أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد الله عنتار - التنشئة الهدرية : مدخل نظري لتفكيك الأصنام الكبرى (الله، النبي،الملك)















المزيد.....



التنشئة الهدرية : مدخل نظري لتفكيك الأصنام الكبرى (الله، النبي،الملك)


عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .


الحوار المتمدن-العدد: 5065 - 2016 / 2 / 4 - 15:59
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كان الهدف من بحث الليسانس الذي قمت به سنة 2012، والذي حمل عنوان : « لا تأثيرية المسلسلات المدبلجة على الطفل المغربي، دراسة ميكروية مقارنة بين طفلة مغربية، وطفل مكسيكي » هو الوقوف على التنشئة الهدرية التي يخضع لها الطفل المغربي، فمن خلال دراسة الفعل والقول داخل المنظومة الأسرية تبين أن الطفل تشله ترسانة من الطابوهات، لقد تعلم أن يقمع رغبته الجنسية، وتلقن أن يقدس كائنا غامضا الذي هو الله، وأن يجلل كائنا مهابا الذي هو الملك، كما سعت دراستنا إلى إبراز كيف يقمع السؤال خلال عملية التنشئة، فهذه الأخيرة ليست سوى غسيل الدماغ حيث يتم تجفيف الحس النقدي من الطفل، ثم إن الغرض من مقارنتي هو معرفة ما إذا كان الطفل الموضوع قيد الدراسة قادرا أن يخرج من بوتقة الأسرة عن طريق التأثير فيه من طرف أبطال المسلسلات وخاصة الأطفال، لكن الذي ظهر أن الكثافة التنشئوية قولا وفعلا مسلطة من طرف الأسرة أكثر من أي قناة تنشئوية أخرى، ومن ثمة لا سبيل للتحرر منها وتكسير الطابوهات الكبرى، وإنما الذي ظهر لي بعد سنوات من إنجازي هذا البحث أن التأثير لا يمكن أن يكون مسلسليا، بل الأمر يتعلق بقنوات تنشئوية أخرى تكمل عمل الأسرة، وتتداخل معها، فتعمل على قمقمة الطفل، بل الطفولة عموما، ولئن كان المسلسل « أين أبي ؟ » يتضمن تحررا في الحديث عن الجنس والدين والسياسة، فإن هذه الرسائل لا يمكن أن تصل إليه، فهو لين كالعجين وتفبركه الأسرة على نحو الذي تريد، الشيء الذي دفعني خلال السنوات التي تلت بحثي تعميق ملاحظاتي وقراءاتي ولاسيما الرجوع إلى كتب التراث الإبراهيمي (اليهودي-المسيحي-الإسلامي) والباحثين الذين تطرقوا إلى إشكالياته لكونه المعين المزود للقنوات التنشئوية، ولا يفوتني في هذا الإطار أن أبرز الملاحظات التي سجلت بخصوص قراءاتي النصية أو العيانية للمجالات التنشئوية كالمسجد من خلال خطب الجمعة والأعياد، والملاعب الرياضية...هذا ما دفعني إلى طرح الأسئلة التالية : ما دور التراث الإبراهيمي في صنمية الله والملك ؟ ما منزلة الإنسان وفق هذا الثنائي-الطابو ؟ وما دور القنوات التنشئوية في تكريس هذه الصنمية وبالتالي هدر الإنسان وقمقمة طاقاته الحية ؟
تعتبر التنشئة الاجتماعية سيرورة أو عملية ملازمة لحياة الإنسان يستدخل فيها الفرد القيم والمعايير الاجتماعية ، غير أن هذه القيم قد تكون إيجابية محفزة للحياة تساعد الفرد على تحرير ملكاته وطاقاته الحية في البناء، أو أنها تكون سلبية تكبل طاقاته فتحول دون حريته، فتجعله عبدا خاضعا للطابوهات والفتيشات، إن الإنسان هو الحرية كما يقول روسو، وإلا سيكون عبدا لقوى تكبله، وتجعله ظلا لها، فيصير رعية للإله وقطيعا في زريبة السلطان، فما المقصود بالقطيع ؟ ورد في معجم روبير أن « القطيع مجموعة من الحيوانات التي تعيش بشكل جماعي، أو مجموعة من الأفراد الفاترين »، هكذا فالتنشئة الاجتماعية إذا تضمنت قيما تكبل طاقات الإنسان، فإنها لن تنتج سوى إنسان قطيعي لا يختلف عن الحيوان همه الأساسي تلبية غرائزه، فيغدو كائنا فاترا، فاقدا للحركة، وميالا للاستسلام، وعاجزا عن التفكير، وإذا رجعنا إلى قاموس روبير، فنجد أن مفهوم الرعية مرتبط بالتبخيس، أي عدم تقدير القيمة الحقيقية لشخص ما، أي تجريده من اعتباره والحط منه واحتقاره، بيد أن معجم لسان العرب يعطي تعريفا واقعيا يخترق المجال الاجتماعي والسياسي مبرزا العلاقة بين الهدر والرعية، تعني الرعية لغويا القطيع من الأكباش والأغنام الذي يمتلكه السلطان ويرعاه والذي يهلك دون هذه الحماية والرعاية، لأنه لا يملك القدرة أو الإرادة على الإمساك بزمام المصير، بينما يعني الهدر : ما يبطل من دم أو غيره أي ما يستباح ويمكن سفحه في حالة من زوال حرمته التي تحصنه ضد التعدي عليه، أما فعل هدر يهدر، فيعني بطل وفقد أحقيته، وبالتالي لا يمكن إزالته باعتباره فاقدا للحق الذي يلزم باحترام حدوده وعدم التعرض لكيانه، ومنها كذلك أهدره السلطان، أي أبطله وأباحه بمعنى أزال الحصانة عنه، وأتاح التعدي عليه والقضاء عليه .
