أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عذري مازغ - دائرة المشردين















المزيد.....


دائرة المشردين


عذري مازغ

الحوار المتمدن-العدد: 5247 - 2016 / 8 / 7 - 02:40
المحور: الادب والفن
    


دائرة المشردين

تعمل ماريا ساعي البريد لدى شركة خاصة، وتفتخر بذلك أكثر، كانت في ما سبق نادلة بمقهى، ثم عملت في قطاع التنظيف ببلدية باراكالدو وهي الآن كارتيرا بالشركة البريدية، امرأة رقيقة العواطف، حساسة لدرجة جنونية وشاعرة مجنونة أيضا برغم أنها لم ترمي نفسها في موجة إقراض الشعر وتدوينه، لها بالشعر حكاية ظريفة جمعتها مع أول عشيق لها من أصول غجرية تحمل له ذكريات جميلة برغم أنه تركها بسبب من ذوبانه في عالمه الجنوني أيضا، عالم المخدرات والشرب وغناء الفلامنكو، تقول مريم بلكنتها الشاعرية بأنه "ينتمي إلى الزمن المطلق الذي خطواتي فيه متجاوزة"، لقد مات حسب قولها أو هو مات بالنسبة لها، كان هذا العشيق هو من ألهمها بالشعر منذ مراهقتها، لكن مع اعترافاتها الجميلة هذه في أن تنسب الأمور إلى شخص أثر في مجرى حياتها إلا أن بيئتها الطبيعية ربما ساهمت بشكل ما في أسلوب ترنيم لغتها التي تحفظ الكثير من المصطلحات التدميرية التي تنطقها بطلاقية وتلقائية عجيبتين، فهي ولدت يتيمة الأبوين وتبنتها الكنيسة منذ صغرها، وهي لذلك حتى في بحثها الميؤوس عن زوج ظريف يغسلها كما تريد، كانت تريده بشرط أساسي، تحلم أن تعقد زواجها بطقس كنسي وان ترتدي زي العروس في زفافها، لقد مزقت أخيرا لونها المفضل في العرس بسبب إخلال صديقها الجديد بالمواعيد:
"يكون ظريفا وحنونا فقط حين ينتهي معاشه، أما حين يتلقاه، فإني لا أراه إلا حين ينهيه في ليلة واحدة مع أصدقائه المشردين مع أني لا يعنيني معاشه أصلا، لكن يمسني في الصميم، بسببه نؤجل دائما تاريخ الزفاف..لقد مرغ وجهي في الحظيظ، أصدقائي وصديقاتي لم يعودوا يصدقون دعواتي للحضور لكثرة التأجيل ..”
ميجيل أنخيل عشيقها المخل بمواعيد الزفاف كما تحكي، حين تراه أمامك، لا يبدوا من خاصياته ذلك الإنسان المراوغ، ليس من النوع الذي تثيره مغامرات النزوات العابرة، لكن يبدوا على العكس من ذلك، إنسانا منتهية صلاحيته بالمرة، مختل بسبب تناول الكحول وأقراص التنويم وتحت إشراف طبيب متخصص في أمراض الكحول والمخدرات، له كل المبررات الطبية في أن يخل بمواعيد الزفاف، وربما لذلك يربطها دائما بمعاشه الشهري الهزيل الذي يمكن اعتباره بمثابة دزينات جعة رخيصة، ولأنها مغرمة به، وهو يعرف ذلك تماما، فإن نشوته التسكعية تتم في أجبارها على التحمل، يعرف انها رقيقة المشاعر، وأنها تقدر ظروفه الصحية، ويعرف