أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - خيانة الأفكار














المزيد.....

خيانة الأفكار


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 5344 - 2016 / 11 / 15 - 12:31
المحور: الادب والفن
    


=======

في إحدى قصائدي القديمة، تصوّرتُ أن رأسي من الزجاج الشفّاف، بحيث يمكن لأي إنسان أن "يرى" أفكاري ويقرأها، دون حاجة مني لشرح ما يتصارعُ في دماغي من رؤى وأحلام وأفكار. القصيدة عنوانها "جمجمةٌ زجاجية". ولكن، هل تُرى الأفكار؟

هكذا أيضًا كان يحلم رجلٌ مجنون من بلجيكا اسمه "رينيه ماجريت"، ولد في نهايات القرن التاسع عشر، ورحل عن عالمنا عام 1967. تساءل حالمًا: "لو أن الأفكارَ يمكن أن تُرى!" كان يتمنى أن يرسمَ "الأفكارَ" المجنونةَ، التي قد تعنُّ لخيالنا الجامح. تلك الأفكار التي يعجز الشعراءُ عن صياغتها في كلماتٍ، ويخفق الفنانون في رسمها بفرشاتهم، ولا يقدر الموسيقيون على توقيعها نغمًا.
رسم هذا الرسامُ الجميل تفاحةً، ثم كتب أسفلها: "هذه ليست تفاحة!" ومرّةً أخرى رسم غُليونا (بايب)ثم كتب تحت الغليون: "هذا ليس غليونا!"وأطلق على تلك اللوحات: "خيانة الصور". فأي خيانة يعني؟ الأمرُ قد يُفهم على معنيين. المعنى الأول للخيانة هو أن الغليون المرسوم، ليس غليونًا حقيقيًّا من الخشب. إنما صورةُ غليون. مجرد ورقة مرسومٌ عليها غليون. وهنا الخيانةُ. لأنك لن تقدر أن تمدَّ يدَك وتحشو الغليونَ تبغًا، وتدخن، كذلك ليس بوسعك أن تقضم التفاحة الشهية! المعنى الآخر للخيانة، وهو المعنى الأقرب في ظني لمقصد الرسام، هو الدعوة لأن ننظرَ إلى عمق الأشياء، وليس إلى ظاهرها. ذاك أن "اسم" الشيء ليس يعني الشيء نفسه، بل هو مجرد كلمة تشير إلى شيء. فكلمة "وردة"، لا تحمل لونَ الوردة ولا رائحتَها ولا جمالَها. هي كلمة أطلقها أحدُهم من قديم الزمان على هذا الكائن البديع؛ ثم ورثنا نحن الكلمةَ كدالٍّ على مدلولٍ هو الوردة، وسوف نورّث تلك الكلمة لأولادنا وأحفادنا بالتبعية. لكن الدلالةَ والجمالَ والشكلَ والعطرَ لا تكون إلا في الوردة ذاتها، لا في “اسمها”. فاللغةُ، أيّةُ لغةٍ، عاجزةٌ دائمًا عن كشف هُوية الشيء. والأسماءُ دائمًَا اعتباطيةٌ لا معنى لها. لذا نجد ماجريت في لوحة أخرى يرسمُ مجموعةً من الأشياء: حذاء، بيضة، شمعة، قبعة، مِطرقة، كوب؛ ثم يكتب جوار كلّ شيء اسمًا مخالفًا لاسمه المعروف: الحذاءُ= قمرٌ، البيضةُ= شجرةُ أكاسيا، الشمعةُ= سقفٌ، القبعةُ السوداء= ثلجٌ، المطرقةُ= صحراءُ، الكوبُ= رعدٌ. أعطى الفنان لنفسه الحق في إعادة تسمية الأشياء بأسماء جديدة. لماذا؟! هو حرٌّ. أليس الفنانُ حرًّا؟! نعم. للفنان حق "المجنون"، وتلك أحد أسرار عبقرية الفن. الحرية.
ثم يأتي فيلسوف فرنسي اسمه: ميشيل فوكو، ويؤلف كتابًا عنوانه: This Is Not a Pipe ،(هذا ليس غليونًا). يناقش فيه فكرة التناقض في لوحة الغليون.
وفي لوحة أخرى رسم ماجريت سمكةً نائمة على شاطئ، لكن ذيلها ليس إلا ساقين لامرأة. هي الصورة النقيض لشكل "عروس البحر" كما صورتها لنا الأساطير: امرأةً بذيل سمكة. وفي لوحة أخرى رسم جسدَ امرأةٍ عارية، نصفُها العلويّ بلون السماء، والسفلي بلون طمي الأرض.