نستشف من هذين التعريفين العلاقة الوطيدة بين الرعية من جهة والهدر من جهة ثانية، فإذا كانت الرعية عبارة عن أكباش مطوقة بسياج الحماية والرعاية من طرف السلطان، فإنها في الوقت الذي تخرج فيه يتم هدر دمها، فتزال الحصانة عنها، هنا يتبادر لي سؤال : هل فعلا السلطان يحمي ويرعى الرعية أي يعتني بها أم أنه يهدر دمها سواء خرجت عن سياجها أو لم تخرج ؟ إن التدجين أو التنشئة الهدرية التي تخضع لها الرعية، الغرض منها هو إخضاعها، أما هدرها وإبطالها فيأتي في اللحظة التي تخرج فيها عن السلطان، ولكن رغم ذلك هل يمكن للرعية أن تتجاوز الحدود المرسومة لها ؟ يميز نيتشه بين أخلاق الرعية (العبيد) وأخلاق السادة (السلاطين)، وفي هذا الصدد يحكي عن اللقاء الذي جمع بين زرادشت والقديس في الغابة حيث يسأل الأول الثاني : « ماذا تفعل في الغابة أيها القديس؟ »، فما كان إلا أن أجابه : « أنه ينظم الأناشيد ويضحك ويبكي ويدمدم ويحمد الرب »، فحدث زرداشت نفسه : « ألا يعلم هذا القديس أن الله قد مات »، يتضح من هذا الحوار انقسام العالم إلى سادة وعبيد، فالسيد الذي هو زرادشت قضى ردحا من الزمن زاهدا وجاء ليحرر القطيع من حظيرته، بينما يمثل القديس الرعية (العبيد) المسرورة بقيودها، لا يمكن حسب نيتشه أن تتحرر الرعية لأن هناك صنما يظل منتصبا على التنشئة ألا وهو الإله، إنه المبدأ الذي يفسر وجود العالم والكائنات البشرية، ويتم استحضاره ككائن علوي كلي القدرة ، وهو قوة تعبد من طرف مجموعة أو شعب معتقدا أن هناك قوة تتحكم في مصير الإنسان والطبيعة .
في التنشئة الهدرية يلقن الأطفال أن مصيرهم ومصير العالم الذين يعيشون فيه تتحكم فيهم هذه القوة، إن الأفعال كما تقول المدرسة الحنبلية في الإسلام هي من صنع الله والإنسان مجبور على أفعاله، فتسيطر عليه الاتكالية والخضوع والخنوع والتسليم بالقضاء والقدر ، فتصير الرعية فريسة للكلاب، و الأنكى من ذلك تصبح خصما لنفسها وللحياة، يقول نيتشه :« اسمعوا بنصيحتي أيها الأصدقاء، احذروا كل الذين غريزة البقاء لديهم قوية، فهم رعاع منحدرون من أصل شرير، وعلى وجوههم سيماء الجلاد والكلب البوليسي »، إن الرعية حين تعجز عن مواجهة السادة والتحكم في مصيرها تستخدم العقاب، ولا تكون أداة ممارسته سوى فتيش الإله الذي يتحول إلى جلاد وكلب بوليسي يمارس التخويف والرعب ويشل الحياة، فيصير العالم ملؤه الانتقام حيث الحياة تشبه البوم التي ترمز إلى الموت ممزوجة بالنقيع والنباح، يبدو نيتشه من خلال هذا الكلام أنه يقلب الترتيب القائم، فالرعية أثناء خضوعها تمارس الانتقام ضد من يستخدم عقله ويريد التحرر من الأغلال، إنها من جنس الرتيلاء تلسع محبي الحياة، فصارت سيدة الاستسلام والخضوع والحيلة والاندفاع .
إن التنشئة الهدرية القطيعية ترسف تحت أغلال الانتقام والاتكالية وموبوءة بالانتقام ومعاداة الحياة، إنها ثأر الضحايا ضد الإرادة الحرة للأقوياء، وهي صادرة عن فقر الإرادة، إن الكل يتواطأ وخاصة المؤسسات الاجتماعية القهرية على اضطهاد الغرائز الطبيعية حتى يصير الاضطهاد غير قابل للنسيان بفعل القسوة والثأر، ولكن رغم ذلك يبقى الأقوياء قادرين على النسيان وتفادي الاضطهاد .
خلافا لما جاء في معجمي روبير ولسان العرب حيث أن السادة أو السلاطين يعملون على قمقمة جماهير الرعاع والمهدورين والحيلولة دون تجاوزهم للحظيرة لكونهم محروسين من فتيش الإله وسيف السلطان، فنيتشه يعتبر الرعية هي المتبنية لفتيش الإله للانتقام من نفسها ومن السادة والسلاطين الراغبين في معانقة الحياة والوصول إلى مرتبة الإنسان الأعلى، فبعد أن كان الإنسان دودة، ثم صار قردا فإنسانا، فعليه الآن أن يصبح إنسانا راقيا يرادف معنى الأرض ، فيتحرر من سلطة السماء بقتل الإله، فيسقط على الأتباع، ولن يبق إلا الإنسان الذي ينشد الحياة والبراءة، فتنتصر تنشئة الكمال والحياة على تنشئة الهدر والضياع .
إن موقف نيتشه موقف متهافت، كيف يمكن القضاء على القطيع بهذه السهولة ؟ هل القضاء عليهم يتم بالعنف ؟ أين هي الحياة التي ينشدها السادة ؟ هل تحطيم صنم الإله من المنظومة التنشئوية لا يمنع الرعاع من بناء آلهة أخرى لزرع الحقد والانتقام والتطاحنات العرقية والدينية ؟ لئن كان نيتشه يقول أن العالم الحقيقي الذي يسهل بلوغه على الإنسان الحكيم الورع والفاضل يحيا فيه، إنه هذا العالم ، فإن بلوغه لم يفض بالإنسان سوى الشعور بالتبعية إزاءه، فظواهره المدمرة أدت بالإنسان إلى اختراع الدين والتالي اختراع الإله لمواجهة غوائل الطبيعة ، فعاد جوهرا غير محتاج في تشكيله إلى كيان آخر ، وأمسى نظام الطبيعة هو الإله عينه كما يقول فيورباخ .