أن حبها أكبر من أن تخصره بمجرد ليلة قضاها في التسكع مع رفاقه، إلا أن شيئا ما يخل بهذه العلاقة التي تعتبرها ماريا خارج الزمن لسبب ما لا تعرفه، حين تنتفخ جيوبه بمعاشه الهزيل يبدو مستبدا إلى حد ما، ينسى كل خصالها الجميلة، ينسى حتى أن علبة التدخين التي يدخنها يوميا تخرج من جيوب ماريا الكارتيرا ــ اللقب الآخر المحبب لديها كشاعرة، كان يستفزها كثيرا لشكل لباسها، تقول ماريا بأنه أمرها ان تخفي كل جسدها كالمحجبات وهو أمر غريب في مسلكه هذا لأنه ليس مسلما حتى تأخذه محمل المتقين الورعين في الدين، كانت تعتقد بشعورها المرهف أنه غيور بينما في الحقيقة كان الأمر غير ذلك تماما، كان يتضايق من أصدقائها وصديقاتها كثيرا وهي أيضا تقر بذلك ولا ترى فيه نفورا طبقيا بل لا زالت تعتقد أنها غيرة لأنه هو نفسه اعترف لها بالأمر، لكنه في الحقيقة لو كانت غيرة لكان هو من يبحث عنها، كانت تحب الألوان الزاهية والجميلة، تحب التبرج والخروج من طفولتها الكنسية، تحب اللون الأزرق الفاقع وتتمنى أن يكون لباس زفافها، أن يكون ساقاها طليقة للرياح الشتوية، كان الأمر المثير عند ميجيل هما ساقيها النحيلين، تبدو نسبة إلى جسدها أمرا مختلفا، ريشتان رشيقتان تفتقد الإمتلاء لتتناسب وجسدها البدين، وربما كان الأمر عندها ناتجا عن سوء التوزيع الغذائي كما يبدو عندنا نحن الأفارقة، صدر وبدن ممتلئ بساقين نحيلتين غير ممتلئتين، تناقض في التناسق الجسدي المغري للذكورة، وربما كان ذلك باعثه الأساسي في أن يصبح ميجيل رجلا متقيا كالرجال عندنا في شمال إفريقيا.
قررت ماريا دي كارتيرا أن تذهب الجمعة للرقص في أي ملهى ليلي، يجب عليها أن تنسى كل إهانات ميجيل الذي حاولت طيلة ثلاث سنوات أن تخرجه من بؤس الملاجىء دون جدوى، كان الكثير من المشردين مثله في الملجإ يحسدونه كثيرا على حظه السعيد بوجود شاعرة رقيقة المشاعر تعزه وتوفر له كل أسباب الخروج من الملجإ، لكن بحقد دفين كان المشردون يجبرونه على التمرد، وربما أحكم بقسوة على الأمور من منطلق أن المشردون بغريزة البقاء الداروينية أيضا، يعشقون أن تكون لهم قوة طبقية، أن يعبروا عن أنفسهم بالكثرة، أن لا يتركوا شخصا ينفلت من طبقتهم بوعي غريزي أو بنزوع الإنتماء إلى القطيع ، إن الكثرة تعبر عن الوجود أكثر من الإستثناء الذي يعبر بنمطية معينة عن حالات خارقة تتطلب دعم خيري يعتمد على وجود كم خاص، او نصاب معين مثلا ابتلاء مرضاة حسنات الإنسانية مع أن الأمر مستعصي على التفسير..
قررت ماريا أن تذهب الجمعة إلى أي ملهى للرقص في مدينة بلباو بعيدا عن شؤم باراكالدو الذي يذكرها لمدة ثلاث سنوات بملجإ المشردين.