في العام 1937 رسم ماجريت رجلا ينظر في المرآة وظهره لنا. وكان من الطبيعي أن نشاهد على صفحة المرآة انعكاسَ وجه الرجل ظاهرًا لنا. لكننا لا نرى إلا ظهر الرجل أيضًا على صفحة المرآة. لن نرى وجهه أبدًا. وسمى اللوحة: "لا يمكن إعادة انتاجه".
وفي لوحة أخرى اسمها "العاشقان"، نرى رجلا يُقبّل امرأةً، لكن رأسيْ العاشقينْ مُغطيان بقطعتيْ قماش تُخفي ملامحَهما. وفي أخرى نجد وجه رجل أمامه كرةٌ ضخمة تخفي ملامحه. وفي أخرى رأس الهدف المرسوم ليس إلا كتلةَ ضوءٍ صماء. وفي أخرى رسم حذاءً تطلُّ منه أصابع قدم. بلا ساقين ولا إنسان. والشاهد أن الملامح البشرية مختفية في معظم أعمال رينيه ماجريت، الفنان السوريالي الشهير. ذاك أن فلسفته تقول إن التعيينَ والتحديدَ والشخصنة محضُ عبث. فمثلما أسماءُ الأشياء عبثٌ اعتباطيّ لا تحددها ولا تميزها، فالملامحُ كذلك لا تحدّد البشرَ ولا تميزهم. ثمة شيءٌ أعمقُ مطلوبٌ لتحديد الأشياء والأشخاص. ربما الهُوية، ربما الجوهر، ربما الفكرة. ولكن بالتأكيد ليس الاسم ولا الشكل الظاهري.
أما أجمل لوحاته فعنوانها "محاولة المستحيل". رسم فيها فنانًا يمسك ريشةً وباليتة ألوان، ويرسم في الهواء امرأة. وتتشكل المرأةُ بالفعل لتستوي أمامه بشرًا سويًّا. واقفةً قبالته هناك على أرضية الغرفة، وليس فوق لوحة الرسم.
ما أجمل التشكيل حين يحمل فكرة، وما أجمل الفن حين يخون الأفكار.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا يعني مهرجان الموسيقى العربية؟
- متى المسافرُ يعود؟
- هل نحب؟
- لن تدخلوا الجنة حتى تحابّوا
- شريهان.... العصافير أنبأتنا عن مخبئك!
- حوار مع أبي .... وألحقني بعبادك الصالحين
- سوف يكبرون ويحبّون العالم
- بيان من فاطمة ناعوت بخصوص مؤتمر واشنطن | لماذا يهاجمني بعض أ ...
- الحرفُ يقتل!
- المعادلة المستحيلة ... لا تطفئوا مِشعلها!
- كيف تصير مشهورًا دون تعب؟
- حُرّاس لغتنا الجميلة، وقاتِلوها
- يا ماعت: اخلعي حذاءك في المطار
- صاحبة السعادة تهدينا مذاقاتِ طفولتنا
- سبعُ قبّعات فوق رأسك
- مشروع قومي: ضدّ الطائفية
- حرية التعبير يا حمادااااا
- اخرج م الطابور يا خروف!
- يا ريتها كانت بركت وفطّست العجينة
- ولاد الناس …. وولاد اللامؤاخده


المزيد.....




- في عيد التلفزيون العراقي... ذاكرة وطن تُبَثّ بالصوت والصورة
- شارك في -ربيع قرطبة وملوك الطوائف-، ماذا نعرف عن الفنان المغ ...
- اللغة الروسية في متناول العرب
- فلسطين تتصدر ترشيحات جوائز النقاد للأفلام العربية في دورتها ...
- عُمان تعيد رسم المشهد الثقافي والإعلامي للأطفال
- محمد نبيل بنعبد الله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية يع ...
- -الحب والخبز- لآسيا عبد الهادي.. مرآة لحياة الفلسطينيين بعد ...
- بريطانيا تحقق في تصريحات فرقة -راب- ايرلندية حيّت حماس وحزب ...
- كيف مات هتلر فعلاً؟ روسيا تنشر وثائق -اللحظات الأخيرة-: ما ا ...
- إرث لا يقدر بثمن.. نهب المتحف الجيولوجي السوداني


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - خيانة الأفكار