين الفرنسيين« رامبو، وبودلير» ومن« الفراديس الزائفة» استقى ياسين فكرة« المرأة المتوحشة». وتجسد تيار الوعي في مذكرات مصطفى، وهذيان وحكايات رشيد، فقد كان يعكس أفكار وأحاسيس المؤلف، وساعدته هذه التقنية على خلق تنويعات شعرية، توهم بالامتلاء العاطفي الغنائي الذاتي. وتطرح إمكانية فهم الحاضر من خلال استرجاع الماضي، وبعث الأسطورة القديمة، التي تساعد على العودة إلى نقطة البدء، وهكذا فمن ضرورة الصلة بين الحاضر والماضي، ولدت بريشة كاتب ياسين قد تخيلها هو جزئياً، وأخذها في الأساس من خرافات الأجداد، قصة الجد الأكبر« كبلوت»، زعيم قبيلة بدوية عريقة، قدمت إلى الجزائر في عهود غابرة، من مكان ما من الشرق العربي، واستقر أحفاد «كبلوت» في الناظور بالقرب من قسنطينة، وقاوموا ببسالة أجيال متعددة من الغزاة. وهكذا استمر الأمر حتى الفرنسيين، لكن القبيلة لم ترضخ لهم.
استعملت« نجمة» مادة الأساطير على مستويين متداخلين؛ الأول مادي ويخص تقاليد المقاومة عند الكبلوتيين، والثاني رمزي فلسفي، ويخص الحب القاتل للرفاق الأربعة لنجمة التي هي ليست امرأة فاتنة فحسب، وإنما هي رمز للوطن الرائع والمعذب بتاريخه البسيط، والمأساوي على حد سواء.
إن القلق والغموض والشك، الذي ملأ كتابات كامو وروبلس وبيلا وغيرهم، قابله خطاب روائي آخر، مؤسس على تقاليد الأدب الإنساني، فكان جيل 1952 الأدبي: محمد ديب (بلزاك الجزائر)، وكان كاتب ياسين (جيمس جوس، أو دوس باسوس)، وكان مولود فرعون، ومولود معمري (تولستوري) وكان مراد بوربون (غوركي) لقد كانوا جميعاً وهم يستندون إلى قيم الآداب الإنسانية وإلى قيم الحرية يشيدون تقاليد القطيعة الجمالية والفكرية، مع أدب التحقير والغرابة والإنسانوية الغامضة.
فبالرغم من لحظات اليأس، التي كان يصاب بها مالك حداد مع غيره من الكتّاب الجزائريين، أو كما سماه« اليأس الفني»، إلا أن كتاباتهم لم تصب بأي مرض من الأمراض، التي أصيبت بها بعض المدارس الغربية، التي سقطت في الإغراءات الشكلية المميتة، فلم يحاولوا البحث عن ذواتهم داخل الفراغات المغلقة، ولم يقتلهم القلق ولا التهويمات الميتافيزيقية الغامضة، فكل شيء كان بالنسبة لهم واضحاً، فالثورة الشعبية الكبرى وهناك أمور أخرى منعت هؤلاء الأدباء من السقوط في حبائل الاستعمار وإغراءاته، وعلى رأسها واقعهم الاجتماعي والطبقي، فكلهم من أصول طبقية فقيرة، ومهضومة الحقوق. نجد مثلاً كاتب ياسين، الطفل الفقير قد احترف الصحافة واشتغل عاملاً في الموانئ وفي الزراعة قبل أن يمارس الكتابة. وبالمثل محمد ديب اشتغل في معامل النسيج في تلمسان، وفي أقبيتها الباردة، ثم عمل محاسباً ومعلماً فصحفياً. هذه التجارب المرة هي التي جعلت منه أديباً مبدعاً، وثوريا وفناناً يغمس ريشته ريشة الرسام الصادق في الدم والعرق والعذاب والجنون، والحكمة والتمرد، والمرض والتناقض والثورة، فيخرج منها ألواناً يصبغ بها لوحته25.
لقد كانت استراتيجية الكتابة في ظل المدرسة الوطنية للآداب، هو أن يكون الأدب وسيلة للكفاح، لإعادة القيمة لذات منكسرة، مهزومة ومهمشة، إنها كتابة أهدافها تحويل المركز إلى الهامش والهامش إلى المركز. إن الروائي رشيد بوجدرة في« التطليق» وفي« ألف وعام من الحنين»، والطاهر جاووت في« الباحثون عن العظام» مارسوا عملية إثراء تقاليد الكتابة الروائية عند محمد ديب، وكاتب ياسين فيما يتصل بالاستراتيجية توليد الأحلام. وعلى الرغم من الإحالة على الواقع والتاريخ والأتوبيوغرافية في نصوص بوجدرة، إلا أن الكتابة كانت هي المركز والواقع هو الخطوة الثانية. ومع تعميق هذا الجانب كان الجزائريون يؤسسون نصاً للحيرة وحيرة للنص19.


آسيا جبار ومرغريت عمروش . . . عطش الأنثى

وإذا كان الروائيون الجزائريون في الفترة ما بين الحربين، وحتى الثورة الجزائرية قد تتلمذوا مباشرة على صناع الرواية الكولونيالية، فإن الروائيين المعاصرين بالفرنسية، يعودون الآن لاستثمار أساليب وطرق الرواية الكولونيالية، والفن التشكيلي الكولونيالي في نصوصهم. اتكأ هؤلاء على نصوص أو لوحات لمبدعين استعماريين، يعودون إلى نهاية القرن الماضي بداية الغزو، حتى بداية استقرار الرأسمال الكولونيالي.
ويختلف موقف« آسيا جبار» ككاتبة، عن مواقف الجزائريين الآخرين، فهي ترى أن الرواية يجب أن لا تعكس حوادث العهد الذي تكتب فيه. فكأنها تحتاج إلى البعد الزمني، الذي تطلبه عمل المؤرخ لتقييم صادق للأحداث، وعلى هذا الأساس فروايتها« العطش» التي كتبتها خلال السنوات الأولى من حرب الجزائر لم تعكس الجو الذي كان سائداً في تلك الآونة، فهي تمثل للكاتبة هروباً من الواقع القاسي، ففي واقع حياتها كان الفرنسيون يلاحقون خطيبها، وكان أخوها في عداد الجيش المقاتل في الجبال، فهي تعتقد أن معالجتها للأحداثـ،، التي كانت تهز بلادها في تلك الفترة، لم تكن لتؤدي إلى كتابة أعمال تتسم بالعمق، ولم تعالج ثورة التحرير إلا في روايتها الثالثة« أطفال العالم الجديد» واتخذت في تناولها موقف المراقب للأمور وليس المشارك فيها.
أما روايتها الرابعة« القبرات الساذجة» فقد اندمجت أكثر مع الأحداث، فانتقلت إلى ميدان المعركة وإلى مخيمات اللاجئين، ونفذت إلى أعماق نفوس الجزائريين، الذين كانوا يحاربون على الجبهة التونسية. وإن رواياتها بصورة عامة تعدّ وثيقة قيمة للمجتمع النسوي الجزائري، فقد كانت« جبار» في مركز أفضل من غيرها من الكتاب الجزائريين لتكشف عن أسرار ذلك العالم المغلق.
إن نقلة لدى آسيا جبار تقفز بها من رواية« أطفال العالم الجديد» بقيمتها الجمالية المنخرطة في جماليات الأدب الوطني المتموقع في سياقات الإيديولوجية الوطنية بكل تنوعاتها إلى نص ينتمي إلى متن جمالي كولونيالي متمثلاً في الروائي والرسام أوجين فرومنتان، إذ إننا نلمس بصمات واضحة لروايته« سنة في الرمال» على نصها« الحب، الفانتازيا»، والأمر نفسه نلمسه لدى ليلى صبار، إذ نجد في نصوصها حسا انبهاريا واغرابية، قادمين من تقاليد الكتابة الاستعمارية، الباحثة عن ألف ليلة وليلة في الواقع الجغرافي، وفي الإنسان الجزائري.
إن«دفاتر شهرزاد» 1985، الذي هو نص موصول بوضوح بنصها الأول «شهرزاد» الذي تستعرض فيه المشرق الذي هو المغرب العربي-لا فرق- من خلال عين سائحة مستشعة، فهي لا تعدو تكتب أدب البطاقة البريدية الجديدة، وعينها لا تختلف عن عين الرسام ماتيس أو دولاكروا في لوحته« نساء الجزائر». إن أدب البطاقة البريدية من خلال نصوص آسيا جبار وليلى صبار، يعكس بقوة خضوع الكاتب إلى الوضعية التي قدمته له دار النشر الفرنسية، التي هي ولادة حنين إلى تحول الكائنات الجنوبية إلى متعة ومتحف.
إن الجنس بمفهومه« الجنسوي» والفلكلور بمفهومه« الفلكلوري» والصحراء بمفهوم القفار والخلاء والمغامرة، والدين الشعبي والزواج والخيال الجزائري. كلها موضوعات ينتظرها القارئ الأوروبي في كتابات الجزائريين، إنها شرط الكتابة وشرط النشر وشرط الزواج.
وتأثرت «جبار» بالكاتب الأمريكي «دوس باسوس» فهي مثله تضع أفكار شخصياتها بين علامات تنصيص وأحياناً بي قوسين. ويظهر بوضوح تأثير« د.هـ.لورانس» في آسيا جبار، ويبدو أنها بمساعدة كتاباته توصلت إلى»اكتشاف الجسد» والتقى الكاتبان في نقطة اهتمامهما بالعلاقة بين الرجل والمرأة، فقد عالجت« جبار» هذا الموضوع ضمن روايتها الأولى، مركزة عليه بصورة خاصة في روايتها الأخيرة« القبرات الساذجة». وتركت روايتا« لورانس»- نساء محبات، وعشيق الليدي تشارلي –أثرا كبيرا على أعمال جبار. وكذلك فإن رواية« جوستين» للكاتب« لورانس داريل»، والتي أعجبت بها إعجاباً خاصاً، تركت علامتها على رواية« القبرات الساذجة» فكلتا الروايتين تنطقان على لسان راو، يتناوب دوره بين الملاحظة الخالصة والمشاركة الإيجابية في القصة، كما أنهما تتشابهان نوعاً ما أيضاً، في موقفهما إزاء المومسات اللواتي يظهرن تعاطفاً معهن. ومن ناحية أخرى، فإن كلا من جبار وداريل يعطيان للمدينة التي تدور فيها أحداث قصتيهما دوراً في سير الأحداث؛ فبينما داريل يشخص مدينة الإسكندرية، تحاول ذلك جبار مع مدينة تونس27.
ونأتي إلى الكاتبة« مارجريت طاوس عمروش» لنجد أنها تأثرت في كتاباتها بكل من« توماس» و»ج.كونراد واميلي برونتي، خاصة روايتها« مرتفعات وذرينج»، غير أن روايتها« الياقوتة السوداء» و»شارع الطبول» أقرب ما تكونان إلى السيرة الذاتية، وبذلك يصعب اكتشاف مدى التأثر فيهما بالكتاب الأجانب، وعلى أية حال، فإننا نلمس تشابهاً كبيراً بين عمروش وبين الروائيين السابقين لا سيما في مجال فن سرد القصة، فكل منهم يملك مقدرة على سرد القصة بطريقة جذابة، جاعلين من القصة المبسطة قصة شائقة، ومن القصة المعقدة قصة واضحة، وأن عمروش التي اكتسبت الخبرة من بيئتها القبائلية، هذه البيئة المعروفة بتقاليدها العريقة والغنية في الأدب الشعبي، تنعكس على روايتها «شارع الطبول»28.
نقول إنها قد بلغت النضج في هذا المجال، عند اتصالها واحتكاكها بهؤلاء الكتاب الكبار. وهناك جو درامي، ومسحة من التشاؤم يخيمان على كتابات عمروش من المحتمل أن تكون قد استمدتها من هاردي، وكونراد وبرونتي. فهؤلاء الثلاثة معروفون بنظرتهم التشاؤمية إلى الحياة.