ــ هل تشربين الجعة؟ سألها سعيد بطريقة متطفلة، بغريزة انتهازية منحطة، لتجيبه بأنها لا تتناول الكحول، لكن في الملهى تفضل عصير فواكه بالشوكلاطة، سعيد المشرد هو الآخر حاول أن ينتهز الفرصة باقتراح صحبتها، لكن بطريقة غير مباشرة، طريقة محتشمة على كيفيته:
ــ لظروف تعرفينها لا أستطيع التشرف بمصاحبتك، لكن ربما غدا سيكون مدبرها حكيم، سأوصلك حيث تسكنين، وبعد سنكون على اتصال، أنا أقطن هنا في هذه العمارة، أشار بيده إليها
ــ أنا بعيدة نسبيا من هنا، سعيدة جدا أني وجدت اليوم أحدا أشكو إليه خرافاتي ويتحملني، سعيد بصحبتك، كما ترى، لأول مرة أجد شخصا أشكو إليه، أشكرك كثيرا، لدي صديقات كثر وأصدقاء لكن لم أجد أحدا يواسيني، غدا سأذهب للرقص لأني مشتاقة لذلك وبعد غد سأقوم بعمل آخر وحدي، سأذهب إلى الشاطئ وأتوحد مع نفسي
ــ أستطيع مرافقتك للشاطىء، أحب السباحة والارتخاء، قالها سعيد متلقفا
ــ أشكر لك جميلك، أفضل أن أكون وحيدة، الذهاب إلى هناك بالنسبة لي كالذهاب إلى الصلاة، في الشاطيء سأحسم في مصيري مع ميجيل، سيكون قراري النهائي في الشاطيء، أنهت كلامها بشكل كان سعيد بطريقة متسائلة يوميئ بها كما لو كانت تقصد أن تنتحر، فهمت قصده لكنها أومأت له بانها لا تقصد ذلك، بل هي طريقتها في حسم الأمور،
ــ الأمر عندي كالصلاة!، ليس أكثر، أنا شاعرة وما زلت مصرة أن أزف إلى رجل باللون المحبب عندي، اللون الأزرق، ليس ميجيل نهاية العالم، علي أن أفكر في الأمر، لدي متسع من الوقت وفي الأرض أكثر من رجل، لدي الكثير من متسع الوقت.. إنها طريقتي في التوحد بنفسي، بطريقة ما، ولكي يفهم سعيد أكثر، أضافت وهي تبتسم: هل رأيت الناس حين يذهبون إلى الكنيسة للاعتراف بخطاياهم؟كذلك أفعل أنا مع الشاطئ، أعترف له بخطاياي
كانا يمشيان في ممر خاص أقيم خصيصا للراجلين، موازاة معه ممر آخر للدراجين، ومع أن هذه الممرات أنشئت حديثا في كثير من المدن الإسبانية مع تنامي الوعي أخيرا بأزمة التلوث وضيق الفضاءات المدينية المتخصصة للراجلين بسبب المساحات الكبيرة التي تحتلها طرق السيارات إلا أن ممر باراكالدو يبدو قديما جدا وهو ما يفسر وعي المدنيين بها بهذا الأمر قبل ان تنهال على المدن الأخرى كموضة عصرية حيث استثمرها الكثير من تجار الصفقات في تمريرها لشركات بموازنات مالية وهمية خدمة لبروباغندا الحملات الإنتخابية..، حين بلغ سعيد منطقة مظلمة تطل على الحي الصناعي خطرت له فكرة أن يعود حتى لا تنوي السيدة الشاعرة بأنه يستدرجها للخلاء:
ــ يبدوا أننا تمشينا كثيرا وأخذنا الكلام على حين غرة في الوقت الذي علي اليوم أن أنام باكرا لأنهض باكرا، لدي أمور تنتظرني غدا.!
ــ أشكر لك لطفك سعيد! أشكر لك أنك سمحت لي أن أفرغ شيئا من ضيقي، أعرف ان هذا كله فارغ ولا يعني شيئا لديك لكن بالنسبة لي شيء عظيم، أشعر الآن بانشراح في صدري، أشكر لك سعة صدرك. اتممت كلامها هذا فرافقها إلى حيث تسكن.