لا أجد موقف فيورباخ يختلف كثيرا عن نيتشه، فهما يجمعان أن الإنسان مستعبد إزاء الطبيعة، إذ اخترع آلهة تتحكم فيه، فتهدر كيانه وتتحكم بمصيره، يعتبر نيتشه ذلك حاجزا يحول دون تحقيق الحياة، ويعتبرها فيورباخ شقاء، ومن الملفت هنا أن أبرز أن الهدر الإنساني يجد جذوره في الميثولوجيا الدينية حيث يتركز التبخيس والدونية، ويمكن أن أشبه الترسانة التنشئوية بوعاء كبير ترسبت فيه آليات الهدر عبر تاريخ سحيق، فإذا رجعنا إلى الميثولوجيا السومرية نجد أن الآلهة كانوا يعملون وحينما شعروا بالتعب توسلوا إلى إلههم الكبير لكي يخلق خادما، وهذا الخادم لم يكن سوى الإنسان، لقد قام الإله السومري الأكبر بقتل واحد من أصغر الآلهة، ومزجه بالطين وخلق إنسانا من أجل أن يخفف العبء والشقاء عن بقية الآلهة ، هنا يتجلى الهدر الإنساني في قمته، فالإنسان خلق لخدمة الآلهة ولم يوجد من أجل ذاته، بل من أجل قوى مفارقة تتحكم فيه ويدين لها بالخضوع، لا أجد الميثولوجيا البابلية تختلف عن السومرية، بل تنير بعض المناطق المعتمة فيها، وهكذا يتضح أن الآلهة حرقوا أدوات عملهم، وطالبوا بإنصافهم، فقتل إله من طرفهم وعجن لحمه ودمه بالطين، وخلقوا إنسانا أناطوه مسؤولية العمل والشقاء، ومنحوه سلة ومعولا ليحفر الخنادق ، نجد في الإصحاحين الأول والثاني من التوراة أن الإله يخاطب آدم (الإنسان الأول) في الميثولوجيا اليهودية : « من جميع شجر معرفة الخير والشر، فلا تأكل منهما، لأنهما يوم تأكل منهما تموت موتا »، ألاحظ أن الإله يغير من الإنسان، فيحرم عليه المعرفة لكي يظل تابعا له، والأخطر من ذلك أن أتباع الإله الذين وصفهم نيتشه من جنس الرتيلاء يمارسون الانتقام ويزرعون الحروب والعنصرية أثناء العملية التنشئوية، ولئن كان الإله يحرم الإنسان من المعرفة لئلا ينافسه ويستقل عنه، فكيف سيتعامل الإنسان مع الإنسان ؟ لن نعثر على أكثر من الموت ! ورد في إنجيل حزقيال : « اعبروا المدينة وراءا واضربوا، لا تشفق أعينكم ولا تغفوا، الشيخ والشاب والطفل والنساء، اقتلوا للهلاك »، في هذه القولة التي يؤمن بها الملايين من المسيحيين نجد دعوة للهدر الإنساني، فالأسرة (الشيخ، الشاب، الطفل، النساء) منذورة للقتل واستباحتها وإزالة حرمتها، لا يمكن أن نتحدث عن تنشئة هدرية في الواقع المعيش دون إطار مرجعي ميثولوجي وديني يقف على جذور الهدر، فالإنسان الذي يهدر الآخر يمتح من إطار مرجعي، وهكذا فاليهودي كما المسيحي أو المسلم كلهم ينطلقون من هذا الإطار الذي يتشخص في فتيش يسمى بالإله، يتمسك به الإنسان لمواجهة الطبيعة أو مواجهة الإنسان كما أبرز نيتشه وفيورباخ .
لا تخرج دار الإسلام عن هذا السياق، فالقرآن باعتباره مرجعية المسلمين هو خزان لا ينضب من التنشئة الهدرية، فهو يتفق مع ما جاء في الميثولوجيات السابقة، بل إن فرويد ذكر في كتابه :« موسى والتوحيد » أن قرآن محمد هو نسخة طبق الأصل لما جاء في التوراة، لا نستطيع أن نجزم في ذلك ولكن لو اطلعنا على القرآن سنجد العديد من الآيات التي تسفه الإنسان كما هو الحال للآية الثامنة من سورة السجدة : « وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من ماء مهين » ، لا يمكن فهم هذه الآية إذا لم أتوقف عن مكانة الطين في الوعي الجمعي كما في الميثولوجيا الإسلامية، فالشيطان لم يسجد لآدم إلا لأنه خلق من وسخ وعفن، فالطين هو ما يتم المشي والتبول والبصاق عليه، من هذا الذي موضع احتقار خلق الإنسان، أما نسله فخلق من ماء مهين حسب منطوق الآية، أي من ماء ضعيف، من هنا إن الإنسان مرادف للاحتقار والمهانة والضعف وبالتالي الهدر، وإذا كان الإله موضع نقاء وتقديس وجلال، فإن الإنسان موضع تبخيس وهدر، والمرجع الأساسي هو التراث الديني الهدري الذي يمجد الإله ويدنس الإنسان، يقول محمد في القرآن : «رب السماوات والأرض وما بينهما، فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمية » ، أفهم من هذه الآية قمة التمجيد الإلهي على حساب الإنساني، فبدون الإله لهلكت السماوات والأرض، لذا عليك أيها الإنسان أن تلتزم بالطاعة والأمر والنهي من أجل الإله، واضغط على نفسك بعبادته، وطاعته ونفي ذاتك، وبالتالي عش مهدورا منذورا للعبادة، هل تعلم وتعرف هذا الذي عليك عبادته بجوده وكرمه، أجل !