بوربون وبوجدرة وميموني...سؤال الحداثة وحداثة السؤال . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يعتبر« مراد بوربون» الشعب أحد أهم مصادر كتاباته، فالشعب يمثل مدرسته، وأفراده أخوته الذين يرتبطون معه، ليس برابطة الدم فحسب، بل بأخوة خلقها الكفاح والنضال المشترك، وتركز أعماله حول هذا الاتجاه وعلى وجه الخصوص في روايته« ذاكرة الشعب» التي تتناول اليقظة الوطنية لدى الجزائريين. ويدعو إلى عدم استغلال الشعب وثورته وأن الأدب الجديد يجب أن يهتم أكثر بالنضال من أجل الإنسان الجديد، فهو ينتقد السلطة في الجزائر المستقلة، مبيناً أخطاء ونواقص الثورة التحريرية.
وقد خصص رشيد بوجدرة جل رواياته المكتوبة باللغة الفرنسية، لمعالجة مشاكل ما بعد الاستقلال، ووجه فيها نقداً لاذعاً للمسئولين، كما أثار بوجدرة مسألة الاختلال العقلي الذي عانى منه بعض قدماء المجاهدين، وخصص لهم مكاناً كبيراً في روايته« التطليق». ومن المعروف أن الحروب تنجم عنها عادة أمراض نفسية، واختلال عقلي للمحاربين، هذه الظاهرة تفيض بها الرواية. ونظر بوجدرة إلى الوضع في الجزائر المستقلة من خلال عيني مريض نفسي سابق، فأعطاه هذا المنطلق حرية كبيرة في نقد السياسة الجزائرية، فمن يعاقب مجنوناً على أفعاله وأقواله؟ وقد احتاط الكاتب، فحذر القارئ موضحاً بأن بطل روايته لم يشف تماماً وأنه يصاب بنكسات من آن لآخر. وأخذ الراوي محتمياً بذلك الدرع، ينقد الأوضاع في الجزائر قبل الاستقلال وبعده. فهاجم العادات والتقاليد بنفس العنف، الذي هاجم به الجزائر الثورية، خاصة الإرهاب الذي ورثته من النظام الاستعماري، ومارسته على بعض القدماء المجاهدين. هذا بالإضافة إلى الاستعانة بوسائل التعذيب، التي استخدمها الحكام الفرنسيون في الجزائر. وقد سمى الكاتب حكام الجزائر المستقلة:« العشيرة»، أما جواسيسهم فأطلق عليهم اسم« الأعضاء السريين».
ونلحظ أن بطل رواية« التطليق» رشيد فرح بمرضه العقلي، الذي يبعده عن واقع الحياة والأوضاع المتدهورة في الجزائر، فكان يجهل حقيقة الأمور، لكن كان يدرك بحدسه أن الوضع مخيف، وذلك لأن الجزائر كانت فيها سجون ومعسكرات، ووسائل التعذيب ما زالت تمارس. وكان يشعر أن الاستقلال لم يأت بتغيير مفيد، ولم ينتج عنه إلا عمليات الانتقام، والاحتفالات والإثراء الفاضح. وعالج بوجدرة ظاهرة سوء توزيع الثروة في الجزائر المستقلة، ووضح أن العشيرة تحب المجوهرات بصورة خاصة.
كتب رشيد ميموني روايته «شرف القبيلة» وهي الرواية الثالثة بعد رواية «النهر المتحول» و»طومبيزا» تثير روايات ميموني في ذهن قارئها المتوهم عوالم كافكوية ووجودية، إذ تضعه روايته الأولى بين أهم الروائيين الذين يتوقفون في إثارة الانفعال والخوف، فنهر ميموني، يشدنا إلى مخاض شعب بأكمله، وتنضاف إليها رواية طومبيزا لترسم ملامح البؤس والعنف والقرف الجامح في ليل حالك السواد، لا تخترقه سوى التماعات حب جارف، لفضاء سرقت منه الأضواء. وبعد خمس سنوات تظهر رواية« شرف القبيلة» سنة 1989 لتثير ضجة في الأوساط الثقافية الفرنسية والجزائرية، وتصنف بين أجمل روايات الموسم.
يبدو أن بول فاليري، الذي يستهل ميموني به روايته، وهو يرى (بأن كل القصص تتعمق في الخرافات) كان يحث ميموني على الغوصفي وعي القبيلة الوجودي، وهو ما جعل الروائي يستدعي الراوي الشعبي، ليفتح (شرف القبيلة) بما تختزنه ذاكرتها. يحضر لاوعي القبيلة افتتاح الرواية، ويوهم بتوظيف مستنسخات دينية، ولكنها لا تلبث أن تنفجر مع حكي النهار، الذي يفضح ما يستتر عنه ليل حكي الصغار، ما دام التحول العنيف لا يصيب القبيلة وحدها بل يصيب السارد الذي ينتقل من عالم شفوي إلى عالم كتابي.
ويظهر السارد بطريقة ساخرة، يعفينا من عناء وصف غير روائي لأن القرية عبارة عن« بلد يقع في قعر العالم، وهو جد باهت، وجد مستتر، إذ لا تشير إليه أية خارطة في العالم، ولدرجة إيغاله في الديمقراطية فهو لا يحتاج إلى رئيس دولة».
إن أهل القرية جميعهم يتعارفون في ما بينهم، ويتبادلون التحايا صباح مساء، وبذلك فهم على علم بكل أحداث قريتهم، بل يعرف بعضهم عن بعض أقل الدقائق في حياة الآخر. إنهم إذن يعيشون ميثاق شرف قبيلة، يفترض أن على رب الأسرة الشريف أن يتوقف عن العمل بمجرد بلوغ أول أبنائه الذكور سن العمل، مما يسمح للشيوخ بالتمدد تحت ظلال شجرة الزيتون، ولا يتحولون عنه إلا للانتقال نحو الظل الذي يغادرهم. وتكاد تتحول القرية إلى« قرية فاضلة»، على غرار المدن الفاضلة لولا لعنة الأجنبي التي كنت تطاردهم، ولعنة المدينة التي تلاحقها. لغة الرواية متميزة عن باقي روايات التعبير الفرنسي، والتي تتفوق كثيراً على كتاب الجوائز الفرانكوفونية. يركز ميموني على العالم القروي وتحولاته، كما يتلافى الحديث عن الآخر باسمه، فهو الأجنبي والرومي والمتحضر، ويجمع داخل هذه التسميات كل أنواع الاستغلال التي انصبت على القبيلة، كيفما كانت طبيعتها الإيديولوجية والسلطوية. فلغة الرومي تكاد تكون لازمة في الخطاب المستنسخ عند ميموني، لأن بطله علي بن علي الذي عاد إلى القرية بدون روح، بعد أن التحق بالمدرسة الأجنبية سيصبح الوسيط الشرعي بين القبيلة والعالم الخارجي، خاصة وأنه التحق بالقرية بصفته مكلفاً بالبريد.
وينتقل الصراع من القبيلة إلى الرومي، فإلى القبيلة الشرعية والأدهى والأمر أن القبيلة غير معنية بالصراع حول مصيرها ستلقى خبر تحررها من الرومي، دون وعي لأهمية الخبر. ويظهر عنف الخطاب الروائي عند ميموني في نقده المزدوج لما قبل الاستقلال ولما بعد الاستقلال على السواء، ويظهر هذا من خلال وضعية قرية الزيتونية، التي لم تتغير وضعيتها، ومورست عليها جميع وسائل العنف الهادئ والإداري. ويعي سكان القرية تمام الوعي بأن ما يفصل بين قريتهم والعاصمة هو ما يفصل بين السماء والأرض، ولكن لا أحد يصغي إليهم، فالأوامر والقوانين تتساقط فوق رؤوسهم بوتيرة تتجاوز ردود فعلهم. وتبلغ سخرية ميموني أقصاها حين يصور إلزام الدولة للدكاكين بوضع علامات مضيئة أمام محلاتهم بينما تستمر القرية في استعمال المصابيح الزيتية. وبهذا تتجاوز رواية رشيد ميموني «شرف القبيلة» طروحات رواية الواقعية والواقعية الاشتراكية، إلى رواية النقد المزدوج للذات وللآخر على السواء، بعد أن تكون لنا الوعي الزمني اللازم بمواجهات إشكاليات الكتابة الآلية والوقائع الغريبة لما بعد انتفاضة أكتوبر 1988 33
تعتبر المراهقة السن المفضلة لدى «رابح بلعمري» بالنسبة لشخوص رواياته في«الشمس التي تحرق الغربال»، و«النظرة الجريحة» وأخيراً «الملجأ الحجري» كلها روايات تحكي سيرة مراهقين، إنها سير اكتشاف وتعلم: اكتشاف العالم، اكتشاف الجنس والحب والجراح والموت. في رواية رابح بلعمري الأخيرة« الملجأ الحجري» جميع أمكنة الحنان والعطف والذاكرة تتهدم، وجميع الشخوص مهددون بالضياع والذوبان، في متاهات الحياة الصعبة. بعض هذه الشخوص مثل محنة (والأكيد الكاتب يرمز إلى المحنة بمعناها الحقيقي)، وأبو هامل (من همل بالعربية الفصحى) تحمل أسماء قدرية، غير أن هذه الشخوص لا تعرف الخيبة وحدها، بل أن كل الشخوص الأخرى تتعرض لنفس المحن والمآسي.
في ذاكرة الطفل البريء، امرأة زنجية مجنونة، هي أمه التي لم يرها إلا مرة واحدة في حياته، حيث كانت مسجونة في الكوخ. ماري الفنانة التشكيلية التي صممت على أن تبقى في الجزائر بعد الاستقلال، هي الأخرى تغرق في الجنون، وتنهي أيامها الباقيات في الملجأ الحجري، بينما تمثل الخالة عائشة تلك العجوز التي تذكي الذاكرة والأسطورة34.
إن رواية« الملجأ الحجري» تحمل العديد من الرموز والمفاتيح، مثل تلك الشخصية، الشاعر ذي الأصل الأوروبي الذي يتحمس لتطوع الطلبة وللذات البسيطة داخل المدينة وعلى الشاطئ التي تمثل بلا شك الشاعر الجزائري المعروف «جاك سيناك»، الرجل الذي أضاء طريق رابح بلعمري في الشعر والرواية. فلم ينسه الكاتب أبداً، حيث إن بلعمري لم يكتف بمثل هذه الإشارة إليه في روايته هذه، إنما خصص له دراسة نظرية نشرها مؤخراً في ديوان المطبوعات الجامعية تحت عنوان« جاك سيناك بين المتعة والألم».
هذه بعض الشخوص المهمة في رواية «الملجأ الحجري» التي يدور موضوعها في قرية بالهضاب العليا، بكل ما يحمل سكانها وحجارتها من أساطير، ومشاهد عنف ومناظر خلابة أو تعيسة، وكذا تعنت أولئك البشر المقيمون في آخر العالم كي يحيوا رغم الحروب والغزوات التخريبية.
إن رابح بلعمري يعتمد كتابة وقورة، وأسلوباً سلساً مضبوط العبارة، دقيق الكلمات مما يجعل من روايته تحفة حقيقية مهداة إلى الشبق والألم35.
الرواية الجزائرية ذات التعبير الفرنسي والمأزق الحضاري: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إذا كان الكتاب الفرنسيون في العهد الاستعماري قد جاءوا إلى الجزائر أو ولدوا فيها، فأسسوا تقاليد جمالية لأدب كولونيالي، فإن أسماء كثيرة رحلت إلى الغرب، كي تكون هي العين التي تعيد لهؤلاء ما فقدوه على الأقل على مستوى الكتابة. تمثل الصحراء كفضاء مبهر للآخر حضوراً عنيداً في رواية التسعينات، وأسماء لأسماء قديمة أو لأسماء الجيل الجديد. إنها سند عناوين الإثارة في القراءة الأوروبية. فمن طاهر جاووت إلى رشيد ميموني إلى آخر رواية لمحمد ديب، مثلت الصحراء استنهاضاً لذاكرة الأوروبي في المغامرة، استنهاضاً لتاريخه ولأحلامه، وأحلام الأجداد الذين انهزموا36.
بقي معظم الكتاب الجزائريين يكتبون باللغة الفرنسية، بسبب الولاء المزدوج لحضارتين وثقافتين، ولكن بعضهم قد اختار العيش في فرنسا كل الوقت أو بعضه، مثل محمد ديب وكاتب ياسين. بل أن الذين بقوا في وطنهم ظلوا متمزقين أيضاً، وأرادوا أن يمزقوا معهم شعبهم، ويحدثوا في وسطه البلبلة الثقافية وزعزعة الولاء الحضاري، أمثال مولود معمري، فكأن بقاءهم فيها إنما هو لغرض القيام بمهمة خاصة، تخدم المصالح الاستعمارية التي عجزت عن تحقيقها مباشرة سواء أرادوا هم ذلك أم لم يريدوه.
ونلاحظ ان الكتاب الجزائريين الذين كتبوا باللغة الفرنسية، قد تمتعوا بحرية الحركة أكثر من الفرنسيين في اختيار الأجناس الأدبية والموضوعات والتقنيات، فهم خلافاً للفرنسيين أقل ارتباطاً بالتقاليد الأدبية. وكما يتوقع المرء، فإنهم قد أعطوا تركيزاً أكثر للرواية كما هي، باعتبارها الجنس الأدبي الطاغي في القرن العشرين.
وعلى العموم فإنهم قد منحوا الأدب الفرنسي المعاصر دماً جديداً وقوة جديدة بالطريقة نفسها التي أنعش فيها الأدب الأمريكي منذ وقت غير بعيد، الأدب الإنجليزي المعاصر. إن كتاب شمال أفريقيا قد أعطوا قوة للثقافة في وجوههم الجديدة. وهم أقل اهتماماً بالفحص الداخلي، كما يفعل المؤلفون في فرنسا نفسها، ولكنهم أقوى نبضاً نحو التسامي البطولي.
إن كتاب شمال إفريقيا غير الفرنسيين، يشتركون في عدد من الموضوعات: الهجرة إلى فرنسا بسبب كثرة الولادات والفقر في الجزائر، والصراع الطبقي في شمال إفريقية، سواء بين المجموعة العربية نفسها أو بين العناصر الشمال إفريقية والأوروبية. وكذلك المعركة بين القديم والجديد، وبين التقدم والتقاليد، يضاف إلى ذلك التنازع العرقي والديني بين مختلف المجموعات والأعراق والأديان التي تتعايش في شمال إفريقية مثل: أهل البدو والحضر والعشائر الحضرية، والفلاحين وسكان المدن والبربر والعرب والأوروبيين، وأخيراً اليهود والمسلمين والكاثوليك.
ومعظمهم يعرفون فرنسا جيداً، حيث عاشوا فيها في أثناء مناسبات عديدة؛ إما للبحث عن عمل لم يجدوه في مسقط رأسهم، وإما لمواصلة دراستهم بعد اكتشافهم للثقافة الغربية في المدارس الفرنسية في بلدانهم الأصلية، وإما في أثناء خدمتهم العسكرية، أو في أثناء مسيرة الحرب العالمية الثانية. وتعتبر أحداث العقدين الماضيين مهمة بالنسبة لتاريخ شمال إفريقية، عندما انفتحت أبواب المنطقة على مصراعيها للتأثير الأجنبي، ولا سيما الغربي منه ثم حل التأثير المشرقي في عهد لاحق. كما أن معظم هؤلاء قد جربوا حظهم في الصحافة التي عاونتهم كثيراً على تنمية علاقتهم بالغرب –وخصوصاً فرنسا- وعلى ابتعادهم شيئاً فشيئاً عن ثقافتهم الأصلية. وغالباً ما كانت أولى محاولاتهم في ميدان الأدب، هي كتابة السيرة الذاتية حيث يبرزون فيها ازدواجية الولاء لعالمين مختلفين كما يبرزون معاناتهم عندما يجدون أنفسهم بعد ذلك عاجزين على إيجاد مكان لهم في كلا العالمين.
وهكذا استمر معين الروائيين باللغة الفرنسية، يغذي القراء حتى أيامنا هذه. وإن كانت ظاهرة التعريب قد دفعت بعض الروائيين إلى التوقف عن الكتابة باللغة الفرنسية، فبادر مالك حداد إلى التوقف عن الكتابة منذ فجر الاستقلال، تمشياً مع المبادئ التي كان ينادي بها أثناء الثورة، نتيجة إحساسه بالغربة الخانقة في اللغة الفرنسية, أما من استمروا في الكتابة باللغة الفرنسية مثل محمد ديب، فقد اختاروا الهجرة إلى فرنسا وفضلوا الغربة. وهناك من اختار طريقاً وسطاً مثل« كاتب ياسين» الذي اتجه نحو المسرح الناطق بالعامية الجزائرية المطعمة بالفرنسية. كما يلاحظ أن بعضاً من هؤلاء اتجهوا إلى ممارسة الكتابة باللغة العربية واستطاعوا أن يقدموا أعمالاً روائية يمكن أن نعتبرها مشروعاً لحركة الحداثة الروائية في الجزائر، نذكر منهم رشيد بوجدرة19.