التحق سعيد ببراكالدو منذ خمسة أشهر، كان قبلا في منطقة أندلسية معروفة بالزراعات المكثفة، وكان يعمل كوسيط ثقافي في تلك المنطقة ضمن نقابة محلية، وعندما استقل من العمل بسبب خلافات داخلية حول طريقة وأسلوب العمل إضافة إلى تورط بعض أعضاءها بما يسم موجة بداية هذه الألفية التي ميزتها الخاصة هي الفساد المالي، بعد محاولة فاشلة في تأسيس إطار نقابي جديد، اضطر للهجرة من جديد بحثا عن عمل مستقر، استقر رأيه في إطار خطة "ب" كما يقول أن يلتجئ إلى مدينة بلباو لأسباب يعرف عنها منذ بدايات التحاقه بإسبانيا برغم أنه أمضى على ذلك أكثر من خمسة عشر سنة بالأندلس، ودخول إسبانيا في أزمة مالية مزمنة شلت حركة الشغل، لا زال سعيد يعتقد أن بلباو ومن خلالها منطقة بلاد الباسك تتسم بمزايا مختلفة عن باقي المناطق الإقليمية الأخرى، كانت بلاد الباسك بداية الألفية الثالثة تتسم بالرفاه الإجتماعي المغري لكثير من المهاجرين، في السنوات الأولى لهذه الألفية وعلى خلاف ما تكرسه صورة نمطية لفريقها الكروي المعروف "أتليتيك بيلباو" الذي يعود الفضل في تأسيسه إلى عمال إنجليز، هذا الفريق لا يضم أي أجنبي محترف في صفوفه ما يعطي انطباعا بأن المنطقة منغلقة على الذات ولا تقبل الأجانب، لكن على العكس تماما، في بداية هذه الألفية كما أشرت، كان المسؤول الحكومي حول الهجرة الأجنبية في المنطقة من أصول إفريقية وهذا ما تلقفه سعيد أيام مزاولته للمواسم الفلاحية عندما كان يعمل في موسم جني الثوم بمنطقة كوينكا، اقترح عليه احد رفاقه أن لا يضيع وقته في جولات موسمية غير مستقرة وان يسارع للاستقرار في بلاد الباسك، عد عليه هذا الرفيق كل مزايا تلك البلاد الخضراء والجميلة خصوصا تلك الأمور التي تتعلق بالمزايا الإجتماعية ذات العلاقة بالرفاه: “عندما تكون في بلاد الباسك اعتبر نفسك أنك في فرنسا وليس في بلاد "بورقعة"، يقصد إسبانيا.. من الامور التي أثارت سعيد أيضا ليجعل منطقة الباسك تحتل خطة "ب" في الاستقرار أمر مثير وقع امام عينيه عند زيارته لمدينة "فيكتوريا"الباسكية، في إحدى الحانات كان جالسا في خلوة يسحق الجعة وحيدا، فتمثل أمامه مشهد غريب، مقارعة في علم السياسة لمهاجر مغربي مع آخرين من منطقة ليون:بالتحديد عامل سابق بمناجم الحديد بالباسك، وهو الآن متقاعد ومن منطقة ليون التابعة لأقاليم لامانتشا يأمر المغربي أن يعود إلى بلاده ما دامت إسبانيا لم تملأ مزاياها عينيه، عليه أن يعود إلى بلاده المقفرة بالديكتاتورية الملكية العتيقة، فلم يكن بدا من المغربي إلا أن يرد عليه بأنه ليس في إسبانيا بل في منطقة الباسك:
ــ "دقق جيدا كلامك، أن لست في إسبانيا بل في بلاد الباسك"، رد المغربي بلهجة حادة.