إنه الإله، إله موسى الذي حطم العجل، وطلب من أتباعه هدم المذابح وتكسير المناصب وتقطيع السواري، وحثهم على عدم السجود لإله آخر، لأنه يشعر بالغيرة ، وإله المسيح الذي نصح أتباعه أن من لطمهم على خدهم الأيمن، فليعرضوا له خدهم الأيسر ، إله محمد الذي وعد أتباعه أنه سيلقي الرعب في قلوب الذين « كفروا » ضاربا أعناقهم بالسيوف ومقطعا أصابعهم ، محمد ممثل الإله في الأرض هدد خصومه أنه جاءهم بالذبح ، لم يتوفق القصيمي حينما اعتبر أن النبي لم يفهم أن الإله محتاج لكي يكون منطقيا وحكيما وعبقريا إلى أن يخلق الذمامات والعاهات والمظالم والآلام أكثر وأصدق مما فهم ذلك قاتلوه (أي خصومه)، إنه حسب القصيمي لم يوهب عبقرية الفهم لمنطق الإله عندما أراد أن يمجد ألوهيته وأخلاقه بخلقه لهذه الآفات الرهيبة ، إن النبي كان عارفا وفاهما للعبة الإلهية، فمحمد مات وترك خلفه تسع ونساء وما لا حصر له من الجواري، إضافة إلى اللواتي وهبن أنفسهن له، زيادة على المغانم والغنى الفاحش، إن محمد باعتباره ممثل السماء في الأرض كان مدركا للذمامات والعاهات والمظالم والخرافات التي تتجلى في أكبر خرافة ألا وهي خرافة القرآن كلام الله التي أنتجت مجتمعا رعاعيا وهمجيا كقطع يد السارق ورجم الزاني وقتل المرتد وملك اليمين والسبي والرق ودفع الجزية ، هذا الهدر الإلهي للإنسان انطلق منذ هدم ابراهيم لأصنام آبائه وقطعه لحشفة قضيبه في سن 99 كما قطعها موسى وتضحيته بابنه مقابل كبش إلهي، ولا ننسى كذلك المسيح حينما قلب الموائد على الصيارفة الذين وجدهم جالسين على الهيكل.
إن الهدر الإلهي للإنسان في الميثولوجيا الدينية نجد له وجودا عيانيا في قنوات التنشئة الاجتماعية مثل الجوامع والحوزات الدينية التي تدجن وتربي قطيعا من الرعاع، لا يؤمن إلا بالقتل وهدر دم الآخر المختلف بذبح النساء والأطفال والشيوخ، ويعتبر الأزهر خير مثال على ذلك، وليس من السهولة القضاء عليه إلا بإزالة هذا الجامع، فداعش وكل المنظمات الإرهابية هي نتاج هذا النوع من الأعشاش والقنوات التنشئوية، فإذا كانت الجيوش غير قادرة على هزم داعش، فإن الفكر غير قادر على هزم فكر هذا التنظيم حسب ما يدعي سامي الديب ، لكن ما لم ينتبه إليه هذا المفكر هو أن الأزهر يعطي الشرعية للحكم الاستبدادي، فهي تكمل العمل الذي يقوم به العسكر، بالتالي ففكرة الهدم بالمعنى المادي ليست مقبولة أخلاقيا وإنسانيا، وإنما الهدم ينبغي أن يكون فكريا بالمواجهة الأكاديمية والإعلامية والرقمية بين فكر يتوجه نحو الماضي وفكر ينحو نحو المستقبل.
لا يتعلق الأمر بالجامع وحده في صنع جيش من الرعاع خانعين لإله في الأرض وإله في السماء، فبالإضافة إلى استبداد المتعممين الذين يتحكمون باسم الدين بعقول الناس وأفئدتهم، نجد استبداد المال وما يجره من ظلم اجتماعي يكون محميا بقلاع الاستبداد السياسي ضمن التحالف التقليدي بين السلطة والرأسمال، وكذلك استبداد الأصلاء من العصبيات والسلطة ، إننا بصدد تنشئة هدرية مركبة، فالقناة العصبية تخلق فردا متعصبا لعصبيته، والقناة الدينية تنتج فردا متعصبا لدينه، والمستبد يستبد بمؤسسات الدولة لكي يستحوذ على خيرات المجتمع وماله ونعمه، عندئذ لا يكون الفرد-الرعية سوى وقود تشتعل به هذه القنوات في حروبها لكي يتنعم الإلهان في الأرض والسماء.
يذهب محمد أركون إلى القول أن المسار الذي قطعته الميثولوجيات الدينية في تجسدها في التاريخ لم يسر وفق تاريخ واحد، وإن القول بسيطرة نزعة إلهية هدرية على طول تواريخ الميثولوجيات هو مجازفة نظرية، إن الإنسان المسيحي في أوروبا الغربية استطاع مع مسار النهضة التي وصلت أوجها في القرن 18م أن يزيل القداسة عما هو إلهي بفصل مؤسسات الدين عن الدولة في الشأن العام، وإطلاق العنان لملكات وقدرات الإنسان، بالمقابل لم يستطع الإنسان المسلم أن يصل إلى درجة المواطنية و يتحرر من رعاعيته و يثور ضد الإلهي الذي ترعاه قنوات التنشئة الاجتماعية الهدرية شأنه في ذلك شأن الإنسان اليهودي الذي تكبله وصايا التوراة التي تحرضه على القتل والعنصرية ومعاداة الآخر، وبالرغم من ذلك يرى أركون أن العالم الإسلامي عرف حركة إنسية خاطفة سرعان ما أفلت مع سيطرة الحنابلة إبان حكم القادر أحد الخلفاء العباسيين، لقد تم تقديس النص القرآني والحديثي، وتقزيم العقل والاجتهاد والفعل الإنساني حيث تم اعتبار الأفعال من صنع الإله وليس الإنسان ، هكذا يرى أركون أنه تم اغتيال العقل والإنسان باغتيال المعتزلة، إذ كانوا يرون أن العقل قادر على التمييز بين الحلال والحرام دون النص، ثم إن الإنسان صانع أفعاله ومسؤول عنها، وبالتالي لا وجود لجبرية تتحكم في مصير و أفعال الإنسان.
