أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب مال الله ابراهيم - كونراد… كان هناك















المزيد.....

كونراد… كان هناك


حبيب مال الله ابراهيم
(Habeeb Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 5296 - 2016 / 9 / 26 - 02:55
المحور: الادب والفن
    


كونراد… كان هناك
د. حبيب مال الله ابراهيم
جال نظره على الساحل الأفريقي المتآكل، المزدحم بالزوارق، والمتخيلة على صفحة الماء الداكن قبل دخول الشمس إلى سباتها اليومي واختلاط الظلمة بسواد الأشرعة. جلس يتأمل الطبيعة المتمثلة بالتلال الخضراء والسماء الزرقاء، وأبطأ التفكير ليجد زمنا يتناغم مع تأملاتهلهذه الزيارة...عشر سنوات...عشرون...ترى منذ متى وهو هائم برؤية هذا المنظر ألغروبي الأخاذ؟
لم تكن أفواه الإنكليز تتفوه بما تقترفه جموعهم المترئسة لمجمل أعمال الحفر والتنقيب بحثا عن المعادن الثمينة، بحق الكنغوليين ومحاولتهم محو خريطة تلك المجموعة من القبائل الوثنية القابعة في قعر القارة الأفريقية والتي تظل خضراء بمروجها على مدار السنة وأمطارها غير المتقطعة،حتى حين تتراكم الثلوج على سفوح ليفربول وويلز وقد أغرت هذه الخضرة نفوس الإنكليز فسخروا جموع الكنغوليين الجياع لأعمالهم الشاقة مقابل حنطة تجلبها لهم من مستعمراتها في استراليا وتستغل قواهم وتستنفذ ساعاتهم للبحث عن المعادن والعاج، هذه المادة التي تباع بأغلى من سعر الذهب في لندن.
ذهل كونراد حال رؤيته ظلم الإنكليز بحق أصحاب الأرض. كان ينظر إلى ما يحدث بذهول وهو يسأل نفسه بعد عجزه عن كبح جماحه:
- لماذا نظلم السود مع إن الفرق بيننا لا يتجاوز لون البشرة؟
لم يكن يجري في عروقه دم إنكليزي ازرق نقي سوى قطرات نقلت إليه حين كان بحاجة إليها قبل سنوات لانتمائه إلى أصول بولونية هاجرت إلى إنكلترا والمعروف بقدومهم من مناطق أخرى. وقد يكون للشرق حصة فيها كذلك لأفريقيا...ولماذا لا تكون للكونغو؟ قد يكون والده كونغوليا، وإلا كيف يفسر حبه لحرية السود مقابل كرهه لظلم البيض.
كانوا يسيرونهم مجاميع متفرقة، أياديهم مربوطة بسلسلة طويلة لا يفكر أحدهم البتة بالهرب لوحده دون أن يعرض الآخرين للقتل أو للتعذيب وقد تتمثل عقوبتهم بعدم أعادتهم إلى مخيماتهم بعد حلول المساء في المنطقة النائية المسمى زورديا التي تبعد عدة كيلومترات عن الساحل الأفريقي.
(كودي) هذا اليافع الوحيد في مجموعته المكونة من ثلاثة عشر كونغو ليا ممن تجاوزت أعمارهم الخمسين، يقودهم بحذر وهو يتلقى سوط المراقب الإنكليزي حين يتوقف لبرهة أو بدون سبب سوى إشباع المراقب لرغبته في التعذيب،وكلما نظر إلى يده الممسكة بالسوط وهو يجلده تذكر وجه حبيبته لورينا ثم يمسح شفتيه من بقايا حساء جفت ويمصها كأنه يعيد طعم قبلة تركها على خدها ليلة أمس بعد أن توقفا على مقربة من مخافر الإنكليز، مبتعدين عن المخيم وكلمات تتناهى إلى سمعهما كانت جديدة عليهما...كذهب...عاج...ثروة...
كان كرهه للإنكليز يتضاعف يوما بعد آخر وقد بلغ ذروته حين نظر أحد المراقبين إلى لورينا وأراد مغازلتها بكلمات لم يفهمها، لكنه أيقن إنها تميط اللثام عن اشتهاء المراقب لجسمها المحدب فبصق على الأرض، ورأى في بصقته صورة المراقب وهو يبتسم لها، بينما كانت هي تنظر إليه باشمئزاز يكشف عن كرهها له وقد اشتد غيضه الذي لاحظه عليه رفاقه مما حدا ب-زميله (سواركي) أن يهمس:
- أحذر يا كودي أنهم وحوش...إياك أن تشعرهم باحتقارك...وإلا ذبحوك ورموا لحمك لكلابهم.
-لكن.
-اسكت...ها قد اقترب المراقب.
* * *
في يوم خريفي من عام 1842 بينما كان الكنغوليين يكسرون الأحجار بمعاولهم...نظر كودي إلى الأغلال التي تربطه بزملائهباحتقار وأيقن ان حادثة ما على وشك الوقوع إذا استمر البيض بتصويب نظراتهم المشبوبة بالاشتهاء إلى لورينا. ولما حان وقت الغذاء جاءت بعض النسوة والفتيات السوداوات بالطعام فكادت نظرات البيض أن تلتهمهن وتحاول رؤية ما تحت الثياب بما فيهم المراقب البدين الذي اتفق الجميع على أن ينعته بوب ذو العينين الزرقاوين والشعر الأشقر والوجه الأصفر البليد.
جلست لورينا أمام كودي لتطعمه وهي تتأمل ملامح وجهه المتآكل، وهمت بمسح قطرات عرقه على وجهه الذي لمع تحت أشعة الشمس الحارة، والابتسامة لا تكاد تفارق شفتيها الجائعتين إلى قبلاته. اقترب بوب بخطواته الثقيلة وتوقف على مقربة منهما، لكنه لم يحتمل هذا المنظر المشبوب بالرقة فمد يده وأمسك بذراعها ثم سحبها لتقع بين أحضانه. صوب الجميع أنظارهم نحو بوب وكاد كودي أن ينهض لكنه ركله، فسقط على وجهه الذي تمرغ بالتراب ثم بصق عليه وهو يصيح به:
-أيها الحقير، أتريد أن تحب وأنت بهذه الحالة؟إننا أسيادك أن كنت لا تعلم.
فاضت عينا كودي بالدموع كذلك كان الحال مع لورينا وهي تتوسله أن يتركها. فتقدم كونراد وهو ينهره:
- حرام عليك يا بوب.
فالتفت إلى الوراء ليرد عليه:
- كونراد...أخيرا نطقت.
- وماذا تظنني؟
- البحارة مشهورون بغبائهم، تذكر ذلك يا كونراد.
وهكذا مرت تلك الأشهر العجاف التي قضاها كونراد في الكونغو...اغتصاب لثرواتهم وقسوة في التعامل معهم وتسخير الكنغوليين لأعمالهم الشاقة كأنهم دواب وليس آدميين.
في أحد أيام الخريف أقيم احتفال في مخيم السود حضره رئيس البعثة مستر ريتشارد ومرافقوه وكل من معهم. بدأ الاحتفال بغناء وعزف كنغولي حزين كان صوت المغني ساحرا وبدا المراقبون يختارون من الفتيات السوداوات من تتقن الرقص كي يقدموهن أمام رئيس البعثة بينما كان الكنغوليين جالسين يصفقون خشية العقوبة، وعلى حين غرة تقدم بوب الثمل من لورينا الجالسة بين الفتيات وأمسك بذراعها ثم سحبها نحوه وهو يأمرها:
-ارقصي لنا...هيا...
وبدا بوب يرقص أمامها وهو يتمايل يمينا وشمالا ثم صاح بها:
- أترفضين أن ترقصي أمام أسيادك؟انك متمردة إذا.
ما كان منها إلا أن ترضخ وترقص مكرهةبعد أن أدارت بصرها نحو كودي وكأنها تستأذنه في ذلك وقبل أن يحل الظلام كان معظم المراقبين قد ثملوا، بيد ان بوب تقدم من لورينا راغبا في تقبيلها وتعالت نوبات الضحك. امتنعت عن الرضوخ له رافضة أن تستقر بين أحضانه حتى لم يعد بوب يحتمل فأوقعها على الأرض وباشر يلثم شفتيها عنوة. احتقن وجه كودي من الغيرة وسمع صوت سوار كي:
- تنبه يا كودي...انهم وحوش.
لم يكن بمستطاعه رؤية منظر حبيبته وهي تغتصب أمامه، فتقدم من بوب وامسك بيده ولواها، ثم أوقفه بقوة. توقف الغناء وكان البيض ينظرون بشراهة إلى الأسود الخائف على حبيبته. حاول بوب أن يوجه إليه لكمة لكن كودي أمسك بيده مما حدا به إلى إخراج مطواة من تحت حزامه كان يحتفظ بها. تراجع كودي بعد أن أوقع المطواة على الأرض وهو يرى بوب يقع عليها منغرسة في صدره وغرق في الحال بدمائه. نظر الحاضرون بذهول إلى جثة بوب الهامدة وصاح أحد المراقبين:
-دم الأبيض يسيل،اللعنة على السود.
ما كان من كودي إلا أن يمسك بيد لورينا ويفرا نحو الغابة المحاطة بالظلام. أراد المراقبون أن يتبعوهما، لكن مستر ريتشارد صاح:
-توقفوا وانظروا إلى زميلكم بوب الغارق بدمه. اذهبوا للقبض عليهما، يجب أن تقتلوهما كما لو أنكم تقتلون كلابا موبوءة.
جرى كونراد هو الآخر نحو الغابة لكن دول استوقفه:
-كونراد عد أدراجك لتهيئة السفينة لأننا سنبحر عائدين إلى الوطن.
- ولكن...
- ألست تريد العودة إلى الوطن؟
بات كونراد يتقلب على فراشه طوال الليل متوقعا أن يدخل عليه في أية لحظة من يخبره إنهم القوا القبض على كودي ولورينا. تمنى لو استطاعا الفرار دون أن يقبض عليهما، وكان بوده لو أستطاع في إعانتهما على الفرار إلى إنكلترا ترى ماذا يحصل لو عاشا في إنكلترا وأصبحا من أثريائها؟
في صبيحة اليوم التالي أبحرت السفينة الحمراء عائدة إلى إنكلترا وعلى متنها شلة من الإنكليز الذين اخذوا معهم الكثير من الذهب والعاج. كانت الأمطار تهطل بغزارة والتلال دائمة الخضرة كعادتها كأنها تلوح بيدها ل- كونراد الطيب وكان طريق الإبحار يمر بالبرازيل التي أدركوها بعد أيام طويلة. وهناك فتح كونراد باب المخزن المظلم والمليء بالأغطية القديمة في ليلة باردة وكانت السفينة قد حلت ضيفا على الميناء البرازيلي، لكنه تفاجأ برؤيةزوجين من العيون ترنوان إليه،فتراجع مذعورا. فخرج كودي ولورينا الذين قاوما الجوع والبرد لأيام وهما خائفين فأسرهما كونراد:
-لقد وصلنا إلي البرازيل.
أومأ كودي برأسه معبرا عن شكره له. في تلك الليلة انسلا كطيفين في دهاليز المدينة البرازيلية تلك واستأنفت السفينة الإبحار في اليوم التاليولم تتوقف إلا في ميناء بورتسموث.
* * *
-حسنا يا كونراد،لماذا جئت بعد أكثر من قرن ونصف لتخبرني بهذه القصة العجيبة؟ ولماذا لم تدونها في روايتك (قلب الظلام)؟
-لم يكن بمقدوري تدوينها،لأنهم كانوا سيحاكمونني باعتباري خائنا ساعد أفريقيا على الهرب.
-لكن (كودي) لم يقتل المراقب، بل هو الذي وقع على المطواة.
- أعلم بذلك.
- أتعتقد أن الحقيقة يجب أن تخفى؟ كنت تستطيع أن تغير وجهتك إلى دولة أخرى...إلى بولونيا مثلاموطنك الأصلي.
- لكني كنت سأظل خائنا بنظر الإنكليز.
-حسنا يا كونراد،انتظر هنا ريثما احضر لك روايتك (قلب الظلام) من مكتبتي.
دخلتُ المكتبة لإحضار الرواية. وحين عدت إلى كونراد الجالس في الصالة لم أجده. حين نظرت إلى الخريطة الكبيرة المعلقة على الحائط لمحت سفينة كونراد وهي تبحر مجددا نحو الكونغو،تنبعث منها تفاريق البخار.



#حبيب_مال_الله_ابراهيم (هاشتاغ)       Habeeb_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مفهوم المعلومات واهميتها
- المعلومات
- تأريخ الصحافة
- الدكتور زهدي الداوودي .. والبعد الرابع
- الصحافة الاستقصائية
- الوقت بين الماضي والحاضر..
- حرية الصحافة بين النظرية والتطبيق
- الاعلام الحديث
- الاعلام الدولي وعصر -انفجار المعلومات-
- مفهوم الخطاب وسماته
- مجتمع المعلومات ومجتمع المعرفة
- الهجرة والثقافة
- تمثال الملك
- ثقافة الرشق بالأحذية
- الملك الجبان
- يدّ العون
- قصص قصيرة جدا
- أم.......وات
- مُحاكمة كلب
- أزمة الاعلام العراقي


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب مال الله ابراهيم - كونراد… كان هناك