أثار خلالها زقزقة من الضحك الساخر في جلسائه بما فيهم العامل الليوني صاحب الإهانة.. كان حدثا بسيطا نم عند سعيد شعوره القومي: كيف لمغربي أن تكون له هذه الجرأة لو لم يكن يعرف الخلفيات السياسية الإقليمية والقومية لشعوب إسبانيا، لقد كان المغربي مقنعا بشكل أثار حنكة لدى سعيد، لقد أثار تعاطف أصدقائه من الباسك معه، واثار في نفس الوقت مشكلة حساسة ألجمت صديقه الليوني، استلهم سعيد أنها خلفية جميلة تمكنه من أن يركب فوقها كلما شعر بمضايقات عنصرية وهو عاش مجمل حياته في المهجر بالأندلس، وكثيرا ما تعرض لمثل هذه المواقف ولم يكن يوما يملك ردا مقنعا، كأن يرد على وطني قومي فاشي إسباني، بانه هنا ببلاد الأندلس وليس بإسبانيا ليترك له بعد ذلك مجالا للتفكير في البحث عن إسبانيا. كان يشعر دوما انه ضيف في بلاد العم خوسي، وكان أسير خلفيته السابقة حول الهجرة في المغرب: "سأهاجر ثم أجمع المال وأعود لأبني مستقبلا في البلاد "، كانت الهجرة سوقا لاقتناء المستقبل، مشروعا مهما في بناء المستقبل في المغرب، إلا انه، ومع مرور الوقت، أصبحت شيئا مقلقا تماما، صورة قاتمة يمثلها، تستند إلى مرجع تاريخي: أرسل ملك مغربي بعثة من الشباب إلى أوربا للإستفادة من الخبرات الأوربية واقتناء مستقبل البلاد أيضا، وكان ذلك في عصر الأنوار، إلا أن البعثة أحرقت كلها قبل أن تطأ أقدام عناصرها أرض الوطن، يتذكر شخصية الملك المغربي المتفتحة إبان عصر الأنوار، فينطفئ وهجها في عينيه كما انطفأت عناصر البعثة في عين المغاربة في الساحل المغربي: "الهجرة سوق لمقايضة الواقع، لكن حين تكون سلع المهجر فاسدة في عيون الأهالي كبعثة عصر الأنوار، فالهجرة إذن ليست أكثر من وهم دونكيشوتي نمارسه عينيا".
فتحت صورة المغربي المقارع في فيكتوريا امام سعيد أملا جديدا: “ الهجرة هي تحول عام أيضا، حين تهاجر يجب أن يتملكك الإحساس بانك مواطن وليس ضيف، الهجرة سكن في محيط آخر وليس إيجار شقة بفندق"، ليست كما ترى: مقايضة لواقع الأفراد، بل هي تحول حقيقي، ليس أمر هجر بلد يمكن استرجاعه بالمال المكتسب في المهجر، بل هو هجر واقع وانخراط في واقع آخر يفترض أن تتأقلم معه، يفترض أن تكون لك نفس رؤية المغربي الباسكي في أن يزيح ألم المضايقين ممن ركبوا بالوهم وجود دولة اسمها إسبانيا، يجب أن يكون على المرء أن يستمد وجوده من الحيز الجغرافي الذي هو فيه، لقد ذكره أمر المغربي المقارع بأمر أنخيليس في الأندلس، صديقته التي تعمل منسقة في حزب يساري حين كان يدافع عن مغربية الصحراء، قال لها بان الصحراء لم يكن لها وجود تاريخي، فردت عليه بأن المغرب أيضا لم يكن له وجود تاريخي بل كانت هناك دولة العلويين او المرابطين أو الموحدين...، واشارت أيضا لكي تطمئنه، بأن إسبانيا أيضا لم تكن موجودة، وعليه فالمسألة عندها ليست تاريخية، بل مدنية وجغرافية وقومية، ثم أضافت له درءا للتناقض: "تاريخية أيضا بمعنى أننا نحن من يصنعه وليس الماضي”، قالتها بطريقة ساخرة. كم كان صعبا على سعيد أن يستوعب هذه التركيبة العقلانية التي يحضر فيها التاريخ منفلتا من خرافاته الزمانية، أن يكون للمغرب وجود منذ زمن قديم، إن الذي كان هي دول بأسماء مختلفة، المرابطون، الموحدون ، المرينيون .. أسماء لها طابع تاريخي زماني حقيقي، ليس كما تلهمنا به القوى الحية المهيمنة سياسيا حين تتملك تاريخ وهمي وتثيره كتاريخ حقيقي، إنها دول انتهى نحبها ذاكرتنا نحوها هي استعادة وهمية للمجد التاريخي.. عملية تملك للماضي من طرف قوى حديثة أو دولة حديثة، الدولة المرابطية أو دولة الموحدين مثلا كانت تهيمن على جغرافية شاسعة تمتد من تونس إلى الأندلس وما فوقها، من الصعب إيهام الأجيال بمغرب بهذه الشساعة، بشكل أيضا يصعب خلق أندلس أموية جديدة..