7الأدب الاستعجالي المكتوب باللغة الفرنسية
سقط العديد من الروائيين الجدد بالفرنسية في الأدب الاستعجالي في التسعينيات يقول احمد منورحينما يكون المرء في عجلة من أمره، في أي مجال كان فإن ذلك ينعكس بطبيعة الحال في أي شأن يقوم به، فيأتي مليئاً بالثغرات والنقائص، ويظهر فيه أثر السهو والنسيان والغلط وما إلى ذلك، وهذا ما لاحظناه في الأعمال التي أطلق عليها أصحابُها، وبفخر، صفة الكتابة الاستعجالية، مبرِّرين ذلك بما تقتضيه الظروف من متابعة الأحداث وتسجيلها في حينها، وتسجيل المواقف إزاء ذلك، على غرار الكتابة الصُّحفية التي تسجِّل الحدث في حينه، وتعلق عليه، في حين أن طبيعة الفن الروائي تناقض هذا المسعى، لأن الرواية تحتاج إلى وقتٍ تختمر فيه البذرة، وإلى وقت تنضج فيه وتبعث خلقاً كاملاً غير مشوه ولا ناقص، ومن هنا نلاحظ اليوم أن معظم تلك الأعمال قد طواها النسيان، ولم يعد يذكرها أحدٌ إلا على سبيل النموذج السيء الذي لا ينبغي أن يتكرر20
إن المتتبع لآراء النقاد الغربيين يتبين أنهم يستندون في مجمل آرائهم على ثنائية الإنتماء الوطني لهذه النصوص مؤسسين رؤيتهم حول قضية الإنتماء الأوروبي، و العربي للنص المكتوب باللغة الأجنبية، و يرتد ذلك إلى عدة عوامل من بينها عامل الثقافة الغربية، و العربية المعتمدة من قبل الكتاب. أمثال مالك حداد، ليلى صبار، رشيد بوجذرة و كاتب ياسين.
إذ نجد أن الكاتب مالك حداد يقر بدور الأدب الجزائري المكتوب بالحرف الأجنبي، في تصويره، و تجسيده للمجتمع الجزائري بوسيلة لغوية أجنبية، مما انتج خطابا هجينيا، و هذا حصيلة تفاعل الجسد اللغوي الأجنبي بالروح العربية الجزائرية، إلا أن طغيان الروح الوطنية، و طفوحها على القالب اللغوي الأجنبي أدى بالنقاد الفرنسيين إلى رفض الأدب الجزائري، و هذا تبعا لقول مالك حداد على نحو : " إن أكبر النقاد في فرنسا يرون أن أدبكم، هو أدب أجنبي يختلف اختلافا كثيرا عن الأدب الفرنسي… أو بالأحرى يستعملون الصيغة التالية : الأدب الفرنسي ذو التعبير الجزائري ".
لقد انعكس ذلك الرفض الأخير من قبل النقاد الفرنسيين لذلك الأدب على نفسية الكاتب مالك حداد، و بالتالي الإحساس و التساؤل حول حقيقة هوية الأدب الجزائري على نحو إلى أي مدى يساهم العامل اللغوي في تحديد جنسية الأدب الجزائري ذي الحرف الأجنبي؟21
لقد بين الكاتب الجزائري مالك حداد في اكثر من موقف حقيقة الإنتماء القومي للأدب الجزائري، و الذي لا يُرَدُّ حسب رأيه إلى عنصر اللغة فحسب، و لا إلى مجرد عاطفة نكنها و نقدس علاقتها بالموضوع، أو بالبلد، كافية لتحديد فعل الإنتماء. و هذا وفق تصريحه في كون " الجنسية الجزائرية ليست إقرارا قانونيا، كما لا توجد لها أي علاقة بالمشروع، و لكن بالتاريخ، أما عن الأدباء ذوي الأصل الأوروبي، و الذين آثروا الجنسية الجزائرية فالمستقبل هو المشترك الوحيد

