أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالحميد برتو - الوطنية الحقة وحروب التدخل (1)















المزيد.....

الوطنية الحقة وحروب التدخل (1)


عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)


الحوار المتمدن-العدد: 5029 - 2015 / 12 / 30 - 20:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


قد يكون من المناسب النظرالى المسالة الوطنية على قاعدة أوسع تعريفٍ لها، أي التأكيد على أنها مبدأ أخلاقي وإجتماعي يُعبر عن مواقف الناس تجاه بلادهم، حيث يصفها الكثير من القادة التاريخيين للعديد من الأمم والشعوب على المستويين النظري والعملي، بأنها تمثل أحد أعمق المشاعر وأوسعها دائرة بين الناس، وهي مبدأ أولي يُعرف بذاته لشدة عمقه ووضوحه وبه تُعرف الأشياء.

وتتجسد الوطنية بمعرفة مصالح البلاد العادلة والإستعداد للتضحية والعطاء في سبيلها. وفي أيام المحن يكون الإحساس بآلام الناس معياراً لقياس الوطنية. وبديهي أن مصالح الناس ليست واحدة، ولكن مختلف التجارب المتوفرة وذات المصداقية تفيد بأن الفقراء والمنتجين والمعبرين عن مصالحهم هم الأكثر إلتصاقاً بمصالح الوطن الحقة. وإن إستهجان أدوار وأعمال الفئات الإستغلالية أو الطفيلية الحاكمة لا يمكن أن تشوه نظرة الوطنيين الى بلادهم، مهما كانت درجة إنحدار الحكام وقساوة الظروف المحيطة بالوطنيين وإعباء النضال من أجل التغيير.

إن الوطنية الحقة هي بمثابة سد الأمان ضد الإنزاق في طريق العدمية القومية والوطنية أو التعصب والإنغلاق القومي. والوطنية لا تدعو الى كراهية الآخر سواء كان أجنبياً أو شريكاً في الوطن الواحد، وإنما تدعو للعمل من أجل إيجاد حلول لنقاط الخلاف أو التصادم، وليس الى الإضرار بالآخر أو قرع قبول الحرب والتبشيع ورفع حماسة الروح العدوانية.

في ظروفنا الراهنة لم يعد الحديث فيها عن الوطنية بطراً لا لزوم له بعد عواصف التشكيك بالوطن نفسه، وبعد تحويل الوطن والمواطنين الى ميدان للقتل المعلن وللسرقة وللتسلية الإجرامية العابثة من خلال إنتهاك كل القيم المعترف بها في كل الأزمنة والمعايير على أيدي زمر فقدت الحس الإنساني عامة وقبله فقدت الحس الوطني خاصة.

ومن المفارقات المؤلمة أن أقل درجات الإستغلال للوطن من قبل الحكام الطغاة أو المقلدين لهم أو الإنتهازيين أو الذين لا جذور لهم في أرض البلد جرى تحويل الوطن والوطنية الى رداء لستر ما لا يستر. والحديث عن الوطنية، وهي وعاء الصراع الإجتماعي المشروع والطبيعي والتاريخي، لا يعني تجاهلاً لذلك الصراع الذي يحمل بطبيعته قدرة تطويرية مهمة لأطراف الصراع الطبقي التاريخي أنفسهم، إن الجهد الرئيس للقوى المتخلفة ينصب على مهمة إرخاء وتيرة الصراع البناء لبعض الوقت قدر المستطاع بصراعات تُسَهِلُ مهمة قوى الإستغلال الخارجية والقوى المحلية الضالعة في مشروعها بوعي أو لأسباب عديدة أخرى من أجل ألا يلتفت المواطنون الى حقوقهم الضائعة أو المنهوبة.

لا شك في أن مفهوم الوطنية قد يصاب ببعض الإرتباك المقصود أو غير المقصود في البلدان المقسمة أو التي تعتقد إنها تنتمي الى أطار جغرافي وتاريخي وثقافي أوسع. فهنا ينبغي أن يكون الحديث بغاية الوضوح عن الحالة الملموسة، ولا ينتقص ذلك الوضوح من الطموحات سواء لأجزاء تريد الإعتراف بحقوقها أو خصوصيتها ضمن الوطن الواحد أو خارجه، أو تلك التي تسعى لكيان أعظم وأوسع، أي إن الوطنية العراقية ليست في تعارض مع حق العرب في وحدتهم القومية، ولا مع حق الأكراد في تقرير المصير، وكذلك الحال لبقية الأعراق والكيانات الثقاقية والعرقية العراقية. فالعراق بحدود الراهنة يمثل شعوراً عظيماً في قلوب جميع أو توخياً للدقة معظم أبنائه، خاصة حين يغيب الإكراه والعدوان والتسلط والتمييز.

لننظر الى أوضاع وحالات شعوب أخرى، حيث توجد في عالم اليوم أنماط لا حصر لها من العلاقات المرتبطة بالشؤون الوطنية والقومية، وهي في الغالب من إرث مراحل سابقة من التسلط الإستعماري ومن تبعات الحلول الجائرة، وقد جرت فعلاً تسويات مختلفة بصدد تلك الحالات بالتفاهم حيناً أو بالقوة الغاشمة أحياناً. ففي المجر على سبيل المثال ينصب جهد المجريين على تطور بلادهم ضمن الحدود الرسمية للمجر المعترف بها دولياً في الوقت الحاضر، وأحياناً يتعداه بما قد يؤدي الى توترات إقليمية أو ثنائية، ولكن أياً كانت الحالة لا يعني ذلك أن بودابست ليس من حقها النظر الى ظروف المجريين في الخارج الذين يشكلون النصف الآخر من المجريين خارج جغرافية الدولة المجرية المعترف بها دولياً، وينبغي أن يكون ذلك في ظل الظروف الملموسة ضمن قواعد إحترام واقع الإستقرار الدولي والإقليمي ومصالح الدول الأخرى التي ترتبط مع بودابست من خلال كيانات مجرية في كل من: رومانيا؛ صربيا؛ سلوفاكيا؛ والنمسا، وإن تلك الكيانات يمكن أن تكون عنصر تطوير للعلاقات الثنائية أو عكس ذلك وفقاً للسلوك الفعلي للإطراف المعنية. وكذلك الحال بالنسبة الى صربيا ودول عديدة أخرى داخل أوروبا وفي القارات الأخرى. وربما زرع الثقة بين شعوب الدول المعنية هو أقصر طريق لإيجاد الحلول المنصفة لجميع الأطراف، وبما يلبي طموحاتها في ظروفٍ وشروط مناسبة ومستقرة، ولا تتيح الفرص للإستغلال السلبي من الدول والقوى الطامعة، أو التي لا تعتمد أساليب مناسبة للعصر الراهن وتعقيداته الخطيرة أيضاً. وهناك حالات أدت الى إندلاع حروب مؤلمة كالتي تجري حالياً في شرق أوكرانيا، والنماذج المتباينة والقائمة والتي مرت في هذا الصدد كثيرة للغاية.

إن أكبر جريمة بحق العراق والعراقيين هو إعتماد مناهج سياسية وعملية لا تقوم على أساس إحترام مخاوف كل الأطراف العراقية، سواء كانت تلك المخاوف حقيقية أو زرعت فيهم بوسائل مختلفة، وكذلك الحال في البلدان الأخرى التي تمر بظروف مشابهة. هل هناك عار أكبر من عار أن يقتل المواطن العراقي أو سوري أو اليمني مواطنه الآخر، وقد تصل حالة التدهور السياسي والإجتماعي الى إعتبار الآخر يشكل خطراً مميتاً ينبغي التخلص منه، وإن مسعى التخلص من الآخر فضلاً عن بربريته فهو من المحال. كما لم تعد حالة الشعوب تتغير بالطريقة القائلة: الناس على دين حكامهم، حيث يتم التغيير بالإكراه أو غيره، مثل تحول مصر من الفاطمية الى التسنن، أو تحول إيران الى التشيع، وفي حالات أخرى شهدنا في الماضي السحيق تحولات ذات طبيعة عرقية، وهو التحول أكثر راديكالية من التحول الديني أو المذهبي.

ينبغي في عصرنا الراهن أن نأخذ التأثيرات والتدخلات الدولية في عين الإعتبار، حيث باتت تلك التأثيرات والتدخلات توشك أن تتحول الى عامل داخلي مباشر وشديد التأثير، ولكن في المقابل ينبغي أن نثق بأن قوة العامل الخارج تشتد بضعفنا وتمزقنا الداخلي، وهذا العامل الأخير هو الذي يفتح شهية العدوان علينا.

كما إن الإنغلاق الديني أو المذهب أو العرقي أو أي حالة إنغلاق أخرى تغلق القدرة على طرح الأسئلة الأساسية البناءة أزاء أي تطور كلي أو جزئي، والبحث عن حلول مناسبة لمواجهة الظروف المستجدة. وعندما تجيش الجيوش على بلادنا، أليس من الواجب طرح السؤال: لماذا جاؤوا؟ وإذا بدأت المماحكات بين طرف دولي أو إقليمي وطامع الآخر، في هذه الحالة تقع علينا أولاً وقبل كل شيء مسؤولية أن نسأل أنفسنا عن أسباب تلك المماحكات أيضاً.

كم هو أمر مثير للحزن حين تصور أو توهم عراقيون بأن أمريكا حين جيشت جيوشها عام 2003 كانت تهدف لتخليص العراقيين من الإستبداد والدكتاتورية، ولإقامة مجتمع الرفاهية. فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة أن العراقي يقتل العراقي الآخر دون رحمة، والبلد مستباح من قبل كل من هب ودب، وضباع العملية السياسية الأمريكية يسرقون كل شيء بما فيها أمجاد المضحين السابقين من إجل العدالة والكرامة الإنسانية، وكذا الأمر بالنسبة للدول الإقليمية التي تتوهم بأنها ستحصل على دور شرطي المنطقة وكالة عن الكبار، والكبار عملياً ينخرون تلك الأطراف الإقليمية من الداخل من حيث يدري أو لا يدري القائمون على أمر تلك الدول الى أن يأتي يومهم المقرر حين تكتمل جميع عوامل ذلك اليوم.

كما إن الحديث عن مخاطر وآثام حروب التدخل لم يعد مجرد حديث يُمكن أن يوصف قائله بأنه مهوسٌ مغرم ثمل بوطنيته يتوهم خطر عدوان خارجي سيقع، بل في الواقع الملموس إن أكثر من عدوان قد وقع، وإن حياكة المؤامرات في الخفاء وغيرها ليست من وساوس المبالغين في الحذر. إن الوقائع اليومية تؤكد على أن بلداناً من أهم وأعرق بلدان الشرق القديم أصبحت مهددة بأفدح المخاطر الجدية الملموسة التي تضرب وجودها بالصميم، وبات القول على سبيل المثال: إن العراق وسورية لن يعودا كما كانا يُسمع بكثافة مثيرة للقلق والتساؤل، والمقصود هنا تقيسم البلدين الى شظايا طائفية وعرقية وحتى أكثر من ذلك، وهناك دول أخرى في غرفة إنتظار المصير. إن لحظة تأمل واحدة لأي مخلص في البلدين أو غيرهما سوف يجد أن مصلحة أبن وطنه الآخر هي مصلحته هو بالذات، وإن أنهار الدماء كلما سالت لفترة أطول كان الثمن أكثر بشاعة وإعادة الترميم أكثر تكلفة، ولن يخرج أحد من الحروب المجنونة منتصراً.

تلك المخاوف والأسئلة أو الحالة تظل مطروحة ومشروعة للوقوف ضد كل عدوان أو تخريب وقع وقطع أشواطاً بعيدة في مسيرته أو سيقع. ومن المعلوم أن قيادات حروب التدخل عبر التاريخ تبدأ أولى خطواتها نحو العدوان على الشعوب الأخرى بإعداد المسرح لإعتداءاتها، وذلك من خلال العمل على قتل الروح الوطنية أولاً وقبل كل شيء، ومن ثم إضعاف كل القيم الرفيعة التي ترفد الحالة الوطنية بمقومات الثبات لتجاوز المحن على طريق السعي لتحقيق أي تقدم كان، مهما كان نوعه ومرتبته، وفي حالات معينة تتسع شهية الطامعين للتشكك بالوطن نفسه، تشكيكاً وجودياً، إن أمكن ذلك.

في المجتمعات الخاضعة للإستبداد يوجد الحاكم المطلق الواحد الذي يرى بأن الوطن هو كشخص لا غير، ويُعبر عن ذلك الموقف بصيغ وحالات مختلفة مثل: الحاكم الجلاد، الحاكم الذيل للخارج والمتجبر على الشعب، الحاكم بتفويض رباني مقدس واجب الطاعة والإمتثال، والحاكم البين بين الى آخر الأنماط الممكنة. وقد قدم لنا التاريخ، القديم منه والحديث، أمثلة لا حصر لها.

كما إن المعتدي عبر حروب التدخل لا يستخدم عدته الحربية فقط، وإنما يستثمر كل معايب ونواقص المجتمع المستهدف الى جانبها وفي الغالب قبلها، والحصيلة بعد تحقيق أهداف قوى التدخل يتحقق المزيد من التراجع المجتمعي على الصعد والمجالات كافة، ويجري ترسيخ إستهداف الحقوق والمصالح الوطنية الكبرى، وإغراق الفئات الإجتماعية المهمشة بأوهام لا حصر لها بهدف إضعاف وعيها بمصالحها الوطنية والطبقية والشخصية الملموسة لصالح أوهام يجري تحشد الناس تحت ألويتها.

قدمت بعض دراسات الإستشراق الممولة من الإحتكارات الكبرى، وكذلك أبحاث علم الإجتماع والنفس الإجتماعي الحديثين خلاصات بصدد قراءة الواقع الإجتماعي في المجتمعات التي مازالت تعيش حالات من إزدواج وتبادل التأثير بين المفاهيم الإجتماعية الحديثة وبين مفاهيم وقيّم ما قبل مجتمع الدولة.

ومن تلك الخلاصات ما يفيد، بل يؤكد، على أن طغيان قيّم القبيلة على سبيل المثال على القيم الوطنية يحرف الإنتباه والإهتمام عن الوطنية لصالح القبيلة وحسب، وفي القبيلة يجد حمايته ومصالحه الشخصية بعد أن تراجع دور الدولة عن عمد وتخطيط مسبقين. وكذا الحال بالنسبة لتعميق النزعات الدينية والطائفية والمناطقية وغيرها بإتجاهات سلبية للغاية. ومن تلك الخلاصات ما يفيد بأنه في حالات خوض أبناء الشعب أو البلد الواحد في دماء بعضهم لأسباب قبلية أو طائفية أو غيرها، يصبح المحتل أو الغازي هو الحكم بينهم، وهو مصدر دعم "المستضعف" منهم، وهو مَنْ يستنجد به جميع قادة الطوائف والقبائل وغيرهم. ولا تستخدم في مثل هذه الحالات معطيات وتنظيرات السوسيولوجيا الكولونيالية فقط بل وإمعاناً في تعميق التمزيق الإجتماعي يستخدم علم الإحصاء بكل فروعه، ويجري التعويل على تأويله إنتهازياً، ففي الحالة الملموسة في العراق يقال لسكان الجنوب أن بقية العراقيين يعيشون على خيراتكم، ويقال لأهل الغرب أنكم تسبحون على بحيرات من النفط والغار الى جانب خزانات المياه الطبيعية وعندكم الممرات الى البحر المتوسط وخليج العقبة وغير ذلك، ولأهل الشمال تجري مداعبة حقوقهم القومية العادلة والمشروعة بمكر يضاف إليها بعض المعطيات حول الميزات الإقتصادية.

ما كان لتلك الدعاية البائسة أن تُسمع لولا الأضرار البالغة التي لحقت بالوطنية العراقية. المهم هنا في هذه المرحلة العصيبة البحث عن مخارج لتجاوز الأزمة، وليس للتنصل من المسؤوليات أو إلقائها على الشريك في الوطن الواحد.

ومن جانب آخر، تسعى القوى المهيمنة على مراكز القرار في الدول الإستعمارية الساعية الى تحقيق أفضل تقاسم للنفوذ من وجهة نظرها الخاصة، وحتى الدول الإقليمية الساعية الى مد نفوذها أو درء المخاطر عنها، تسعى تلك الأطراف فراداً ومجتمعة الى إذكاء روح التعصب الديني والطائفي والقومي الضيق والزائف في هذا البلد أو ذاك. وهي في مثل هذه الحالة لا تدرك مدى خطورة تلك السياسة عليها بالذات. وإمعاناً في إيذاء الشعب المستهدف تسعى قوى التدخل وحتى الأقطاب الإقليميين الى تغذية روح الإستعلاء على الآخرين عند مواطنيهم هم قدر الإمكان، وعلى أوسع نطاق، وقد تصل تلك العمليات حد تجريد الآخرين المستهدفين من أنبل خصائصهم والتشكك بأنهم يستطيعون العيش بين الأسوياء في صفوف البشر ماضياً وحاضراً.

وبديهي أن حروب التدخل لا تنطلق دون وجود مصالح تعتقد قيادات قوى التدخل بأنها حيوية للغاية، ويستلزم ذلك أيضاً وبالضرورة وجود قاعدة نظرية تبرر التحرك على الأرض. وفي الغالب تموه الأهداف الحقيقية بإستخدام أغطية ما، حتى ولو كان مهلهلة، ومن الإستحالة هضمها، مثل: جاءت جيوشهم لإخراج المجتمع من تخلفه؛ ولبناء الأساس المادي للتطور الإجتماعي والإقتصادي والسياسي؛ ولإنقاذ الشعب من حكامه الطغاة؛ ولضرب رأس الأفعى والخطر قبل إستفحاله؛ أو لمحاربة الإرهاب؛ وتلبية لدعوة الشرعية ... الخ.

لا يبخل المعتدون الى جانب ذلك في محاولاتهم لخلط الحقائق، وتبشيع القيم العامة بكل معانيها السياسية والأخلاقية، وتهشيم إرادة النضال في داخل قوى التغيير على الجانبين؛ أعني البلد المعتدى عليه وداخل دول جيوش العدوان. ويعمل المعتدون على تعميم السخرية من الحياة الكريمة وإحتقارها، وإرشاء الفئات العليا الرخوة في المجتمع الذي يقع ضمن دائرة الإستهداف، ويشمل ذلك أحياناً الأحزاب السياسية ولا تستثني أحداً من أقصى اليسار الى أقصى اليمين وأجزاءً من الدوائر الحاكمة أينما أمكن ذلك.

تجري كل تلك التحركات مدعومة بتدفق إعلامي مدروس ومعزز بإستعراض القوة العسكرية القاهرة. وتسبق كل التدخلات عمليات إطلاق العنان للرشوة والإغراءات المادية و"المعنوية" بكل أنواعها، وخلق وجاهات كاذبة لقادة الزمر الأكثر إستعداداً للإعتداء على حقوق وممتلكات الشعب، وتأجيج الترسبات الرديئة في أحشاء المجتمع المعني، وزع أوهام حول الإصلاح السياسي والإجتماعي والإقتصادي، والتلويح بتحقيق طفرة إقتصادية محمولة ومصحوبة بحراب جيوش التدخل، كل ذلك يجري من أجل تبرير الجرائم المنظمة والمخطط لها عند الشروع بتنفيذ الجزء الحربي من العدوان، وذلك من أجل أن يواجه العدوان أقل قدر ممكن من المقاومة والرفض، ومن أجل أن يكون ثمن العدوان زهيداً عليهم قدر الإمكان.

وبديهي أن الوطنية الحقة تُملي إلتزامات وقواعد عمل وسلوك على كل من يدعيها، ناهيك عن الذين يطرحون ما هو أبعد وأرقى، أي ما يقع في آخر مراحل تطور النزعة الوطنية. ومن أولى مستلزمات النضال الوطني عند التلويح بحرب التدخل وبعد إندلاعها، أن تُحدد "قوى التغيير" النقطة المركزية في برنامج عملها وفق طبيعة الظرف الملموس. ففي حالة وجود تهديد خارجي تكون النقطة المركزية درء ذلك التهديد ومقاومته عند وقوعه.

ومن أسوء المواقف تزين التدخل أو الدعوة لإستقدامه، حتى لو بدا ذلك عند قصيري النظر أنه ينطوي على مصلحة ما، وهذا وهم من المفترض أنه لا يمر بسهولة، لأن ثمار التدخل ستكون حتماً مريرة ومروعة، وتترك أثاراً ومؤثرات تتطلب زمناً وعملاً شاقاً ومخلصاً لإعادة زرع بذور الثقة بين أبناء البلد الواحد.

وفي حالة إندلاع الحرب لا خيار من مواجهتها بكل الوسائل المشروعة والممكنة والمتوفرة، وخلق كل مستلزمات مواجهة المعتدي وبوسائل توجعه وترد عدوانه، وإعتبار ذلك المهمة رقم واحد أو النقطة المركزية ومحور نضال الشعب.

هذا ما قلناه عند الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وقبله عن كل التدخلات الخارجية، وما نقوله اليوم عن كل التدخلات الخارجية في العراق وسورية واليمن وليبيا وغيرها، حيث لا مصلحة لشعوبنا بكل الصرعات الدولية على مناطق النفوذ، ومن يطلب النفوذ يطلبه لنفسه ولحساباته الداخلية والخارجية وعلى حساب مصالح شعوبنا.

إن إسقاط الأنظمة الجائرة والإستبدادية والمتخلفة واللصوصية يكون في صالح الشعب إذا كان الشعب المعني حقق ذلك بنفسه، وإن محاربة قوى الإرهاب في سوريا أو العراق أو أي بلد آخر لن تتم إلا على يد الشعب المعني نفسه. وعلى العكس من ذلك فإن التدخلات الخارجية هي أقوى رافعات للإرهاب، بل هي التي خلقت الإرهاب وغذته وقوته، هذا الى جانب العوامل المحلية الأخرى، المفضوح منها والذي لم يفضح بعد. ومن جانب آخر فإن هنالك شروطاً وموصفات للكفاح الجدي على طريق دحر قوى الإرهاب، سواء كانت "داعش" أو غيرها، ومن مقومات ذلك إدانة كل الأطراف الإرهابية وإرهاب الحكومات نفسها وكذلك مليشياتها دون منافقات أو مواربة. ومن المعلوم أن سياسة الأرض المحروقة لا تخدم سوى قوى التطرف والوحشية، الآن وفي المستقبل، وكلما ساد التأني والدقة والإخلاص في مواجهة قوى الشر والظلام تعززت القناعة العامة بقرب خلاص البلاد من الكوارث، التي تحيط بها من كل صوب. وينبغي أن يصل الى عقل كل مواطن أنه غير مستهدف بأي نوع من الإيذاء حتى أو خاصة في المعارك التي تجري قرب بيته، وأن تصل تلك القناعة من خلال الوقائع وليس الإدعاء، ومن أخطر الحروب تلك التي يكون الفرز فيها بين الأطراف المتصارعة معتماً عليه، والتي يشعر فيها القاتل والمقتول أنهما يدافعان عن الوطن ووحدته وكرامه ومستقبله والآخر هو الخائن. إن المصالح الوطنية الحقة يُمكن التشويش عليها ولكنها في نهاية المطاف لا يُمكن تغيبها تماماً تحت وطأة أي ظرف كان.

يتبع ...



#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)       Abdul_Hamid_Barto#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حملة التضامن مع إبراهيم البهرزي
- التصدي للفكر الظلامي المتعدد الأقطاب (3)
- التصدي للفكر الظلامي المتعدد الأقطاب (2)
- التصدي للفكر الظلامي المتعدد الأقطاب (1)
- نظرة الى دراسة إستطلاعية
- بين القرم ودمشق الشام
- التظاهرات نشاط سياسي حقق منجزاً
- ملاحظات موجزة حول كتاب آرا خاجادور
- بوتين و نيمتسوف
- أعداد النازحين واللاجئين أكبر مما نتوقع
- عراقيو بوهيميا يتضامنون مع شعبهم
- الإقامة بين العنوان والمتن
- آرا خاجادور ونبض سنينّه
- من الكوفة الى الأنبار
- شكري بلعيد يُقدم الدليل
- الإحساس بالإضطهاد الطائفي
- موسوعة الوراقة والورّاقين
- وداعاً أبا عواطف
- جيفارا: قوة المثل الثوري
- الفيلسوف مدني صالح وعطرالأرض


المزيد.....




- لماذا تهدد الضربة الإسرائيلية داخل إيران بدفع الشرق الأوسط إ ...
- تحديث مباشر.. إسرائيل تنفذ ضربة ضد إيران
- السعودية.. مدير الهيئة السابق في مكة يذكّر بحديث -لا يصح مرف ...
- توقيت الضربة الإسرائيلية ضد إيران بعد ساعات على تصريحات وزير ...
- بلدات شمال شرق نيجيريا تشكل وحدات حماية من الأهالي ضد العصاب ...
- أنباء عن -هجوم إسرائيلي محدود- على أهداف في العمق الإيراني و ...
- قنوات تلفزيونية تتحدث عن طبيعة دور الولايات المتحدة بالهجوم ...
- مقطع فيديو يوثق حال القاعدة الجوية والمنشأة النووية في أصفها ...
- الدفاع الروسية: تدمير 3 صواريخ ATACMS وعدد من القذائف والمسي ...
- ممثل البيت الأبيض يناقش مع شميغال ضرورة الإصلاحات في أوكراني ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالحميد برتو - الوطنية الحقة وحروب التدخل (1)