ــ "العقلانية الأوربية مختلفة عن عقلانيتنا، لو كانوا مثلنا، لتمسكوا باسترجاع أمجاد الإمبراطوريا الرومانية كما نتمسك نحن باسترجاع الأندلس، أو وهذا قريب جدا، لتمسكت أنجلترا بكل مجدها الإمبراطوري الذي قيل حول إمبراطوريتها أنها لا تغيب فيها الشمس"، هذا ما استنتجه سعيد عند مقارعته لأنخيلا غونزاليس الأندلسية .
لم يجد سعيد إقليم بلباو كما ترصع في ذاكرته، ثم إن صورة المسؤول الإفريقي حول الهجرة هي أمر خارق للعادة، فالكثير من المشاكل التي تحول دون اندماج المهاجر هي في الحقيقة وجود مهاجرين في أوساط مدينية وظفت لأجل لعب دور مهم: عكس صورة متفهمة لواقع المهاجر انطلاقا من شخص عانى الهجرة، المسؤولون بالمهجر يوظفونه لأجل وضع حلول، هذه مقاربة أولية، "لن يعرف محنة المهاجر أكثر ممن جربها"، لكن المهاجر في وظيفة حكومية ببلاد المهجر لا يعكس في الحقيقة إلا صورة نمطية للخلفيات النمطية التي أجبرته هو نفسه على الهجرة، في الحقيقة تجد هذا الموظف صورة نموذجية تذكرك بآليات أنت هجرتها أصلا: كم هو ممقت أن تجد قنصليات بلدك في خدمتك؟ فهي تذكرك بنفس الحيض الذي أنت هاجرته، أما حين تجد موظفا في الإقليم الذي هاجرت إليه وهو مازال يكرس نفس الأمراض التي هاجرتها، حينها يجب أن تلعن هجرتك، الهجرة هي نوع من البحث عن الصفاء الذاتي، تماما كما نوت ماريا بصلاتها في الشاطئ، الهجرة هي ان تبتعد عن هذه الكائنات البيروقراطية، وحين تجدها في طريقك في المهجر، هاجر أكثر بعيدا:
ــ "ليتني في بلاد لا قنصلية مغربية فيها ولا سفارة، إنه الصفاء الذاتي"، خمن سعيد مستلهما حكاية صديق له في بيلاروسيا تعرف عنه عبر النيت.
سعيد نفسه حين كان وسيطا ثقافيا في قضايا العمل والإجتماع كان يتعرض في عمله لكثير من المواقف التي هو هاجرها في بلاده، يوما كان في مكتبه، اتاه عامل مهاجر يطلب منه منح مواعيد التبصيم في مكتب شرطة الهجرة، خدمة كانت توفرها السلطات الإقليمية لتسهيل عمل توزيع المواعيد، وكانت النقابة تمنح لها مائة منها توزعها هي ايضا على فروعها الثلاث بالإقليم بالتساوي، ولأن سعيد ذلك اليوم، كانت دورته أن يعمل بالعاصمة فهو مفروض عليه أن يتعامل بمعطيات التقسيم في حدود لائحة المنطقة (أقصد العاصمة)، حضر مهاجر يطلب منه مواعيد للتبصيم (عند تجديد أوراق الإقامة يلزم القيام بوضع بصمات اليد وتشرف عليها سلطات الأمن، ولتسهيل الأمر تعمل بالتنسيق مع الجمعيات والنقابات في توزيع هذه المواعيد قبل أن تفتح خطا في النيت بعد ذلك)، كان سعيد يتوفر على ثلاثة فقط من لائحة المنطقة، العاصمة، أخبر العامل بالأمر، فكر مليا ثم رأى أنه يمكنه أن يتصرف في مواعيد منطقة أخرى نسبة الوافدين عليه فيها قليلة، فكر أن يضيف ما ينقص العامل من منطقة اخرى لأن العامل يفترض تجديد إقامته هو وأفراد أسرته وهم خمسة، أخبر العامل بالأمر، فرد العامل بطريقة عفوية، مد يده لجيبه ليمنحه خمسين يورو، ابتسم سعيد في وجهه: “أفسدتم المغرب بهذا السلوك وجئت إلى هنا مهاجرا لتفسد الأمر، لو طلبت منك أن تنخرط كمشارك في النقابة لكانت مشكلة برغم أن ما تمد به الآن هو ثمن الإنخراط نفسه وله لك فيه مزايا أخرى"، لم يجد العامل بدا غير التأسف، أخذ مواعيده وشكره ولم يره سعيد منذ ذلك اليوم.