أما الكاتبة ليلي صبار فتذهب إلى كوننا "… نواجه أدبا إقليميا، أو ما يعرف بالأدب المنبوذ هذا إذا كانت الهجرة تعني الإقليم ".
إن إنتماء هذا الأدب يكمن حسب الرأي الأخير في جغرافيته و انتماء الأديب يساوي انتماء إبداعاته، و الإعتراف بالرقعة التي ينتمي إليها، يستلزم الإعتراف بإمكانياته الإبداعية و الثقافية، و كل رفض لمكان المبدع يعني إنكار إبداعاته و عدم الإعتراف بهويته. و عندئذ يولد سؤال : هل يكمن الإنتماء الأدبي في العامل اللغوي أم في العامل الجغرافي؟
في حين و في النسق ذاته، نستشف أن الممارسة الإبداعية في نظر الكاتب رشيد بوجذرة لا تكاد تقف على لغة واحدة، بل نجده كثير التقلبات، بل كثير الإنتقال من لغة إلى أخرى، فهو في البدء كتب باللغة الفرنسية نذكر من بين رواياته "La répudiation" سنة 1969 و "L’escargot entété" .
قد يعود ذلك إلى عدة عوائق اعترضته و اعترضت كتاب عصره من بينها تدني مقروئيته في الوسط الجزائري، و بعض المشاكل الخاصة بالطبع. مما ولد لديه أثرا كبيرا في الميل إلى احتراف الحرف الأجنبي. و بعد فترة وجيزة نلفيه يستخدم الأبجدية العربية محاولة منه في تشكيل رواية عربية ذات شكل و مضمون عربيين. غير أنه لا يلبث أن يغير من أداته لينتقل ثانية إلى القلم الأجنبي و استعارته مستندا في ذلك على علة واهية مفادها أن الحرف العربي كبله، حصر خياله و أداته الطاعنة في المقدس و الممنوع، و هو الذي زعم لنفسه تثوير اللغة العربية بإدخال عنصر الجنس و المحرم في رواياته، إلا أنه في الأخير يستكين إلى اللغة الفرنسية مرة أخرى، مدعيا وفاءه، وحبه للغة العربية، إلا أن رغبته في الكتابة باللغة الفرنسية فـي كونها تحقق له ذاته و هذا حسب قوله في : " أريد الكتابة باللغة العربية و أفضل الكتابة بها بالتأكيد، و لكن عمليا أفضل الكتابة باللغة الفرنسية، لأننا بها نعرف بأننا سنكون ذوي قيمة في نظر الآخر، و نظرته لنا لها وزنها بالنسبة إلينا".
و يتجلى هذا الأخير في كون النص البوجدري بخاصة و النص الجزائري بعامة، نص يحمل في جوفه إشكالية الإنتماء القومي كما سبق و عليه إلتجأنا إلى مذكرات القانون الدولي الخاص بالجنسية الجزائرية الأصلية في محاولة لإسقاطه على هذا الأدب، على اعتبار أن النص كائن أو مولود حي لا يختلف في كثير عن الكائنات البشرية.22
إذا افترضنا أن بوجدرة جزائري الجنسية و النص المكتوب باللغة الفرنسية، هو ابن لبوجذرة، هذا اذا سلمنا بالشبه بين عملية الكتابة، و عملية المخاض أو الولادة و اسقطنا النص القانوني على النص - الأدبي - و أخذنا بفحوى و حرفية التشريع القائم على الحكم برابطة الدم فإن مولود بوجذرة - النص المكتوب بالفرنسية- له الحق في التمتع بالجنسية الجزائرية بحكم رابطة الدم و مما يزيد رأينا ثبوتا النص القانوني التالي القائم على الجنسية الجزائرية من خلال رابطة الدم و الإقليم في التشريع الجزائري حاليا في حين يقوم التشريع الفرنسي على المساواة بين الإنحدار من رابطة الدم بين الأب و الأم على السواء.
اعتمادا على الحالة الأولى المتمثلة في "… كل من انحدر من دم أب جزائري تثبت له الجنسية الجزائرية مهما كانت جنسية أمه و مهما كان ميلاده بالإقليم الجزائري أو بالخارج
و بالتالي يكون النص القانوني قد خول لنص بوجدرة بخاصة و النص الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية بعامة حق الانتماء الوطني و بالتالي إكتساب الهوية الجزائرية التي كانت محل صراع و نزاع دائمين.23


8غياب النقد المحترف للأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية
يقول احمد منور النقد المحترف،الذي نعني به المتابعة المستمرة لمؤشرات الإبداع، والتقويم الجاد والصائب لها، هو بصفة عامة عملة نادرة، وعلى ذكر العملة والمؤشر أقول ما أكثر مدعي الخبرة في مجال أسواق المال، ولكن الخبراء الحقيقيين قليلون، وهذا ينطبق على من يمارسون النقد الأدبي، فأكثرهم من النقاد الاستعجاليين، ولا يوجد لديهم ما يغريهم بالحذر وبذل الجهد مثل ما هو الحال في سوق المال، وكل الأمل معلق على النقد الجامعي، وعلى ما يقدم من رسائل وأبحاث جامعية، فهذا النوع من النقد هو الكفيل بالاضطلاع بتقديم تقويم شامل وموضوعي، ولكن عيبَه أنه بطيء، ويأتي دائما متأخرًا عن القافلة

الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية
يضع الروائي المغربي الطاهر بنجلون من خلال عمله الروائي الجديد "الاستئصال"، القارئ في قلب تجربة مختلفة من الكتابة السردية، وهي كتابة الألم والإحساس بمحنة المرض، وانتظار الموت الوشيك، بالتوازي مع رحلة مضنية للاستشفاء عبر فضاء المستشفى، وما يصاحبها من عذابات التطبيب.
لم يكن بنجلون سباقا في هذا النوع من الكتابة، فقد سبقه أدباء وفنانون عانوا مرض السرطان نفسه، وكتبوا عنه بحجم المرارة نفسها، مثل العربي باطما (أحد مؤسسي فرقة ناس الغيوان الشهيرة) والروائيين محمد زفزاف محمد خير الدين ومحمد شكري وغيرهم، لكن الخط السردي لصاحب "ليلة القدر" كان مختلفا.
فالرواية الصادرة مطلع هذا العام عن دار غاليمار بباريس تختلف في رصد تجربة الألم بعد التجاوز والنجاة من المحنة، في حين لم يسلم هؤلاء من امتحان السرطان، كما جهة الألم تختلف، ودرجة تحمل الجسد ومقاومته للمرض والخوف والاستسلام تضعف أو تزيد من كاتب إلى آخر.
"ترتبط كتابة الألم بصفة خاصة، بالتجارب المستعصية التي يعيشها بعض الكتاب، صحيا ونفسيا واجتماعيا، فتكون بالتالي أسلوبا مقنعا لمصادرة الشعور المضاعف بالمحنة"
كتابة مختلفة
اختاربنجلون في هذا العمر تجريب أسلوب مختلف من الكتابة لم يطرقه من قبل، استجابة لإحساس مغاير بالحياة وتغير الأحوال الصحية، وهي كتابة قلما ينتبه لأهميتها الكتاب والمتلقون على السواء، لأن الإنسان بطبيعته الفطرية يتهرب من كل ما يذكي إحساسه بالألم والفجيعة، وكأنه يؤجلها ويغض الطرف عنها.
وترتبط كتابة الألم بصفة خاصة بالتجارب المستعصية التي يعيشها بعض الكتاب، صحيا ونفسيا واجتماعيا، فتكون بالتالي أسلوبا مقنعا لمصادرة الشعور المضاعف بالمحنة، ومطالبة جماهير القراء بتقاسم هاته التجربة المضنية معه، وأداة للتخفيف من هواجس الخوف والضعف والوحدة التي تتزايد كلما تمكن المرض من الجسد، وتسلل اليأس والقنوط والاستسلام على قواه المناعية.
يفرض هذا النوع من الكتابة التي تستعيد لحظات رهيبة قاستها الذات بشكل من الأشكال، أو قاساها من هو أقرب إليها، بحيث تعيش معه المكابدات والمعاناة ولحظات المقاومة والاستسلام والسقوط والنهوض حتى آخر رمق من الحياة، فتكون تجربة مضاعفة، من حيث كون الذات تعيشها مرتين، مرة تكابدها في الواقع من خلال الإحساس بالألم، ومرة ثانية عند محاولة استعادة هاته التجربة عبر الكتابة، فتصبح المحنة محنتين.
يقول بنجلون في مقدمة الرواية "كتابة عمل عن هذا الموضوع فكرة تفرض نفسها، سيكون كتابا مفيدا للرجال الذين سيخضعون لهذه التجربة (تجربة مرض سرطان البروستات)، ولكن أيضا لمحيطهم، نسائهم، أطفالهم وأصدقائهم، الذين لا يعرفون كيف يتصرفون في هذه الحالة. لكن الوضع كان حساسا، هل كان ينبغي، كما طلب مني صديقي، أن أحكي كل شيء وأصف كل شيء، وأفضح كل شيء... لقد اخترت أن أقول كل شيء".
"نجح بنجلون في رسم معالم هذه التجربة المهولة بشكل درامي، تجربة بدأت بمعاناة الكاتب مع المرض، مرورا بلحظة استعادة التجربة سرديا"
تسريد الألم
تعني كتابة رواية عن الألم والموت بشكل مستعاد سرديا أن يشيد الطاهر بنجلون عالما متخيلا منسجما تصب كل بنياته ومقوماته في صميم هندسة معمار محكي مؤلم يدعم بعضه كله، ويلحم كل عنصر من عناصره مقام تلقي الألم، بحيث يصير المتلقي شريكا للروائي في الإحساس بألم المرض، ونكسة الجسد، وتربص الموت الرهيب في كل آن.
ولعل هذا الأمر الشاق يعد أشد وطأة على الذات الراوية من عيش تجربة المرض نفسها، لأنها تدعو الراوي-الذات إلى استرجاع سيرة الألم بالتفصيل الدقيق عبر تقنية الفلاش-باك، وتشغيل الحواس بإفراط طمعا في نقل تجربة صادقة للمتلقي، تعبر بحساسية مرهفة عن صراع الإنسان، وهو في أضعف مواقفه، مع مرض السرطان القاتل، طيلة مرحلة تجهض من العمر.
وفي حالة المصاب في رواية الطاهر بنجلون الذي فضل أن يضع حمل أحاسيسه الثقيلة على ظهر بطل يمثله، ويفوض له أمر حكي ما جرى له على سبيل المحكي الغيري، وهي لا تعدو كونها مجرد حيلة سردية لتمويه المتلقي، والواقع أن الرواية تحكي عن سيرة ذاتية وخبرة شخصية للطاهر عاشهما فعليا في السنوات الأخيرة قبل أن يستطيع التغلب على الداء، واستعادة حياته.
يقول بنجلون "يحدث أحيانا أن يعهد للكتاب بحيوات لحكيها في أعمالهم، يقومون حينها بدور كاتب عمومي. هذا ما حدث لي، منذ سنتين، حين طلب مني صديق، خضع لعملية جراحية على البروستات، أن أحكي قصة الاستئصال".
يزداد الأمر سوءا كما يقول الروائي الفائز بجائزة "غونكور"، لأن المرض يهاجم عضوا حساسا من الجسد، وله علاقة بالعضو الذكري والفحولة، بحيث إن المصاب يفقد هويته الجنسية، ويصبح عاجزا أمام الجنس الآخر.
تصور رواية "الاستئصال" أقسى فجائع الإنسان، وهو يواجه مقدمات الموت، وقد نجح بنجلون، في رسم معالم هاته التجربة المهولة بشكل درامي، تجربة بدأت بمعاناة الكاتب مع المرض، مرورا بلحظة استعادة التجربة سرديا، وانتهاء بعملية القراءة التي تعيد صياغة التجربة في سيرورة ثالثة أشد جسامة24.