وعلى نفس المنوال يذهب تلميذه هاشم صالح، إذ يرى أن العالم العربي يعيش قي القرن 21 زمنيا وليس فكريا، إنه يتموقع فكريا في القرون الوسطى الأوروبية حيث الفكر الديني يسيطر على النظم التنشئوية، يتساءل هذا المفكر : « لماذا الجماهير التي خرجت في الانتفاضات العربية رفعت شعارات دينية ولم ترفع شعارات مدنية ؟ لماذا نشدان الخلافة وليست الدولة المدنية القائمة على العقد الاجتماعي ؟ » ، إنه الإشكال نفسه الذي طرحه أدونيس حين حديثه عن الانتفاضة السورية، فهو لا يعتبرها ثورة وإنما انتفاضة جوع وخبز لأنها لم تخرج من الفضاء العام وإنما خرجت من الجامع برعاية أتباع الإله من أجل تكبيل وهدر وتبخيس الإنسان، فما حدث في سوريا هو رد فعل (انتفاضة) وليس فعلا (ثورة)، فالانتفاضة تقوم بها الرعية حينما تجوع لإشباع غرائزها، بينما الثورة يقوم بها الإنسان بوعي وتصميم من أجل يسود هو، لا أن تسود قوى أخرى تتحكم فيه ، ولقد عزى صالح عوامل عودة الجماهير إلى الماضي إلى المفكرين الماركسيين الذين وصلوا إلى السلطة عقب الاستقلال ولم ينتقدوا التراث تفاديا للحروب العرقية والطائفية والدينية حتى جاءت الانتفاضات وعرت كل شيء، فالعالم العربي منقسم دينيا وطائفيا وعوض تثقيف وعلمنة المجتمعات العربية وتلقينها الاختلاف والتسامح داخل القنوات التنشئوية تم تفادي هذه المهمة التاريخية حسب صالح، ومن أجل هذا الهدف انتقد زمرة من المثقفين في كتابه :«الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ »، فبعد تاريخ طويل من الهدر امتد قرونا جاءت القوى الماركسية بعد الاستقلال، وهمشت تحليل البنية الفوقية وتصالحت مع القنوات الدينية ولم تستطع المساس بها معتبرة أن البنية التحتية هي أساس كل تحليل حتى خرج الخطر من قمقمه مع عودة الجهاديين العرب من أفغانستان واندلاع الحرب الأهلية الجزائرية وصولا إلى الحروب الدينية الجارية أطوارها في العالم العربي، وقد حاول في كتابه أن يطبق الجدلية الهيغلية قصد فهم السبب الحقيقي وراء فوز الأصوليين في الانتخابات التي تلت الانتفاضات العربية، وأرجع فوزهم لكون التاريخ لا يتقدم إلى الأمام إلا إذا تراجع إلى الخلف، فالجماهير التي صوتت عليهم لا تعرف حقيقة التراث، فالرعية ذاكرتها قصيرة، لهذا لا يمكن أن تعرف حقيقة الأصوليين الذين يمجدون الموت، و يستعدون العقد الاجتماعي وفصل السلط وحرية المعتقد والتقسيم العادل للثروة، والمساواة بين الجنسين...إلا إذا احتكت بهم وسالت دماء وتخربت مدن، فالتاريخ مجبول بالدماء وخاصة التاريخ الإسلامي المكبوت بالمكر والدسائس والحرب والقتل، فغزوات النبي وحروب الردة واغتيال الخلفاء وحروب الجمل وصفين والنهروان حاضرة في المخيال الجماعي للجماهير المحتجة، لذا ينبغي وفق الجدل الهيغلي أن يفيض التاريخ بكل قيحه وصديده الطائفي والديني حتى يشبع انفجارا بعدئذ يمكن للتاريخ أن يتنفس الصعداء.
لا يختلف ما جرى في المغرب عما جرى في العالم العربي، فبعد انفجار الأوضاع في تونس ومصر، خرجت في 20 فبراير عام 2011 حركة طالبت بمحاربة الفساد وفصل السلط وربط المسؤولية بالمحاسبة، ولم تتعد سقف الملكية البرلمانية، ولم ترفع شعارا يحد من الصلاحيات الدينية للملك باعتباره أمير المؤمنين، والحق يقال أن هذه الحركة كانت محتشمة رغم إعلانها الصريح بإلغاء البيعة وتأسيس التعاقد الاجتماعي لكنها لم توجه ذلك مباشرة إلى الملك، وبوسعي أن أقول أن الحركة لم تكن وليدة اليوم، بل هي امتداد للانتفاضات التي تعاقبت عبر تاريخ المغرب، ولاسيما الأحداث التي تلت الاستقلال وأخص بالذكر انتفاضة الريف والانتفاضة التلاميذية سنة 1965، قد يتبادر إلى الذهن أن هذه الانتفاضات واعية مثلما حصل في الثورة الفرنسية التي أطاحت بالدين ممثلا في الإله والسياسة ممثلة في الملك حيث عمت باريس حشود كدوامة من فزاعات بشرية مزودة بكل أنواع الأسلحة التي تشع بريقا وسط أنوار مشاعل أحالت لكثرتها حلكة الظلام إلى أصيل مضيء.
