أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبا مطر - جرح














المزيد.....

جرح


صبا مطر

الحوار المتمدن-العدد: 5007 - 2015 / 12 / 7 - 00:32
المحور: الادب والفن
    


تركت الجرح نازفا على عتبة الحلم هناك ورحلت عبر متاهات الروح الى عوالم المجد المصطنع لاغفو ولو لمرة واحدة في أمان بعد ان سئمت النوم المضطرب والصحو على أصوات القنابل وهي تنهش بوحشية صمت مدينتي الوديعة . كانت الطائرات الحربية تحوم في سماء المدينة مثلما تحوم الغربان الجائعة, منتهزة الفرصة للانقضاض على أي فريسة لتمزقها في الحال. وحينما يحل الظلام كنا نوقد الشموع ونخبئها بين أكوام الاثاث المتكدس على امتداد نوافذ البيت منعا لتطاير الزجاج من وقع الضربات الجوية. كانت رحلتي على متن ألوان الخيال ممتدة الى اللا نهاية, تخبرني بانني كتلة من ألوان باهتة وانني كوريقة خريف تثقلها الذكريات وان علي العودة أدراجي الى ذلك الجرح الناتئ في قلب الوطن المترنح ما بين الوجود وهلامية التشظي, الا انني كنت أعاندها لأستمر في رحلتي. شاهدت الجرح يبتعد عني و يصير أكبر, ينزف من جوفه عوالما كنت قد نسيتها حالما أعتليت سلم الحلم للوصول الى الأمان الذي تنشده روحي. لكن الآ يجدر بي ان أضمده واوقف النزيف؟
تساءلت, كيف لي أن أوقف النزيف المنساب على أطراف الدنيا وأنا الهاربة العاجزة؟ بما سأحشو الوجع المنبثق من وجه الليل وعمق الظلام يا ترى؟
ربما سأحشوه بأكوام الحكايات المشتعلة مع ضوء شموعنا المخبئة, أو ربما سأحشوه ببعض من صور مدينتي التي تحترق, او ربما سأحشوه ببعض من الرماد المتناثر من على رفوف الذاكرة ؟
لا, سأحشو الجرح بحفنة من الذكريات التي هبطت على اجفاني قسرا هذه الليلة قبل ان يسرقني الحلم. ساجعل منها سدا منيعا عاليا يمنع انسياب الدم وتدفقه من عمق هذا الألم الذي يعتلي روحي رغم هروبها.
أول اللقطات التي استفاقت من ركامها كانت لعبة (بيت بيوت) التي كنت ألعبها يوميا مع أطفال الحي, حيث تتعالى دوما أصوات ضحكاتنا لتملأ الأفق الشاسع الممتد ما بين الحلم والحقيقة. أرى وجهي الطفولي يشرق من بين المجاميع وأنا أتباهى بجدائلي السود وملامحي السمراء . تنعكس من أضواء عيني صور لمدرستي والأطفال والغد والامل والفرح والأمان والحلم والسفر وكل ما علمتني اياه أمي وكل القصص التي قصتها علي جدتي. آه هل كذبوا علي حينها حينما أخبروني بأننا سعداء؟
هل خبأوا عني الحرب التي كانت تشتعل خارج أسوار البيت ؟ هل استهانوا بعقلي الصغير حينما كانوا يغلقون التلفاز كل يوم مع حلول موعد نشرة الأخبار, حيث تبدأ جدتي بسرد حكاياها الممتعة. كم كنت غبية حينما صدقت أدعائهم بأن التلفاز ممل وأن حكايات جدتي هي الأجمل والأصدق في هذا الكون المختصر على أطراف ثوبها الفضفاض ورائحتها المسكية. كانت تلملمنا صغارا تحت عبائتها الواسعة الأمتداد وتطير بنا الى عوالمها الفضية وهي تقص لنا عن انتصارات الحب والحق على كل ما هو لا انساني ووحشي. فكم مرة أنتصر فيها الأمير الأعزل على كل الوحوش التي رءاها في الطريق المؤدي الى قصر حبيبته, وكم صدقناها وآمنا جميعا بأن العدل هو الأمثل وان لا حياة من دون أرادة وان لا فرق بين الناس رغم اختلاف ألوانهم وثقافتهم وأديانهم. يا الهي هل كانت جدتي أكثر من حكيمة؟؟ هل كانت تصنع في دواخلنا المدينة الفاضلة وتهيئنا نحن الصغار لنكون سكانها, بينما الحرب تحرق كل ورودنا في الخارج؟
هل الايمان والحب ينتصران فعلا على أعتى الوحوش ضراوة وأفتك الاسلحة غدرا؟
كانت تتركنا نياما على حجرها الدافئ وهي تجوب العالم الخارجي القاسي بعبائتها الفضفاضة, تسهر الليل بطوله لتحمينا حتى من الكوابيس ان أقتربت . انها جدتي الأمية المفعمة بالحب للحياة والمؤمنة حد النخاع بضرورة أن يحيا الأنسان بأمان وحرية. انها جدتي العارفة بكل الامور والمليئة بالحكمة والمحبة. انها نبية !!
واليوم أصحو على ارتعاشات الشمعة وهي تحتضر خلسة بين أكوام الاثاث كي لا تلمح ضوءها الطائرات الحربية. لا ملجأ لأحزاني غير سقف يترنح من دوي الانفجارات وجدران تهتز مع كل أطلاقة من فوهة مدفع. أسأل جدتي التي ماتت منذ زمن, ترى ما الذنب الذي أرتكبناه لنمر بكل هذا الأسى الذي لم تخبرينا عنه يوما؟ لماذا يريدون قتلنا ونحن من تعلمنا ضرورة الحب وأحقية الجميع بالحياة؟
من هم الذين يريدون أن يهدموا مدننا الوديعة وحتى مدننا الفاضلة التي صنعتها حكاياتك في دواخلنا؟
انهم شياطين العصر الجديد, جائوا كأسراب الجراد المتوحش لتلتهم وجه الشمس والوطن.
وحين وصلت بعد كل هذا العبث الى بلد الأمان الأصطناعي, اكتشفت بأننا لم نكن نحيا, وان الوطن االذي كنا فيه هو زنزانة كبيرة لكل أحلامنا وانسانيتنا المغدورة, واننا أشباه بشر نعيش بذاكرة معطوبة, تنتقي من اجفانها الذكريات حسب الطلب. مرضى الحروب أتينا لنمارس حرية بلون المنفى هنا. نحن لم نتعلم العيش كما يعيش البشر. لا حياة تشبهنا, لا أحزان تشبهنا ولا ذكريات لنا في هذا البلد الذي يعيش سكانه فيه ليسعدوا, أما نحن فنعيش فيه لنشقى بعزلتنا!!.
أغمضت عيني مرة اخرى لأصل الى جرحي الذي لم يتوقف عن مناداتي يوما . رجعت اليه مع حفنة من الذكريات والقصص كنت قد استعرتها من عباءة جدتي علني أوقف بها نزيفه الراعف. الا أنه كان قد اتسع الى الحد الذي لم يعد لي قدرة على ترميمه , فأستحال الى جوف عميق يبتلع الوطن والناس والآمال والخيبات والأحلام والذكريات معا , وأنا واقفة على حافته, متلفعة بعباءة الجدّة وأتفرج.



#صبا_مطر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ظل يغرق في الصدى
- ليلة اغتراب
- تقويم بلا نيسان
- كلكامش المعذّب
- سجون
- تاريخ معطل بالاحزان
- نشرة الاخبار
- حكاية حرب وموسيقى
- الى وطن في القلب يمشي بخطى من نور
- حقائب سفر
- امنيه العام الجديد
- هذيانات نثريه
- اشتياق


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبا مطر - جرح