الطاهر بن جلون ينتحل شارل بيرو
الطاهر بن جلون ينتحل شارل بيرو
A+a--print-Emailتعليق (0)
النسخة: الورقية - دولي الأربعاء، ٣١ أغسطس/ آب ٢٠١٦ (٠١:٠٠ - بتوقيت غرينتش)
آخر تحديث: الأربعاء، ٣١ أغسطس/ آب ٢٠١٦ (٠١:٠٠ - بتوقيت غرينتش) سلمان زين الدين
هل يحقّ لكاتب معاصر إعادة كتابة قصص لكاتب ينتمي إلى عصر آخر، ويسمح لنفسه بالتصرّف فيها إضافة وحذفاً وتعديلاً، ويغيّر الإطار المكاني والزماني لحركة الأحداث؟ وفي هذه الحالة، هل تعود الملكية الأدبية للكاتب الجديد أم القديم؟ وكيف يمكن ترسيم الحدود بين النصين القديم والجديد؟
هذه الأسئلة تطرحها قراءة «عشر ليالٍ وراوٍ» (دار الساقي، ترجمة جان هاشم)، المجموعة القصصية للروائي المغربي الطاهر بن جلون، المترجمة إلى العربية التي استوحاها من قصص الكاتب الفرنسي شارل بيرو الشهيرة. ففي أواخر القرن السابع عشر، قام بيرو بكتابة «الحكايات»، مستوحياً أساطير أسلافه وخرافاتهم، وبعد ثلاثة قرون يقوم بن جلون بإعادة الكتابة مبرّراً ذلك بعالمية الحكايات، وتشابهها مع «ألف ليلة وليلة»، واستمتاعه بها على مقاعد الدراسة حين كانت تقرأها معلّمة اللغة الفرنسية.
في المقدّمة يحدّد الكاتب مظاهر التصرّف التي قام بها، تحت عنوان تشريق الحكايات، بإضافة نكهات وألوان وتخيّلات أخرى، تعريب الإطار وأسلمته، الاحتفاظ ببنية الحكاية الأصلية والخروج عن النص، كسو الهيكل العظمي للحكاية بجسد وروح جديدين... وتتمظهر عملية التشريق في: عنوان الكتاب «عشر ليالٍ وراوٍ» الذي يحيل على «ألف ليلة وليلة»، استهلال ثماني قصص من أصل عشر بعبارة «كان ما كان في قديم الزمان»، مزج الواقع بالخرافات والأساطير ومشاركة الجن في الأحداث، استلهام التراث الحكائي العربي، الإفادة من الحاضر الإسلامي وما يفرزه من ممارسات متشدّدة، ذكر بعض الطقوس الدينية الإسلامية، استخدام المكان القصصي الإسلامي، استخدام أسماء شرقية... وتتفاوت هذه التمظهرات من قصّة الى أخرى، غير أن المشترك بينها هو هذا المزج بين الماضي والحاضر، الواقع والخوارق، الإنس والجن، المكان المتخيّل والمكان الحقيقي، ما يجعلها تدور في مناخ الواقعية السحرية. واللافت في هذا السياق أن شخصيات الجن تلعب في معظم القصص أدواراً إيجابية، فترفع الظلم، وتحقّق الأمنيات، وتؤمّن العدالة.
تقوم القصّة في الكتاب على الصراع التقليدي بين الخير والشر الذي يتمخّض عن انتصار الخير في نهاية المطاف. وهو صراع ينخرط فيه البشر والجن والحيوانات والكائنات الخرافية، والبنية القصصية بسيطة تتّخذ مساراً تصاعدياًّ ينجلي في النهاية عن انتصار أحد طرفي الصراع، وهو الخير. وتنطوي كل قصّة على رسالة معيّنة. وهنا، تقترن المتعة الناجمة عن القصّ والتخيّلات والخوارق بالفائدة الكامنة في الرسالة.
الرسالة التي تحملها «جميلة الغاب النائمة»، القصّة الأولى في المجموعة، هي أن طابخ السم آكله؛ فالملكة الأمّ التي تستعين بالغول لتقتل الأميرة تموت مسمومة بالقلب الذي يأتيها به الغول، وانحياز هذا الأخير إلى الخير يشكّل خروجاً على المأثور الحكائي الشفاهي النمطي الذي طالما نسب الغول إلى الشر. الرسالة نفسها تنطوي عليها القصّة الثامنة في المجموعة «الإبهام الصغير»، معطوفةً على رسالة أخرى تقدّم الجمال الداخلي والفطنة والذكاء على الجمال الخارجي، فالولد البشع الصغير، المنبوذ في أسرته، هو الذي ينقذ إخوته من الضياع وأسرته من البؤس، ويتدبر أمر القضاء على الغول الشرّير الذي يقتل بناته من طريق الخطأ، ودور الغول هنا، ينسجم مع دوره التقليدي خلافاً لدوره في القصّة الأولى.
في «فتاة البرقع الأحمر»، القصّة الثانية في المجموعة، التي تتقاطع مع حكاية «ليلى والذئب»، وتستلهم التراث والحاضر والتاريخ، تبرز أهمّيّة الذكاء والشجاعة في القضاء على الشر، فالبنت الصغيرة تتمكّن بذكائها وشجاعتها وإيمانها من القضاء على الرجل الملتحي الذي يستخدم الدين لتحقيق أغراضه الدنيئة. وغير خفيٍّ هنا التعريج على الحاضر والتعريض بممارسات المتشدّدين الإرهابية وتعرية نفاقهم.
وإذا كان الانتصار على الشرّ في القصص السابقة يتمّ بجهد فردي يقوم به الغول أو الصغير البشع أو البنت الصغيرة، فإنّ هذا الانتصار يتمّ بفعل تضافر الجهود في «أبو لحية زرقاء»، القصّة الثالثة في المجموعة، فخديجة تتمكّن بمساعدة آخرين من الإيقاع بالرجل الغني، الغريب الأطوار، الضخم، العاجز جنسيًّا. وهذه القصة نوع من التنويع على العلاقة بين شهريار وشهرزاد، مع فارق أنّ خديجة/ شهرزاد، هنا، تُوقع بالرجل/ شهريار ليتمّ اعدامه لاحقاً، ولا تسعى إلى ترويضه، كما فعلت شهرزاد. على أنّ ثمّة خللاً في بناء الشخصية في الحكاية، فكيف يستوي أن يكون الرجل ضخماً وعاجزاً جنسيًّا، بخيلاً ويغدق في العرس، يحجّ ويصلّي ويرتكب الكبائر، عاجزاً ويأتي بالنساء الى فراشه؟
في «الهر أبوجزمة»، القصّة الرابعة، يُبرز الكاتب أهمّيّة الذكاء والدهاء والمبادرة في تقرير المصائر، مع فارق أنّ بطل القصّة الذي تتوافر فيه هذه الصفات حيوان وليس إنساناً؛ فالهرّ الذي ورثه رشيد عن أبيه على مضض، هو الذي ينقله من الفقر الى الاستقرار والزواج من الأميرة. على أنّ تدخّل الحيوان في مصلحة البشر في هذه القصّة شبيهٌ بتدخّل الجنّ في القصّتين الخامسة والسادسة.
في القصّة الخامسة، «الجنيّات»، تتدخّل الجنّيّة لرفع الظلم الذي يُنزله البشر بعضهم ببعض ومعاقبة الظالم ومساعدة المظلوم، ففي حين تميّز الأم بين ابنتيها في المعاملة، فتتوزّعان بين ظالمة ومظلومة، تأتي الجنّيّة لتعاقب الظالمة وتنصف المظلومة. كأن القصّة تقول إن تحقيق العدالة على الأرض يحتاج إلى قوى ما ورائية خارقة، فالجن يصحّحون أخطاء البشر. الرسالة نفسها تحملها «سندريلا»، القصّة السادسة، فالجنّيّة لالاعائشة تتدخّل بواسطة السحر لمساعدة سكينة/ سندريلا التي يقع عليها ظلم خالتها وابنتيها، فتأخذ بيدها حتى الزواج من الأمير. لعلّ القصّة تقول إن الصبر على الظلم عاقبته جميلة.
القصّة السابعة «حكيم أبو خصلة» تتكامل فيها قصّتان اثنتان لتقول بتقدّم الذكاء والطيبة والفضيلة على الجمال الذي هو «غشاء النفس ولا يعني دائماً الطيبة والفضيلة» (ص162). هنا، أيضاً يتدخّل الجنّ إيجابيًّا، فالجنّيّة ميمونة تنجح في تحويل موقف الملك والملكة من ابنهما البشع الذي يُحقّق بذكائه المعجزات. الأمر نفسه تقوله القصّة التاسعة «إهاب الحمار» بطريقة مختلفة، فالطيبة والجمال البشريّان مقترنين بمساعدة الجنّ يؤثّران في قرارات الحاكم؛ ذلك أنّ الزوجة «سندوس» والابنة شهرزاد تنجحان في جعل قرارات الملك إنسانية وشعبية، فيثوب إلى رشده بعد ضلال وانحراف؛ في الوقت الذي يلعب رجال الدين دوراً سلبيًّا، فيسوّغون له تصرّفاته غير المشروعة، ويزيّنون له الظلم.
القصّة العاشرة والأخيرة في المجموعة «الأماني الفارغة» تقول بتقدّم الصحّة على السلطة والمال؛ فالبؤساء الذين يسعون إلى الهروب من واقعهم بوسائل غير مشروعة (المخدرات) يؤثرون العودة إلى الواقع بعد أن تحوّلت أمنياتهم إلى أعباء، فيدركون عندها نعمة الصحّة.
وخلاصة القراءة في القصص العشر أنّ الضعفاء والمظلومين إذا ما أتيح لهم الذكاء والفطنة والمبادرة والمساعدة يستطيعون الانتصار على الظالمين الأقوياء، وأنّ الكلمة العليا للخير، فالشر وأدواته الى زوال.
أراد الطاهر بن جلّون الذي وضع كتابه بالفرنسية، بما نسجه من أحداث يزاوج فيها بين الخارق والعادي، الواقع والسحر، الحقيقة والخيال، وبما انطوت عليه قصصه من رسائل، أن يقول للغرب، في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، أنّ للبلدان العربية رواية أخرى «بعيداً عن سمات الفاجعة والمأساة ومن خارج سياق التعصّب والإرهاب وما تُوصم به» (ص9)، وأعتقد بأنّه نجح في ذلك، فهل يقرأ الغرب؟
ليس ثمّة اختلاف بين حضور كتاب «ألف ليلة وليلة» في الذاكرة الجمعية الإنسانية، وحضور الحكايات الخرافية والأساطير التي أعاد صياغتها، في زمن مشابه، الكاتب والشاعر الفرنسي، شارل بيرو (1628 ـ 1703). فمثلما حظيت شخصيات «ألف ليلة وليلة» (شهريار، شهرزاد، علاء الدين، السندباد...) بالخلود، كذلك عرفت شخوص بيرو (ذات الرداء الأحمر، سندريلا، عقلة الإصبع...) الخلود ذاته، وتحولت معها إلى جزء راسخ من المخزون الثقافي الإنساني، ألهمت، ولا تزال، العديد من الكتاب والفنانين، حول العالم، لإعادة إنتاج أعمال أدبية وفنية تحاكي سحر تلك الحكايات، وتحاول الوصول إلى أفكار جديدة عبر استخدامها لرموزها المعروفة جيداً من قبل الجميع.
في كتابه «عشرُ ليالٍ وراوٍ» (دار الساقي ـ ترجمة جان هاشم ـ 2016) اختار الروائي المغربي الفرنسي، الطاهر بن جلون، أن يذهب بالأمر أبعد من ذلك. يتقمّص دور شهرزاد، ليكون راوٍ لعشر حكايات من حكايا بيرو، محوّلاً قارئه إلى شهريار معاصر يصغي إلى توليفة أدبية تحمل إليه شيئاً من ذاكرته، ولكن بحلّة مختلفة.