لقد كانت الثورة الفرنسية ضد الثقافة الرعاعية التي استعبدت الإنسان وجعلته قطيعا في خدمة الملك وأعوانه والإله وأتباعه، فخرج سنة 1789م حشد كبير من بؤس مدينة باريس كبحر متلاطم الموج، ثائر الزبد، يرغي بالأحقاد التي زرعتها في النفوس سنوات طوال من ظلم الاستعباد والاضطهاد، والملفت للنظر أن مغربيا يدعى عليوات كان واحدا من ولاة السلطان العلوي على جهة الشاوية حصل على فرصة زيارة صهره الذي كان سفيرا للمغرب في باريس إبان الثورة الفرنسية، وعايش أحداثها وتأثر بشعاراتها وحملها معه إلى المغرب، وأراد تطبيقها في إقليم الشاوية كالديمقراطية، فحرفها المغاربة إلى « القرطة » أي العصا، والثورة إلى « الثورة » أي أنثى الثور، أعلم أن الديمقراطية هي حكم الشعب نفسه بنفسه، لكن المغاربة أولوها إلى أن الشعب لا يحكم إلا « بالقرطة » أي العصا، وأعلم كذلك أن الثورة هي تصميم وتخطيط واع لإسقاط نظام فاسد وإحلال محله نظام نظاما عادلا، إلا أن المغاربة أولوا الثورة إلى أنثى الثور، ولا يمكن أن أفهم هذا الانحراف سوى إذا ربطنا البقرة بمصطلح منتشر في منطقة الشاوية وهو « طكوك »، فخلال فصل الربيع يأتي طائر إلى المنطقة ويصدر صوتا « طكوك »، ويثير الأبقار، ويجعلها تفر نحو وجهات غير معلومة أشبه بالتيه، وليس غريبا أن يتيه المغاربة في الفوضى والاضطراب، وألا يفهموا معنى الثورة، فبمجرد ما يموت السلطان-الراعي حتى يعم الخراب.
لا يجب أن نتفاجأ لما يقول جيل بيرو أن القبائل في المناطق الجبلية تتمرد دون أي شعور بالخيانة، فهي تحافظ على احترام سلطة السلطان أمير المؤمنين، لكنها تهاجم جباته الممثلين لسلطة أطلق عليها اسم المخزن، فهو يمثل مكان تجميع الضرائب النقدية والأتاوات العينية، ووسائل الحصول عليها بما فيها كتائب السلطة المحلية، قد يحدث أن يهزم المتمردون هذه الكتائب ويقتلوا حياة السلطان ويمثلوا بهم، بينما قادة الفتنة المنتصرون ينحنون باحترام أمام أمير المؤمنين ويشاركونه في الصلاة.
إن الجماهير لا تستطيع أن تكسر طاعة السلطان، ويمكن تشبيه النسق السياسي المغربي مثل خيمة، فالسلطان يمثل المحور، فإذا سقط يسقط النظام برمته، ولهذا السبب ألاحظ عبر تاريخ المغرب أنه بمجرد أن يموت السلطان حتى تعم الفوضى في البلاد، فالرعية لا تستطيع أن تعيش في العراء، فلابد أن تستظل بخيمة محورها السلطان، قد تثور الرعية ضد المخزن أو الحاشية السلطانية حين تجميع الضرائب، لكن ذلك لا يمكن أن أعتبرها ثورة، بل هو رد فعل مرده دافع اقتصادي أو اجتماعي لا يحمل أي مغزى سياسي.
يعترف جيل بيرو أن السلطان لا ينظر إلى شعبه كرعايا، فالحسن الثاني لم يتوان في تسمية انقلابيي الصخيرات بالزمرة التافهة، أو متمردي الريف بالأوباش ، غير أن بيرو يعترف أن انتفاضة التلاميذ في 23 مارس عام 1965م كسر فيها الشباب الثائر القيود وتفجر حقدهم على الملك بهتافات « الحسن الثاني القاتل » ورسوم تمثله جزارا تخضب بالدم، ودمى على شاكلته أشعلت فيها النيران ، لا نجد فرقا بين فزاعات الثورة الفرنسية وفزاعات ثورة التلاميذ، لكن الأولى واقعية والثانية رمزية لأنها لم تجد لها موطئا في الطبقات المعدمة من المجتمع المغربي، والأمر في نظري يعزى إلى قنوات التنشئة الرعاعية التي لم تتورع في تدجين الشعب المغربي.
إن أخطر هذه القنوات التنشئوية هي التنشئة الدينية التي تهدر وتبخس الوعي الإنساني وتغيبه، إن الأسرة كما يقول العفيف الأخضر هي معمل الايديولوجيا الاستبدادية، مخفر قمع عفوية غرائز الأطفال، مكان تشويه نشاطهم الذهني والجنسي ونفي استقلاليتهم، ويضاف إلى ذلك المدرسة حيث يتعلم الطفل الخنوع أمام سلطة الأب، وبالتالي القائد، رب العمل ورب الدولة، إنها خلية النظام القائم الأولى وضمان استمرارية مراتبه ، إن إخضاع الأطفال يتم بسلاح الدين حيث يتعلمون الخضوع لرب فوق الأرباب وهو الإله ليس في الأسرة وحسب، بل في المسجد عندما يكبرون، يقول واتربوري : « غالبا ما يبرز الدين من تحت السياسة باعتباره دافعا من دوافع المنافسة، أو تبرير لها، لعب العلماء دورا هاما في هذا المجال من خلال دسائسهم لنصرة سلاطين جدد، أو إصدار فتاوى بصدد مشروعية الضرائب، وقد طالبوا أخيرا بإقامة الصلوات داخل المدارس » ، يعتبر واتربوري أن العلماء باعتبارهم محتكرين لقناة تنشئوية تسمى بالمسجد حيث يتم تكريس الخضوع للملك، وتجسيد الولاء للإله دائما ما يوظفون الدين في لعب الدسائس لنصرة سلاطين جدد أو إصدار فتاوى تخص الضرائب، بل حتى الدعوة إلى إقامة الصلوات داخل المدارس.
لا يختلف عصيد عن واتربوري، فهو يعتبر أن رجال الدين يضفون الشرعية على أفعال الحكام الذين لم يكونوا بالطبع ملائكة، ويتبادل الطرفان المصالح والخدمات مع الحكام على حساب الرعية.
