أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - شادي الشماوي - تطوير ماو تسى تونغ للفلسفة الماركسية(1)الفصل الرابع من كتاب - مساهمات ماوتسى تونغ الخالدة - لبوب أفاكيان .















المزيد.....



تطوير ماو تسى تونغ للفلسفة الماركسية(1)الفصل الرابع من كتاب - مساهمات ماوتسى تونغ الخالدة - لبوب أفاكيان .


شادي الشماوي

الحوار المتمدن-العدد: 5025 - 2015 / 12 / 26 - 00:30
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


تطوير ماو تسى تونغ للفلسفة الماركسية(1)

الفلسفة

الفصل الرابع من كتاب " مساهمات ماوتسى تونغ الخالدة " لبوب أفاكيان .

نشرت الفصول بداية كمقالات فى مجلة " الثورة " بين أفريل 1978 و جانفي 1979 .

مقدّمة :

يرتبط النضال على صعيد الجبهة الفلسفيّة و التطوّر الفلسفي إرتباطا وثيقا بالصراع و التطوّر فى المجتمع ككلّ . كان الأمر دائما على هذا النحو و أصبح كذلك بالخصوص مع ظهور الماركسيّة و تطوّر البروليتاريا كطبقة لذاتها بمعنى تطوّر حركة وعي الطبقة العاملة .

فى ظلّ الإشتراكية ، تكتسي هذه الحقيقة حتى أهمّية أكبر لأنّ مهمّة البروليتاريا كسيّدة للمجتمع الإشتراكي هي أن تحوّل عن وعي الطبيعة و المجتمع و الناس حسب نظرتها للعالم و أن تتقدّم صوب الشيوعية .

---------------------------------------------------------------------------------------------------------------

الأساس الطبقي للفلسفة

طالما وُجدت الطبقات ، فإن لكلّ نوع من الفلسفة طبيعة طبقيّة . و " الفلسفة تخدم أبدا السياسة "( 1) و كما أكّد على ذلك ماو ذاته ، أساس الفلسفة - فى المجتمع الطبقي – هو الصراع الطبقي و هذا بالخصوص صحيح بشأن الفلسفة الماركسية . لقد شرح ماو ذلك كالتالي :

" هنالك صراع بين البروليتاريا و البرجوازية ... المضطهِدون يضطهدون المضطهَدين فى حين يحتاج المضطهَدين إلى المقاومة و البحث عن مخرج قبل التوجه إلى الفلسفة . فقط عندما أخذ الناس ذلك كنقطة إنطلاق وُجدت الماركسية –اللينينية و إكتشفوا الفلسفة . لقد عشنا جميعا هذه التجربة ." (2)

فى هذا الخطاب ذاته ، سأل ماو بالتحديد مجموعة من المثقفين :" إذا لم تشاركوا فى الصراع الطبقي بأي فلسفة أنتم مرتبطون؟ "(3).

و لكن الفلسفة من ناحيتها تمارس إنعكاسا عظيما على الصراع السياسي . هذا هو السبب الأساسي الذى دفع ماو لا فقط إلى إيلاء أهمّية كبرى للفلسفة و إلى أن يصارع هو ذاته فى هذا الخضم بل لقد أكّد مرارا و تكرارا أن الفلسفة يجب أن تحرّر من جدران الدراسة المدرسيّة و أن تفهم من قبل أوسع الجماهير الشعبيّة لأنّه دون الفهم الواعي للفلسفة الماركسيّة و دون تحطيم القواعد الذهنيّة لفلسفة الطبقات المستغِلة ، لن يصبح ممكنا بالنسبة للبروليتاريا و الجماهير الواسعة أن تقضي تماما على بقايا الرأسمالية و المجتمع الطبقي و أن تتقدّم بالبشريّة و أن تحدث قفزة نوعيّة فى سيطرتها على الطبيعة.

---------------------------------------------------------------------------------------------------------------




أسس الفلسفة الماركسية

لخّص ماو فهم القانون الأساسي للتناقض و أغناه و سلّح الجماهير الشعبية لا فقط فى الصين بل عبر العالم أجمع بهذا الفهم المعمّق . هذا هو جوهر الإضافة الماركسية - اللينينية العظيمة لماو تسى تونغ فى حقل الفلسفة . و كي ندرك ذلك بصفة شاملة ، من الضروري أوّلا أن نلخّص المبادئ الأساسيّة للفلسفة الماركسيّة و تطوّرها مبتدئين من ماركس و إنجلز.

الفلسفة الماركسية شأنها شأن الماركسية عموما لم تنجم طبعا عن إندفاع فيّاض من رأس ماركس . مثلما قيل ، سأل ماو فى صيغة مزحة : حين كان ماركس يافعا جدّا ، هل درس أيّة ماركسيّة ؟ الفلسفة الماركسيّة أقام صرحها ماركس بالإشتراك مع إنجلز ، بتركيز و إعادة بناء و صياغة ما كان صحيحا فى الطريقة الديالكتيكية لهيجل و فى مادية فيورباخ و هما المدرستان الفكريّتان اللتان مرّ بهما ماركس عندما كان شابا ، قبل أن يصبح ماركسيّا .

فى " فيورباخ و نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية " ، لخّص إنجلز تلك السيرورة فبيّن كيف أن تطوّر فلسفة هيجل مثلها مثل فلسفة فيورباخ - و أن ماركس و أنجلز ذاتهما - كانا مرتبطين شديد الإرتباط بتطوّر الرأسمالية و التطوّرات السريعة فى العلم و التكنولوجيا و كذلك فى التغيّرات الإجتماعيّة الدراميّة و الإنتفاضات التى رافقتها ، لا سيما فى أواخر القرن 18 و بداية القرن 19.

و أوضح إنجلز فى ما يتعلق بفلسفة هيجل أنه :" بالضبط مع تحطيم البرجوازية بصناعتها الكبيرة و مزاحمتها و سوقها العالمي عمليّا كافة المؤسسات المستقرّة سابقا ، كانت هذه الفلسفة الديالكتيكيّة تحطّم كلّ مفهوم نهائي ، مطلق للحقيقة و الحالات المطلقة للإنسانية المرافقة له فبالنسبة لها ( الفلسفة الديالكتيكية ) لا شئ نهائي ، مطلق و مقدّس . إنّها تكشف الطابع العرضي لكل شئ و فى كل شئ ، لا تضمن إلاّ السيرورة غير المتقطّعة للصيرورة و التحوّل ، السيرورة المتصاعدة و اللامتناهية من الأسفل إلى الأعلى . و الفلسفة الديالكتيكية ذاتها ليست أكثر من إنعكاس بسيط لهذه السيرورة فى المخ المفكر ".(4)

لكن حين كان هيجل يطوّر فلسفته ( العشريّات الأولى من القرن 19 ) ، كانت الرأسمالية ضعيفة التطوّر فى ألمانيا . لم تكن الدولة الألمانيّة موحّدة فى ظلّ النظام الرأسمالي حيث لم تكن الثورة البرجوازية فى ألمانيا قد حدثت بعد ُ و وجدت البرجوازية الصاعدة نفسها مضطرّة إلى عقد تسوية مع الأرستقراطية الإقطاعيّة و الملكيّة فى شخص فريديريك وليام الثالث ، ملك بروسيا . فكان لكلّ هذا تأثيره الكبير على فكر هيجل الفلسفي و السياسي .

سعى هيجل لتطوير نظام فلسفي كليّ قائم على الأساس المادي للظروف المتناقضة لألمانيا آنذاك . و بإرتباط بهذا ، بينما كانت طريقة هيجل ديالكتيكية ، إنتهى نظامه الفلسفي إلى أن يكون ميتافيزيقيا و إلى طلب حقيقة مطلقة متحقّقة تتمثّل بالذات فى النظام الفلسفي لهيجل ذاته . فى النهاية ، كان هيجل مثاليّا خلق نظامه الفلسفي فكرة مطلقة موجودة قبل الطبيعة و غير متّصلة بها . و هذه الفكرة عينها تبتعد عن الطبيعة لكي تفهم تدريجيا من قبل الإنسان فى المجتمع ، وتنتهى إلى تحقّقها النهائي و التام فى النظام الفلسفي لهيجل ، كما عبّر عن ذلك إنجلز.

تكشّف المحتوى الدغمائي التام للنظام الهيجلي عن حقيقة مطلقة فى تناقض مع طريقته الديالكتيكية التى تلغى كلّ الدغمائية. خلاصة القول ، الجانب الثوري حجب الجانب المحافظ و ما ينطبق على المعرفة الفلسفية ينطبق أيضا على الممارسة الإجتماعية . الإنسان المتمثّل فى هيجل الذى بلغ حدّ إيجاد الفكرة المطلقة ، عمليّا ، يجب أن يذهب بعيدا إلى تحقيق هذه الفكرة فى الواقع . و بالتالي لم يكن ممكنا للممارسة السياسية العمليّة للفكرة المطلقة على المعاصرين لتتوسّع إلى أبعد من ذلك . و نجد فى نهاية [ نهاية فلسفة هيجل] فلسفة الحق و مفادها أن الفكرة المطلقة تتحقّق فى الأرستقراطية المرتكزة على الأوضاع الإجتماعية التى كان " ف. غيوم الثالث " بإستمرار لكن عبثا يعد بها أتباعه [على غرار الملكيّة الدستوريّة] (5).

و بوجه خاص إثر وفاة هيجل سنة 1831، برز أولئك ، و ضمنهم ماركس و إنجلز، الذين ورثوا الجانب الثوري من فلسفة هيجل ، المنهج الديالكتيكي . وألحّ إنجلز على أنّه حين كان نظام هيجل يدفع إلى المحافظة ، فى كل من الفلسفة و السياسة و كان كلّ من ينظر إلى المنهج الديالكتيكي كأهمّ شئ ينتهى إلى المعارضة الأكثر تطرّفا فى كلّ من السياسة و الدين (6) و ذكر إنجلز ، بعد 1840 حين ، أنّ فى بروسيا " صعد إلى الحكم مع فريديريك وليام الثالث القمع الأرتودكسى و الرجعيّة الإقطاعيّة المطلقة " فتموقع ماركس و إنجلز ذاتهما ضمن المعارضة كجزء من " الهيجليّين الشبّان " ذوى الموقف الذى ظهر مباشرة كفلسفة تطلّعات البرجوازية الراديكاليّة و إستعمل قناعا ضئيلا من الفلسفة فقط لخداع مراقبة المطبوعات (7).غير أنّ ماركس و إنجلز سرعان ما أظهرا أنّهما أكثر راديكالية من البرجوازية . هذا هو وصف إنجلز لما حصل من التطوّر فى ما بعد :

" و قد صدر آنذاك كتاب فيورباخ " جوهر المسيحية " فسحق التناقض دفعة واحدة لمّا أرجع - بدون إلتواء- الماديّة إلى العرش . إنّ الطبيعة توجد بمعزل عن كلّ فلسفة : إنّها القاعدة التى نحن البشر بإعتبارنا نتاج الطبيعة ، ترعرعنا عليها . لا يوجد شئ خارج الطبيعة و عالم الإنسان . ثم إنّ الكائنات الفائقة التى هي من خلق التخيّل الدينيّ ليست إلا الإنعكاس الخيالي لوجودنا الحقيقيّ . و لقد زال الإفتتان ، و هدم " المذهب " و وضع جانبا و حلّ التناقض لأنّه لم يوجد إلاّ داخل المخيّلة . ينبغى على المرء ذاته أن يحسّ بالتأثير المحرّر لهذا الكتاب لكي يتبيّنه . لقد عمّ التحمّس و كنّا جميعا ، مؤقتا ، " فيورباخيّين " . يتبيّن المرء لمّا يقرأ كتاب "العائلة المقدسة " مدى التحمّس الذى رحب به ماركس بوجهة النظر الجديدة هذه ، و يتبيّن إلى أيّ حدّ – رغم كل إحترازاته النقديّة - كان متأثّرا بها. " ( 8) .

بيد أن فيورباخ لم يكن ماديّا صريحا . مدفوعا إلى العزلة من قبل السلطات الرجعيّة ، إنعزل فيورباخ كذلك فلسفيّا . فقد رفض المادية الصريحة لأنّه رأى المادية كشئ مميّز للقرن الثامن عشر ماديّة ميكانيكيّة ، ميتافيزيقيّة كنقيض للديالكتيك كما قدّمها بصورة خاصة الماديّون الفرنسيّون فى تلك الحقبة . حيث كانت هذه الماديّة تعترف فقط بالتراكم المادي و كانت تتعامل مع الإنقسامات فى الطبيعة كشئ مطلق يعكس مستوى الإكتشاف العلمي فى ذلك الحين و أنّ الرأسمالية لم تكتسح بعد المجتمع ( بإستثناء هام هو أنجلترا أين أفضى ذلك إلى فهم أن كلّ شئ تناقض و أن " النظام الطبيعي" هو التغيّر المميّز بالقفزات ( التحوّلات النوعيّة ) و أنّ هنالك ترابط بين الأشياء المتناقضة و أن هنالك فقط إنقسام نسبيّ و ليس مطلقا بين مختلف أنواع المادة المتحوّلة .

فى الختام ، إنتهى فيورباخ ذاته إلى المثاليّة فبينما بيّن أنّ الدّين كان يمثّل ببساطة التعبير الخيالي فى مخّ الإنسان عن الوجود الإنساني و الطبيعي ، حاول أن لا يحطّم الدّين بل أن يعطي العلاقات الإنسانية طابعا دينيّا . ومثلما شخّص ذلك إنجلز :

" إن الدّين ، حسب فيورباخ ، هو الرابطة العاطفية ، و الرابطة الوجدانية بين البشر ، هذه الرابطة التى تبحث عن حقيقتها ، إلى حدّ الآن ، فى الإنعكاس الخيالي للواقع - بواسطة إله واحد أو آلهة كثيرين يكونون إنعكاسات خياليّة للصفات الإنسانيّة - و لكن عثرت عليها الآن ، مباشرة و بدون واسطة ، فى الحب بين " أنا " و " أنت ". و هكذا أصبح الحب الجنسيّ ، عند فيورباخ ، و بعد كلّ حساب ، واحدا من الأشكال الأكثر سموّا لممارسة دينه الجديد إن لم يكن أسمى شكل لها ." (9)

و أتعس من ذلك حتّى بصدد العلاقات و تفسير الأشياء حين تُسحب فلسفة فيورباخ و نظامه الأخلاقي على المستويات الإقتصادية والإجتماعية و السياسية . بسخريّة و حسرة فى آن معا أشار إنجلز إلى أنّ تبادل السلع بالفعل كان المثال الأتمّ و " المعبد " بالنسبة لرؤية فيورباخ الأخلاقيّة لأنّ هنالك كلّ ما يهمّه الأمر ، فإنّه يفتّش كذلك عن حقّه فى السعادة و الأخلاق يمكن أن تعكس عمل الخير . إذا ، ذهب فيورباخ أبعد من البرجوازية ذاتها فى نهاية التحليل - ليس أبعد من تقديس المساواة أمام القانون كمبدإ أسمى للمجتمع . كما قال إنجلز : " تتلاءم أخلاق فيورباخ مع المجتمع الراسمالي الحالي ، و هذا أقلّ ما يرغب فيه أو يشكّ فيه هو نفسه ". ( 10)

لذلك تجاه الطبقات المضطهَدة و البروليتاريا فى المجتمع الرأسمالي بصفة خاصة لم تكن فلسفة الأخلاق لدى فيورباخ إلاّ لتدفع للإستسلام فى شكل " حبّ " و " مساواة " . لخّص إنجلز ذلك فى :
" ومن هنا تفقد هذه الفلسفة الأثر الأخير لطابعها الثوري و لن يبقى سوى تكرار الأغنية القديمة : أحبّوا بعضكم بعضا ! – تعانقوا بلا تمييز بين الجنسين و الأوضاع ! ما أجمل حلم التوفيق الشامل هذا ! "(11)
--------------------------------------------------------------------------------------------------------------
القفزة التى أنجزها ماركس

إذن كان من الضروري تجاوز فيورباخ الذى تطوّر خارج الهيجليّة من النوع المعادى للأرتدوكسية ، لكنّه كان غير قادر على القيام بقفزة معاصرة نوعيّة على هيجل و المثاليّة عموما . كان ماركس أكثر من أيّ شخص آخر ، هو الذى قاد إلى القيام بهذه القفزة . و مثلما لخّص ذلك إنجلز :
" تولّدت أيضا نزعة أخرى عن تفكّك المدرسة الهيجليّة . إنّها النزعة الوحيدة التى أعطت حقّا ، ثمارها . وهي تنسب أساسا إلى ماركس ." (12)

لم يزح ماركس تماما فيورباخ و لم يزح كذلك هيجل حيث نقد عدم نجاح فيورباخ فى مواصلة الماديّة و فهم نقديّا الجانب المادي لفيورباخ . حسب إنجلز تعدّ " أطروحات حول فيورباخ " التى كتبها ماركس فى 1845 " الوثيقة الأولى حيث وُضعت بذور إبتكار التصوّر الجديد للعالم ." (13)

فى هذه الأطروحات بيّن ماركس أن فيورباخ كان ماديّا تأمليّا :

" إن النقص الرئيسي بالنسبة للماديّة السابقة بأسرها - بما فى ذلك مادية فيورباخ - أنّها لا تدرك الموضوع و الواقع و العالم الحسّي إلاّ فى صورة موضوع أو حدس و لكن ليس بإعتبارها نشاطا إنسانيّا ملموسا و تطبيقا عمليّا ، و بصورة لا ذاتيّة . و هذا ما يجعلنا نفهم سبب تطوّر الجانب العملي عن طريق المثاليّة بالمقابل مع الماديّة - غير أنّ هذا التطوّر تمّ على نحو تدريجيّ لأنّ المثاليّة لا تدرك ، طبعا ، النشاط الحقيقي و الملموس كما هو ."(14)

لهذا السبب قال ماركس ، فيورباخ " لا يعتبر ... نشاطا إنسانيّا حقاّ إلاّ النشاط النظري ... و من أجل ذلك لم يدرك أهمّية النشاط " الثوري " و النشاط " التطبيقي النقدي". (15)

هناك لأوّل مرّة فى التاريخ ، يؤكد ماركس على الدور الأساسي و المحدّد للممارسة فى سيرورة المعرفة ، دورها المحدّد فى حركة المعرفة . قبل ذلك ، بما فى ذلك فيورباخ ، كما أشار ماركس إلى ذلك ، كانت الماديّة ترى الواقع الموضوعي كأشياء موجودة خارج الفكر الإنساني و بإستقلال عنه ، و لكنّها لم تكن تعتبر النشاط الإنساني ذاته كجزء من الواقع الموضوعي . بإختصار مثلما قال ماركس عن فيورباخ :" يطلب موضوعات ملموسة و متميّزة ، بالفعل ، عن موضوعات الفكر . إلاّ أنّه لا يعتبر النشاط الإنساني نشاطا موضوعيا." (16)

و تبعا لهذه النظرة لعلاقة الإنسان بالطبيعة ، فى سيرورة المعرفة ، على الإنسان فقط أن يعكس الواقع الخارجي فى أفكاره أو أن يتأمّلها . غير أنّ هذا فى حدّ ذاته لا يمكن أن يعالج مشكلة ما إذا كانت أفكار الإنسان تعكس حقا الطبيعة . كما واصل ماركس تشديده :

" ليست معرفة ما إذا كان فى وسع الفكر الإنساني أن يصل إلى حقيقة موضوعية مسألة نظريّة بل مسألة عمليّة . و ينبغى على الإنسان أن يثبت الحقيقة – أي واقع الفكر و قوّته و قوامه - من خلال الممارسة . إن مناقشة واقع الفكر أو لا واقعيّة الفكر بمعزل عن الممارسة ليست سوى مناقشة مدرسوية " .(17)

فى " فيورباخ و نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية " ، قال إنجلز إنّ :

" المسألة الهامّة و الأساسيّة بالنسبة لكلّ فلسفة و خاصة الفلسفة الحديثة هي مسألة العلاقة بين الفكر والوجود" .(18)

بعدُ فى 1845، فى " أطروحات حول فيورباخ "، أعطى ماركس أساس الإجابة على تلك المسألة بإعتبار الممارسة شرطا للحقيقة . " إن الحياة الإجتماعيّة حياة عمليّة أساسا ، إن الحلّ المنطقي للأسرار التى تحوّل وجهة النظريّة نحو التصوّف يوجد فى التطبيق الإنساني العمليّ و فهم هذا التطبيق العملي . "(19)

أمّا بالنسبة للمجتمع ، شرح ماركس ، عالجت الماديّة المتأمّلة فى أقصى تقدير دور الأفراد فى علاقة الواحد بالآخر . لم تكن تستطيع أن تكشف العلاقات الإجتماعيّة التى هي العلاقات الإنسانيّة الأساسيّة أو الظروف الماديّة الحاليّة التى هي أساس هذه العلاقات . و أشار ماركس إلى أن فيورباخ بالتالي " لم يتبيّن أن " الجوهر الديني" هو نفسه نتاج إجتماعي و أن الفرد المجرّد الذى يتفحّصه ينتسب فى الواقع إلى تشكيلة إجتماعية معيّنة ". (20)

المشكلة مع فيورباخ كانت أنّه طالما " كان ماديّا لم يناقش التاريخ و طالما درس التاريخ لم يكن ماديّا . بالنسبة له الماديّة و التاريخ لا يلتقيان..." .(21)

فى الأخير ، إذا ، فى تضارب مع فيورباخ و كلّ الماديّين السابقين تأسّست الماديّة الجديدة - الديالكتيكيّة و التاريخيّة - على فهم أنّ " البشر هم الذين يغيّرون الظروف " و أنّ " توافق تغيّر الظروف و النشاط الإنساني لا يمكن أن يعتبر و يدرك منطقيّا إلاّ كممارسة ثوريّة ." (22)

بعبارة أخرى ، ما يؤكد عليه ماركس هنا هو أنّ الناس بمجرّد إرتباطهم ببعض فى المجتمع و من خلاله و تشكّلهم من قبل المجتمع الذى يعيشون فيه ، بالتالي أيضا ، من جهة أخرى يمكن لهم و يجب عليهم أن يغيّروا المجتمع ومن هنا مقولة ماركس الشهيرة " إنّ الفلاسفة لم يفتؤوا يؤوّلون العالم بأساليب متباينة إلاّ أنّ المهم هو تغييره. " (23)

طبعا ، شدّد ماركس بإستمرار على أنّ الناس لا يمكنهم تغيير الأشياء كما يرنون بل فقط بإتّفاق مع القوانين الموضوعية . و هذا صحيح فى ما يتّصل بالمجتمع و كذلك فى ما يتّصل بالطبيعة . و المجتمع فى الأخير محدّد بمدى تطوّر القوى المنتجة التى ترثها الأجيال المتتالية . لكن المجتمع لا يمرّ عبر جملة من التغيّرات الكمّية المتميّزة فقط بمراكمة القوى المنتجة و الحياة الماديّة للمجتمع بالخصوص العلاقات الإقتصاديّة ، تشكّل الأساس الذى عليه تُبنى المؤسسات السياسيّة و القوانين و الإيديولوجيا و الثقافية إلخ. و تمارس هذه البنية الفوقيّة من جهتها إنعكاسا كبيرا على الأساس الإقتصادي و فى أوقات معيّنة تصبح محدّدة إلى حدّ معيّن لتطوّر قوى الإنتاج . حينئذ يتطلّب تعويض علاقات الإنتاج القديمة ثورة إجتماعية - تغيّر فى البنية الفوقيّة - بعلاقات جديدة يمكن أن تحرّر قوى الإنتاج .

كما وضع ذلك ماركس فى نقده للفوضويّة الفرنسية فى عصره ، السيد برودون ،" بالحصول على قوى إنتاج جديدة يغيّر الناس نمط إنتاجهم ، و بتغيير نمط إنتاجهم ، بتغيير طريقتهم فى كسب عيشهم ، يغيّرون كافة العلاقات الإجتماعية ". ( 24)

لكن مرّة أخرى ، يتطلّب تغيير العلاقات الإجتماعيّة ثورة إجتماعيّة . و بالتالى يتطوّر المجتمع من مستوى أدنى إلى مستوى أرقى من خلال عدّة ثورات مماثلة ( قفزات نوعية ) . فى المجتمع الطبقي ، يحصل هذا عبر إطاحة طبقة بطبقة أخرى بعد درجة معيّنة من تطوّر الصراع بينهما . و بإختصار تاريخ المجتمع منذ نشوء الطبقات هو تاريخ صراع طبقي .

يشمل قانون التطوّر الجدلي ، وفق الفلسفة الماركسيّة ، الطبيعة و المجتمع . و بالفعل رؤية أهمّية تغيير الواقع بالعمل بإتّفاق مع العالم ، و بصورة خاصة المجتمع ، فى تغيراته و حركته و تطوّره و دفع القفزة الثوريّة من الرأسماليّة إلى الشيوعيّة ، أكّد ماركس و إنجلز على الجدليّة . و مثلما أشار لينين إلى ذلك :

" إن ماركس و إنجلز ، اللذين تربّيا على مؤلفات فورباخ ، و إشتدّ مراسهما فى النضال ضد الكويتبين الركيكين ، قد أوليا بالطبع جلّ الإهتمام لإستكمال بناء فلسفة الماديّة إلى النهاية أي على الفهم المادي للتاريخ و ليس على علم العرفان المادي . و من جراء ذلك ، أكّد ماركس و إنجلز فى مؤلفاتهما على الماديّة الديالكتيكيّة أكثر ممّا أكّدا على الماديّة الديالكتيكيّة ، و ألحّا على الماديّة التاريخيّة أكثر ممّا ألحّا على الماديّة التاريخيّة ".(25 ) .

و هكذا فى تطوّر فلسفتهما الثوريّة ، لم يطرح ماركس و إنجلز جانبا هيجل .عوض ذلك إحتفظا بالجانب الثوري لهيجل أي منهجه الديالكتيكي و كما قال إنجلز " تحرّرنا من هزيمة المثاليّة التى سعى هيجل إلى تكريسها بإستمرار" .(26)

والآن ليس هنالك حال من الحركة الديالكتيكية لفكرة مطلقة ، من الروح كخالق و مشكل العالم المادي بل بالعكس . الآن يعترف بأنّ المادة فى حركة دائمة و تغيّر دائم ، و التحوّل إلى أشكال خاصة مختلفة تصبح هي ذاتها وجود فعدم و أكثر من ذلك الأفكار و الوعي و الروح ليست سوى إنعكاس فى مخّ الإنسان ( هو ذاته مادة ) لهذه السيرورة و تتّبع قوانين التطوّر ذاتها . هذه هي الماديّة الديالكتيكيّة أو الماديّة الجدليّة و مطبّقة على التاريخ ، الماديّة التاريخية كما طوّرها و لخّصها ماركس و إنجلز .

لكن كما وقعت الإشارة إلى ذلك سابقا ، لم تكن هذه الفلسفة فقط أو جوهريّا إنتاجا لمخّ ماركس و إنجلز ، بل كانت نتيجة تطوّر الرأسمالية و العلوم الطبيعيّة و الصراع الطبقي . و كانت إفرازا للسيرورة الجدليّة لتطوّر الفلسفة ذاتها كإنعكاس لهذه التطوّرات و الهزّات فى المجتمع و فى فهم الإنسان و سيطرته على العالم الطبيعي . و كذلك لا تمثّل المادية الجدلية و التاريخية ماركس و إنجلز و بعض الآخرين فقط بل كانت و لا تزال الفلسفة الثورية للبروليتاريا ، فى آن معا موضوعيّة و منحازة لها ، عاكسة كلاّ من القوانين الموضوعيّة للتطوّر الطبيعي و التاريخي و مصالح البروليتاريا التاريخيّة و مهمّتها التى هي فى إتّفاق تام مع هذه القوانين . و على عكس الطبقات الأخرى فى التاريخ الإنساني و التى صعدت إلى موقع السيطرة و شكّلت المجتمع على شاكلتها ، فإنّ البروليتاريا ترى لا إلى إفتكاك السلطة فحسب و مهمّتها ليست تركيز نظام لا يتغيّر " أبدا " ممثّلا " النقطة النهائية " لتطوّر البشريّة و إنّما تتوق إلى القضاء على كافة الفوارق الطبقية و السماح للبشريّة بمواصلة تجاوز الحواجز أمام تطوّر المجتمع الإنساني و تحويله للطبيعة .


لينين يدافع عن الفلسفة الماركسية و يطورها

هنا كان من الممكن أن نقدّم فقط أوجز و أعمّ تطوّر للفكر الفلسفي لماركس و إنجلز و تأسيسهما للماديّة الجدليّة و المادية التاريخيّة عبر تلك السيرورة . إلاّ أنّه تجدر الإشارة إلى أنّ بناء هذه النظرة العلميّة للطبيعة و المجتمع و التفكير و الفلسفة كما وُجدت بالماضى ، جرى كجزء من التفكير الذى كان بمستطاعه فقط السعي إلى أن يشكّل فى الخيال مبادئ الكلّية للطبيعة و المجتمع و الفكر و أن يتجاوز البون الموجود بين ظواهر ظاهريّا منعزلة ، بتوحيدها فى نظام شامل . مثل هذه الفلسفة لم تنته كبقايا الفكر المتخلّف الممثّل لمصالح القوى الرجعيّة فى المجتمع .

و كما أوضح ذلك إنجلز بجلاء ، الماديّة التاريخيّة " وضعت حدّا للفلسفة فى ميدان التاريخ تماما مثلما جعل المفهوم الجدلي للطبيعة كل فلسفة عديمة الجدوى بقدر ما جعلها أمرا محالا. و سوف لن يتعلّق الأمر ، حيث كان بالنسبة للمرء ، بتخيّل الإرتباطات داخل دماغه بل بإكتشافها ضمن الأحداث " . (27)

و مثلما شرح ذلك فى كتاب آخر له مشهور :" الماديّة الحديثة ، فى الحاليتين ، ديالكتيكيّة من حيث الجوهر و الأساس ، و لا تحتاج إلى فلسفة قائمة فوق جميع العلوم الأخرى . و ما أن يضطرّ كلّ علم من العلوم إلى تحديد مكانه فى الصّلة العامّة للأشياء و المعارف عن هذه الأشياء ، حتى يغدو العلم الخاص بهذه الصلة العامة لا لزوم له . و حينئذ لا يبقى ، من الفلسفة السابقة كلّها ، غير مذهب واحد مستقل هو مذهب الفكر و قوانينه ، المنطق الإستقرائي و الديالكتيك . أمّا الباقي كلّه فيدخل فى العلوم الإيجابيّة عن الطبيعة و التاريخ ." (28)

لكن من الضروري جدّا أن نقول إنّ وضع حدّ لمثل هذه الفلسفة التى تجاوزها الزمن لم يكن بتلك البساطة . و هذا ليس فقط أو حتّى بالخصوص لأنّ هذا لا يعجب كثيرا الفلاسفة المحترفين و إنّما لأنّ مثل هذه الفلسفة التى تجاوزها الزمن و مثلما تمّت الإشارة أعلاه ، تخدم القوى الرجعيّة فى المجتمع . غير أنّ على الفلسفة الماركسيّة أن تخوض نضالا فى كلّ خطوة فى طريقها ضد فلسفات الطبقات الرجعيّة المنحطّة و أن تتطوّر فى صراع معها و فى تضارب مع شكل أو آخر من المثاليّة و الميتافيزيقا . و ليس هذا سوى إنعكاس للصراع العملي بين البروليتاريا و البرجوازية ( و طبقات إستغلالية أخرى ) بل هو أيضا جزء هام من الصراع الشامل بين هتين الطبقتين . و وقع مثل هذا الصراع فى مجال الفلسفة الذى يعكس و يترافق مع الصراع العملي ، بكثافة داخل حركة الطبقة العاملة ، بين الماركسيّين و الإنتهازيّين من مختلف الألوان . و ظلّ هذا صحيحا طوال حياة ماركس و إنجلز و إحدى نتائجه كانت مزيد تنظيم الفلسفة الماركسيّة و تعميقها ، مثل ذلك العمل المعروف لأنجلز " ضد دوهرينغ " .

كان ذلك أيضا الحال بالنسبة للينين و بصورة خاصة الصراع المحتدم الذى خاضه لفضح المرتدين داخل الحركة الماركسية و قتالهم . فى الميدان الفلسفي ، انتج لينين أكبر عمل فى الدفاع عن الفلسفة الماركسية و تطويرها بمناسبة نقده الثاقب للإنتهازيين على المستوى الفلسفي و السياسي الذين تجمعوا حول فكر " أرنست ماخ " الفيزيائي و الفيلسوف الأسترالي ، فى بداية 1900 ، لا سيما فى الفترة الممتدّة بين ثورتي 1905 و 1917 فى روسيا . كانت الماخيّة ، أكثر أنواع النقد التجريبي شيوعيا فى ذلك الوقت ، بالأساس شكلا من المثالية فكانت مرتبطة بالتيّار التجريبي العام فى الفلسفة الذى تطوّر حينذاك كما كانت شديدة الإرتباط بالبراغماتية التى كانت الشكل الأمريكي الخاص من التجريبيّة التى ظهرت بتطوّر الرأسمالية فى الولايات المتّحدة إلى إمبريالية . (29)

و مثلما بيّن لينين ، حاولت الماخيّة جوهريّا أن تعيد إحياء مقولات الفلسفة الرجعيّة للورد جورج بركلى البريطاني للقرن 18 . لقد هزأ هؤلاء الماخيّون من الماديّين لأنّ الماديّين يعترفون بشئ ما غير معقول و يستحيل إدراكه -" الأشياء فى ذاتها " - المادة ، " خارج التجربة " ، خارج إدراكنا (30) وعوض ذلك ركّز الماخيّون على أنّ العالم الواقعي يتمثّل فقط فى " أحاسيس " ، يتمثّل فى أشياء توجد فقط إذا تحققّت فى وعينا لها . بالنسبة للماخيّين ، الماديّون تائهون لأنّهم يدافعون عن أن " وراء الظاهرات يوجد عندهم أيضا الشئ ذاته ، و وراء المعطيات المباشرة للحواس يوجد شئ ما آخر، فتش ما ، " صنم " مطلق ، مصدر " للميتافيزياء " ، صنو للدين ( " المادة المقدّسة "، كما يقول بازاروف ) ". (31)

عند الردّ الشامل على النظرة الماخيّة ، لم يدلّل لينين على وحدتها الأساسيّة بل كذلك على نقلها تقريبا حرفيّا عن آراء بركلي قبل قرنين . فقد حاول بركلي أن يقدّم مثاليّته الواضحة - تركيزه على أنّ الأشياء الموجودة ظاهريّا خارجنا هي مجرّد مواصلة لذهننا - مع صعوبة فصل الإحساس بأن هذه الأشياء توجد بالنسبة لأناس مختلفين ( أذهان مختلفة ) لكنّها مستعملة من قبل هؤلاء الناس المختلفين حسب القوانين التى تنتهى إلى هذه الأشياء . لنذكّر بمثال بسيط . إثنان مختلفان فى غرفة أكّدا مرات عديدة أنهما قادران لا فقط على معرفة بل كذلك على الجلوس على كرسي واحد ، ذاته ( الكرسي ) ( رغم أن ذلك لا يحصل فى الوقت عينه ) .

حتّى بركلي لم يستطع إنكار ذلك لكن كيف يفسّر ذلك بإتّفاق مع المثاليّة ؟ كان جواب بركلي مفاجئا ، شيئا ما إن كان كذلك ، أن يرجع كلّ هذا إلى الإلاه ، قوّة خارقة خلقت و أوجدت كلّ الأشياء الموجودة بما فى ذلك مختلف البشر ذاتهم ، فى وحدة كبرى ، إمتدادا لهذه الروح . بتركيز هذا كان بركلى فرحا جدّا بأن يجعل وجود الواقع المشاهد عموما من قبل القابلين للموت و حتى القوانين الطبيعيّة المرتبطة بالواقع مرتهنة للروح . و مثلما لخّص ذلك لينين بتهكّم :

" إن بركلي لا ينكر وجود الأشياء الفعليّة ! إن باركلي لا يقاطع رأي البشريّة جمعاء ! إن بركلى ينكر" فقط " مذهب الفلاسفة أي نظريّة المعرفة التى تأخذ بصورة جدّية و قاطعة ، كأساس لجميع محاكماتها ، الإعتراف بالعالم الخارجي و إنعكاسه فى إدراك الناس ." (32)

و كان هذا جوهريّا هو ما ينكره الماخيّون رغم أنّهم لا يركّزون على خلق الإلاه بنفس طريقة بركلي . أشار لينين إلى أنّ : " هذه هي فكرة بركلى . و هذه الفكرة التى تعرب بصورة صحيحة عن كنه الفلسفة المثاليّة و أهمّيتها الإجتماعيّة ، سنلتقى بها فيما بعد ، عندما نتحدّث عن موقف الماخيّة من العلوم الطبيعية " و بعد ذلك " الماخيّين الحديثين" لم يوردوا ضد الماديّين أيّة حجة واحدة ، أيّة حجة على الإطلاق ، لم ترد عند الأسقف بركلى". (33)

لكن لماذا يقوم هؤلاء المعارضون " الجدد " للماديّة - و العديد منهم كانوا ماركسيّين و البعض ظلّوا يدّعون على الأقلّ أنّهم "مساندون نقديّون " للماركسية - بهذا التراجع ؟ يعود هذا جزئيا إلى بعض الإكتشافات فى علم الطبيعة و منها إكتشاف أنّ النواة ليست شيئا واحدا غير قابل للإنقسام بل يمكن أن تنقسم إلى أجزاء مختلفة ( وجود الألكترونات بات معروفا حينها ) فأعطت هذه الإكتشافات دليلا أعمق على الجدليّة فى الطبيعة بيد أنّ عددا من العلماء و الفلاسفة إلخ الذين لم ينخرطوا ، على الأقلّ صراحة فى الماديّة الجدليّة ، قدّموا " دليل " عدم صحّة الماديّة .

و أشارت التجارب إلى أنّ الكتلة يمكن أن تتحوّل إلى طاقة و من هذا إستنتج الكثيرون أنّ " المادّة تزول" و كان يبدو أنّ الخطوة الفلسفيّة المنطقيّة لأن يستنتج من ذلك أنّ المادة لا يمكن أن تكون محتوى الواقع و أساس الوعي .

فى نقد و دحض ذلك ، لم يعد لينين إلى تأكيد الماديّة الجدليّة فحسب بل طوّر فهمها بإدخال هذا التقدّم العلمي فى الفلسفة الثوريّة و عانقت مبادؤها الأساسيّة تماما الإكتشافات الجديدة و غدت بذلك أغنى بهذه الإكتشافات . و وضّح لينين :

" "المادّة تزول"- إنّ هذا يعنى أنّه يزول ذلك الحدّ الذى كنّا نعرف المادّة إليه حتى الآن ، وأنّ معرفتنا تمضى إلى أعمق، كذلك تزول خواص المادة التى كانت تبدو من قبل مطلقة ، ثابتة ، أوّلية ... و التى تتكشّف الآن بوصفها نسبيّة ملازمة لبعض حالات المادة فقط . "( 34)

بكلمات أخرى ، ما هو المحدّد فى رسم الإختلافات الجوهريّة بين الماديّة و المثاليّة فى الفلسفة ليس أي حالة خاصة لوجود المادة فى وقت ما بل فى أيّة حالة ، المادة موجودة و موجودة بإستقلال عن و كأساس لوعي الإنسان ، لأفكاره . بكلمات لينين :

" الماديّة الديالكتيكية تلح على الطابع التقريبيّ ، النسبيّ لكل موضوعة علميّة عن بنيان المادة و خواصها ، على إنعدام الحدود المطلقة فى الطبيعة ،على تحوّل المادة المتحرّكة من حالة إلى أخرى ... المادية الديالكتيكية تلحّ على الطابع المؤقت ، النسبيّ ، التقريبيّ لجميع هذه المراحل من معرفة الطبيعة من قبل العلم المتطوّر المتقدّم لدى الإنسان . إنّ الألكترون لا ينضب مثله مثل الذرّة ، و الطبيعة لامتناهية و لكنّها توجد إلى ما لا نهاية ". (36)

و بالطبع لا تقدر المادية الميكانيكية ، الميتافيزيقية أن تفهم هذا و بذلك طال الزمن أو قصر ، ستجد نفسها مضطرّة لأن تتنازل إلى المثاليّة و تتحوّل إليها. و لأنّ بالأساس الفيزيائيّين لا يعرفون الجدليّة فإنّ الفيزياء الجديدة إنحرفت إلى المثاليّة. (37)
رابطا ذلك بالماخيّين ، عرض لينين :

" إن خطأ الماخيّة على العموم و الفيزياء الجديدة الماخيّة يتلخّص فى تجاهل أساس الماديّة الفلسفيّة هذا و فى تجاهل الفرق بين الماديّة الميتافيزيقيّة و المادية الديالكتيكيّة . فإن الإعتراف بعناصر ما ثابتة لا تتغيّر ، " بجوهر الأشياء الذى لا يتغيّر " و ما إلى ذلك ، ليس الماديّة ، بل هو مادية ميتافيزيائيّة أي منافية للديالكتيك ". (38)

و هكذا تنتهى إلى أن تكون غير ماديّة بالمرّة مثلها مثل الماخيّين . هذا هو عموما أساس الإكتشاف العلمي الذى جعل الماديّين، بمن فيهم عدد من الماركسيّين ، ينفضّون ليصبحوا و جيلهم مثاليّين و معارضين للماركسيّة . لكن الأهمّ كان ظهور الإمبرياليّة أعلى مراحل الرأسماليّة التى أدّت عالميّا بالعديد إلى التخلّى عن الماركسيّة مدّعين أن قوانين تطوّر المجتمع الرأسمالي بالخصوص لم تعد صالحة .

فى روسيا ، برز هذا بقوّة مع هزيمة ثورة 1905 و القمع الرجعي اللاحق . كان ذلك زمن القمع السياسي الوحشيّ و التراجع المؤقت لحركة الطبقة العاملة فى روسيا بالخصوص ، فترة إعادة تجميع و هيكلة القوى المبعثرة للحزب الثوري للطبقة العاملة الروسيّة ، البلاشفة . و كشف ذلك فى الفترة الوجيزة بالفعل ، فى بدايتها بين 1908 و 1912 ، عن إنفصال عن الصفوف الثوريّة و عن إشراف كلّي ميّز الظاهرة ، لا سيما فى صفوف المثقّفين الثوريّين سابقا و آخرين كانوا إلتحقوا بالحركة الثوريّة فى مرحلة صعودها لكن تخلّوا عنها و حتّى هاجموها فى مرحلة التراجع و إعادة تجميع القوى .

تعزّزت التحريفيّة . و كان إنكار الماديّة و الحقيقة الموضوعية و غير ذلك جزءا جليّا من إنكار أن الماركسيّة علم و أنّ تحليلها للرأسماليّة و أزمة الرأسماليّة و حتميّة الثورة البروليتارية إلخ ، صالح و صحيح .

خلال هذه الفترة بصورة خاصة كان من المهمّ جدّا الدفاع عن المبادئ الجوهريّة للماركسيّة ضد الهجمات المفتوحة و أن يحذر من تحريفها بالطرق البرجوازيّة المختلفة المستعملة . إن لم يقع القيام بذلك حينها لكانت البروليتاريا مُنيت بإنتكاسة شديدة على المدى القصير بل لكانت أزيحت من الطليعة الثوريّة أي لكانت الخسارة ستحصل لا سيما فى مرحلة المدّ الذى تلى التراجع المؤقت !

كان لينين هو الذى بسط الطريق أمام فضح التحريفيّين و صراعهم . نقدهم بطريقة شاملة مشيرا إلى أنّه منذ البداية كان على الماركسيّة أن تخوض الصراعات الأشدّ حدّة ضد أعداء الطبقة العاملة داخل الحركة الإشتراكية و أنّ ذلك كان حاجة ماسة ، صحيحة ، آنذاك . لقد عرض أهمّ ميزات التحريفية :

" أن يحدّد المرء سلوكه تبعا لكلّ حالة و وضع ، أن يتكيّف تبعا لأحداث الساعة ، لتغيّرات الأمور السياسية الطفيفة ، أن ينسى مصالح البروليتاريا الجذريّة و الميزات الجوهريّة لمجمل النظام الرأسمالي و لكلّ التطوّر الرأسمالي ، أن يضحّي بهذه المصالح الجذريّة من أجل منافع وقتيّة ، فعليّة أو مفترضة : تلك هي خطوط السياسة التحريفيّة . و من جوهر هذه السياسة بالذات ، ينجم هذا الأمر الجليّ و هو أن أشكالها قد تتغيّر إلى ما لا حدّ له ، و أنّ كل مسالة نوعا ما ، و كلّ تغيّر في الأحداث غير منتظر أو متوقّع نوعا ما - و لو أدى هذا التغيّر إلى تعديل الخطّ الأساسي للتطوّر، لدرجة ضئيلة جدّا و لأقصر فترة من الوقت ،- سيولدان حتما و أبدا ، هذه الأنواع أو تلك من النزعة التحريفية . " (39)

و إرتبطت المعركة ضد التحريفيّة فى ميدان الفلسفة شديد الإرتباط بالنضال ضدّها سياسيّا بيد أنّ الصراع الفلسفي ضدّ التحريفيّة يكتسى أهمّية عظمى فى حدّ ذاته . و بالفعل ، دون رفع راية الماديّة الجدليّة و التاريخيّة عاليا و دون الردّ بطريقة نقديّة على التحريفات و الهجمات عليهما ، لا سيما إعادة إحياء المثاليّة مشخّصة فى الماخية ، كان سيكون مستحيلا الإبقاء على حركة ماركسيّة و المحافظة على الطليعة البروليتارية . هذه هي الأهمّية الإيديولوجية الكبرى ، و الفلسفة جزء حيوي منها ، عموما . و هذه هي الأهمّية الكبرى لكتاب لينين " الماديّة ومذهب النقد التجريبي" بصورة خاصة .

كما أنفت الإشارة إلى ذلك ، غاية و مضمون ذلك العمل العظيم هما الدفاع عن الماديّة ضد الهجمات و الإختراقات المثاليّة " الحديثة " . لكن كما سلفت الإشارة إلى ذلك ، كان على مثل هذا الدفاع و قد شدّد على الجدليّة و طبّقها فى تعارض مع الميتافيزيقا لأنّ المادية الجدليّة وحدها بإمكانها تفسير التطوّرات الحديثة فى علم الطبيعة و دحض تأويلاتها المثاليّة بصفة منطقيّة . و بالقيام بذلك لم يرفع لينين راية الماركسية فحسب بل أثرى المادية الجدليّة المعاصرة ، الفلسفة الماركسيّة .

بشكل عام ، أعار لينين أهمّية كبرى للجدليّة و لدراستها و تطبيقها . فدفاتره الفلسفيّة التى تلخّص أكثر من عقدين تولى أهمّية بالغة لمسألة الجدليّة و دراستها و تطبيقها . و ضمن هذه الدفاتر يوجد مخطّط "حول مسألة الديالكتيك " المكتوب فى 1915. فيه قال لينين :" إن إزدواج ما هو واحد و معرفة جزئيه المتناقضين ... يشكّلان جوهر الديالكتيك ( أحد " جواهره " إحدى خصائصه أو ميزاته الرئيسية ، إن لم تكن خاصته الرئيسية ) " .(40)

و إسترسل قائلا إن معرفة تماثل أو وحدة الأضداد هو مفتاح فهم كافة السيرورات على عكس الفهم الميتافيزيقي للحركة كحركة ميكانيكيّة فقط نقصانا أو زيادة و تكرارا . و وصف هذا الفهم الأخير بأنّه جامد و عقيم و جاف . بينما فقط المفهوم الديالكتيكي " يعطينا مفتاح " القفزات" و " الإنقطاع فى الإستمرار " و " تحوّل الشئ إلى ضدّه " و تدمير ما هو قديم و ولادة ما هو جديد ".(41)

و أهمّ من ذلك ، خصّ لينين بإقتضاب العلاقة بين الوحدة ( أو التماثل ) و الصراع بين الأضداد فقال عن الوحدة إنّها مشروطة و مؤقتة و عابرة و نسبيّة فى حين أن صراع الأضداد " مطلق كما هو عليه التطوّر ، كما هي عليه الحركة." (42) فكانت هذه النقاط غاية فى الأهمّية و مثّلت العناصر الأساسيّة لتطوير أعمق للفلسفة الماركسيّة . و مثلما قال لينين فى هذه المخطوطات ذاتها " الديالكتيك هو حقّا نظريّة المعرفة (عند هيغل و ) عند الماركسيّة " (43) . و مع ذلك فقد أشار إلى أنّه لم يحض بعناية كافية فى الفلسفة الماركسيّة ،لا فقط فى الكتابات الأولى العميقة لبليخانوف ( حوالي 1900 ) و لا حتى لدي إنجلز . و ألمح لينين بوجه خاص إلى أنّ بليخانوف و إنجلز أيضا لم يعيرا الإهتمام الكافي للنقطة الجوهريّة أو الأساسيّة للديالكتيك ، وحدة الأضداد (44) و هذه المسألة الجوهرية سيتولى معالجتها لاحقا و بأكثر شموليّة سيطوّرها ماو تسى تونغ .
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------

ستالين : الماركسية و الميتافيزيقا

قبل المرور إلى إضافات ماو تسى تونغ للفلسفة الماركسية ، من المهمّ أن نلخّص و لو بإيجاز دور ستالين فى هذا المضمار . فمثلما كتب ماو ذاته ، أبرزت أعمال مثل " أسس اللينينية " فهما و تطبيقا لستالين لأهمّ مبادئ الجدليّة والمادية التاريخيّة . و صرح ماو أنّه فى " أسس اللينينية " :

" حلّل ستالين عموميّة التناقض فى الإمبريالية مبيّنا كيف أن اللينينيّة هي ماركسيّة عصر الإمبرياليّة و الثورة البروليتاريّة ، و حلّل كذلك خاصيّة إمبرياليّة روسيا القيصريّة فى هذا التناقض العام ، مبيّنا كيف أصبحت روسيا وطنا لنظريّة و تكتيك الثورة البروليتاريّة ، كيف أنّه تكمن فى هذه الخاصيّة عموميّة التناقض . و لقد أفادنا تحليل ستالين هذا كنموذج فى فهم خاصيّة التناقض و عموميّته و ترابطهما ." (45)

فى 1924 ، فى نفس الوقت الذى كتب فيه ستالين " أسس اللينينية " ، كان كقائد للحزب الشيوعي السوفياتي يخوض صراع حياة أو موت مع تروتسكى و إنتهازيّين آخرين . فنهض " أسس اللينينية " بدور حيويّ فى هذا الصراع فى تربية الصفوف الواسعة لأعضاء الحزب و الجماهير و فى المساعدة على عرض الخط التروتسكى المعادى للثورة بوجه خاص و إلحاق الهزيمة به. وهو منكب على خوض صراع مثل هذا لكسب صفوف الحزب و الجماهير الواسعة ، وجد ستالين نفسه مضطرّا لتطبيق الجدلية .

فى ما بعد ، مع ذلك ، حين صار الإتّحاد السوفياتي أقوى و إعتُرف بقيادة ستالين و صار مقامه عظيما ، لم يعتمد ستالين ، مع بقائه قائدا ثوريّا كبيرا للطبقة العاملة ، بإستمرار و بشمول على الجماهير ، و لم يكن بإستمرار و بصراحة جدليّا فى مقارباته للمشاكل . كما علّق على ذلك ماو لاحقا :

" حينذاك [عشرينات القرن العشرين ] لم يكن لستالين شئ آخر يعوّل عليه سوى الجماهير لذلك طلب إستنهاض الحزب و الجماهير . ثمّ لما حقّقوا بعض الإنتصارات ، أصبحوا أقلّ إستنادا إلى الجماهير ".(46)

سابقا ، وقع نقاش بعض أخطاء ستالين ، خاصة خلال فترة الثلاثينات . و وقعت الإشارة إلى أن أهمّ هذه الأخطاء وأخطرها كان تركيزه الخاطئ على أنّه لم يعد هنالك تناحر طبقيّ فى الإتّحاد السوفياتي بعد أن تمّ تحقيق التغيير الإشتراكي للملكيّة بالأساس . و من البديهي أنّ هذا مرتبط بمسألة الفلسفة و التناقض و على وجه التحديد بفهم أشكال معيّنة لتطوّر التناقضات فى المجتمع الإشتراكي . و تركيز ستالين الخاطئ على إضمحلال الطبقات و الصراع الطبقي فى الإتّحاد السوفياتي بداية من ثلاثينات القرن العشرين كان شديد الإرتباط بأخطاء فى الفلسفة و تحديدا فى مسألة الجدليّة .

و يظهر هذا ببداهة فى الخطإ الأكبر فى عمله الفلسفي " المادية الجدلية و المادية التاريخية " المكتوب كجزء من " تاريخ الحزب الشيوعي للإتحاد السوفياتي ( البلشفي ) "، فى أواخر الثلاثينات . ففى حين يقدّم هذا العمل بشكل مقتضب تلخيصا صحيحا عموما للفلسفة الماركسية و فى حين يطبّق بالضبط بعض المبادئ الجدليّة لتطوّر الطبيعة و المجتمع ، فقد طُبع بشئ من الميتافيزيقا. و رغم أن ستالين قدّم موضوع الجدليّة بالحديث عن التناقض ، فإنّه لم يركز على التناقض كقانون جوهري للمادية الجدليّة . و لما ذكر أربع نقاط من الجدليّة كنقيض للميتافيزيقا ، أشار إلى التناقض فقط على أنّه النقطة الرابعة و لم يقل إنّه أهمّ نقطة . و إثر ذلك ، فى حين تكلّم عن صراع الأضداد و ترابط الأشياء لم يربطهما ببعضهما البعض وإعتبرهما ميزات منفصلة من الجدلية عوض إبراز كيف أنّهما الإثنان جزءا من التناقض . و لما ألحّ ستالين فى نقطته الرابعة حول الجدليّة على تناقض الأضداد لم يتحدّث فى الوقت ذاته عن التماثل بينهما ، مع أنّ ستالين يستشهد بلينين و قوله " التطوّر هو " نضال" الأضداد ".(47)

لكنّه لا يستشهد بجملة لينين التى توجد بالضبط قبل هذه ، " لأجل إدراك جميع تفاعلات العالم من حيث " حركتها الذاتية " شرط معرفة كل السيرورات فى العالم فى " حركتها الذاتية " ، من حيث تطوّرها العفوي ، من حيث واقعها الحيّ ، ينبغى إدراكها من حيث هي وحدة من الأضداد ".(48)

هذا هام ، لأنّه كما قال لينين : " يمكن تلخيص الديالكتيك و تعريفه بأنّه نظريّة وحدة الضدّين . و بذلك نستطيع الإمساك بلب الديالكتيك ، غير أن هذا يتطلّب إيضاحا و تطويرا." (49)

و صرح لينين بعدئذ بأن " تماثل الأضداد ... هو معرفة ( إكتشاف ) الأضداد ، التيّارات المتناقضة ، المتنافرة ، فى كلّ الظواهر و السيرورات فى الطبيعة ( بما فى ذلك العقل و المجتمع ) ". (50)

بكلمات أخرى ، لا يمكن رؤية التناقض دون تماثل أو وحدة الضدّين ، و عندما يوجد مثل هذا التماثل ، هنالك أساس لتحوّل مظهري التناقض الواحد إلى الآخر . و فى نفس الوقت ، ليس هنالك فقط تماثل بل أيضا صراع بين الضدّين فى التناقض . على هذا النحو يمثّل التماثل و الصراع ذاتهما تناقضا فيه الصراع هو الرئيسي و المطلق بينما التماثل ثانوي و نسبي ، لكن لكونهما تناقض ، تماثل و صراع فهما مرتبطان الواحد بالآخر فى وجودهما و التخلّى عن تماثل الضدّين يعنى القضاء بالفعل على إمكانيّة الصراع بينهما كذلك .

ثمّة نزعات لدى ستالين نحو الميتافيزيقا مثلما إنكشف ذلك فى معالجته للديالكتيك فى" المادية الجدلية و المادية التاريخية " و عبّرت عن ذاتها فى كيفيّة معالجة ذلك الكتاب تطوّر المجتمع . و عبّر ذلك عن نفسه ليس فقط فى المعالجة بالأحرى الخشبيّة لمختلف مراحل تطوّر المجتمع المؤدية إلى الإشتراكية بل كذلك فى طريقة تناول الإشتراكية كشئ مطلق تقريبا .

فى صراعه ضد المدافعين عن الرأسمالية و الأنظمة الإستغلالية عموما ، يؤكد ستالين بصيغة صحيحة أنّه لا يمكن أن يوجد نظام إجتماعي " "غير قابل للتغيير" و أن توجد " مبادئ خالدة " للملكيّة الفرديّة و الإستغلال و لا " أفكار أبديّة " عن إضطهاد الفلاّح من قبل الملاّك العقاري الكبير و العامل من قبل الرأسمالي " (51) و يستخلص إستخلاصا صحيحا أنّه :
" بالتالي يمكن أن يعوّض النظام الرأسمالي بنظام إشتراكي ، بالضبط مثلما عوّض النظام الرأسمالي فى ما مضى النظام الإقطاعي" . (52)

لكنّه لا يسحب دحضه ل " لا وجود لأنظمة إجتماعية غير قابلة للتحوّل" على الأقل بطريقة كاملة على الإشتراكية ذاتها . و بصفة مشابهة ، يستخلص ستالين من قانون التناقض الباطني ، أساس تطوّر الأشياء " بالتالي يجب علينا أن لا نحجب تناقضات النظام الرأسمالي بل أن نعرّيها و نفضحها ، يجب علينا أن نحاول أن نتثبت من الصراع الطبقي بل أن نقوده إلى نهايته " (53) بيد أنّه من جديد لا وجود لمعنى أنّ الحاجة إلى فضح لا تغطية تناقضات المجتمع تنسحب بطريقة ما كذلك على الإشتراكية و الإستجابة لتلك الحاجة خلال الإشتراكية نحو إلغاء الطبقات .

مثلما وقعت الإشارة إلى ذلك ، كتب ستالين "المادية الجدلية و المادية التاريخية " خلال الفترة التى إستنتج فيها أنّ التناحرات الطبقية لم تعد توجد فى الإتحاد السوفياتي . و فى مقال سابق لفتنا النظر إلى أنّه فى نهاية حياته بات تحليل ستالين للمجتمع الإشتراكي أكثر جدليّة نوعا ما ممّا إنعكس خاصة فى كتابه " القضايا الإقتصادية للإشتراكية فى الإتحاد السوفياتي " . فى ذلك المؤلف الهام ، تطرّق ستالين إلى عدّة تناقضات فى المجتمع الإشتراكي ينبغى معالجتها كيما يحصل التقدّم صوب الشيوعية و أكّد بصورة خاصة على أنّ التناقض بين قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج لا يزال موجودا فى الإتحاد السوفياتي و أنّه إذا لم يعالج بطريقة صحيحة يمكن أن يتحوّل إلى تناقض عدائي .

مع ذلك لم يتعرّض ستالين للتناقض بين البنية التحتيّة و البنية الفوقيّة ، فى ظلّ الإشتراكية و لم يشر إلى إستمراره ما يمثّل أيضا المظهر الجوهري و مسألة غاية فى الأهمّية فى المجتمع الإشتراكي . و بالفعل كما علّق على ذلك بعمق ماو تسى تونغ عدّة مرات ، إستخفّ ستالين إستخفافا جدّيا بأهمّية البناء الفوقي و الصراع الدائر فيه .

و لم يعترف ستالين بوجود الطبقات المتناقضة فى الإتحاد السوفياتي إذ لم يدرك أن التناقض بين البروليتاريا و البرجوازية يظلّ القوّة المحرّكة للمجتمع الإشتراكي و أنّ الفهم الصحيح لهذا التناقض من شأنه أن يمثّل مفتاح الفهم الصحيح للتناقض بين قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج فى ظلّ الإشتراكية .

عموما إذن ، بعد تحقيق تركيز الملكية الإشتراكية فى الأساس بالإتّحاد السوفياتي ، لم يعتبر ستالين التناقض قوّة محرّكة لتطوّر المجتمع الإشتراكي . و أخفق فى الإقرار بوجود التناقض التناحرى بين البروليتاريا و البرجوازية و أخفق بالخصوص فى إدراك أنّ هذا هو أهمّ قوّة محرّكة للإشتراكية و للتقدّم صوب الشيوعية .


مساهمات ماو الفلسفية فى تطوير الجدلية


كان تطوير ماو تسى تونغ للفلسفة الماركسية - اللينينية فى حدّ ذاته تعميقا لقوانين الماديّة الجدليّة و أتى نتيجة العلاقة الجدليّة للتطوّر الشامل للثورة الصينيّة و تحليل تجربة الإتحاد السوفياتي وخلاصة لدروسها الإيجابيّة منها و السلبيّة بما فى ذلك فى حقل الفلسفة .
و إليكم مقتطف بصدد قانون التطوّر كما لخّصه ماو فى 1957 :

" لا توجد الحقيقة إلا نسبة للخطإ و فى صراع ضدّه و ينسحب هذا على الجميل و القبيح و الحسن و السئ . و بالفعل كلّ عمل مفيد ، كلّ إنسان جيّد لا يوجدون إلاّ نسبة للأعمال السيّئة و الناس السيّئين و يتطوّرون فى الصراع ضدّهم . و بإختصار لا توجد الأزهار العطرة إلاّ نسبة للحشائش السامّة و تتطوّر فى الصراع ضدّها ." (54)

هذا صحيح بالنسبة لتطوير ماو تسى تونغ للماركسية بما فى ذلك فى الفلسفة ، قبل و بعد إفتكاك السلطة السياسيّة فى البلاد كافة ، خلال كلّ من الثورتين الديمقراطية الجديدة و الإشتراكية . و فى كلا المرحلتين ، خلال مختلف مراحل الثورة الصينية و أطوارها الأصغر ، كان الصراع على الجبهة الفلسفيّة التى قاد فيها ماو تسى تونغ القوى البروليتارية ، كان على أهمّية قصوى فى تحديد القيادة ومآل الصراع الثوري الشامل .

فى فصل "حول الثورة فى البلدان المستعمرة " وقعت الإشارة إلى أنّه كجزء حيويّ من تطوير خطّ الثورة الديمقراطية الجديدة و الدفاع عنه و تطبيقه و بخاصة سياسات الكفاح ضد اليابان الذى مثّل مرحلة دنيا ضمن مرحلة الديمقراطية الجديدة أخذ ماو على عاتقه النضال فى الحقل الفلسفي . و كانت غاية هذا النضال ضد الدغمائية ( و ثانويا التجريبية ) كتيّاران عكسا التفكير المثالي و الميتافيزيقي المعارض للمادية الجدليّة . و تجسّد نقد ماو تسى تونغ لذلك التيارين بوجه خاص فى " فى الممارسة العملية " و فى " فى التناقض" و كلاهما كُتبا فى 1937 و يمثّلان عملين من أهمّ أعمال ماو الفلسفيّة .

فى مقال سابق أبرزنا أنّ هذين المؤلفين أثّرا على الفلسفة الماركسيّة و وقع التشديد على مغزاهما السياسي و دورهما فى الصراع الداخلي للحزب و الصراع الثوري الشامل فى ذلك الوقت و هنا نصبّ الإنتباه على مبادئ الفلسفة الماركسية التى صاغها ماو و أثراها و فى الوقت نفسه سنلقى نظرة على علاقتها بالصراع الإيديولوجي و السياسي الشامل آنذاك.

فى الأصل كان " فى الممارسة العملية " يحمل عنوان "فى العلاقة بين المعرفة و الممارسة و بين المعرفة و العمل ".
فى هذا الكتيّب أعاد ماو التأكيد على نظرية المعرفة الماركسية ، المادية الجدليّة و لخّصها . و مع تأكيده على مركزيّة الممارسة لا سيما الممارسة الإجتماعية و بمواصلته و تطويره لما صاغه ماركس فى " أطروحات حول فيورباخ " ، أشار ماو :" كانت الماديّة قبل ماركس تنظر على قضيّة المعرفة بمنأى عن طبيعة الإنسان الإجتماعية و بمعزل عن تطوّره التاريخي ، و لذلك لم يكن فى مقدورها أن تدرك تبعيّة المعرفة للممارسة العمليّة الإجتماعيّة ، أي تبعيّة المعرفة للإنتاج و الصراع الطبقي . " ( 55).

من خلال هذا العمل ، رفع ماو عاليا و طبّق النظرة المادية للعلاقة بين الفكر و الوجود التى قال عنها إنجلز إنّها المسألة الجوهريّة فى الفلسفة . و إسترسل ماو شارحا :" لم يستطيعوا [ الناس ] أن يحصلوا على فهم تاريخي متكامل لتطوّر تاريخ المجتمع ، و يحوّلوا معارفهم بالمجتمع إلى علم ، أي علم الماركسيّة ، إلاّ عندما ظهرت البروليتاريا الحديثة مع ظهور القوى المنتجة الجبّارة ، أي الصناعات الكبرى ."( 56)

لكن من الواضح أيضا أن ما يقدّم هنا ليس فقط ماديّة بل مقاربة جدليّة . فما ينطبق على الطبيعة ينسحب كذلك على الفكر و المعرفة فى حدّ ذاتها هي سيرورة جدليّة تتّبع ذات قوانين تطوّر المادّة فى الطبيعة و فى نشاطات الإنسان و علاقاته الإجتماعية .

و يكتسى أهمّية أكبر تحليل ماو لمراحل سيرورة المعرفة و القفزات من مرحلة إلى أخرى . مرتكزا مجدّدا على الدور المحدّد للممارسة و معالجا مسألة كيف أن المعرفة فى آن معا تنبع من الممارسة و تخدمها ، أشار ماو إلى أنّ :

" الواقع أن الإنسان لا يرى فى بداية عمليّة الممارسة العمليّة سوى ظواهر الأشياء و جزئياتها و الروابط الخارجية التى تربط بينها ."(57) لكن " بإستمرار الممارسة العمليّة الإجتماعيّة ، تتكرّر مرارا الأشياء التى تترك أحاسيسا و إنطباعاتا فى حواس الإنسان فى مجرى ممارسته العمليّة ، و عندئذ يحدث فى ذهن الإنسان تبدل مفاجئ ( قفزة ) فى عمليّة المعرفة و تتكوّن المفاهيم ". (58)

و ألحّ ماو على أنّ "عندئذ لم تعد المفاهيم ظواهر الأشياء و لا جزئياتها و لا الروابط الخارجية التى تربط بينها ، بل هي إدراك تام لجوهر الأشياء و كلّياتها و روابطها الداخليّة . إنّ المفهوم و الإحساس لا يختلفان كمّيا فحسب بل كيفيّا أيضا."(59) إثر ذلك قال ماو " إن مرحلة تكوين المفاهيم و الحكم و الإستدلال هي مرحلة أكثر أهمّية فى كل عمليّة المعرفة البشريّة بشئ ما ، وهي مرحلة المعرفة العقليّة . " (60)

و مثل هذه المعرفة العقلية هي معرفة مجرّدة بالمعنى العلميّ للكلمة وهي بالتالي ليست بعيدة عن الحقيقة بل هي بالفعل أقرب إليها إلاّ أنّه مثلما عبّر عن ذلك لينين ( فى جملة إستشهد بما ماو فى " فى التناقض ") : " إن تجريدات المادة و أحد قوانين الطبيعة و القيمة ..إلخ ، و بإختصار كل تجريد علميّ ( صحيح و جديّ و ليس باطلا ) ، ليعكس الطبيعة بصورة أعمق و أصدق و أكمل". ( 61)

ثم شرح ماو ذلك فكتب :" إن الإحساس لا يحلّ سوى مسألة الظواهر ، و النظريّة وحدها تستطيع حل مسألة الجوهر ."
( 62) . و يمثّل الحسّ فقط معرفة ظواهر الأشياء كما تعكسها الأحاسيس و كما تسجّل فى المخّ كإنطباعات و المفهوم و المعرفة العقليّة و النظريّة يمثّلون خلاصة هذه الأحاسيس و تلخيصا لأهمّ مظاهرها و علاقاتها الباطنيّة . و من هذا يمكن أن ندرك الأهمّية العظيمة للنظريّة و دورها عموما فى الحركة الثورية على وجه الخصوص .

لكن هل يعنى ذلك أنّ النظريّة فى النهاية أهمّ من الممارسة ؟ كلاّ ، يشرح ماو كيف أن الممارسة أوّلية و أهمّ من النظريّة فى نواحي عديدة . كتب :" إن الإحساس و العقل يختلفان من حيث الطبيعة و لكن لا ينفصل أحدهما عن الآخر ، إنّهما موحّدان على أساس الممارسة العمليّة . إنّ ممارستنا العمليّة تثبت أنّ ما نحسّه لا يمكن أن ندركه على الفور ، و أنّ ما ندركه هو وحده الذى يمكن أن نحسّه بصورة أعمق ." (63) ثم أضاف أنّ : " الدور الفعّال للمعرفة لا يتجلّى فى القفزة الفعّالة من المعرفة الحسّية إلى المعرفة العقليّة فحسب ، بل ينبغى أن يتجلّى أيضا - و هذا أكثر أهمّية - فى القفزة من المعرفة العقليّة إلى الممارسة العمليّة الثوريّة . إنّ المعرفة التى تمكننا من إستيعاب قوانين العالم يجب أن تعاد إلى الممارسة العمليّة فى سبيل تبديل العالم ، يجب أن تعاد لتطبّق فى ممارسة الإنتاج و فى ممارسة الصراع الطبقي الثوري و النضال الوطنى الثوري و كذلك فى ممارسة التجارب العلميّة . هذه هي عمليّة إختبار النظريّة و تطويرها ،هي تكملة لعمليّة المعرفة ".(64)

هنا يقدّم ماو تعبيرا أعمق و أكثر تطوّرا لأطروحة ماركس حول أن الفلاسفة لم يفعلوا سوى تفسير العالم بطرق مختلفة فى حين أنّ المهمّ هو تغييره . و مجددا هذه ليست أطروحة عامة أن تكون الممارسة أهم من المعرفة و ليست كذلك طبعا تفريقا ميتافيزيقيا بين الممارسة و المعرفة و إن كانت الممارسة هي مفتاح العلاقة .

نظرية المعرفة :

الممارسة منبع النظريّة و النظريّة هي ملخّص الممارسة ، الحسّى هو المادّة الأولى للمفهوم و المفهوم نتاج ما لخّصه الحسيّ . لكن المفهوم و المعرفة العقليّة و النظريّة يجب أن يعودوا كذلك إلى الممارسة . فى هذه السيرورة لا يُتحقّق من المعرفة العقليّة فحسب بل إنّ مواد أوّلية جديدة تجمّع لتعميق المعرفة العقليّة ... وهكذا دواليك فى تصاعد لولبيّ لا متناهى . لذلك أكّد ماو أنّ النتائج المتوقّعة ، حين يتوصّل إليها فى الممارسة يمكن أن تعتبر السيرورة الخاصة للمعرفة أو مرحلة معيّنة فى السيرورة ( الحسّ ، المفهوم ، الممارسة ) قد تمّت ، هذا من جهة لكن من جهة أخرى " حركة معرفة الناس لا تكتمل ".( 65)

كما شرح ذلك ماو ملخّصا قوانين السيرورة :

" إكتشاف الحقيقة عبر الممارسة و من جديد عبر الممارسة التحقّق من الحقيقة و تطويرها . الشروع من المعرفة الحسّية و تطويرها النشط لبلوغ المعرفة العقليّة ثم من المعرفة العقليّة و التوجيه النشط للممارسة و مرّة أخرى المعرفة. هذا الشكل يتكرّر فى حلقات لانهائية و مع كلّ حلقة يظهر محتوى ممارسة و معرفة من مستوى أرقى . هذه هي إجمالا النظريّة المادية الجدليّة للمعرفة و هذه هي النظريّة الماديّة الجدليّة لوحدة المعرفة و الممارسة . "

بيد أنّه لا ينبغى أن يفهم من حركة المعرفة غير المتناهية أنّه من المستحيل فى أي مرحلة معرفة الحقيقة من الخطإ . ركيزة جوهريّة من ركائز الماركسيّة هي أنّ هنالك حقيقة موضوعيّة و أنّه يمكن معرفتها . دون هذا الفهم من المستحيل أن يكون المرء ماديّا. غير أنّه ليست هنالك حقيقة موضوعية فقط و إنّما هنالك كذلك حقيقة مطلقة و بالفعل كما أشار لينين يعنى الإعتراف بالواحدة إعتراف بالأخرى :

" إنّ المادي هو من يعترف بالحقيقة الموضوعية التى تكشفها لنا أعضاء الحواس . إن الإعتراف بالحقيقة الموضوعية أي بالحقيقة المستقلّة عن الإنسان و عن الإنسانيّة يعنى الإعتراف بنحو أو آخر بالحقيقة المطلقة ". ( 67)

لكن فى نفس الوقت ، ستصبح غالبية الحقائق غير مطلقة ، نسبيّة . ترى الماركسيّة أنّه ثمّة كلّ من الحقيقة النسبيّة و الحقيقة المطلقة . و يعتقد الماركسيّون فى نسبيّة غالبيّة الحقائق و مع ذلك ليس الماركسيّون نسبيّون فالنسبيون يقولون إنّ كافة الحقائق نسبيّة و يقولون إن بإستطاعتك بالتالي أن تقتطف و تختار أي "حقائق" تعتقد بها . بكلمات أخرى ، ينفون وجود حقيقة موضوعية . كان هذا أهمّ تعليل واجهه لينين فى " المادية و مذهب النقد التجريبي " فقارن نسبيّة أولئك الماخيّين بماركسيّة إنجلز :

" إن الإعتراف بنسبيّة معرفنا ينفى ، بنظر بوغدانوف ( كما بنظر جميع الماخيين ) ، أقلّ تسليم بالحقيقة المطلقة . أمّا بنظر إنجلس ، فمن الحقائق النسبيّة تتكوّن الحقيقة المطلقة . بوغدانوف- نصير النسبية . إنجلس- ديالكتيكي ".( 68)

و عليه ، الحقيقة المطلقة نتاج للحقائق النسبيّة لكن ما العلاقة التى تربط بينهما ؟ يجيب ماو تسى تونغ بما يلى :

" إن الماركسيّين يعترفون بأنّ تطوّر كلّ عمليّة محدّدة ضمن نطاق عمليّة التطوّر العام المطلق للكون هو تطوّر نسبيّ ، و لهذا فإنّ معرفة الناس بكلّ عمليّة محدّدة أثناء مرحلة معيّنة من التطوّر لا يمكن أن تكون سوى حقيقة نسبيّة فى مجرى الحقيقة المطلقة ".(69)

بكلمات أخرى ، الحقيقة المطلقة بأتمّ معنى الكلمة هي المجموع العام للحقيقة الكلّية إلاّ أنّ هذا الكليّ متكوّن من أجزاء لا تحصى . ثمّة حقائق نسبيّة هي جزئية فقط .

و ماذا عن الأفكار التى إعتبرت حقيقة فى وقت ما و تبيّن فى ما بعد أنّها غير حقيقيّة أو هي حقيقيّة جزئيا ( مثل بعض قوانين الفيزياء) ؟ هذا أمر يحصل لأن الإنسان يراكم التجارب و يستوعبها و يكتشف سيرورات و قوانين جديدة فيطوّر فهمه للأشياء و يشحذه غير أنّ هذا بداهة لا يتعارض مع كون معرفة الإنسان تمضى من المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى و أنّه بإمكانه فى أيّة مرحلة ما أن يطبّق أيّة معرفة للحقيقة توجد حينها على سيرورة تغيير العالم ، سيرورة حيث يتحقّق من هذه الأفكار و يتحصّل على أساس القيام بقفزة إلى الأمام فى معرفته . و لا يمكنه اليوم أن يطبّق ما سيعرفه فى الغد فقط بل سيعرف أكثر فى الغد لو طبّق اليوم ما يعرفه بعدُ و ثم يستخلص النتائج . يقول ماو تسى تونغ :

" و نظرا لأنّ عمليّة النشوء و التطوّر و الفناء فى الممارسة العمليّة الإجتماعيّة هي عمليّة لامتناهية ، فإنّ عمليّة النشوء و التطوّر و الفناء فى المعرفة البشريّة هي أيضا كذلك . و بما أن الممارسة العمليّة التى يقوم بها الناس لتغيير الواقع الموضوعي وفقا لأفكار و نظريّات و خطط و مشاريع معيّنة هي فى تقدّم مستمرّ ، فإنّ معرفتهم بالواقع الموضوعي تتعمّق كذلك أكثر فأكثر . و نظرا لأنّ حركة التغيير فى عالم الواقع الموضوعي لا تنتهى أبدا ، فإن المعرفة التى يكتسبها الناس عن الحقيقة خلال ممارستهم العمليّة لا تنتهى أبدا ".(70)

يسعى بعض الناس إلى أن يستعملوا هذا للدفاع عن فكرة أنّه طالما أنّ المعرفة دائمة التعمّق ، ليس ضروريّا أن نمسك منطقيّا و نطبّق بإنتظام المبادئ الأساسيّة للماركسية - اللينينية - فكر ماو تسى تونغ [ الماوية ]. فى جوهره موقفهم مفاده : بما أنّنا يمكن أن نكتشف أن بعض الأشياء التى إعتبرت صحيحة من قبل الماركسية – اللينينية - الماوية ليست كذلك ، أو هي كذلك جزئيا فحسب ، ليست هنالك حاجة إلى تطبيق هذا العلم بطريقة منتظمة ، عوض ذلك سنأخذ ما هو مفيد لنا و نضع جانبا ما هو غير مفيد . هذه هي بالضبط الإنتقائية ، النسبيّة ، مذهب النقد التجريبي و البراغماتية و هي ميتافيزيقية و مثالية .

مثل هؤلاء الناس يقدّمون أنفسهم على أنّهم مدافعون كبار عن الماديّة و عن الممارسة كمحك للحقيقة . لكن من يريدون مغالطته ؟ المسألة هي أنّ مثل هذا الخطّ يتضارب مع النظريّة الماركسيّة للمعرفة مع تأكيدها الصحيح على الممارسة . لنقولها بوضوح إذا لم تطبّق الماركسية - اللينينية - الماوية بإنتظام فبالتالى كيف التحقّق من صحّتها و الحال أنّ الطريقة الوحيدة لذلك هي الممارسة ، التحقّق من صحّة الخطّ السياسي إلخ يتمّ عبر الممارسة . و أيضا لا طريقة للحصول على المعرفة فى سيرورة تغيير العالم ، فى إتّفاق مع أفكار معيّنة و نظريّات و مخطّطات و برامج غير الممارسة .

و الخطّ الإنتهازي الموصوف " ينسى " أن حركة المعرفة تسير فى حلقات كلّ منها تستدعى قفزات من الممارسة إلى النظريّة و العودة إلى الممارسة . الحقيقة المطلقة كما قال ماو " تدفّق لا نهاية له " بل معرفة الإنسان للحقيقة لا تتّبع خطّا مستقيما و إنّما تجرى فى خطّ لولبيّ . أن نقول فى لحظة " حسنا ، غدا سنعرف المزيد نسبة لليوم و عليه لا ( دغمائية ) لتطبيق ما نعرفه كحقيقة اليوم " هو إنكار و تحريف للسيرورة التى عبرها يتمّ التحصّل حاليا على مزيد من المعرفة . هذه ميتافيزيقا لأنّها تعارض العلاقة الجدليّة الحاليّة بين النظريّة و الممارسة وهي مثاليّة لأنّها فعلا لا تنكر الحقيقة الموضوعية و لا تتّفق مع " فى الممارسة العمليّة " و لا تدافع عنه و إنّما هي خرق له و هجوم علي هذا العمل العظيم لماو تسى تونغ .

إكتسى " فى الممارسة العملية " و بالتحديد تأكيده على كلّ من أوّلية الممارسة و التطوّر المتواصل للمعرفة الإنسانية ، و الممارسة من خلال جملة لامتناهية من المراحل أو الحلقات ، إكتسى أهمّية كبرى فى الصراع ضد التوجّهات الخاطئة فى التفكير و العمل داخل الحزب الشيوعي الصيني . ذلك أنّه كتب فى 1937حين تشكّلت الجبهة المتّحدة المعادية لليابان و حين كان الصراع المضاد لليابان فى مراحله الأولى . فى تلك الفترة ، كان العديد يعرقلون الجبهة المتّحدة و حرب المقاومة ضد اليابان لا فقط من خارج الحزب بل أيضا من داخله معارضين سياسات الحزب عن وعي وعفويّا .

و الأكثر إنتشارا داخل الحزب كان الإنحراف الدغمائي الذى فشل فى أن يقوم بتحليل ملموس للظروف الملموسة للصين و المرحلة الموضوعيّة للنضال ، و عالج النظريّة لا فى علاقتها الجدليّة الصحيحة بالممارسة بل كشئ من الحقائق الأبديّة التى يجب أن تفرض على العالم الموضوعي أكثر منه أن تنبع منه و تعود إليه كمرشد للممارسة الثوريّة . من جهة أخرى ، كمشكلة ثانويّة حينذاك ، وُجد أولئك الذين أنكروا أهمّية النظريّة و بالتالي وجدوا أنفسهم إلى جانب الدغمائيّين يقطعون العلاقة بين النظرية و الممارسة و يتبنّون موقفا ميتافيزيقيّا من العلاقة بين الفكر و العمل .

كل هذه الإتّجاهات الخاطئة كانت غير قادرة على معرفة الوحدة الجدليّة بين المرحلة الراهنة ( أو أطوار ) للنضال و مستقبل تطوّرها . رفض الدغمائيّون عامة الإعتراف بضرورة المرور عبر الجبهة المتّحدة المعادية لليابان لأجل إتمام مرحلة الثورة الديمقراطية الجديدة و التقدّم نحو الإشتراكية فى حين أنّهم إقترحوا سياسات " يسارية " كانت ستحطّم الجبهة المتّحدة ( رغم أنّ فى نقاط معيّنة طبّق العديد من الدغمائيّين فى الصين سياسات الإتّحاد السوفياتي تجاه تشان كاي تشاك و دافعوا عن التعويل على الكيومنتنغ و الإستسلام له فى مقاومة اليابان ) . لقد أخفق الدغمائيّون عموما فى معرفة مظاهر المستقبل التى وُجدت داخل مرحلة مقاومة اليابان - تعبئة الجماهير كقوّة أساسيّة و تعديل الإصلاح الزراعي و التعاونيّات الأوّليّة للفلاّحين و إستقلاليّة الحزب الشيوعي و مبادرته فى الجبهة المتّحدة و ضرورة النضال من جانبه لكسب قيادة الجبهة المتّحدة و الإبقاء عليها إلخ .

و بينما كان التوجّه الدغمائي عموما يمثّل الخطر الأكبر ، كان بداهة من الضروريّ مقاومة الإنحرافين معا لغاية مواصلة الصراع فى الطور الراهن و كذلك للمضيّ قدما صوب المراحل المستقبليّة و إتمام الثورة الديمقراطية الجديدة و التقدّم نحو الإشتراكية .

و فضلا عن أهمّيته الآنية البالغة بالنسبة للثورة الصينية ، كانت ل" فى الممارسة العملية " أهمية عامة و بعيدة المدى كمساهمة فى الفلسفة الماركسية - اللينينية و كسلاح فى خوض النضال الثوري . و هذا صحيح كذلك فى علاقة بشرحه لكيفيّة أنّ تفسير الماركسية - اللينينية لم ينه الحقيقة بل إنّه بإستمرار يفتح السبل لمعرفة الحقيقة عبر الممارسة (71) بمعنى أنّه يتعارض مع الميتافيزيقا و التوجّه نحو " الإطلاقية " بالخصوص . و سنتوسّع فى هذا الباب لاحقا عند نقاش الصراع على الجبهة الفلسفية فى الصين الإشتراكية و علاقته بالصراع الطبقي ككلّ .

" فى التناقض ":

مؤلّف أطول من سابقه ، يعالج بالتحديد الجدلية . كتب بالضبط إثر " فى الممارسة العمليّة " و للغاية الآنيّة ذاتها أي النضال ضد الفكر الخاطئ داخل صفوف الحزب و نقصد الدغمائيّة . فى مطلع هذا المؤلف ، يقدّم ماو تسى تونغ ملخّصا لمبادئ الفلسفة الماركسية قائلا :

" إن قانون التناقض فى الأشياء ، أي قانون وحد الضدّين هو القانون الأساسي الأوّل فى الديالكتيك المادي"(72) و فى آخره عند تلخيص نقاطه الأساسية ، أوضح أن " قانون التناقض فى الأشياء أي قانون وحدة الضدّين هو القانون الأساسي فى الطبيعة و المجتمع و هو بالتالي القانون الأساسي للتفكير" .(73)

لماذا ذلك كذلك ؟ بما أنّ قانون التناقض هو قانون من قوانين الجدليّة فهل أنّ ماو بتحديده له كقانون جوهري للطبيعة و المجتمع و التفكير يضع الجدليّة فوق الماديّة ؟ هل أنّه فعلا ينزلق نحو المثاليّة ؟ طبعا هذا الإتّهام بأنّ ماو مثاليّ كان أمرا لاكه التحريفيّون فى كلّ من الصين و فى بلدان أخرى أيضا ، هؤلاء التحريفيين الذين هاجموه دوما على أنّه بالغ فى دور الوعي و حرّف الجدليّة . لنبحث بعمق هذه المسائل .

لماذا يعيّن ماو قانون التناقض كقانون جوهري للطبيعة و المجتمع و الفكر ؟ أليست هذه أيضا مسألة فلسفية هامة مثل المادة توجد بإستقلال عن الوعي و كقاعدة له ، التفكير الإنساني؟ أليست أوّلية المادة على الأفكار فى نفس مستوى أهمّية قانون التناقض و ألا يفتح تقديم قانون التناقض على هذا النحو الباب أمام المثاليّة ؟

أوّلية المادة على الأفكار كما وصفت أعلاه هي بالفعل مسألة جوهريّة و خطّ فصل جوهري فى الفلسفة بيد أنّ هذا لا يمكن أن يقال إنّه القانون الأساسي للعالم فى نفس مستوى وحد الأضداد . فى غياب الوعي ، لا يقول لنا شيئا عن المادة ، باطنها و ظاهرها . و تعلّمنا المادية أن المادة لا توجد فقط بإستقلال عن الوعي بل توجد حتى أين لا يوجد وعي بمعنى حين لا توجد مادّة تطوّرت إلى مرحلة صارت خلالها قادرة على الوعي . تكشف لنا أوّلية المادة على الأفكار عن العلاقة الصحيحة بين المادة و الوعي وهي من هنالك المسألة الأساسيّة فى الفلسفة . لنتذكر مقولة إنجلز أنّ المسألة الأساسية فى الفلسفة هي العلاقة بين الفكر و الوجود ، لكن مرّة أخرى أوّلية المادة على الفكر لا تكشف أيّ شئ عن المادة غير المفكّرة و فى علاقة بالمادة الواعية ، تصف علاقتها بالمادة خارجها و لكنّها لا تقول لنا شيئا أكثر من ذلك.

هذا من جهة و من جهة أخرى ، ينطبق قانون التناقض عالميّا على المادة غير المفكّرة و المادة الواعية و على العلاقة بينهما و بالتالي من السليم القول إنّه القانون الجوهري للطبيعة ولعلاقة الناس بالطبيعة و فيما بينهم فى السيرورة - المجتمع- و من هنالك الفكر.

و مثلما لخّص ماو :

" إن هذه النظرة الديالكتيكيّة إلى العالم تعلّم الإنسان بصورة رئيسيّة كيف يلاحظ و يحلّل بصورة صحيحة حركة التناقض فى مختلف الأشياء و كيف يستنبط على أساس هذا التحليل حلولا للتناقضات . و لذلك فإنّ فهم قانون التناقض فى الأشياء فهما محدّدا هو أمر بالغ الأهمّية بالنسبة إلينا. " (74)

و يتابع ماو ليشرح ما يعنى بشمولية التناقض و أهمّيتها :

"إن عموميّة التناقض أو صفته المطلقة ذات معنى مزدوج . فأوّلا توجد التناقضات فى عملية تطوّر جميع الأشياء ، و ثانيا ، توجد حركة التناقض فى عمليّة تطوّر كل شئ منذ البداية حتى النهاية ."(75)

ويضيف :

" إن الإعتماد المتبادل بين طرفي كلّ تناقض فى كلّ شئ معيّن و الصراع بينهما يقرّران حياة ذلك الشئ و يدفعان تطوّره إلى الأمام . فليس ثمّة شئ ليس به تناقض ، و لولا التناقض لما وجد شئ ".(76) .

هنا ليس ماو بصدد تلخيص النقطة الأساسيّة فى المادية الجدليّة فحسب بل بصدد معارضة عديد الأفكار الخاطئة التى كان منبعها الإتّحاد السوفياتي و التى وجدت طريقها إلى الحزب الشيوعي الصيني . أوّل تلك الأخطاء كانت نظريّة إنتهازية لمدرسة ديبورين فى الإتّحاد السوفياتي و التى أنكرت شموليّة التناقض لا سيما مسألة أنّ التناقض يوجد من بداية إلى نهاية سيرورة التطوّر فى أي شئ . فبالنسبة لهذه النظريّة ، يظهر التناقض فقط حين تصل السيرورة مرحلة معيّنة . و هذا طبعا ميتافيزيقا و أيضا مثاليّة لأنّه يجرّ بالضرورة إلى إستنتاج أنّ فى بداية السيرورة القوّة المحرّكة قوّة خارجيّة و ليست باطنيّة ممّا يفتح الباب أمام فكرة أنّ بعض القوى الخارجيّة هي التى تعطى " الدفع الأوّلى" للعالم و مؤداه فكرة الإلاه .

و نضيف أنّ ذلك يجر فى الميدان السياسي إلى التعاون الطبقي و الإتّفاق لأنّه إذا لم يوجد تناقض دائما فبالتالي لا يجب أن يكون الصراع وسيلة حلّ الإختلافات . مثال يستشهد به ماو هو :

" حين طبّق أتباع مدرسة ديبورين هذه النظريّة فى تحليل القضايا الواقعيّة ، رأوا أنّه ليس بين الكولاك و بين جمهور الفلاّحين فى ظروف الإتّحاد السوفياتي أيّة تناقضات ، بل بينهم تفاوت فقط ، فوافقوا بذلك موافقة تامة على رأي بوخارين ." (77)

لقد قاد ستالين فضح و إلحاق الهزيمة بالنظريّة الفلسفية لمدرسة ديبورين المعادية للثورة كجزء هام من خوضه الصراع الطبقي فى الإتحاد السوفياتي بصفة خاصة و ذلك فى أواخر عشرينات القرن العشرين . غير أنّ ستالين ذاته كما مرّ بنا ، أخفق فى التطبيق المنطقي للمادية الجدليّة . و أجلى تعبير لذلك على وجه الخصوص فى " المادية الجدلية و المادية التاريخية " نعثر عليه فى الإخفاق فى التركيز على قانون التناقض كقانون جوهري للمادية الجدليّة و فى الربط بين صراع الأضداد و تماثلها .

خلاصة القول ، حين شدّد ماو فى " فى التناقض " على أنّ كلّ ترابط و صراع مظهري تناقض يحدّد حياة الأشياء و يدفع حركتها إلى الأمام ، فإنّه قدّم فهما مختلفا و أصحّ من فهم ستالين ( علما أنّ " المادية الجدلية و المادية التاريخية " ذاته كتب تقريبا فى نفس فترة كتابة " فى التناقض " لكن النظرات ذاتها بما فى ذلك الخاطئة منها ، التى تميّزه حُدّدت و حوصرت داخل الحزب الشيوعي الصيني قبل أن يكتب ماو " فى التناقض " ).

تماثل الأضداد و صراعها :

أفرد ماو فصلا طويلا من " فى التناقض" لمسألة تماثل مظهري التناقض و صراعهما حيث شرح أنّه ثمّة مفهومان لتماثل الأضداد المفهوم الأوّل هو ترابطهما و تعايشهما فى وحدة واحدة وأكّد أنّ الأمر لا يقف عند ذلك الحدّ :
" إنّما الأهمّ من ذلك هو تحوّل أحدهما إلى نقيضه . و هذا يعنى أن كلاّ من الطرفين المتناقضين فى شئ ينزع ، بسبب عوامل معيّنة ، إلى التحوّل إلى الطرف المناقض له ، و أن ينتقل إلى مركز نقيضه ."(78)

يمكن أن نلمس أهمّية هذا بأخذ مثال البروليتاريا و البرجوازية . إن لم يُعترف بأنّ هذين المظهرين ليسا مرتبطين فقط و إنّما يمكن أن يتحوّلا هما ذاتهما الواحد إلى نقيضه بالتالي لن يمكن رؤية كيف يمكن للبروليتاريا أن تحدث التغييرمن المظهر الثانوي إلى المظهر الرئيسي للتناقض ، من كونها مسَيطَر عليها إلى طبقة مسيطِرة فى حين يحصل التغيير العكسي للبرجوازية . فى الظروف الملموسة للصين حينئذ ، أثناء حرب المقاومة ضد اليابان ، مثّل هذا الخطأ ، النظرة الميتافيزيقية التى كانت ستقود الشيوعيّين إلى إمّا رفض الدخول فى الجبهة المتّحدة مع الكيومنتنغ أو بالعكس إلى الفشل فى النضال من أجل الدور القيادي للبروليتاريا فى الجبهة المتّحدة . فى شكليه - " اليساري " أو اليميني - كان هذا سيدفع لرؤية الجبهة المتّحدة مع الكيومنتنغ على أنّها الإلحاق الكلّي و اللامحدود للحزب الشيوعي بالكيومنتنغ بما أنّ الكيومنتنغ سيوجد فى موقع أقوى مهيمن وهو الحزب الحاكم فى البلاد .

و فى هذا الفصل بالذات من " فى التناقض" ألحّ ماو أيضا بشأن العلاقة بين وحدة الأضداد و صراعها ، على أنّ الوحدة نسبيّة بينما الصراع مطلق . و أشار إلى أنّ " صراع الضدّين يسرى فى العمليّة من البداية حتى النهاية و يسبّب تحوّل عمليّة إلى عمليّة أخرى و أن صراع الضدّين موجود فى كل شئ ، لذلك نقول إنّ صراع الضدّين غير مشروط و مطلق . إنّ الوحدة المشروطة النسبيّة تشكّل مع الصراع المطلق غير المشروط حركة التناقض فى جميع الأشياء " (79) الشيئان اللّذان يكوّنان تناقضا و لهما تماثل هما كذلك فى ظروف معيّنة لكن من بداية إلى نهاية ذلك التناقض الخاص سيوجد صراع و الصراع يمكن أن ينتهي إلى حلّ ذلك التناقض و ظهور تناقض جديد .

لئن لم يُفهم هذا ، لن يُفهم أنّ الصراع أساس معالجة تناقض خاص و المرور من مرحلة إلى أخرى . و يمكن أن نستوعب أهمّية هذا بشكل منتظم بتطبيق ذلك على التناقض بين البروليتاريا و البرجوازية أو فى حال الصين خلال مرحلة الديمقراطية الجديدة ، على التناقض بين أوسع الجماهير من جهة و الإمبريالية و الإقطاعيّة من جهة ثانية ( و فى أساس حرب المقاومة ضد اليابان يكمن التناقض بين الأمّة الصينيّة و الإمبرياليّة اليابانية ).

فى خضم نضاله ضد التوجّهات الخاطئة لا سيما الدغمائيّة داخل الحزب الشيوعي الصيني ، أعار ماو إنتباها أكبر فى
" فى التناقض " لخصوصيّة التناقض منه لشموليّته . و أشار ماو إلى كون الدغمائيين لا يعترفون أو على الأقلّ لا يعطون وزنا لمشكلة خصوصيّة التناقض . و فى خضم الصراع ضد الدغمائيين أكّد ماو أنّه فى حين لا يوجد أي شئ فى العالم عدا المادّة فى حركة " إن معرفة البشر للمادّة هي معرفتهم بأشكال حركة المادّة ، لأنّه ليس فى العالم شئ سوى المادة فى حالة حركة ، و حركة المادة لا بدّ أن تتّخذ شكلا من الأشكال المعيّنة . و ينبغى أن نأخذ بعين الإعتبار ، عندما نتفحّص كلّ شكل من الأشكال المعيّنة . و ينبغى أن نأخذ بعين الإعتبار ، عندما نتفحّص كلّ شكل من أشكال حركة المادّة ، السمات التى يشترك فيها هذا الشكل مع الأشكال الأخرى للحركة . لكن ما له أهمّية أعظم هو وجوب ملاحظة السّمة الخاصة للشكل المعيّن من أشكال حركة المادة ، و ملاحظة هذه السّمة الخاصة هي التى تشكّل أساس معرفتنا بالأشياء . أي ملاحظة الإختلاف الجوهري الذى بينه و بين الأشكال الأخرى . و بهذا وحده نستطيع أن نميّز بين الأشياء المختلفة . إن كلّ شكل من أشكال الحركة يحتوى فى ذاته على تناقضه الخاص . و هذا التناقض الخاص يشكّل الجوهر الخاص الذى يميز الشئ عن الأشياء الأخرى . و هذا هو السبب الباطني أو الأساس كما يسمّى أيضا ، فى الإختلاف العظيم الذى لا يمكن حصره بين الأشياء المتنوّعة فى العالم . "(80) و هذا ينطبق لا على الطبيعة وحدها بل ينطبق كذلك على المجتمع و الفكر فكلّ شكل من أشكال حركة المادة " له تناقضه الخاص و جوهره الخاص". (81)

كان الدغمائيون لفشلهم فى الإعتماد على هذا الفهم ، غير قادرين على معرفة المظاهر الملموسة للثورة الصينيّة حينذاك و على تحديد القوى المحرّكة لها و هدف الثورة و مهامها فى تلك المرحلة و بالتالى على توحيد كافة القوى الممكنة ضد العدو الأساسي مع المحافظة على إستقلاليّة البروليتاريا و حزبها و مبادرتها و أراد العديد منهم أن يتّذبعوا عن عمى أنموذج الثورة الروسية . و لم يكن ذلك ينطبق على الظروف الملموسة للصين البلد شبه المستعمر و شبه الإقطاعي الذى كانت اليابان وقتئذ تسعى لجعله مستعمرة تماما.

جانب من جواب ماو على هذا فى " فى التناقض " يوجد أيضا فى الفصل المخصّص لمركز التعادى و دوره فى التناقض حيث أشار إلى أنّ " التعادى شكل من أشكال صراع الضدّين ، لكنّه ليس الشكل الوحيد ." (82)

و أكّد أنّه يجب أن نقوم بتحليل ملموس لظروف كلّ صراع خاص للتناقضات و لا يجب أن نطبّق بطريقة إرتجالية الصيغة المناقشة أعلاه [ الحاجة إلى دحر الطبقات الرجعيّة بالعنفّ] على كل شئ ." التناقض و الصراع شيئان عامان و مطلقان ، إلاّ أنّ طرق حلّ التناقضات تتميّز بصفة عدائيّة مكشوفة ، و بعضها على خلاف ذلك . و تبعا للتطوّر المحدّد للأشياء ، تتطوّر بعض التناقضات التى كانت فى الأصل ذات صفة غير عدائيّة فتصبح تناقضات ذات صفة عدائية ، و هنالك تناقضات أخرى هي فى الأصل ذات صفة عدائيّة ، و لكنّها تتطوّر فتصير تناقضات صفتها غير عدائية. "(83)

كان لهذا أهمّية خاصة آنذاك لأنّه غدا من الضروري التحوّل من سياسة الحرب ضد الكيومنتنغ إلى الجبهة المتّحدة معه بسبب أولويّة النضال ضد المعتدين اليابانيّين . و لم يكن هذا يعنى أنّ الطابع الجوهري الرجعي للكيومنتنغ و القوى الطبقيّة التى كان يمثّلها تغيّر ، بل كان يعنى أنّ الظروف الملموسة للصراع آنذاك ، التناقض مع الكيومنتنغ صار ألطف مؤقتا و أنّه تحوّل مؤقتا من تناقض عدائي إلى تناقض غير عدائي . ينبغى أن يستمرّ النضال ضد الكيومنتنغ لا سيما بصدد مسألة قيادة الجبهة المتّحدة غير أنّ سياسة الحزب ينبغى أن تنتهى إلى الصراع غير العدائي ، فى شكل صراع سياسي و إيديولوجي فى إطار المحافظة على الجبهة المتّحدة .

( طبعا حين هاجم الكيومنتنغ عسكريّا الحزب الشيوعي و القوّات المسلّحة الثوريّة ، كان عليهما أن يردّا لكن الغاية حتّى هنا كانت المحافظة على الجبهة المتّحدة مع ممارسة الإستقلاليّة و المبادرة و الصراع من أجل قيادة الجبهة ). و بصورة أعمّ ، فى ظروف الثورة الديمقراطية الجديدة الصينيّة ، لم يكن التناقض بين البروليتاريا و البرجوازية ( أو أجزاء منها ) عدائيا
( على الأقل أحيانا) و لا يجب أن يفهم خطأ على أنّه تناقض عدائي حين إقتضت الظروف التعامل معه على أنّه غير عدائي .

فى نقده الشامل و معارضته كذلك للخطوط الخاطئة داخل الحزب وقتها ، بخاصة الإنحرافات الدغمائية ، لم يرفع ماو مبدأ خصوصيّة التناقض فحسب بل طبّقه تطبيقا ملموسا . و شرح القاعدة الفلسفيّة لصحّة إستراتيجيا الثورة الديمقراطية الجديدة كضرورة ثوريّة للإعداد للإشتراكية فى الصين :

" إن التناقضات المختلفة من حيث طبيعتها لا يمكن أن تحلّ إلاّ بطرق مختلفة طبيعيّا . مثال ذلك أنّ التناقض بين البروليتاريا و البرجوازية يحلّ بطريقة الثورة الإشتراكية ، و التناقض بين جماهير الشعب الغفيرة و النظام الإقطاعي يحلّ بطريقة الثورة الديمقراطية ، و التناقض بين المستعمرات و الإمبريالية يحلّ بطريقة الحرب الوطنية الثوريّة ، و التناقض بين الطبقة العاملة و طبقة الفلاّحين فى المجتمع الإشتراكي يحلّ بطريقة جعل الزراعة جماعيّة و مكننتها ، و التناقض داخل الحزب الشيوعي يحلّ بطريقة النقد و النقد الذاتي ، و التناقض بين المجتمع و الطبيعة يحلّ بطريقة تطوير القوى المنتجة . إن العمليّات تتبدّل ، فتتلاشى العمليّات القديمة و التناقضات القديمة ، و تنبثق عمليّات جديدة و تناقضات جديدة ، و طبقا لذلك تختلف طرق حلّ التناقضات . فثمّة فرق أساسيّ بين التناقض الذى حلّته ثورة فبراير (شباط) و بين الذى حلّته ثورة أكتوبر ( تشرين الأوّل ) فى روسيا ، و كذلك بين الطرق التى إستعملت لحلّ تلك التناقضات . فإستخدام الطرق المختلفة لحلّ التناقضات المختلفة هو مبدأ يجب على الماركسيين اللينينيين أن يراعوه مراعاة دقيقة . أمّا أصحاب الجمود العقائدي فلا يراعون هذا المبدأ إذ أنّهم لا يفهمون أنّه ينبغى اللجوء إلى طرق مختلفة فى سبيل حلّ التناقضات المختلفة ، بل يعتنقون بإنتظام صيغة واحدة يتخيّلون أنّها غير قابلة للتبدّل ، و يطبّقونها بصورة آليّة على كل شئ ، الأمر الذى لا يؤدى سوى إلى جلب النكسات على الثورة أو إلى إفساد قضيّة كانت تسير على ما يرام حتى ذلك الحين . "(84)

الشموليّة و الخصوصيّة :

و تناول ماو بالبحث كذلك مسألة العلاقة بين خصوصيّة التناقض و شموليّته و هي مسألة غاية فى الأهمّية فى النضال ضد الدغمائيّة بوجه خاص . فلاحظ أنّه :

" إذا لم نعرف عموميّة التناقض ، لا نستطيع أن نكتشف الأسباب العامة أو الأسس العامة لحركة الأشياء و تطوّرها و لكنّنا إذا لم ندرس خاصيّة التناقض فلن نستطيع أن نحدّد الجوهر الخاص الذى يميّز شيئا عن الأشياء الأخرى ، و لن نستطيع أن نكتشف الأسباب الخاصة أو الأسس الخاصة لحركة الأشياء أو تطوّرها و من ثم ّ لن نستطيع أن نميّز بين الأشياء أو نحدّد حقول البحث العلمي ." (85)

لم يستوعب الدغمائيّون الذين فشلوا فى الدراسة الجديّة لخصوصيّة التناقض العلاقة الصحيحة الجدليّة بين شموليّة التناقض و خصوصيّته. و لم يستوعبوا أنّ حركة معرفة الإنسان تمرّ من الخاص إلى الشموليّ ( أو العام )، إلى معرفة محتوى الأشياء العامة ثم تعود إلى الخاص ( على مستوى أرقى ) و هكذا دواليك فى تصاعد لولبيّ لا متناهي . لم يفهموا أنّ معرفة الإنسان للأشياء عموما يجب أن تتشكّل من معرفته لعديد الأشياء الخاصة و أنّ بهذه الطريقة ، العام ( أو الشموليّ ) موجود فى الخاص و يمكن إرجاعه إلى خصوصيّة أو بعض الخصوصيّات لكن كلّ شموليّ موجود فى عدد غير متناه من الخصوصيّات ، كل بمحتواه الخاص و من هناك ، بهذا المعنى موجود فى كلّ خاص و بالتالي عالجوا النظرية ك " حقيقة عامة " ، لا هي تستخلص من الأشياء الخاصة و لا هي فى حاجة لأن تطبّق عليها - بإختصار تعاطوا مع النظريّة تعاطيا دغمائيا.
اكثر من ذلك ، فشل الدغمائيّون فى فهم أنّه بما أنّ شموليّة التناقض و خصوصيّته ذاتها تمثّل تناقضا فالواحدة منهما تتحوّل إلى الأخرى و يمكنها أن تتحوّل . لم يستوعبوا أنّ سلسلة تطوّر الأشياء و معرفتها لا حدود لها و أن ما هو شمولي فى ظرف معين يصبح خاصا فى ظرف آخر و العكس بالعكس ، ما هو خاص فى ظرف معيّن يصبح شموليّ فى ظرف آخر.(86)

للتدليل على ذلك إستعمل ماو مثال التناقض بين الإنتاج الممشرك و الملكيّة الخاصة . ففى ظلّ الرأسماليّة يمثّل هذا شموليّة التناقض وهو جوهريّ و يشقّ المجتمع الرأسماليّ ككلّ . لكن فى ما يتّصل بالمجتمع ، عموما ذلك شكل خاص من التناقض بين قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج . كان هذا بالطبع هام فى تعرية التفكير الخاطئ القائل إنّ الثورة الصينيّة يجب أن تكون نفس الثورة فى البلدان الرأسماليّة . فى الصين ، فى تلك المرحلة كان التناقض الجوهريّ و الشكل الخاص للتناقض بين قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج و طبيعته مغايرين لطبيعة التناقض الجوهري فى البلدان الرأسماليّة .

و من ناحية أخرى ، طبعا ، كونه خاص ، كان هذا التناقض و طبيعة السيرورة التى يحدّدها - الثورة الديمقراطية الجديدة - كان فقط مؤقذتا . إذ سيغدو من الضروري فى لحظة معيّنة ، بمعالجة هذا التناقض ، المرور إلى المرحلة الموالية ألا وهي مرحلة الثورة الإشتراكية المتميّزة بالتناقض الجوهري بين البروليتاريا و البرجوازية . و وضّح ماو قاعدة هذه المسألة و شدّد عليها فى تحليل العلاقة بين شموليّة التناقض و خصوصيّته . و إليكم ملخّص لموقف ماو و دلالته كبيرة :

" إن العلاقة بين عموميّة التناقض و خاصيّته هي العلاقة بين الصفة المشتركة و الصفة الفرديّة للتناقض . و إنّنا نعنى بالصفة المشتركة أنّ التناقض يوجد فى جميع العمليّات و يسرى فيها من البداية حتى النهاية ، فالحركة ، و الأشياء ، و العمليّات ، و التفكير - كلّها تناقضات . و إنّ إنكار التناقض فى الأشياء هو نكران كل شئ . هذا مبدأ عموميّ ينطبق على جميع الأزمان و جميع الأماكن بدون إستثناء . و من هنا جاءت الصفة المشتركة أي الصفة المطلقة للتناقض . لكن هذه الصفة المشتركة كائنة فى كل صفة فرديّة ، و بدون صفة فرديّة لا توجد صفة مشتركة . فإذا أبعدنا جميع الصفات الفرديّة فهل تبقى هناك أيّ صفة مشتركة ؟ و الصفات الفرديّة للتناقضات ناتجة عن كون كلّ تناقض ذا صفة خاصة تختلف عن صفات غيره من التناقضات . و إن جميع الصفات الفرديّة موجودة بصورة مشروطة و مؤقّتة ، فهي لذلك نسبيّة ." (87)

فى هذا الفصل بالذات من " فى التناقض " ، بيّن ماو تسى تونغ أيضا الأساس الفلسفي لوجود مراحل فى المرحلة الشاملة للثورة الصينيّة ، مرحلة الديمقراطية الجديدة و بوجه خاص أساس السياسات اللازمة و التعديلات المميّزة للجبهة المتّحدة ضد اليابان . لقد حلّلنا مطوّلا نوعا ما هذه النقطة فى عمل سابق و بالتالي لن نفعل هنا سوى تلخيصها . يسرى التناقض الجوهري فى سيرورة تطوّر أي شئ عبر تلك السيرورة و يحدّد محتوى السيرورة من البداية إلى النهاية . و فقط بحلّ التناقض الجوهريّ المميّز لمحتوى السيرورة الخاصة ستتحوّل تلك السيرورة إلى سيرورة أخرى و سيبرز تناقض جوهريّ غير أنّه داخل السيرورة المتميّزة بتناقض جوهريّ ثمّة مراحل لأنّ ثمّة عديد التناقضات التى يحدّدها و يؤثر عليها التناقض الجوهريّ وفى مجرى السيرورة ، تصبح بعض التناقضات محتدّة و تحلّ أخرى أو تخفّف مؤقتا أو جزئيا و تبرز تناقضات جديدة . (88)

و تؤثر التناقضات الأخرى على التناقض الجوهري و فى حين أنّها فى الأساس محّددة بتطوّره فهي مقابل ذلك تلعب دورا فى التأثير على تطوّره و من هنا يكون تطوّر التناقض الجوهري تطوّرا لولبيّا ، عبر مراحل .

مطبّقا على الثورة الصينيّة فى تلك الفترة ، عني هذا أنّ طبيعة الثورة الصينيّة ستظلّ جوهريّا هي هي إلى أن يطاح بالإمبريالية و الإقطاعيّة و الرأسماليّة البيروقراطيّة / الكمبرادوريّة فى الصين . و هو ما سيرسم خطّ نهاية الثورة الديمقراطية الجديدة و بداية الثورة الإشتراكية . لكن داخل المرحلة العامة للثورة الديمقراطية الجديدة ستوجد مراحل . خلال الحرب المعادية لليابان بخاصة ، التناقض بين جماهير الشعب الصيني و الرجعيّين المحليّين تراجع مؤقتا فى حين أن التناقض بين الأمّة الصينيّة و اليابان بات فى المقدّمة و كان هذا جزءا من سيرورة الثورة الديمقراطية الجديدة و تناقضها الجوهري ليس منعزلا عنها و لكنّه رسم مرحلة خاصة داخلها .



#شادي_الشماوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تطوير ماو تسى تونغ للفلسفة الماركسية(2)الفصل الرابع من كتاب ...
- تطوير ماو تسى تونغ للإقتصاد السياسي و السياسة الإقتصادية و ا ...
- مقدّمة - المساهمات الخالدة لماو تسى تونغ - - كتاب لبوب أفاكي ...
- هجوم إرهابي فى باريس ، عالم من الفظائع و الحاجة إلى طريق آخر
- إلى الشيوعيّين الثوريّين فى العالم و أفغانستان : قطيعتنا مع ...
- تصاعد النضالات من أجل إيقاف إرهاب الشرطة و جرائمها فى الولاي ...
- قفزة فى النضال ضد جرائم الشرطة فى الولايات المتّحدة : الإعدا ...
- مقدّمة كتاب - مقدّمات عشرين كتابا عن - الماويّة : نظريّة و م ...
- إنهيار سوق الأوراق المالية فى الصين : هكذا هي الرأسمالية
- أزمة المهاجرين العالمية : ليس مرتكبو جرائم الحرق العمد للأمل ...
- المجرمون و النظام الإجرامي وراء موت اللاجئين فى النمسا
- حقيقة تحالف قادة الحزب الشيوعي السوفياتي مع الهند ضد الصين / ...
- أحاديث هامة للرئيس ماو تسى تونغ مع شخصيّات آسيوية و أفريقية ...
- تونس السنة الخامسة : عالقة بين فكّي كمّاشة تشتدّ قبضتها
- سياستان للتعايش السلمي متعارضتان تعارضا تاما - صحيفة - جينمي ...
- اليونان : - الخلاصة الجديدة ترتئى إمكانيّة : القطيعةُ مع الق ...
- الإتفاق النووي بين الولايات المتحدة و إيران : - الولايات الم ...
- الإتفاق النووي بين الولايات المتّحدة و إيران : حركة كبرى لقو ...
- مدافعون عن الحكم الإستعماري الجديد - صحيفة - جينمينجباو - و ...
- تقرير الأمم المتّحدة يكشف جرائم حرب الهجوم الإسرائيلي على غز ...


المزيد.....




- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - شادي الشماوي - تطوير ماو تسى تونغ للفلسفة الماركسية(1)الفصل الرابع من كتاب - مساهمات ماوتسى تونغ الخالدة - لبوب أفاكيان .