صبا مطر
الحوار المتمدن-العدد: 5065 - 2016 / 2 / 4 - 01:45
المحور:
الادب والفن
كرات من الصوف الملون بمختلف الاحجام والاشكال تتمدد بنعومة على ارضية غرفة الجلوس الدافئة بفعل النيران التي تشتعل في قلب الموقد , وبفعل شعلة الحماس الملتهبة في روح سارة التي تنوي ان تبدأ مغامرتها الاولى مع الصوف لتحيك منه شيئا ما لا تعرفه!! انها تؤمن بان الحياكة فن تبرع فيه النساء بشكل عام وجدتها على وجه خاص. فهو طريق يسلكنه عندما يغرقن في متاهات الصمت والعزلة الجزئية او الكلية عن الحياة ليبدأن رحلة الغوص الى الدواخل. هناك حيث تقبع مناجم الاسرار والكهوف المليئة بالحكايات. الحياكة من وجهة نظر سارة هي رحلة التنقيب الخطرة عن مدن الماس الحقيقية المخبئة في دواخل النفس . حيث تبدأ كل سيدة من تلك اللاتي يمتهنها بالنزول التدريجي الى الوديان الواقعة في اقصى نقطة من متاهات النفس لتعبرن منها الى المناجم الغارقة في سكون موحش عبر الجسور المصنوعة من الغرز الصوفية التي تعقدها انامل الهاربات باتقان مبهر. وهنا تكمن الخطورة اذ يتعذر الرجوع الى نقطة الانطلاق الاولى. كما يصعب ضمان مسألة نجاح الرحلة !!. انهن يصنعن دروباً الى الخلاص او ربما دروباً الى حياة اخرى تملؤها المسرة التي بحثن عنها طويلاً والتي طالما تمددت على طول الجهة الموازية لشقائهن المزمن!!
هكذا قررت سارة ابنة الجيل الثاني من المهاجرين الذين اتوا الى اوروبا بعدما اندلعت الحرب بوحشية في بلدهم الام ( العراق), ان تبدأ رحلتها الاستكشافية الى الدواخل علها تجد اجابات شافية لكثير من الاسئلة المعلقة التي تحاصرها منذ زمن. كانت شابة جميلة كزهور الربيع المتفتحة ورقيقة كنسيمات الفجر الشفيفة وهي تلاعب العشب الندي في اوج خضرته . عيونها الناعسة تذكّر كل من يشاهدها بالحلم وهو يتفتح بين اجفان المتلهفين الى جرعات مكثفة من الامان والسعادة المفقودة. وفمها الصغير تتهافت عليه العصافير لتشرب من حلو رحيقه الممزوج بالسكر. اما شعرها البني الغامق , فانه ينساب على اطراف الدنيا كغابات اللوز والكستناء . انها سارة التي تملأ عالمها بالكتب بدلا من مساحيق التجميل والعطورات التي تتهافت الفتيات في عمرها على اقتنائها واستخدامها بشكل مفرط. اما هي فانها تعرف بأن جمال الروح هو القيمة الحقيقية للانسان الذي ترفض تزييفه بالاقنعة والماسكات الملونة, وهو الجمال الذي لا يمكن اخفاؤه او تزويقه مهما حدث, فهو مثل أشعة الشمس التي تنبثق عنوة من بين الغيوم المدلهمة. انها تقرأ بنهم كل ما تقع عليه عيناها الساحرتان, فالقراءة عادة استاصلت فيها منذ الصغر, او ربما ورثتها عن امها التي تقرأ كثيراً, أو رغبة بثتها فيها جدتها التي تبرع في فن سرد القصص الخيالية والرومانسية وبعض الاحيان القصص الواقعية القاسية, والتي لم تكن تروق لسارة كثيراً, رغم معرفة الاخيرة بأن للعالم وجهاً آخرَ تختبئ وراءه القسوة. وجه لا تحب ان تراه ولكنها تعرف عنه الكثير من خلال ما قرأت او ما سمعت عنه وما تعيشه شخصياً من تمزق بين هويتين, تنتمي الى احدهما قسراً والى الاخرى روحا وعشقا مبهماً وغير معّرف.
بدأت السماء نشيجها الان, قطرة فقطرة تتقافز على الشباك العريض الذي يحتضن الليل المتغلغل في قلب الدنيا المركونة الى الخارج. االدنيا التي تشبه مسرحاً كبيرا للدمى, وسارة تمسك بكل الخيوط المسؤولة عن تحريك واخراج المشاهد. ماذا ستحوك يداها يا ترى؟
كنزة سميكة ترتديها لتقي جسدها من البرد وعدم الامان المنتشرين في الخارج؟ ام شال سميك مضرج بالألوان لتلف به عالما من الاسئلة التي تحاصرها ولكنها جميعا معلقة بلا جواب ؟أم ستحيك فستانا جميلا ترتديه كلما احست بالاشتياق الى الوقوف على ارض صلبة هي وعائلتها التي تعوم على هامش الذكريات في هذه الارض الباردة !.
ثلاثة اجيال هي امتداد العائلة في الاغتراب, الجدة والام وسارة التي ولدت على ارض المنفى, وكأنها تقول بأن الحياة لن تتوقف وان الجذور ستنموا وان اختلف المكان , وانها البرعم الذي ينبت في أشد الضروف قسوة واكثرها استحالة.
كانت تبعث عالماً من التشظي الى كل عقدة تصنعها يداها. عقدة اسمتها بالأنتماء وثانية اطلقت عليها اللاانتماء وثالثة اطلقت عليها الغربة... وهكذا. لم تكن تعرف بأنها تحوك الكثير من احساسها واحساس امها التي ما لبثت تقول بأنها غريبة عن هذه الارض التي لا تعرفها ولا تعرف لغتها ولا عاداتها ولا تقاليدها ولا تعرف حتى البشر الذين يسكنون فيها, بينما سارة تعرفها وتحبها وتفهمها ولها العديد من العلاقات الناجحة مع الكثير من الاصدقاء فيها. انها بالاحرى لا تعرف وطننا غير هذا الوطن الذي لا يتكلم لغتها الام ولا يحمل ملامحها ذات الشعر الغامق والعينين السوداوين !!
غرزة جديدة خبأت فيها سارة الوجع الذي تخفيه عن امها والعالم . انه وجع الاشتياق الى معرفة الاصول والجذور والحقيقة. فهي تنتمي الى الجيل الذي يواجه صعوبة كبيرة ما بين الرفض والقبول.. ما بين الثبات والتارجح.. وما بين الوهم والحقيقة. انها احد اولئك الذين ترهقهم الازدواجية وتتعبهم الادوار التي يتوجب عليهم دوما تقمصها. اذ يتوجب عليها ان تكون تلك الفتاة العربية المخلصة لبلدها الذي لم تره يوما, ووفية الى لغتها الام التي تعتبر وسيلتها للتعريف والافصاح عن مكنوناتها واحاسيسها ومشاعرها, كما انها الاسيرة الدائمة لملامحها الشرقية التي طالما لفتت انتباه الاخرين. وكونت ردات فعل مختلفة في نفوس المتلقين لحقيقة اصولها الشرقية. كان السؤال الذي تكره ساره سماعه هو (من اي بلد انت؟ ) يثير استياءَها على الدوام. فهي لا تعرف ان كانت حقا اسيرة لتلك الملامح التي لن تتمكن من استبدالها يوما!! أم انها فعلا غريبة عن هذا البلد وسيطالبونها يوما بالرحيل والعودة الى بلدها الام؟؟ لكن لماذا تبدو غريبة عنهم وهي التي تتحدث لغتهم بطلاقة؟ ولا تعرف غير هذه الارض التي تحتويها وتحبها. وبأي حق يستجوبونها وهي التي يحق لها ان تكون حرة كما الاخرين ؟ انها تكره تعبير المواطنين الجدد من الجيل الاول والثاني والثالث والرابع .. الخ. تلك الافكار التي يطلقها بعض من مروجي العنصرية والتمييز العرقي. فهم جميعا شركاء في جريمة الاقصاء القسري لأناس تعلقت ارواحهم بالأرض التي منحتهم السلام والطمأنينة ولا بديل لهم سواها .
انها تعقد الغرزات بصمت, تفور في سكونه الكثير من الاسئلة ! انها تحوك الى لا احد رداء مجهول الشكل والتصميم والهوية!! وتتلوى داخل الدوائر الضيقة التي تصنعها يداها و هي تمرر الخيوط المختلفة الالوان من خلال كل عقدة الى الجانب الاخر, وكأنها تمرر حيرتها, أسئلتها, وضعفها من ضفة الى اخرى لنهر تركض بين جرفيه مياه مجنونة!!. استبدلت الصنارة بالقلم الذي كتبت به قصائدها التي لم تنشر!! ربما ارادت ان تثبت لنفسها بأنها موهوبة بالحياكة عن طريق القلم الذي تعشقه روحها بدلا من الصنارة ذات الطرف المعقوف بأنكسار حاد الى الاسفل !! كانت السطور المتراكمة هي الاسئلة التي خزنتها في نفسها مع مرور الزمن. وها هي اليوم تكتبها بصحبة القلم والصوف الملون وزخات المطر التي تنهمر في الخارج!!
هل تحبين البلد الذي لم تره عيناك ولكنك تنتمين اليه بجذور غير مرئية؟؟ عقدة بلا اجابة ..
هل تحبين بلدك الذي يأويك حاليا ويرعاك ويحبك واهداك لغة جديدة وسكن ؟؟ عقدة بلا اجابة
هل تشعرين بانك محبوسة في ملامحك الشرقية, وانك شجرة الكستناء المزهرة وسط المئات من الغابات الشقراء الرمادية ؟؟ عقدة بلا اجابة
باي اللغتين تشعرين اكثر وتعبرين عن نفسك اكثر؟؟ عقدة بلون الليل وبلا اجابة
هل يتعبك التأرجح بين نقيضين؟؟ هل ترهقك الاقنعة؟ ام انك لا تشعرين بثقلها حينما ترتدين احدها على كل ضفة ترسو عليها سفينتك ؟؟ عقدة اخرى بلون داكن وبلا اجابة
هل تفكرين بالعودة يوما الى احضان بلدك الام؟ وهل ستقبلينه رغم عيوبه وانكساراته؟ وهل سيتقبلك هو الاخر كما انت ؟ أم ان رحمه لن يتذكر لحظات ولادتك الصعبة ؟؟ اكثر الاسئلة تعقيدا ًواكبر العقد حجماً وبلا اجابة
هل.. وهل.. وهل.. والكثير من الاسئلة التي دارت في رأس سارة التي صنعت منتجاً من الالوان الملحمية المتداخلة والمتعشقة في بعضها البعض . لقد صنعت اسطورة تلوح في صفحاتها كل حروف لغتها الأم وهي تتمايل على ايقاع حروف اجنبية... وبعضا من الوجوه التي تحبها . لقد صنعت وجه الارض بكل بلدانها ومدنها وبحارها ومحيطاتها وانهارها وجبالها, بكل تضاريسها ومناخها المتناقض, لقد استخرجت وجه الارض الماسي من منجمها الخاص الذي وصلت اليه عبر تلك الرحلة الشاقة. وجه يعوم مع وجهها الغض وهوية تتأرجح على اهداب جذور غير مرئية, ووجه واحد لبلدين يسكنان قلبها والضباب.
#صبا_مطر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