ولا نستغرب أن ينال المنبطحون والمكرمون ومنهم الفقهاء المال من السلطان، وحسب كاثرين غراسيي وإريك لوران يصل دخل الملك في اليوم إلى 40000 دولار، بينما دخل الفرد العادي لا يتجاوز 10 دراهم يوميا ، إن الملك يملك في رأسه أكبر كمبيوتر لتسيير كل القطاعات (فهو ملك، ورجل أعمال، والرياضي الأول، والمزارع الأول، والمربي الأول...)، هذا ما دفع مترجم كتابيهما إلى التساؤل : كيف لشخص إذا امتلك لو هولدينغ واحد مما يملكه أن يجد الوقت للسياسة ؟ لابد من وجود مدجنين يدجنون الرعية، إنهم مدجنو المسجد الذين ينضافون إلى مدجني المهرجانات والحفلات الذين يجعلون الرعايا يعتقدون أنهم وصلوا لمستوى كبير من التحضر، وأنهم عصريون ومواكبون لما هو جديد في علم الفن، ولا أراهم مواكبين للبحث العلمي في كل المجالات، أعتقد أن الغرض من هذه الممارسات هو تعمية وحجب العيون عن رؤية الواقع المر.
يعتبر المسجد قناة تنشئوية تعمل على هدر وقمقمة الطاقات الحية لدى الإنسان، فتجعله أكثر تبعية لقوى مفارقة (الله) أو قوى محايثة (الملك)، إن الخطب التي تبث داخل المسجد وخاصة خطبة الجمعة لا تترك للإنسان حرية التفكير والاعتقاد والتسامح والاختلاف...بل تنظر إلى الإنسان المؤمن كرعية منذور للعبادة والتعصب والواحدية والكراهية والصلاة والتسليم لله وظله وقدره، لقد قال الحسن الثاني يوما : « من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله » ، إن الملك هو ظل الله في الأرض، وتكون خطبة الجمعة هي المنبر الاعلامي الإسلامي للطرح والتوجيه في قضايا اجتماعية وسياسية ، ليس الغرض منها تنوير المجتمع، بل تعميته وتضليله، لقد أمكنني من خلال ملاحظات أولية أن ألاحظ أن خطبة الجمعة هي رسالة تنشئوية لإنشاء رعايا لا مواطنين، مقلدين لا مبدعين، خانعين لا ثائرين، إنها تمارس سياسة التسكين والتهدئة لتأبيد الأوضاع الطبقية، في يوم 22 من يناير 2016 كنت قد حضرت إلى خطبة الجمعة وتبدى لي أن الخطيب انتقد البدعة واعتبرها ضلالة، وكل ضلالة في النار، إنه أسلوب تخويفي من أساليب التحكم والسيطرة بغية قمقمة العقل، وقد هدف الخطيب من هذه المقدمة الانتقال إلى موضوع الطاعة، وفي هذا الصدد تم التشديد على طاعة الله والرسول وأولي الأمر، هنا لا نجد اختلافا مع ما رأيناه من قبل، إنه تعلق بفتيشات وأصنام، فعوض دعوة الإنسان إلى التفكير والتحرر يتم خندقته بخضوعه لقوى تكبله، هذه هي الرعاعية في أضفى صورها، لا يفوت الخطيب أن يتوسل شتى أنواع التخويف ذاكرا العذاب الأليم والندم الشديد الذي يشعر به كل من سولت له نفسه الخروج عن الحظيرة، وليس أمام جموع المؤمنين سوى التوبة إلى الله أي أن يعترف المؤمن بخطاياه، ولفت أيضا إلى أن العبيد معرضون للأخطاء، لكن خير الخطائين التوابون، فليس عيبا أن يخطئ المرء، بل العيب ألا يعود إلى الله ويكفر عن أخطائه، ولا أنسى إشارته إلى دعوة المؤمنين إلى عدم القنوط من رحمة الله، فإن الله يغفر الذنوب، توقف الخطيب برهة لكي يستغفر الله، سرعان ما عاد ليتحدث قليلا عن ضرورة العودة على الله في حالة ارتكاب المعاصي، ثم أنهى خطبته بالصلاة على النبي والخلفاء، و داعيا بالنصر للملك وولي عهده وأخيه رشيد.
إن الخطيب حينما يتحدث عن القنوط، فإنه يقصد الكادحين والفقراء والقرويين الذين هدهم غلاء المعيشة جراء الجفاف، وبالتالي لا داعي للقنوط، فالله يتكفل بالجميع، ولا داعي للوم الملك والمسؤولين عن الأموال التي تم ضخه في صندوق دعم العالم القروي، أو الحق في الاستفادة من الخدمات الاجتماعية، أو توزيع الثروة، أو الحق في التنمية، لهذا يكون القنوط هو رسالة مشفرة للتعمية والتضليل، وعلى هذا الأساس الله يتكفل بالجميع، أما عندما يتكلم عن ضرورة التكفير عن الخطأ أمام الله، فإنه يرسل رسالة مفادها أن الملك ليس مسؤولا أمام مرؤوسيه، فهم مجرد عبيد، بل هو مسؤول أمام الله، وأنه سيغفر له شريطة أن يعود إليه معترفا بخطئه، ومن ثمة تكون العلاقة السارية في المجتمع علاقة دياكرونيكية –عمودية وليست علاقة سنكرونيكية- أفقية، فالخطيب يقطع أي أمل في تغيير هذه العلاقة منذ البداية عندما يربط بين البدعة والضلالة، فالذي يربط مسؤولية الملك عن أوضاع الفقراء والمتسولين هو ضال، على المتسول ألا يقنط من رحمة الله، وعلى الملك أن يعود إلى الله تائبا.