في تقديمه للكتاب، يشرح مؤلف «ليلة القدر» (جائزة غونكور لعام 1987)، علاقته بالحكايات الخرافية التي تعرّف إليها في طفولته عبر فضيلة، الأخت غير الشقيقة لجدته، التي كانت تروي تلك القصص له ولشقيقه، ليكتشف لاحقاً، بعدما تعرّف إلى النسخة الأصلية من «ألف ليلة وليلة» أنّ فضيلة كانت تستقي الحكايات منها، ولكنها «كانت تهمل المقاطع الأكثر مجوناً. فهي كانت تراعي وضعنا وإن كانت تعلم على الأرجح أننا قد نهتم أكثر بأخبار عربدات الأمراء والشياطين». في المدرسة الفرنسية، تعرّف بن جلون إلى حكايات بيرو، التي كانت مدرّسته بوجارينات تحرص على قراءتها للتلاميذ، من الكتاب الشهير المزين برسوم غوستاف دوريه. ثلاثة مصادر لحكايات خرافية، تعتبر أساس السرد القصصي والروائي العالمي، حملها معه بن جلون (1944) كلّ تلك السنين قبل أن يقرّر التسلل إلى عقل عمّته فضيلة، متخيلاً كيف كان يمكنها أن تروي حكايات بيرو لو أنها عرفت القراءة والكتابة، متقمّصاً إياها في مزج بين شخصيتها المحببة إليه، وشخصية شهرزاد، راوية حكايات «ألف ليلة وليلة»، معملاً قلمه في عشر حكايات لبيرو، معيداً روايتها وتشريقها، محوّلاً مسرح الأحداث إلى بلدان عربية وإسلامية، لأنّه «آن الأوان لرواية هذه البلدان بعيداً عن سمات الفاجعة والمأساة ومن خارج سياق التعصب والإرهاب وما توصم به» بحسب مقدمته.


يغلق القوس في بيروت إيذاناً بحقبة عنف أخرى

في «عشر ليالٍ وراوٍ» ستحمل «الجميلة النائمة» اسم جوهرة، وسيكون الأمير قيس هو من يوقظها من نومها بقبلة على الجبين، لا على الفم، وسيقبل بها رغم تحوّل بشرتها إلى اللون الأسود لتتخذ الحكاية منحى الحديث عن التسامح ورفض العبودية والعنصرية. أمّا «ذات الرداء الأحمر»، التي عرفت في كلّ الترجمات العربية، لحكاية بيرو، باسم ليلى، بعدما اعتمد للحكاية عنوان «ليلى والذئب» فقد حمّلها بن جلون اسم سكينة، وأطلق عليها لقب «فتاة البرقع الأحمر» مسقطاً الذئب من الحكاية، ليحلّ محلّه شاب ملتحٍ، وكأنه بذلك، وأثناء نقاشه لفكرة الغدر الإنساني، يفكّك رموز الحكاية الأصلية. الأمر الذي سيتكرر في القصص اللاحقة: «أبو لحية زرقاء»، «الهر أبو جزمة»، «الجنيات»، «سندريلا»، «حكيم أبو خصلة»، «الإبهام الصغير»، «إهاب الحمار»، و»الأماني الفارغة».
يحتفظ صاحب «ليلتئم الجرح» ببنية حكايات بيرو الأصلية، لكنّه يمضي فيها بما يتلاءم مع البيئة الجديدة التي أوجدها لأبطالها، فتتحوّل الحكايات إلى ما يشبه حكايات تراثية من التاريخ العربي والإسلامي. لن يكون ثمّة خلاف حول أحقية بن جلون أن يقوم بهذا العمل، فالكتابة في نهاية المطاف هي مساحة للتجريب، كما هي مساحة حرّة للتعبير، وهو في كتابه هذا، ربّما، يحاول اختزال شيء من الفجوة الثقافية بين الغرب والشرق. غير أنّ سؤالاً مهمّاً يبرز لدى قراءة «عشر ليالٍ وراوٍ» وهو عن مدى أحقيّة الكاتب أن يتناول تراثاً أدبياً إنسانيّاً، استطاع عبر مئات السنين أن يفرض حضوره في الثقافة الإنسانية، وتحوّلت رموزه وشخوصه إلى مفاتيح استخدمها مئات المبدعين، في كل مكان، لاجتراح حكايات منها، وابتكار أعمال أدبية وفنية تستند إليها؟! فبن جلون، الذي يأخذ عليه كثيرون تنكّره لأصوله المغربية، ومحاولته الدائمة القول بأنه كاتب فرنسي، لم يستق من حكايات بيرو حكايات جديدة، وجلّ ما قام به هو تشريق تلك الحكايات، لتبدو كطيف باهت للحكايات الأصلية، التي تحمل في طياتها بذور الفكر والحس الإنساني، الذي يصلح لكلّ زمان ومكان، وهو بذلك يقع تماماً فيما أخذه سابقاً على فضيلة حول أنها كانت تعمل خيالها في الحكايات فتصبغها بلون لحظات الوحدة والبؤس التي عاشتها، ليصبغ الحكايات الراسخة في وجدان الإنسانية بصبغة شرقية تقرّبها من أجواء «ألف ليلة وليلة» ولكنها في نهاية المطاف لا تقدّم أيّ جديد، وتظلّ أقلّ تأثيراً من الحكاية الأصلية، وهو تماماً ما سيحدث لو أنّ أحداً اختار أن ينقل حكايات «ألف ليلة وليلة» من صحراء الشرق ليجعل أحداثها تدور في غابات أوروبا وعلى قمم سلسلة جبال الألب24