هاجر سعيد إلى بلباو، احتكم إلى خبرته السابقة في جولة المواسم، محتكما إلى خلاصته حول هجرة المواسم، في كل المناطق (مناطق الموسم الفلاحي) التي زارها في إسبانيا يوجد ملجأ لعمال المواسم، حيث تحظى هناك بخدمات تقوم على الترحيب بك كعامل موسمي، الصليب الأحمر يوفر ملجأ عاما، تعاونية الشركات الفلاحية أيضا، وبلدية المنطقة أيضا تقوم بواجبها في إنجاح الموسم من خلال القيام بخدمات اجتماعية: "هذه هي أوربا التي تشجع العمل، عكس أوطاننا البئيسة في تعاملها مع عمال الحصاد حيث تجد مشكلة مع بواب الشركة"، يقولها سعيد كلما حل بمنطقة موسمية، مع أن المقارنة مجحفة في هذا المجال، فموسم الحصاد في المغرب يتسم بتقليد خاص فيه غياب دور المؤسسات الحكومية: متى كان أن فكرت بلدية بمنطقة معينة بالمغرب في إنجاح موسم فلاحي ما؟"لو حصل الأمر في المغرب أكيد سيحضر ممثل عن الملك أو عن الرباط بشكل عام . فكر سعيد كثير انطلاقا من منطقته في المغرب بإقليم خنيفرة، ثم تذارك: "هل نحن في دولة مدنية تفكر جيدا في إنجاح مواسمها في الجني؟، نحن دولة غائية تفكر لشعوبها ان تجني في الجنة الموعودة"، مثل هذه الدولة التي تفكر في إنجاح مواسمها، بغض النظر عما يثير الغرائز الحيوانية في كياناتها المرهونة ليوم الخلاص في الآخرة: "مالذي يجعل الناس تفكر في الجنة في الآخرة ولا تفكر في بلوغها في الدنيا؟"، "إسبانيا مثلا تعمل على إنجاح مواسمها بتوفير آليات ذلك النجاح، تخلق جنتها” ، كانت هي الكثير من الهواجس المتناقضة تخيم على مخيلة سعيد: "الحصاد هو العامل الأكثر بؤسا في التاريخ برغم نزوته الفحولية التي يثيرها تعويضا لتهميشه من خلال سرعته في الأداء في أكتساح أكبر مساحة في وقت وجيز، فروسية خارقة"، قالها سعيد متأملا في المشهد، ثم أضاف:" في المغرب لا يزال القطاع الفلاحي منفلتا عن تأطير الدولة ككيان مدني، لا زال ينتمي إلى ما قبل المدنية حيث الناس تنتمي إلى صرح القبيلة، من الغباء إثارة المقارنات"، وهذا كان اول تصريح لسعيد عندما زار المغرب لأول مرة بعد الهجرة ولا زال يجر هذه المقارنة المخيبة له مع أصدقائه في المغرب. في مجلس خمر، كان سعيد مبهورا بما رأى في مساره من الناظور حتى بلدته، لأول مرة سينتبه إلى أمور لم يثرها حسه عندما كان مواطنا عاديا، أقصد ليس مهاجرا، لان فطرته كانت متمثلة ومتناسقة مع واقع الأمر الذي هو الآن يشكل له صدمة حقيقية: "في المغرب ليس هناك أي قطاع منظم، لا أبالغ، لا يمكن إجراء مقارنة!"، قالها لأصدقائه، ثم أضاف: "على سبيل المثل، في إسبانيا كل دكاكينها تضع أثمنة سلعها، في المغرب بشكل عام وليس خاص، لاوجود لهذا الامر في أغلب المدن...