إن الغرض من هذه المقدمة النظرية هو الوقوف على جذور الهدر اللغوية والميثولوجية والفلسفية والسوسيولوجية من أجل الوصول إلى فرضية مفادها أن أي قناة تنشئوية هدرية إلا ولديها ومعين هدري تنهل منه، وقناة المسجد ليست استثناءا، لقد تبدى من خلال معجمي روبير ولسان العرب أن الهدر باعتباره إزالة للحرمة والحصانة يتداخل مع الرعية التي تعني قطيعا من الأكباش أو الأشخاص الفاترين، وطالما انتاب الرعية الخروج عن الحدود المرسومة لها، فإنه يتم تطويقها بفتيش الإله والملك، غير نيتشه يلفت إلى أن الرعية تتبنى الإله وتستخدمه ضد السادة وضد نفسها لمعاداة الحياة، إن الهدر الفتيشي والإلهي يجد جذوره في الميثيولوجيا السومرية والبابلية واليهودية والمسيحية والإسلامية حيث هدر وتبخيس الإنسان، غير أن الإنسان المسيحي في أوروبا الغربية استطاع أن يثور ضد الهدر الإنساني مع انبثاق نزعة إنسية بلغت أوجها خلال القرن 18، في حين لم يتمكن الإنسان في العالم العربي وخاصة في المغرب أن يحقق هذه القفزة، فمازال الهدر الإنساني يجد حضوره في قنوات التنشئة الاجتماعية وخاصة المسجد من خلال الخطب، وأخص خطبة الجمعة حيث يتم تمجيد الله وظله بدعوة المؤمنين الرعايا إلى القنوط والصبر وعدم الانتفاضة والتمرد للمطالبة بحقوقهم الأساسية، إذ لا يجوز لهم الابتداع والتفكير، بل التسليم والصبر، وهذا ينم عن قمة الهدر الإنساني.
----------------------------------
لائحة المراجع :

- عنتار، عبد الله (2012)، لا تأثيرية المسلسلات المدبلجة على الطفل المغربي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – المحمدية
- معجم روبير (2008)
-حجازي، مصطفى (2006)، الإنسان المهدور دراسة تحليلية نفسية، المركز الثقافي العربي
- نيتشه، فريدريك (2006)، هكذا تكلم زرادشت، (ترجمة محمد الناجي)، افريقيا الشرق
- معجم أكسفورد (2008،2009)
- نيتشه، فريدريك، أفول الأصنام (1996)، ترجمة محمد الناجي وحسان بورقية، افريقيا الشرق
- فيورباخ، لودفيج، أصل الدين (1991)، ترجمة أحمد عبد الحليم عطية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع
-اسبينوزا، باروخ، الإتيقا (2010)، ترجمة أحمد العلمي، افريقيا الشرق
-إنجيل حزقيال، 9
-سورة السجدة الآية 8
-سورة مريم، الآية 6
- سفر الخروج، (34، 13-14)
-إنجيل متى(5، 38-39)
-سورة الأنفال، الآية 12
-البخاري، 3678
-القصيمي، عبد الله، يكذبون كي يروا الإله جميلا (2001)، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية
-أركون، محمد، نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية (2011)، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي
- صالح، هاشم، الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ (2013)، دار الساقي
- ديكنز، ديكنز شارلز، قصة مدينتين، تعريب أحمد محمد حيدر، المكتبة العلمية بيروت
- بيرو، جيل، صديقنا الملك (2002)، ترجمة مشيل خوري، دار ورد
-الأخضر، العفيف، من نقد السماء إلى نقد الأرض الشعبوية الأصولية من أين وإلى أين (2014)، دار آفا ق
-واتربوري، جون، أمير المؤمنين الملكية والنخبة السياسية المغربية (2004)، ت أبو العزم، السبتي، الفلق، مؤسسة الغني
- عصيد، أحمد، رسائل إلى النخبة المغربية في الأمازيغية والدين والسياسة (2011)، مطبعة إدكل
-غراسيي، كاثرين، لوران، إريك، دار لوسي، الترجمة العربية
-DUROZOL, Gérard, et ROUSSEL, André, Dictionnaire de Philosophie
-
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AE%D8%B7%D8%A8%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%B9
%D8
- http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=298896
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%B9%D8%AA%D8%B2%D9%84%D8%A
- http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=338220
-http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=332141
- http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=462303&r=0&cid=0&u=&i=0&
-http://www.alawan.org/article3859.html
- https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D9%86%D8%A7%D8%A8%D9%84%D8%A9
- https://www.youtube.com/watch?v=We5rHzkvSl0
- https://fr.wikipedia.org/wiki/Socialisation







#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مريم الشيخ (1) : النساء المكتريات : جرأة في الطرح وتواضع في ...
- أيام عصيبة بالقسم الداخلي (2)
- من هم الأشخاص دون سكن قار (SDF) ؟
- أيام عصيبة بالقسم الداخلي (1)
- منزلنا الريفي (98)
- منزلنا الريفي (99)
- منزلنا الريفي (100)
- شبح الجفاف
- منزلنا الريفي (96)
- منزلنا الريفي (95)
- منزلنا الريفي (94)
- منزلنا الريفي (93)
- منزلنا الريفي (91)
- منزلنا الريفي (92)
- منزلنا الريفي (89)
- منزلنا الريفي (90)
- خواطر على الشاطئ
- منزلنا الريفي (88)
- منزلنا الريفي (87 )
- أفياء كرزاز


المزيد.....




- باراك: وزراء يدفعون نتنياهو لتصعيد الصراع لتعجيل ظهور المسي ...
- وفاة قيادي بارز في الحركة الإسلامية بالمغرب.. من هو؟!
- لمتابعة أغاني البيبي لطفلك..استقبل حالاً تردد قناة طيور الجن ...
- قادة الجيش الايراني يجددن العهد والبيعة لمبادىء مفجر الثورة ...
- ” نزليهم كلهم وارتاحي من زن العيال” تردد قنوات الأطفال قناة ...
- الشرطة الأسترالية تعتبر هجوم الكنيسة -عملا إرهابيا-  
- إيهود باراك: وزراء يدفعون نتنياهو لتصعيد الصراع بغية تعجيل ظ ...
- الشرطة الأسترالية: هجوم الكنيسة في سيدني إرهابي
- مصر.. عالم أزهري يعلق على حديث أمين الفتوى عن -وزن الروح-
- شاهد: هكذا بدت كاتدرائية نوتردام في باريس بعد خمس سنوات على ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد الله عنتار - التنشئة الهدرية : مدخل نظري لتفكيك الأصنام الكبرى (الله، النبي،الملك)