الطاهر بن جلون
الطاهر بن جلون (ولد في 1 ديسمبر 1944، فاس) كاتب مغربي فرنسي. انتقل إلى طنجة مع أسرته سنة 1955 حيث التحق بمدرسة فرنسية. وكان قد اعتقل عام 1966 مع 94 طالب آخر لتنظيمهم ومشاركتهم في مظاهرات 1965 الطلابية، وهي تجربة دفعته بحماس إلى تبني نوع آخر من المقاومة أساسه الكلمة لا الفعل
ودرس الفلسفة في الرباط ثم بدأ يدرسها إلى غاية 1971 حين إعلان الحكومة المغربية عزمها تعريب تعليم الفلسفة. ورداً على هذه الخطوة، غادر المدرّس الفرنكوفوني المغرب صوب فرنسا حيث حصل على شهادة عليا في علم النفس. وبدأت مسيرته في الكتابة بعد فترة قصيرة من وصوله إلى باريس حيث عمل كاتبا مستقلا لصحيفة لوموند وبدأ ينشر الشعر والرواية
أهم اعماله :
ليلة الغلطة. 1996.
تلك العتمة الباهرة .
أن ترحل .
ليلة القدر .
طفل الرمال.
أن إبن جلون ليس كاتبا فقط, وإنما قاص مميز رواية " الليلة المقدسة ", و يعني بها ليلة القدر إلا أنني أرفض ترجمتها كذلك لطبيعة القصة, التي لم تكن سوى تتمة لما جاء في طفل الرمال, حيث رأى بن جلون ضرورة تحرير هذه الفتاة من عالم الذكورة الذي أقحمت فيه وأجبرت على خنق أنوثتها تحت لباسه, فتثور على واقعها المتسلط بمجرد ما يموت الأب سبب معاناتها وعذابها.
هلوسات على جدران الوحدة25..
ثمة إشكالية ما زالت تثير نقاشاً واسعاً حول هوية الرواية العربية المكتوبة بالفرنسية، خصوصاً في شمال إفريقيا العربي، إذ حاولت بعض الأوساط الثقافية في فرنسا تجيير هذه الرواية لصالح الأدب الفرنسي، فأسمت الإبداع العربي المكتوب بالفرنسية "مدرسة شمال إفريقية" كتيار من تيارات الأدب الفرنسي، ولكن الكتاب العرب المغاربة أنكروا هذه التسمية مما أرغم الكثير من النقاد الفرنسيين على الاعتراف بأن هذه الإبداعات عربية، ولذلك نجد ناقداً فرنسياً له حضوره في الساحة الأدبية يقدم لإحدى روايات الكاتب الجزائري (كاتب ياسين) بقوله:
"يجب علينا أن نعد هذا الكتاب رواية عربية مترجمة إلى اللغة الفرنسية، لا لأن أبطالها عرب، ولا لأن أحداثها تجري في أرض عربية، ولا لأن مدارها على الآلام التي يتحملها العرب في الجزائر، ولا على الآمال التي تجيش في صدورهم، بل- أولاً وقبل كل شيء -لأن العقل الذي أنجبها عقل عربي له أسلوبه الخاص في كل شيء: في النظر إلى الأمور، في الإحساس بالمشكلات، في معاناة الحياة، بل حتى في تصور الزمان والمكان).
وإذا ما ألقينا نظرة إحصائية سريعة على الأعمال الروائية المكتوبة بالفرنسية في أقطار المغرب العربي، نجد أنه في الفترة الواقعة بين عام 1945م وعام 1964م ظهرت سبع وثلاثون رواية جزائرية مكتوبة باللغة الفرنسية، وفي الفترة ما بين عام 1965م وعام 1972م صدرت سبع عشرة رواية مكتوبة بالفرنسية، في حين أن الروايات التي كتبت باللغة العربية في تلك الفترة لم تتعد الروايات الثلاث؛ أما في تونس والمغرب فقد بلغ مجموع الروايات التي كتبت بالعربية فيما بين 1945م-1972م أكثر من خمس وثلاثين رواية، في مقابل إحدى وعشرين رواية مكتوبة بالفرنسية
وعلى الرغم من تجاهل حمد السكوت لهذه الروايات في البيبلوغرافيا التي نشرها للرواية العربية في مجلداته الستة التي استوعبت أكثر من مئة وثلاثين عاماً عمر هذه الرواية، من عام 1865م-1995م(3)، وكذلك سيد حامد النساج في كتابه عن بانوراما الرواية العربية الحديثة(4)، والدكتور السعيد الورقي في كتابه (اتجاهات الرواية العربية المعاصرة)(5) فإن ثمة من اهتم من الكتاب المغاربة وغير المغاربة بهذه الظاهرة مثل بن سالم حميش والدكتور أحمد سيد محمد وغيرهما
ولعل من المفيد أن نشير إلى أن مسألة نسبة الأدب وانتمائه أثارت دارسي الأدب المقارن وحفزتهم إلى البحث في هذا الموضوع، وتراثنا العربي القديم يضم نماذج من الكتّاب المزدوجي اللغة مثل عبدالحميد الكاتب وعماد الدين الأصفهاني، وكذلك لدى الأمم الأخرى مثل شاعر الغزل الأرديّ اللغة (مير) الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي فكتب بالفارسية إلى جانب الأردية، وكذلك الشاعر الإسلامي الكبير محمد إقبال الذي كتب بالفارسية والأردية، قس على ذلك الكاتب الروسي هنري ترويات الذي كتب باللغة الفرنسية عن قضايا ومشكلات المجتمع الفرنسي...
وقد نشأ عن هذا الوضع موقف يرى أن لغة النص هي هويته، لذا نجد عددا من مؤرخي الأدب الفرنسي يفردون قسما خاصا للأدباء غير الفرنسيين الذين يكتبون بالفرنسية، وهذا يعني أن ثمة فارقاً بين الأدب الفرنسي المكتوب من قبل فرنسيين، والأدب الفرنسي المكتوب من قبل الأفارقة أو الأمريكيين، فثمة فارق بين شعر أراجون الفرنسي وشعر سنغور السنغالي، على الرغم من الاشتراك في لغة كتابة واحدة، ومن ثم فإن ثمة اختلافا بين ما كتبه صاحب الرواية المشهورة (مدام بوفاري) وما كتبه الجزائري مولود فرعون صاحب روايات: "الدروب الوعرة" و "الأفيون والعصا
ولعل هذا ما يؤكد أن اعتبار اللغة وحدها فيصلاً في نسبة الأدب وهويته سيؤدي إلى إنكار آداب أمم استعارت لغة غيرها لظروف خاصة واتخذتها وسيلة للتعبير عن أفكارها ومشاعرها، وهي أفكار ومشاعر أمة تختلف عن مشاعر وأفكار الأمة التي استعارت منها لغتها).
وفي مقابل وجهة النظر التي ترفض انتماء الأعمال الروائية المكتوبة بالفرنسية إلى الأدب الفرنسي، هناك من يرى أن هذه الأعمال لا يمكن موضوعياً إلا أن تقوم كفصل في التاريخ المعاصر للغة الموطن التي كتب وطبع فيها؛ أي تاريخ الفرنسية من حيث هو حقل ذهني ونفسي ولساني، وأن لهم حق المواطنة الأدبية الفرنسية كالكتاب الفرنسيين جزائريي المولد مثل كامو و روبليس وسيناك وسكاليسي وغيرهم، وبالتالي فإن هذه الأعمال الروائية لا يمكن نسبتها إلى العربية بوصفها غنيمة حرب- كما يقول الكاتب الجزائري كاتب ياسين- فاللغة هي عالم في ذاته يعطي للخطاب قواعده ونواظمه، وللكتابة أرضية انغراسها واشتعالها، وللرؤية أفق نبضها وتحركها، كما يقول بن سالم حميش، فاللغة ليست مجرد مرافق، بل هي خيط عميق الحبك في نسيج الفكر، إنها للفرد كنز الذاكرة ووعي يقظ.
والحقيقة أن هذا الأمر مشكل، ووجه الإشكال فيه اعتبار الكتاب العرب الجزائريين، بخاصة الذين كتبوا بالفرنسية، أنفسهم منفيين عن لغتهم الأم إلى اللغة الفرنسية، وشعورهم بالأسى لعلاقتهم القسرية بالفرنسية التي فرضها الاستعمار لأنهم لا يتقنون غيرها، ويعتبرون المسألة "دراما لسانية" على حد تعبير ألبير ميمي، وحالة استلاب لغوي كما عبر عن ذلك أحمد الصفريوي وجان عمروش وكاتب ياسين وإدريس الشرابي فيقول: "منذ عشر سنوات ودماغي العربي المفكر بالعربية يطحن مفاهيم أوروبية على نحو بالغ العبث وهو صاحب العبارة الشهيرة "إن أرواحنا تنزف دماً في فرنسا". وفي اعتقادي أن أبلغ تعبير إزاء الفرنسية جاء على لسان كاتب ياسين الذي قال:
"إن معظم ذكرياتي وإحساساتي وأحلامي ومناجاتي الداخلية تتعلق ببلادي، فمن الطبيعي أن أشعر بها في صيغتها الأولى- أي لغتي الأم العربية، ولكني لا أقدر على إنشائها والتعبير عنها إلا بالفرنسية
وإذا كان هناك من يدعم هذا القول، فهو ما أشارت إليه بعض الكاتبات الفرنسيات من أن كتاباً معروفين كتبوا بلغات ليست لغاتهم، فيونسكو كتب بالفرنسية وجويس كتب بالإنجليزية وكذلك كافكا. وعلى الرغم من أن ثمة من يرد عليه بأن الفارق بين الفرنسية والعربية فارق جوهري بينما تشترك اللغات التي كتب بها هؤلاء المشاهير مع لغاتهم الأصلية. ولكن ثمة شريحة من هؤلاء يقدمون أنفسهم ممثلين لحضارة عشوائية متجذرة في كل ما هو عجيب وغريب، استجابة لتصورات المتلقين على الجانب الآخر، فيمارسون لعبة الحواة في تصوير جانب من التراث الشعبي العربي، الذي يبدو من وجهة نظر أصحاب اللغة المستعارة (الفرنسية) رمزاً للتخلف، ويعللون ذلك بأنهم يستكشفون تراثاً شفاهياً غير مكتوب يضاهي ما لدى الأمم، وهم - في حقيقة الأمر- يستجيبون لرغبة الخيالات التي يمارسها الطرف الآخر.
ويعلل جيل آخر من كتاب الفرنسية انصرافهم الكلي عن العربية، بزعم أن العربية لغة مقدسة، وبالتالي فهي لغة " الرقابة والرقابة الذاتية" التي تعرقل نشاط الخيال وتعوق الإبداع، بينما يرون أن الفرنسية لغة إبداع تتيح لهم ممارسة التحليق والابتكار، وأصحاب هذه المزاعم جيل آخر تالٍ لجيل الرواد، وهم إنما يتبرقعون بهذه الحجة المتهافتة ليخفوا حقيقة مواقفهم الفكرية مثل جمال الدين الشيخ ومحمد أركون وابن جلون وغيرهم.
ثمة موقف آخر يلوذ أصحابه بما يسمونه التعددية ويمتدحون الكتابة باللغتين العربية والفرنسية، وهم في حقيقة الأمر لا يعرفون إلا الفرنسية، بل إنهم ليجهلون الكثير من أمور دينهم وثقافتهم كما هي الحال بالنسبة للطاهر بن جلون الذي يقول عنه بن سالم حميش: كثيراً ما تطلبه وسائل الإعلام الأوروبية عن سذاجة أو غبارة أو رغبة في التسخير من أجل استجوابه في الإسلام والحركات الأصولية وفي الثقافة التي يفتخر بها، هذا في حين أنه في روايته المجازة (الليلة المقدسة) أو (ليلة القدر) يخلط بين الشهور القمرية الاسلامية ويصف صلاة الجنازة كما لو أنها مشابهة لإحدى الصلوات الخمس... الخ.
ومع هذا فإن أصحاب هذا الموقف يبدون وقد خابت آمالهم بالفرانكفونية، ويعترفون بأن منهم مَنْ هو عربي في خدمة من يسخرونهم للسبّ في لغتهم وتراثهم، وإذا ما خالفوا ذلك يتهمون بأنهم يضربون مرضعتهم ويبصقون في الصحن الذين يأكلون منه.
وليس أدل من الإحساس بمأساوية الموقف الثقافي لشريحة ممن يكتبون بالفرنسية، من قول مالك حداد "إن اللغة الفرنسية تفصلني عن وطني أكثر من البحر المتوسطي". إن هناك ممارسة استعلائية ترغب في أن يكون الكتّاب العرب خدماً للثقافة الفرنسية وحملة للوائها، ولعل من المثير أن يسأل مسؤول كبير هو (تيري دي بوسي) عبدالكبير الخطيبي عن ضعف تأثير الفرنسية في المغرب فهي (قليلة الإخصاب) على حد تعبيره، بينما استطاعت الآداب اللاتينية وخصوصاً الإسبانية إخصاب قارة بأكملها.
واستخدام كلمة (الإخصاب) ينم عن منطق استعماري استعلائي. وقد تعرض الخطيبي الذي كتب بالفرنسية إلى القمع من أوساط ثقافية فرنسية منعت إلقاء ورقته في مناظرة حول الأوضاع العامة للفرانكفونية لأنها لا تخدم الثقافة الفرنسية، ولهذا يقول:
"إن كتُابنا لا يُطلب منهم أن يكتبوا بالفرنسية ويعملوا على إشعاعها فحسب، وإنما كذلك أن يكونوا خدّام الأعتاب الفرانكفونية نظاماً وسياسة محددة الاختيارات والرؤى.
ومهما يكن من أمر، فإننا لا يمكن أن نشطب عملاً بججم ثلاثية محمد ديب المكتوبة بالفرنسية التي تضم ثلاثة أعمال روائية هي "الدارة الكبيرة"، التي ظهرت عام 1952م "والحريق" التي صدرت عام 1954م، "والنول" نشرت عام 1957م، فقد كانت أشبه بثلاثية نجيب محفوظ التي صور فيها جانباً من الحياة في مصر بين الحربين: العالمية الأولى والعالمية الثانية، فهذه الثلاثية- بدورها- صورت الحياة في الجزائر خلال ما يقرب من ثلاث سنوات من الحرب العالمية الثانية (من عام 1939-1942) في شكل سيناريوهات أو مشاهد تكشف عن جوهر الحركة الاجتماعية في تلك الحقبة.
وقد اختار الكاتب (تلمسان) على الحدود المغربية الجزائرية، حيث دارت الأحداث في دار سبيطار، التي وصفها الكاتب بأنها تشبه البلدة في اتساعها وعدد سكانها، فهي بيت عتيق موقوف على سكان همهم الاقتصاد في النفقة، ويعمد إلى وصفها وصفاً دقيقاً على نحو ما يفعل الكتاب الواقعيون؛ والأسر التي تعيش في غرف مستقلة ويشتركون في منافعها كالبئر والمطبخ ودورة المياه، وهذا البيت يضم نماذج بشرية بائسة جائعة، وهذه المشاهد المأساوية تقابلها صورة للترف الذي يعيش فيه المستعمرون الفرنسيون.
وقد عمد محمد ديب إلى تقديم عينات لنمط الحياة التي يعيشها هؤلاء دون أن يطيل الوقوف أمامها. بينما تعمل كاميرته على التقاط ألوان التسلط التي تمارسها الشرطة التي تقرع باب دار سبيطار باحثة عن الخارجين على سلطة المستعمر مثل (حميد سراج) الذي يسكن مع أخته في غرفة من غرف هذه الدار.
وفي الرواية الثانية من هذه الثلاثية (الحريق) يصور محمد ديب حياة الفلاحين ومشكلاتهم في قرية (بوبلان) المجاورة لتلمسان حيث تسكن واحدة من بنات الدار الكبيرة بعد زواجها من أحد الفلاحين. ويكشف الكاتب في هذا الجزء عن شرائح من المناضلين والخونة الذين يعملون في خدمة المستعمر، وصوّر جانباً من حياة السلبيين الجامدين الذين لا يعنيهم شيء مما يدور حولهم، ويصور تباشير حركة الوعي التي مهدت لقيام الثورة.
أما الرواية الثالثة (النول) فيركز الكاتب اهتمامه فيها على حياة طبقة من العمال في مصنع نسيج (ماحي بوعنان) ويقدم الكاتب في هذا الجزء من الثلاثية مشهداً من مشاهد الحياة الاجتماعية، فقد هاجر الفلاحون من قراهم وفروا ليعملوا في المدينة وكانوا يزحمون الطرقات يتسكعون في الشوارع: "كان بعضهم يظل نائماً بغير انقطاع متلففاً كالقنفذ، فإذا أراد أحد أن يحسن إليه كان لا بد له أن يميل عليه ليدس له القرش في راحة يده".
إن هذه الرواية تنتمي إلى بيئتها الوطنية وإن لم تنتمِ إلى لغتها، غير أنها ترجمت إلى العربية وبالتالي عادت إلى لغتها الأم، ولهذا لا يمكن إلغاؤها من التراث العربي الروائي في الجزائر، فهي تصور بيئة تلمسان الاجتماعية كنموذج للحياة في مرحلة تاريخية معينة شديدة الأهمية بالنسبة للجزائر، وإن اختار الكاتب فترة هدوء تاريخية (1939م-1942م) في الجزائر بسبب ظروف الحرب العالمية وإعلان فرنسا حالة الطوارئ العامة في هذا القطر العربي، ولكنها كانت فترة تشكُّل واختمار للوعي الذي فجر الثورة الجزائرية فيما بعد.
ولهذا تعتبر هذه الثلاثية أنموذجاً للرواية العربية المكتوبة بالفرنسية، ولربما تسلط الضوء على الإشكالية برمتها، فما كان متسقاً مع الحياة العربية منتمياً إليها ومترجماً إلى العربية ينبغي أن يُعتدّ به كجزء من هذا التراث، وما لم يكن كذلك فهو ليس عربياً، وبالتالي يُستبعد منه.
الاحالات
ا1انظر أهم العوامل المؤدية إلى تفشي ظاهرة الكتابة باللغة الفرنسية رغم أن الاستعمار قد ولى وانتهى
http://revues.univ-biskra.dz/index.php/sh/article/view/611
2عبدالعزيز كحيل اتجاهات الأدب الفرنكوفوني في المغرب العربي
تاريخ الإضافة: 21/4/2009 ميلادي - 25/4/1430 هجري
http://www.alukah.net/publications_competitions/0/5553/#ixzz4JqxBYEer
18-10-2011, 3دراسة نقدية في الأدب الجزائري - منتديات بوابة العرب
http://vb.arabsgate.com/showthread.php?t=539653
مبروك قادة, « إشكالية الإنتماء القومي للأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية » 4
Insaniyat / إنسانيات[En ligne], 9 | 1999, mis en ligne le 30 novembre 2012, consulté le 30 août 2016. URL : http://insaniyat.revues.org/8261 DOI : 10.4000/insaniyat.8261
http://www.alittihad.ae/details.php?id=139769&y=2007&article=full2007 5
تاريخ النشر: السبت 22 سبتمبر حسين محمد أحمد منور: الأدب الجزائري تميَّز بالرواية دون غيرها
مبروك قادة, « إشكالية الإنتماء القومي للأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية »6
Insaniyat / إنسانيات[En ligne], 9 | 1999, mis en ligne le 30 novembre 2012, consulté le 30 août 2016. URL : http://insaniyat.revues.org/8261 DOI : 10.4000/insaniyat.8261
مبروك قادة, « إشكالية الإنتماء القومي للأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية »7
novembre 2012, consulté le 30 août 2016. URL : http://insaniyat.revues.org/8261 DOI : 10.4000/insaniyat.8261
Insaniyat / إنسانيات[En ligne], 9 | 1999, mis en ligne le 30
مبروك قادة, « إشكالية الإنتماء القومي للأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية »,8
Insaniyat / إنسانيات[En ligne], 9 | 1999, mis en ligne le 30 novembre 2012, consulté le 30 août 2016. URL : http://insaniyat.revues.org/8261 DOI : 10.4000/insaniyat.8261