، يمكن ان نقارن المغرب بدولة متخلفة لم تصلها بعد روح المدنية كالصومال برغم أني أشك في الأمر لأني صراحة أعرف أن الأفارقة متفتحون ثقافيا أكثر منا، ولهم قابلية كبيرة للتمدن، المقارنة اساسا يجب ان تخضع لمنطق تقاربي، أن يكون المغرب أولا دولة مدنية لنحكم على أدائها، وبما انه ليس كذلك، هو دولة مخزنية، فالمقارنة مدعاة للسخرية، تعني المدنية وضوح العلاقة، على سبيل المثل، بين البائع والمشتري على أساس متفق عليه وليس على أساس أن أدخل مع البائع في مساومة استشف منها خداعي مع ضياع وقتي، هل تعرف؟"،يسأل سعيد: "أفضل الأثمنة المعلنة غشا على أن أدخل مع بائع في تقييم سلعته، الأمر فيه مضيعة للوقت، انتم تسمونها شطارة وهي عندي ليست أكثر من تلبس، البيع فيه نوع من الإبتزاز واللاعدل، تقارن واحد يعرف القيمة الحقيقية لمنتوجه وآخر لا يعرفها، يجب أن أشتري البضاعة من خلال تقييم خاص موضوعي تقوم الدولة بتحديده بناء على خرافات معينة، لا يهم، يقول سعيد.. المهم أن لا يكون التحديد بين شخصين أحدهما يستغل جهل التقييمات عند الآخر".
في أي بلدية في إسبانيا، يشكل فلاحوها صوتا مهما في ترشيح المسؤولين عنها، ولهم فيها استقلال القرار عن المركز، في إسبانيا، كل قرية لها قنوات إعلامها الخاص، في المغرب فرضت أخيرا كرها (من الإكراهات) في النيت وليس في الفضاء السمعي البصري العام،صفرو وحدها كانت تقوم باحتفال موسمي بملكة جمال "حبلملوك"، بعدها ميدلت أيضا: ملكة جمال التفاح الذي فازت فيه مرة، إحدى ملهمات سعيد التي كان يحبها بشغب في المواسم الدراسية: أمور تثير الغريزة الجنسية أكثر مما تثير ثقافة العمل، هذه الاقاليم، إلى جانب عبق الفاكهة الطبيعي الخالص، هناك عبق رائحة الجنس والعهر: "مواسم مشوهة يسميها المثقفون في المغرب بطريقة مستلبة وسلبية: الفلكلور”. إن تعايش المخزن مع محيطه اضطره ليستلب المعالم الجميلة في الفولكلور، لنضطر في المغرب أن نسميه ظاهرة عهرية أكثر منه ظاهرة إنسانية فنية معبرة، الشيخات في الذاكرة الشعبية، هن العاهرات على الرغم من أن العهر يخضع في الثقافات الإنسانية إلى مستوى محدد بين بائع ومشتري فيه طرفا المعادلة عاهران ذكرا كان أو أنثى. بفارق أن المشتري يمثل ظاهرة عهر لحظية بينما البائع يشكل ظاهرة احترافية، كل هذه الأمور مرت لحظيا في مخيلة سعيد.



#عذري_مازغ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإسلام بين الهمجية والتهذيب
- -بويفيذاحن-
- وصية شاشا ورمزيتها السياسية
- المثلية الدينية
- اليسار وإشكالية الديموقراطية
- المظلة
- العلمانية بين النضج المدني وغيابه
- حول الأزمنة البنيوية عند مهدي عامل
- خواطر مبعثرة
- حكامنا خنازير
- القومية من منظور مختلف
- خواطر ملبدة
- نقض لاطروحة الأستاذ عصام الخفاجي في حواره في الحوار المتمدن
- حرب اللاجئين
- رد على أبراهامي حول مقاله -لم يفهموا ماركس يوما ما-
- رحلة في الباتيرا (3)
- دقة المرحلة
- رحلة في الباتيرا 2
- رحلة في الباتيرا
- احترام المسلم للإختلاف لا يعدو أكثر من نكتة سمجة


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عذري مازغ - دائرة المشردين