مبروك قادة, « إشكالية الإنتماء القومي للأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية »9
Insaniyat / إنسانيات[En ligne], 9 | 1999, mis en ligne le 30 novembre 2012, consulté le 30 août 2016. URL : http://insaniyat.revues.org/8261 DOI : 10.4000/insaniyat.8261
http://www.alittihad.ae/details.php?id=139769&y=2007&article=full2007 10
تاريخ النشر: السبت 22 سبتمبر حسين محمد أحمد منور: الأدب الجزائري تميَّز بالرواية دون غيرها
11إشكالية الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية ٬ مولود فرعون رواية الدروب الوعرة – نموذجا http://dspace.univ-tlemcen.dz/handle/112/5353 12-jui-2014
12إشكالية الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية ٬ مولود فرعون رواية الدروب الوعرة – نموذجا http://dspace.univ-tlemcen.dz/handle/112/5353 12-jui-2014
13إشكالية الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية ٬ مولود فرعون رواية الدروب الوعرة – نموذجا http://dspace.univ-tlemcen.dz/handle/112/5353 12-jui-2014
8-10-2011, 14 دراسة نقدية في الأدب الجزائري - منتديات بوابة العرب
http://vb.arabsgate.com/showthread.php?t=539653
http://www.alittihad.ae/details.php?id=139769&y=2007&article=full2007 15
تاريخ النشر: السبت 22 سبتمبر حسين محمد أحمد منور: الأدب الجزائري تميَّز بالرواية دون غيرها
18-10-2011, 16 دراسة نقدية في الأدب الجزائري - منتديات بوابة العرب
http://vb.arabsgate.com/showthread.php?t=539653
18-10-2011, 17دراسة نقدية في الأدب الجزائري - منتديات بوابة العرب
http://vb.arabsgate.com/showthread.php?t=539653
18-10-2011, 18دراسة نقدية في الأدب الجزائري - منتديات بوابة العرب
http://vb.arabsgate.com/showthread.php?t=539653
19 دراسة نقدية في الأدب الجزائري - منتديات بوابة العرب
http://vb.arabsgate.com/showthread.php?t=539653
18-10-2011, 20دراسة نقدية في الأدب الجزائري - منتديات بوابة العرب
http://vb.arabsgate.com/showthread.php?t=539653
. http://www.alittihad.ae/details.php?id=139769&y=2007&article=full2007 21
تاريخ النشر: السبت 22 سبتمبر حسين محمد أحمد منور: الأدب الجزائري تميَّز بالرواية دون غيرها
مبروك قادة, « إشكالية الإنتماء القومي للأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية »22
Insaniyat / إنسانيات[En ligne], 9 | 1999, mis en ligne le 30 novembre 2012, consulté le 30 août 2016. URL : http://insaniyat.revues.org/8261 DOI : 10.4000/insaniyat.8261
مبروك قادة, « إشكالية الإنتماء القومي للأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية »23
Insaniyat / إنسانيات[En ligne], 9 | 1999, mis en ligne le 30 novembre 2012, consulté le 30 août 2016. URL : http://insaniyat.revues.org/8261 DOI : 10.4000/insaniyat.8261
مبروك قادة, « إشكالية الإنتماء القومي للأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية »24
Insaniyat / إنسانيات[En ligne], 9 | 1999, mis en ligne le 30 novembre 2012, consulté le
30 août 2016. URL : http://insaniyat.revues.org/8261 DOI : 10.4000/insaniyat.8261
الاستئصال" للطاهر بن جلون أو كتابة الألم
http://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2014/3/2/-25 %D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A6%D8%B5%
26الموقع التجريبي لجريدة الأخبار
http://www.al-akhbar.com/node/261430
الجمعة ٢٣ آذار (مارس) ٢٠٠
شكالية الانتماء في الرواية العربية المكتوبة...26
www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=833
محمد صالح الشنطي



#ابراهيم_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلاقات التركية الأفريقية من جديد
- البلاغة الكلاسيكية والجديدة
- علاقة الأدب بالمجتمع
- النقد الأدبي تعريفه ومفهومه ومنهجيته ومقاييسه واتجاهاته
- الأدب المقارن مفهومه ونشأته وتطوره
- القصة الإفريقية الشفهية وأهميتها
- القصة الإفريقية الشفهية وميلاد القصة العربية
- المرأة في الأدب العربي الإفريقي في جنوب الصحراء شعراء وسط إف ...
- الأدب العربي الإفريقي في منظور الدكتور يوسو منكيلا
- اثر الثقافة العربية على قبيلة مزغوم في الكاميرون
- الأدب العربي الإفريقي في جنوب الصحراء عالمية الغزل في الشعر ...
- ديوان الحياة
- عندما ينام العقل تستيقظ الوحوش_ دي غويا
- الإنسانية والأخلاق أولاً
- العظّايات الخضر.


المزيد.....




- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم محمد - الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية