أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكي - الفكر الاقتصادي لكارل ماركس















المزيد.....



الفكر الاقتصادي لكارل ماركس


محمد عادل زكي

الحوار المتمدن-العدد: 4986 - 2015 / 11 / 15 - 23:54
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


(1)
ابتداءً من تحديده لكون نمط الإنتاج الرأسمالي هو محل انشغال الاقتصاد السياسي، والَّذي يجعله محل مراجعته،
"أني أقصد بالاقتصاد السياسي الكلاسيكي مجمل الاقتصاد السياسي ابتداءً من وليم بتي، ذلك الاقتصاد الذي يدرس الترابطات الداخلية لعلاقات الإنتاج البورجوازية". (رأس المال، الكتاب الأول، الفصل الأول).
وباستخدام أعلى درجات التجريد،
"لا يمكن لتحليل الأشكال الاقتصادية استخدام المجهر أو الكواشف الكيمياوية، بل يجب على قوة التجريد أن تحل محل هذا وتلك". (رأس المال، مقدمة الطبعة الأولى، 1867).
انشغل ماركس بمشكلة القيمة الَّتي تتمفصل حولها علاقات ذلك النمط من أنماط الإنتاج. الأمر الَّذي جعله يبدأ من تحليل السلعة؛ لأنها الَّتي تتجسد فيها القيمة.
"في المجتمعات التي يهيمن عليها نمط الإنتاج الرأسمالي تتبدا الثروة بوصفها تكديساً هائلاً من السلع، بينما تتبدا كل سلعة بمفردها كشكل أولي لهذه الثروة. لذلك يتعين البدء بتحليل السلعة". (رأس المال، الفصل الأول).
وفي أثناء تحليله يفرق، كما سميث وريكاردو، بين نوعين من القيمة: الأول: قيمة استعمال السلعة، أي صلاحية السلعة لإشباع حاجة إنسانية معينة، وهذا النوع من القيمة هو الَّذي يشكل المضمون المادي للثروة في المجتمع. أما النوع الثاني فهو قيمة المبادلة، أي صلاحية السلعة للتبادل بسلعة أخرى، وهي تبرز كعلاقة كمية، أي كنسبة يجري بموجبها تبادل قيم استعمالية من نوع ما بقيم استعمالية من نوع آخر؛ فسلعة معينة، كيلو جرام واحد من القمح مثلاً تجري مبادلته بمقدار(ك) من الأرز، و(ص) من الحرير، و(ع) من الفضة، وغير ذلك، وباختصار، بسلع أخرى بأكثر النسب تبايناً. وبالتالي، ليس للقمح، كسلعة، قيمة تبادلية واحدة، بل الكثير جداً منها، ولكن بما أن (ك) من الأرز، و(ص) من الحرير، و(ع) من الفضة، تشكل القيمة التبادلية للكيلو من القمح، فإن (ك) من الأرز، و(ص) من الحرير، و(ع) من الفضة، وما إليها، يجب، كما يقول ماركس، أن تكون قيماً تبادلية قادرة على أن تحل محل بعضها البعض، أي أن تكون متساوية فيما بينها. ومن هنا فإن القيم التبادلية المختلفة للسلعة تعبر عن شيء واحد. فمهما تكن العلاقة التبادلية بين الحرير والفضة، يمكن دائماً التعبير عن هذه العلاقة بمعادلة تتعادل فيها (ص) من الحرير مع (ع) من الفضة. مثلاً: مبادلة 10 أمتار من الحرير بـ 5 جرامات من الفضة، وهذه المعادلة تدل على وجود أمر مشترك مقداره واحد. إن كلاً من هذين الشيئين، الحرير والفضة، مساو لشيء ما ثالث، لا هو الأول ولا هو الثاني، وبالتالي لابد وأن يكون كل منهما، باعتباره قيمة تبادلية، قابلاً للإرجاع إلى هذا الشيء الثالث. الَّذي لا يكون متمثلاً في خصائص هندسية أو فيزيائية أو أية خصائص طبيعية أخرى للسلع؛ إذ أن خصائص السلع الجسدية، كما يقول ماركس، لا تؤخذ في الاعتبار إلا بقدر ما تتوقف
عليها منفعة السلع، أي بقدر ما تجعل من السلع قيماً استعمالية. وفي هذا الشأن ينقل ماركس عن نيكولاس باربون (1640- 1698) قوله:
"إن نوعاً من السلع هو صالح تماماً كأي نوع آخر إذا كانت قيمتهما التبادليتان متساوييتين، ولا فرق أو اختلاف بين الأشياء الَّتي لها قيم تبادلية متساوية؛ فكمية من الحديد أو الرصاص بمائة جنيه لها نفس القيمة التبادلية كما لكمية من الفضة أو الذهب بمائة جنيه". (رأس المال، المصدر نفسه).
إن الأمر الثالث المشترك بين"قيمة السلعتين التبادلية" هو العمل، فكلاهما نتاج قوة العمل. هنا يجد ماركس أهمية في الانشغال بقيمة قوة العمل. متساءلاً: ما هي قيمة قوة العمل؟ ومن أجل الإجابة يسير التحليل على النحو التالي: إن قيمة كل سلعة تقاس بكمية العمل الضروري، اجتماعياً، لإنتاجها. وقوة العمل توجد في شكل العامل الحي الَّذي يحتاج إلى كمية محددة من وسائل المعيشة لنفسه ولعائلته، مما يضمن استمرار قوة العمل حتى بعد موته. ومن هنا، فإن وقت العمل اللازم لإنتاج وسائل المعيشة هذه يمثل قيمة قوة العمل.
"إنني أقصد بقوة العمل، أو القدرة على العمل، مجموع القدرات الجسدية والمعنوية التي تمتلكها أعضاء الإنسان، أي شخصيته الحية التي يستخدمها في كل مرة ينتج فيها قيماً استعمالية... إن قيمة قوة العمل تتحدد مثل أية سلعة أخرى بوقت العمل الضروري لإنتاجها وبالتالي لتجديد إنتاجها... إن قيمة قوة العمل هي قيمة وسائل المعيشة الضرورية للحفاظ على بقاء صاحبها... ويتضمن مجموع وسائل المعيشة الضرورية لإنتاج قوة العمل وسائل المعيشة لأولئك البدلاء، أي أطفال العمال". (رأس المال، الكتاب الأول، الفصل الرابع).
وعلى ذلك، يدفع الرأسمالي للعامل أجره، أسبوعياً مثلاً، شارياً بذلك استخدام قوة عمله لهذا الأسبوع. (الواقع أن الرأسمالي يدفع الأجر بعد استهلاك قوة العمل!) وبعد ذلك يجعل الرأسمالي عامله يبدأ في العمل. وفي وقت محدد سيقدم العامل كمية من العمل توازي أجره الأسبوعي، فإذ افترضنا أن أجر العامل الأسبوعي يمثل ثلاثة أيام عمل، فإذا بدأ العامل عمله يوم السبت؛ فإنه يكون في مساء يوم الإثنين قد عوض الرأسمالي عن القيمة الكاملة للأجر المدفوع. ولكن هل يتوقف العامل عندئذ عن العمل؟ بالطبع لا؛ فلقد اشترى الرأسمالي قوة عمل العامل لمدة أسبوع، وعلى العامل أن يستمر في العمل خلال الأيام الثلاثة الأخيرة من الأسبوع، وهذا العمل الزائد الَّذي يقدمه العامل فوق الوقت اللازم لتعويض أجره هو القيمة الزائدة.
"إن قيمة قوة العمل تبلغ 3 جنيهات في اليوم؛ وهي تجسد نصف يوم عمل أي أن وسائل معيشة العامل اللازمة يومياً لإدامة عرقه ولإنتاج قوة العمل تساوي نصف يوم عمل... والواقع أن نصف يوم عمل يكفي لإدامة حياة العامل في خلال 24 ساعة ولا يعطله نهائياً عن العمل يوماً كاملاً... ولذلك يجد العامل... وسائل إنتاج ليس لعملية عمل من 6 ساعات فقط، بل لعملية عمل من 12 ساعة. وإذا كانت 10 كيلو من القطن تستهلك 6 ساعات عمل كي تتحول إلى 10 أمتار من النسيج؛ فإن 20 كيلو من القطن تستهلك 12 ساعة عمل، وتتحول إلى 20 متراً من النسيج. فلننظر الآن إلى الناتج. الآن تجسدت 5 أيام عمل في هذه الـ 20 متراً من النسيج. 4 أيام في الكمية التي تم استهلاكها من القطن وآلة الغزل، ويوم واحد استهلكه القطن في إطار عملية الغزل نفسها. بيد أن المظهر النقدي لـ 5 أيام عمل هو 30 جنيها. وهو ثمن 20 متراً من النسيج، ولكن، مجموع قيم السلع التي ألقيت في عملية الإنتاج يساوي 27 جنيهاً. والآن قيمة الغزل تبلغ 30 جنيهاً. فهي قد أتت بقيمة زائدة مقدارها 3 جنيهات". (رأس المال، الكتاب الأول، الفصل الخامس).
(2)
والقيمة الزائدة حين التوزيع تذهب بأكملها إلى الرأسمالي. ربما تنازل الأخير عن جزء منها لمالك الأرض، في هيئة ريع، أو للرأسمالي المالي، في صورة فائدة. ولكن ما ينشغل ماركس بالتأكيد عليه، على الأقل في الكتابين الأول والثاني من رأس المال، هو نفي حصول العامل على نصيب في القيمة الَّتي خلقها؛ فالعامل بعد أن ينتج معادل قيمة قوة عمله ينتج قيمة زائدة يستحوذ عليها الرأسمالي. وهذا التصور يغاير، كما رأينا، تصور الكلاسيك الذين رأوا أن القيمة الَّتي يضيفها العمال إنما تنحل إلى أجور وأرباح. ولنرجىء التعرف إلى هذا الخلاف في التصور وتبين حقيقته إلى حين مناقشة التوزيع عند الكلاسيك وماركس.
(3)
على كل حال، يمكن اعتبار ما وصل إليه ماركس، بصدد القيمة الزائدة، استكمالاً للبناء النظري الريكاردي، وحلاً للمشكلة الَّتي سبق وأن واجهت ريكاردو نفسه بصدد السؤال: لماذا يكون الأجرٌ أقلاً من القيمة الَّتي يخلقها العمل؟ والحل يكمن في أن الرأسمالي لم يشتر العمل، كما ظن ريكاردو، إنما اشترى قوة العمل، كما توصل إلى ذلك ماركس. فنحن نعرف من مقدمة فريدريك إنجلز لـ العمل المأجور والرأسمال، الَّتي كتبها في عام 1891، إن ماركس، وكما ذكرنا، كان في كتاباته المبكرة لا يفرق، كما الكلاسيك، بين العمل وقوة العمل. كتب انجلز:
"إني على ثقة بأني أعمل بروح ماركس تماماً إذ ألجأ في هذه الطبعة إلى بعض التعديلات والإضافات ولذا أقول للقارىء. ها هو الكراس، لا كما كتبه ماركس في عام 1841، بل تقريباً كما كان من المحتمل أن يكتبه في عام 1891. إن التعديلات التي أجريتها إنما تدور كلها حول نقطة واحدة. فما يبيعه العامل للرأسمالي لقاء الأجرة، إنما هو عمله حسب النص الأصلي، أما حسب النص الحالي فهو يبيع قوة عمله". (العمل المأجور والرأسمال).
ومن ثم أصبح النص بين أيدينا الآن، بعد تعديلات إنجلز، كالآتي:
"... فالرأسمالي يشتري إذاً، كما يبدو، عمل العمال بالمال، ولقاء المال يبيعونه عملهم. ولكن الأمر ليس كذلك إلا ظاهرياً. فإن ما يبيعونه في الواقع من الرأسمالي لقاء المال، إنما هو قوة عملهم". (العمل المأجور، المصدر نفسه).
(4)
وعقب أن أتم ماركس تحليله للقيمة، على نهج ريكاردو، وقام بإدخال التعديلات الحاسمة أحياناً، والظاهرية أحياناً أخري، وجد ضرورة مراجعة تصورات الكلاسيك بصدد أنواع الرأسمال. فقد كان سميث وريكاردو، والكلاسيك بوجه عام، يرون، كما ذكرنا، أن الرأسمال اللازم من أجل عملية إنتاجية ما، ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الرأسمال الأساسي، ويحتوي على المباني والآلات والمعدات، وكل ما لا يستهلك في عملية إنتاجية واحدة. والقسم الثاني: الرأسمال المتداول/ الدائر، وهو الَّذي يستخدم في عملية إنتاجية واحدة مثل المواد الأولية والمواد الوسيطة والعمل الإنساني. ولكن هذا التقسيم لم يكن ليتناغم مع نظرية ماركس في القيمة؛ الأمر الَّذي جعله يعيد النظر في التقسيم إنما ابتداءً من معيار مختلف هو معيار القيمة نفسها، متساءلاً ما هي الأجزاء من الرأسمال الَّتي تغير من قيمتها أثناء الإنتاج، أي الَّتى يمكنها أن تخلق قيمة أزيد من قيمتها؟ وما هي الأجزاء الَّتي لا تغير من قيمتها أي تظل قيمتها ثابتة عبر عملية الإنتاج؟ حينئذ رأى ماركس أن تقسيم الكلاسيك ليس خطأ كليةً إنما يحتاج إلى تعديل؛ فالرأسمالي، من أجل الإنتاج، يستخدم قسمين من الرأسمال: القسم الأول: الرأسمال ذو القيمة الثابتة، ويتكون ذلك القسم من: جزء أساسي مثل المباني والآلات. وجزء دائر مثل المواد الوسيطة والمواد الأولية، وهذا القسم من الرأسمال لا يغير من قيمته أثناء عملية الإنتاج؛ لأنه يدخل عملية الإنتاج ويخرج منها بنفس القيمة. فالآلة مثلاً، بما تحتوي عليه من عمل مختزن، يحسب معدل استهلاكها على أساس قيمتها وطاقتها الإنتاجية، وهي تدخل في حساب كلفة الإنتاج بهذه القيمة دون زيادة أو نقصان. أما القسم الثاني، فهو: الرأسمال ذو القيمة المتغيرة، ويتكون من: قوة العمل. وهذا القسم من الرأسمال يحقق أربعة أمور: أولاً: ينقل قيمته إلى الناتج، وثانياً: يزيد من قيمة الناتج، وثالثاً: يسمح بنقل قيمة الرأسمال الثابت إلى الناتج، وأخيراً: يخلق قيمة جديدة غير مدفوعة الأجر؛ ويتم ذلك بأن يدفع الرأسمالي للعامل 3 جنيهات مثلاً (بافتراض أن ساعة عمل واحدة تساوي وحدة واحدة من الأجر) ويأخذ منه عملاً يساوي 4، أو 5،... إلخ. ولذلك سمي هذا القسم من الرأسمال بالرأسمال المتغير. بعبارة أدق (الرأسمال ذو القيمة المتغيرة) كتب ماركس:
"إن ذلك القسم من الرأسمال الذي يتحول إلى وسائل إنتاج أي مادة خام ومواد مساعدة ووسائل عمل، لا يغير مقدار قيمته في عملية الإنتاج. لذلك أسميه بالقسم الثابت للرأسمال، أو بإيجاز: الرأسمال الثابت، وعلى العكس، فذلك القسم من الرأسمال الَّذي تحول إلى قوة عمل، يغير قيمته أثناء عملية الإنتاج، فهو يجدد إنتاج معادله الذاتي ويشكل بالإضافة إلى ذلك قيمة زائدة يمكنها أن تتغير بدورها وأن تكون أكبر أو أقل، وهذا القسم للرأسمال يتحول بصورة متواصلة من مقدار ثابت إلى متغير، ولذلك أسمّيه بالقسم المتغير للرأسمال، أو بإيجاز: الرأسمال المتغير". (رأس المال، الكتاب الأول، الفصل السادس).
إن هذا العمل غير مدفوع الأجر يمثل قيمة زائدة يستحوذ عليها الرأسمالي. والرأسمالي يجدد إنتاجه من خلال تحويل هذه القيمة الزائدة إلى رأسمال مجدداً على نطاق متسع.
(5)
ونمط الإنتاج الرأسمالي لا يقتصر على إعادة إنتاج الرأسمال بصورة مستمرة، ولكنه يعيد إنتاج فقر العمال بصورة مستمرة في ذات الوقت؛ بحيث أنه يضمن على الدوام تركز الرأسمال من جهة، ويضمن أيضاً وجود جماهير غفيرة من العمال المضطرين لبيع قوة عملهم إلى هؤلاء الرأسماليين لقاء كمية من وسائل العيش الَّتي تكفي بالكاد لبقائهم قادرين على العمل، وعلى إنجاب الأجيال الجديدة من العمال من جهة أخرى. إلا أن الرأسمال لا يعاد إنتاجه فحسب بل يزداد ويتضاعف على الدوام بقدر ما تتضاعف سطوته على طبقة العمال المفتقرين لوسائل الإنتاج. وكما أن الرأسمال يعاد إنتاجه بمعدلات تتزايد بإطراد فإن نمط الإنتاج الرأسمالي المعاصر يعيد إنتاج طبقة العمال معدومي الملكية بمعدلات متزايدة أيضاً وبأعداد هائلة!
"إن الإنتاج الرأسمالي لا يكتفي بكمية قوة العمل الموجودة فعلاً التي يقدمها النمو الطبيعي للسكان الذي يقدم جيشاً صناعياً احتياطياً... لكن عدد العمال الذين يستخدمهم الرأسمال يظل ثابتاً، وربما هبط، ومع ذلك يزداد الرأسمال المتغير، إذ أدى العامل الفردي عملاً أكثر ولذلك يرتفع أجره؛ على الرغم من أن ثمن العمل يظل دون تغيير... إن ازدياد الرأسمال المتغير يصبح دليلاً على آداء عمل أكثر وليس على استخدام عدد أكبر من العمال. وتقتضي مصلحة الرأسمالي أن يعتصر كمية العمل المطلوبة من أصغر عدد لا من أكبر عدد من العمال... إن تراكم الرأسمال يزيد الطلب على العمل من جانب، ويزيد عرض العمال من الجانب الآخر... وبينما يؤدي ضغط العاطلين عن العمل إلى اضطرار العاملين على آداء عمل أكبر، مما يجعل عرض العمل، إلى حد ما، مستقلاً عن عرض العمال. إن سريان قانون عرض العمل والطلب عليه يستكمل، على هذا النحو، استبداد الرأسمال. وعليه، وإلى أن يدرك العمال السر، ويعرفون كيف أنهم كلما قاموا بعمل أكثر، وأنتجوا ثروة أكبر من أجل الآخرين، وكلما ازدادت إنتاجية قوة عملهم، صارت وظائفهم نفسها، التي هي وسيلة تراكم الرأسمال، محفوفة بالمزيد من الأخطار،...". (رأس المال، الكتاب الأول، الفصل الثالث والعشرون).
(6)
ومن المهم لفهم مجمل البناء النظري لماركس الانتباه جيداً لأربع مجموعات من الاصطلاحات الَّتي يستخدمها وهو بصدد تحليل هيكل الاقتصاد الرأسمالي:
فهو يميز، أولاً، بين إنتاج القيمة الزائدة المطلقة وإنتاج القيمة الزائدة النسبية. ويرى أن إنتاج القيمة الزائدة المطلقة يكمن في إطالة يوم العمل إلى ما بعد الحدود الَّتي يستطيع العامل ضمنها أن ينتج معادل قيمة قوة عمله وحسب، ويقوم الرأسمالي بالاستيلاء على هذا العمل الزائد. ويؤلف إنتاج القيمة الزائدة المطلقة القاعدة العامة الَّتي يرتكز عليها النظام الرأسمالي. أما إنتاج القيمة الزائدة النسبية فهو يفترض أن يوم العمل مقسم إلى قسمين، هما العمل الضروري والعمل الزائد. وبغية إطالة العمل الزائد؛ يقلص العمل الضروري بأساليب تتيح إنتاج معادل قيمة قوة العمل في أقصر وقت. وإذ ما كان إنتاج القيمة الزائدة المطلقة يتوقف على طول يوم العمل، فإن إنتاج القيمة الزائدة النسبية يعتمد على التطور التقني.
ويميز ماركس، ثانياً، بين يوم العمل وفترة العمل. فيوم العمل هو المدة الزمنية الَّتي يتعين على العامل خلالها أن ينفق قوة عمله يومياً. أما فترة العمل فهي تعني عدداً معيناً من أيام العمل المتصلة اللازمة لإخراج الناتج الناجز في فرع إنتاج معين.
ويقارن ماركس، ثالثاً، بين عملية تكوين القيمة وعملية ازدياد القيمة. فعملية ازدياد القيمة ما هي سوى عملية تكوين القيمة التي تستمر لأبعد من نقطة محددة. فإذا كانت عملية تكوين القيمة لا تستمر إلا إلى تلك النقطة الَّتي يستعاض فيها عن قيمة قوة العمل الَّتي دفع الرأسمالي مقابلها بمعادل جديد؛ فهذه عملية بسيطة لتكوين القيمة. أما إذا استمرت عملية تكوين القيمة إلى أبعد من هذه النقطة؛ فإنها تصبح عملية لازدياد القيمة.
وأخيراً، يفرق ماركس بين زمن العمل وزمن الإنتاج. فزمن العمل دائماً هو على الدوام زمن الإنتاج. والمقصود بذلك الزمن الَّذي يبقى الرأسمال خلاله مقيداً في مجال الإنتاج. وبالعكس، ليس كل زمن يوجد خلاله الرأسمال في عملية الإنتاج هو بالضرورة زمن عمل:
"وثمة مثال طريف على التباعد بين زمن الإنتاج وزمن العمل تقدمه لنا الصناعة الأمريكية لقوالب الأحذية. إن قدراً كبيراً من التكاليف غير المنتجة ينشأ هنا من أن الخشب يتعين تركه حتى يجف لفترة قد تصل إلى 18 شهراً؛ منعاً لتمدد القالب وتغير شكله... ولا يتعرض الخشب خلال هذا الوقت إلى أية عملية عمل... ويظل الرأسمال الموظف عاطلاً طوال 18 شهراً قبل أن يدخل عملية العمل الحقيقية". (رأس المال، الكتاب الثاني، الفصل الثالث عشر).
(7)
ولكن هذا المثال الطريف المذكور أعلاه يمثل في ذاته أزمة! فكيف يمكن قياس القيمة هنا؟ وما هو منظمها بالأساس؟ فكيف يمكن لصاحب القوالب الَّذي أنفق 120 ساعة عمل في 18 شهراً أن يبادل قوالبه بالقمح الَّذي تكلف كذلك 120 ساعة عمل كذلك وإنما على مدار 12 شهراً فقط؟ أليس للرأسمال الهاجع هنا دون عمل نصيب في ربح إضافي؟ أليس من حق صاحب القوالب المطالبة بربح عن تعطل رأسماله دون أن يعود إليه كما عاد إلى صاحب القمح؟ ألاَ يكافيء صاحب القوالب عن طول فترة الدوران؟ ولكن، ألا تعد تلك المكافأة الإضافية، في الوقت نفسه، خرقاً صريحاً لقانون القيمة؟ لأننا في هذه الحالة سوف نعتد بـ معدل الربح/ عائد الرأسمال، إلى جوار كمية العمل، كمحدد وكمقياس وكمنظم للقيمة! ومن المعلوم بالضرورة أن عائد الرأسمال هذا ليس هو الرأسمال كعمل مختزن، لأن ما يرغب صاحب القوالب في إضافته ليس قيمة الرأسمال الهاجع كعمل مختزن، والَّذي شارك فعلاً في عملية الإنتاج، إنما هو ربح يري الرأسمالي إضافته دون سبب إلا كونه مقابل تعطل رأسماله فترة انتظار نضح سلعته!
ولذلك، كان هذا المثل الطريف سبباً في أزمة من أكبر أزمات الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، فهو الَّذى أدى بريكاردو، كما ذكرنا سلفاً، إلى أن يعلن عن اتجاهه، في بعض رسائله، إلى تعديل نظريته لا في القيمة فحسب، بإدخال عنصر الزمن النسبي، إنما في منظمها كذلك، بإدخال معدل الربح/عائد الرأسمال. وهو الَّذي قاد جيمس ميل(29) ورامساى(30) وغيرهما من كبار الكلاسيك، إلى الإعلان الصريح لاعتبارهما نفقة الإنتاج (بمعني معدل الربح/عائد الرأسمال، والعمل) هي منظم القيمة.
فصديقنا صاحب القوالب الخشبية يتطابق موقفه مع موقف صديقنا صاحب النبيذ والآخر صاحب الفخار. جميعهم يتعين عليهم الانتظار فترة معينة قبل أن يقوموا بطرح سلعهم في السوق... فلنفترض الآن أن صاحب القوالب الخشبية تكلف 120 ساعة عمل، ولكن عليه الانتظار240 يوماً حتى تجف قوالبه قبل طرحها في السوق، وأن صاحب النبيذ، كما افترضنا، تكلف نفس الـ 120 ساعة عمل، ولكن ظلت سلعته في القبو لمدة 120 يوماً فقط قبل أن ينتقل بها أيضاً إلى السوق. وأن صاحب الفخار تكلف كذلك 120 ساعة عمل، ولكن ظلت سلعته في التجفيف لمدة 60 يوماً قبل أن ينتقل بها كذلك إلى السوق. كيف يمكن التبادل هنا وفقاً لقانون القيمة؟
مشكلتان إذاً أمام الكلاسيك، وبالتالي أمام ماركس: الأولى: دور الزمن في تكوين القيمة. الثانية: نصيب معدل الربح/ عائد الرأسمال في تنظيم هذه القيمة. والواقع أن ماركس تجاهل المشكلة الأولى، إذ على ما يبدو أنه تصور إمكانية حلها، ضمناً، من خلال حل المشكلة الثانية! ولكي نتعرف إلى الطريقة الَّتي حل بها ماركس المشكلة الثانية بالتحديد، يتعين أن نتعرف، أولاً، إلى منهجية تحليله للآداء اليومي للمشروع الرأسمالي.
(8)
فعلى مستوى الآداء اليومي للمشروع الرأسمالي، ينتهي ماركس، ابتداءً من نظريته في القيمة والقيمة الزائدة المستندة إلى تصورات ريكاردو(31)، إلى: أن الاستثمارات في فروع القطاعات المشاركة في الإنتاج على الصعيد الاجتماعي تحكمها معدلات الربح؛ ومن هنا انشغل ماركس بتحديد شروط التوازن بين فروع الإنتاج. فأي رأسمالي يرغب في استثمار أمواله سوف ينظر أولاً إلى ربحه المحتمل. وهو لن يقدم على الاستثمار في فرع إنتاجي معين، وليكن الحديد والصلب، إلا إذ ما كان هذا الفرع الإنتاجي يحقق أعلى معدلات الربح.
فكيف تتحدد معدلات الأرباح الَّتي تحكم قرارات المستثمر؟ يتعين، قبل الإجابة، أن نوضح أن تحليل ماركس، بصدد التوازن بين القطاعات، وصولاً إلى ثمن الإنتاج هو تحليل ساكن، مجرد من تأثير عنصر الزمن، يفترض ثبات كل من: كمية النقود، الكمية المطلوبة من السلع، كمية الربح الممكن توزيعه على الرأسماليين؛ فلو افترضنا أن: مجموع الرساميل الموظفة في الإنتاج = 500 وحدة، وإن عدد المشروعات = 5 مشروعات، وإن (كمية/كتلة) النقود الَّتي توزع كأرباح = 110وحدة؛ فإن نصيب كل مشروع من الربح سيكون 22 وحدة. ومعنى ذلك أن أي مشروع جديد يدخل السوق سوف يشارك المشروعات الخمسة القائمة في كمية الربح المحددة، وهي 110 وحدة.
فإذ ما افترضنا أن خمسة مشروعات جديدة دخلت السوق فسوف يكون نصيب كل مشروع من هذه المشروعات الـ 10 مقداره 11 وحدة فقط. وذلك مرتبط بشرط واحد هو أن تكون كمية الطلب الكلي محددة؛ فمهما زادت الكمية المعروضة بدخول مشروعات جديدة، فلن يزيد المجتمع من استهلاكه من هذه السلعة. ومن ثم سوف تتنافس المشروعات الـ 10 على تلبية كمية محددة سلفاً من السلع من جهة، وعلى اقتسام كمية الأرباح المحددة أيضاً سلفاً، من جهة أخرى. وعليه، سينشغل ماركس بتحديد معدلات هذه الأرباح الوسطية. ابتداءً من أربعة افتراضات: (1) السلع تباع بقيمتها، (2) معدل القيمة الزائدة100%، (3) المجتمع مغلق، أي لا يدخل في علاقات تبادل مع بقية أجزاء الاقتصاد العالمي، (4) سيادة المنافسة الكاملة في مجتمع يسعى فيه الرأسماليون إلى تحقيق أقصى ربح ممكن، بأقل كلفة ممكنة. وبناءً عليه تتحدد معدلات الأرباح، في قطاع إنتاجي معين، وهو يضم خمسة مصانع تستخدم تراكيب مختلفة من الرأسمال الثابت والرأسمال المتغير. وفقاً للجدول التالي:

الرأسمال الثابت

الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت
الرأسمال المتغير

القيمة الزائدة
قيمة السلعة

ثمن التكلفة

معدل الربح الوسطي

ثمن الإنتاج

انحراف
الثمن
------
القيمة
80 50 20 20 90 70 22 92 + 2
70 51 30 30 111 81 22 103 - 8
60 51 40 40 131 91 22 113 - 18
85 40 15 15 70 55 22 77 + 7
95 10 5 5 20 15 22 37 + 17
78 38 22 22 82 60 22 82 تطابق
(المصدر: كارل ماركس، رأس المال، الكتاب الثالث، الفصل التاسع: تكوين معدل ربح عام وتحول قيم السلع إلى أثمان إنتاج)

- معدل الربح = القيمة الزائدة ÷ الرأسمال الكلي.
- معدل القيمة الزائدة = القيمة الزائدة ÷ الرأسمال المتغير.
- مجموع القيمة الزائدة =20+30+40+15+5 = 110 وحدة.
- مجموع الرساميل =100+100+100+100+100=500 وحدة.
- التركيب المتوسط للرأسمال = 78+22 وحدة.
- معدل الربح الوسطي= مجموع القيمة الزائدة ÷ مجموع الرساميل × 100 أي 22%.
- سوف تقوم المشروعات المختلفة (وفقاً لقوى السوق. تحديداً: اليد الخفية عند آدم سميث) بإدخال التعديلات النسبية في التركيب العضوي للرساميل؛ حتى تتلائم مع التركيب المتوسط للرأسمال على الصعيد الاجتماعي، وكذلك مع الربح الوسطي.
- ثمن التكلفة = الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت + الرأسمال المتغير.
- قيمة السلعة = الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت + الرأسمال المتغير+ القيمة الزائدة.
- أما ثمن الإنتاج فيتكون من: ثمن التكلفة + معدل الربح الوسطي. وعلى الرغم من أن كل رأسمالي بمفرده، وفقاً للجدول أعلاه، يحصل على قيمة زائدة مقدارها 100% إلا أن حساب الربح، ومن ثم تجديد الإنتاج، لا يعتمد على القيمة الزائدة التي تتحقق في مصنعه هو فحسب، إنما يعتمد في المقام الأول والأخير على الربح الكلي الذي أنتجه الرأسمال الاجتماعي الكلي.
وعليه، فإن الرأسمال ينسحب من قطاع ذي معدل ربح أدنى ويتدفق إلى القطاع الَّذي يدر معدل ربح أعلى. ومن خلال هذا المد والجزر... أو الهجرة والعودة للرساميل، بعبارة أخرى من خلال تزاحم هذه الرساميل وتوزعها على مختلف قطاعات الإنتاج وفقاً لتدني معدل الربح هنا، وارتفاعه هناك، يخلق الرأسمال تناسباً بين الطلب والعرض يجعل الربح الوسطي واحداً في مختلف قطاعات الإنتاج، فتتحول القيم على هذا النحو إلى أثمان إنتاج.
"وينجح الرأسمال في بلوغ هذه المساواة بصورة أكمل بمقدار ما يكون التطور الرأسمالي القائم في مجتمع وطني محدد أعلى، أي بمقدار ما تكون الأوضاع في البلد المعني متكيفة أكثر للأسلوب الرأسمالي للإنتاج. فمع تقدم الإنتاج الرأسمالي تتطور شروطه، ويخضع سائر المقدمات الاجتماعية التي تتحقق في ظلها عملية الإنتاج لطابعه المميز والقوانين الملازمة له". (رأس المال، الكتاب الثالث، الفصل العاشر).
(9)
دعونا الآن نرجع إلى المثال الطريف، فوفقاً لما انتهي إليه ماركس، على نحو ما ذكرنا أعلاه، سيكون على المحاسب الَّذي أستأجره أصدقاؤنا الثلاثة، صاحب القوالب الخشبية وصاحب النبيذ وصاحب الفخار، أن يقوم بحساب ثمن إنتاج سلعة كل واحد من عملائه على أساس من العمل الحي الضروري + العمل المختزن في المباني والآلات والمواد + معدل الربح الوسطي، الَّذي هو في جوهره متوسط العمل الزائد في الفرع. ولكن كيف حسب المحاسب قيمة الرأسمال الهاجع خلال فترة الجفاف والتعتيق والتجفيف؟ صديقنا المحاسب يمسك بـ رأس مال ماركس ويتلو:
"أما بالنسبة لوسائل العمل... فإن عدم استعمالها يؤدي أيضاً إلى فقدان مقدار معين من قيمتها. وهكذا فإن ثمن الناتج يرتفع بوجه عام؛ لأن انتقال القيمة إلى الناتج لا يحتسب طبقاً للزمن الذي يؤدي الرأسمال الأساسي خلاله وظائفه، بل وفقاً للزمن الذي يفقد خلاله قيمته". (رأس المال، الكتاب الثاني، الفصل الثالث عشر).
فإذ ما قام المحاسب بحساب ثمن الإنتاج، آخذاً في اعتباره زمن الإنتاج، أي قام بحساب قيمة العمل الحي الضروري + قيمة العمل المختزن + معدل الربح الوسطي. ثم قارن المدة الَّتي يهجع فيها الرأسمال دون أن يدر الربح المرتقب بفارغ الصبر، ووجد أن حساباته تلك لن تحقق لسلعة عميله قيمة مبادلة متكافأة. فلن يكون أمامه إلا أن ينصح عميله هذا بمغادرة الفرع، والاتجاه إلى الفرع الَّذي يحقق نفس معدل الربح، في أقصر فترة دوران. وفي مثلنا سنجد أن أقصر فترة دوران هي في فرع الفخار. ومن ثم سوف يهم كل من صاحب القوالب والآخر صاحب النبيذ بمغادرة فرع إنتاج قوالب الأحذية والنبيذ، والاتجاه صوب فرع الفخار. لأن الجميع ينفق 120 ساعة من العمل (الحي الضروري + المختزن+ الزائد)، ولكن لا يعود الرأسمال محملاً بالربح، إذ ما تركنا جانباً زمن التداول، إلا بعد 240 يوماً في القوالب الخشبية، و120 يوماً في النبيذ، و60 يوماً فقط في الفخار. فستكون النصيحة هنا الَّتي يتقدم بها المحاسب لكل من صاحب القوالب وصاحب النبيذ هي تسريح عمالهما، والتحول صوب فرع الفخار؟ ولكن، السؤال الجوهري هو: لماذا لم نزل نرى القوالب الخشبية والنبيذ في السوق؟ ما هو القانون الموضوعي الَّذي يحكم استمرارهما؟ نحن هنا أمام أمرين لا ثالث لهما:
- إما أن نقدم إجابة تبدأ من إهدار قانون القيمة. إجابة ترى أن صاحب القوالب الخشبية والآخر صاحب النبيذ سوف يضيفان ربحاً إضافياً لقاء رأسمالهما المتعطل عن العمل، أي يضيف كل منهما معدل ربح وسطي إضافي مكافأة لرأسمالهما! ومن ثم يصبح منظم القيمة كمية العمل بالإضافة إلى الرأسمال. وبالتالي تقاس القيمة حينئذ بالعمل وعائد الرأسمال، أي الربح! ليس فقط الربح المعطي كمعدل ربح وسطي في الفرع، إنما أيضاً الربح المعطى كمعدل ربح سائد اجتماعياً! وهو ما يخالف قانون القيمة.
- وإما أن نقدم إجابة تبدأ من تحقيق قانون القيمة. إجابة تبدأ من إعادة استخدام الأدوات الفكرية الَّتي يقدمها الاقتصاد السياسي على نحو يطور العلم ويستكمله. ولنرجيء البحث في هذه الإجابة لمعالجتها في موضعها المناسب منهجياً في الكتاب الثاني. فقط نكتفي هنا، في مجرى تحليل فكر ماركس، بملاحظة أنه يغفل عنصر الزمن، بل ونراه يتجاهل المشكلة برمتها، ويقنع بالارتكان إلى أن صديقنا المحاسب سيقوم بحساب قيمة الآلات وهي هاجعة دونما عمل، ويعتبر أن تساوي معدلات الربح في القطاعات بإمكانها تصحيح المسألة! ولكن هذا كله غير صحيح، لأن المشكلة لم تزل قائمة، حتى بعد قيام محاسبنا بحساب قيمة الآلات الهاجعة، هذا من جانب. ومن جانب آخر، فإن الاكتفاء بقدرة تساوي معدلات الربح على توجيه المنتجين إلى فروع الإنتاج ابتداءً من إقدام وإحجام الرساميل وفقاً لمعدل الربح الوسطي فحسب يفضي إلى حتمية التسليم بأن صاحب القوالب والآخر صاحب النبيذ، سوف يتجهان إلى فرع الفخار، وهذا لا ولم ولن يحدث، كما سنرى في الكتاب الثاني، ابتداءً من استخدام الأدوات الفكرية الَّتي كشف عنها ماركس نفسه.
ولنفترض الآن أن صديقنا صاحب النبيذ استجاب، بلا وعي، لنصيحة محاسبه فأغلق معمله وباع معصرته وسرح عماله، وانتقل إلى فرع إنتاج الفخار، رغبة في جني نفس معدل الربح في أقصر فترة دوران. فنحن الآن نراه أمام مشكلة لا تختلف نوعياً، فهي مشكلة ترتبط بالزمن كذلك، فصاحب النبيذ مضطر إلى أن يجلس بجوار سلعته في السوق منتظراً أن تتحول من شكلها السلعي إلى شكلها النقدي، أي أن يقوم برسملتها، أي تحويلها إلى رأسمال مرة أخرى. ولكن انتظاره هذا قد يطول. فلنفترض، وفقاً لمثال ماركس، أن رأسمالاً يبلغ 900 جنيهاً، ينشط خلال زمن إنتاج قدره 9 أسابيع، وزمن التداول مقداره 3 أسابيع. عندئذ يبلغ إجمالي فترة دوران الرأسمال 12 أسبوعاً. وعليه، لا يمكن لفترة الإنتاج الجديدة أن تبدأ ثانية إلا في بداية الأسبوع الـ 13، أي أن الإنتاج سوف يتوقف لثلاثة أسابيع (هي عمر زمن التداول). ولكي يتجنب صديقنا صاحب الفخار هذا الانقطاع (بسبب التداول) يقوم بضخ رأسمالاً إضافياً، يفترض ماركس أن قيمته 300 جنيه ويتم ضخ هذا الرأسمال الإضافي في ختام الأسابيع التسعة من فترة العمل الأولى ليبدأ فترة عمل ثانية فور انتهاء الأولى دون توقف، كي يضمن التدفق المستمر للإنتاج، وعودة الرأسمال والربح معاً.
"... إن فترة عمل الرأسمال البالغ 900 جنيه... تكتمل في نهاية الأسابيع التسعة، ولا يتدفق عائداً إلا بعد 3 أسابيع، أي في بداية الأسبوع الثالث عشر، غير أن فترة عمل جديدة تبدأ على الفور بالرأسمال الإضافي، وبتلك الطريقة يتم الحفاظ على استمرارية الإنتاج". (رأس المال، الكتاب الثاني، الفصل الخامس عشر).
(10)
ولكن، ماركس يحذر؛ فالرأسماليون الَّذين يكثرون من استخدام القسم الثابت من الرأسمال على حساب القسم المتغيّر (مع افتراض ثبات معدل القيمة الزائدة) سوف يتعرضون للإفلاس والخراب! لأن القيمة الزائدة الَّتي يتحصلون عليها إنما هي نتاج الاعتصار من الرأسمال المتغيّر وليس من الرأسمال الثابت. فالآلات والمواد تخرج من العملية الإنتاجية بنفس القيمة الَّتي دخلتها بها، والرأسمال المتغير، أي قوة العمل، هو فقط الّذي بإمكانه خلق قيمة زائدة يختص بها الرأسمالي. والتوسع في استخدام الرأسمال الثابت، كما يعلن ماركس، ليست مسألة اختيارية إنما إجبارية؛ فمع تطور التقنية وإحلال الآلة محل العمل يحدث تدهور مستمر في معدلات الربح؛ وتتجه هذه المعدلات، بوجه عام، إلى الانخفاض لأن الرأسمالي لا يستطيع أن يعتصر قيمة زائدة من الآلة. ليس بالضرورة إذاً أن تؤدي الزيادة في الرساميل إلى الزيادة في معدلات الربح؛ بل على العكس قد تؤدي هذه الزيادة (في الرأسمال ذي القيمة الثابتة) إلى الانخفاض في هذه المعدلات. فمع إدخال الماكينات يبدأ العامل في الصراع ضد وسيلة العمل ذاتها، الَّتي هي الشكل المادي لوجود الرأسمال؛ فما أن ظهرت وسيلة العمل بشكل الماكينة حتى أصبحت مزاحمة للعامل نفسه؛ فإن عدد العمال الضروريين لإنتاج نفس الكمية من السلع يتناقض أكثر فأكثر بفضل التقدم الآلي... إلخ. وهذا يؤدي إلى نمو عدد العمال الزائدين عن الحاجة بسرعة أكبر من نمو الرأسمال نفسه. وحينئذ يتساءل ماركس: ما هو مصير هذا العدد المتنامي من العمال؟ ويرى أنهم يشكلون جيش الصناعة الاحتياطي الَّذي يتقاضى، في فترات الأزمات الدورية الَّتي تمر بها الرأسمالية، أجراً أدنى من قيمة عمله، كما أنه يستخدم بصورة غير دائمة. بناءً عليه، يضع ماركس، استناداً إلى شرح ريكاردو، القانون العام المطلق للتراكم الرأسمالي على أساس من أنه كلما كانت الثروة الاجتماعية أكبر تعاظم جيش الصناعة الاحتياطي، وكلما كانت نسبة الجيش الاحتياطي أكبر من الجيش الفعلي (العمال الدائمون)(32) كلما تضخمت جماهير السكان الفائضين الَّتي يتناسب بؤسها بصورة طردية مع مشقة عملها. وأخيراً كلما اتسعت فئات المعدمين من الطبقة العاملة وجيش الصناعة الاحتياطي، كلما تزايد الفقر على الصعيد الاجتماعي. تبرز هنا نظرية لماركس في الأجور، والَّتي تندفع نحو الانخفاض بسبب وجود هذا الجيش من المتعطلين.
(11)
وعقب أن أتم ماركس تحليله للقيمة، وصولاً إلى ثمن الإنتاج، كان عليه أن ينتقل إلى دراسة تجديد الإنتاج الاجتماعي. وعلى طريقة فرنسوا كينيه(33)، يقسم المجتمع، إنما إلى طبقتين فقط: طبقة الرأسماليين، وطبقة العمال المأجورين. ويفترض أن النشاط الاقتصادي يتم من خلال قطاعين: الأول: ينتج وسائل الإنتاج، والثاني: ينتج مواد الاستهلاك. ويوظف كل قطاع قدراً محدداً من الرأسمال الثابت وقدراً آخر من الرأسمال المتغير، وفي نهاية عملية الإنتاج، الَّتي تمثل نقطة بدء لعملية الإنتاج التالية، يتم إنتاج قدراً من القيمة الزائدة وفقاً لمعدل ثابت، يفترض ماركس هنا كما في كل مكان من رأس المال، مقداره100% وتكون محصلة عملية الإنتاج على صعيد التوزيع أن يحصل الرأسماليون في القطاعين على هذه القيمة الزائدة، ويحصل العمال المأجورون، في القطاعين كذلك، على الأجور. وهذا ما يمثل تيار التدفق النقدي.
أما التدفق العيني فيتمثل في كتلة من السلع الإنتاجية، أنتجها القطاع الأول. وكتلة من السلع الاستهلاكية، أنتجها القطاع الثاني.
وابتداءً من تلك الافتراضات؛ يستهلك رأسماليو القطاع الأول (كل القيمة الزائدة)، كما يستهلك العمال المأجورون في القطاع الأول (كل الأجر) في صورة شراء لجزء من مواد الاستهلاك الَّتي أنتجها القطاع الثاني.
ولكن الرأسمالين والعمال المأجورين في القطاع الثاني يحتاجون هم أيضاً إلى مواد الاستهلاك الَّتي ينتجونها، ومن ثم سوف يستهلك الرأسماليون في هذا القطاع (كل القيمة الزائدة)، من أجل شراء جزءً من مواد الاستهلاك الَّتي ينتجونها. كما سوف يستهلك العمال المأجورون في القطاع الثاني (كل الأجر) أيضاً من أجل شراء لجزءً من مواد الاستهلاك الَّتي ينتجونها.
ولأن القطاع الثاني يحتاج إلى وسائل الإنتاج الَّتي ينتجها القطاع الأول فسوف يستهلك رأسماليو القطاع الثاني (الَّذين تلقوا لتوهم تدفقاً نقدياً من رأسماليي وعمال القطاع الأول) في صورة شراء لجزء من تلك المواد الَّتي ينتجها رأسماليو القطاع الأول.
وبالمثل، لأن القطاع الأول يحتاج إلى وسائل الإنتاج الَّتي ينتجها هو، فسوف يستهلك رأسماليو القطاع الأول (الجزء المتبقي تحت تصرفه اجتماعياً) في صورة شراء لجزء، في الواقع الجزء الباقي، من تلك الوسائل الَّتي ينتجونها. ووفقاً لتلك المبادلات أعلاه يتم تجديد الإنتاج البسيط(34).
وابتداءً من تركيم جزء من القيمة الزائدة، أي عدم استهلاك القيمة الزائدة كلياً من قبل رأسماليي القطاعين واستخدام أحد أجزاء تلك القيمة الزائدة كرأسمال (بإضافة: شغيلة جدد، ووسائل إنتاج)، يتم تجديد الإنتاج الاجتماعي على نطاق متسع(35).
إن أهم ما نلاحظه هنا هو: اختفاء الحديث، لدى ماركس، عن انحلال القيمة إلى ربح وريع وفائدة، فلم يعد الآن لدينا، حين تجديد الإنتاج الاجتماعي، سوى انحلال القيمة الزائدة، الَّتي يضيفها العمال عبر عملية الإنتاج، إلى قيمة زائدة، تستهلك كليةً في تجديد الإنتاج البسيط، وجزئياً في تجديد الإنتاج على نطاق واسع. كما نلاحظ أيضاً انحلال القيمة (في تجديد الإنتاج على نطاق واسع) إلى أجر وربح، ولننتقل الآن إلى مناقشة هذه المسألة من خلال معالجة فكرة التوزيع عن الكلاسيك وماركس.



#محمد_عادل_زكي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من العلم (أي: الاقتصاد السياسي) إلى الفن التجريبي (أي: الاقت ...
- منهجية مقترحة
- القيمة النسبية
- الهروب من الوطن (4)
- الهروب من الوطن (3)
- الهروب من الوطن (2)
- الهروب من الوطن (1)
- التوزيع عند الكلاسيك وماركس
- النظرية العامة للتوزيع في الاقتصاد السياسي
- الخلاصة في المسألة السودانية
- الموجز في تاريخ الاقتصاد القياسي
- نقد الاقتصاد السياسي: مقدمة الطبعة الخامسة
- ما القيمة؟
- أقدم ديموقراطيه في التاريخ، للباحث محمد عبد الحق
- هيكل الصناعة العسكرية في إسرائيل، للباحث هاني محمد وصفي
- نماذج تجديد الإنتاج عند كارل ماركس، للباحثة سحر حنفي محمود
- الاقتصاد في العالم الشرقي القديم، للباحث محمد عبد الحق
- لماذا اتخذ ماركس من إنجلترا حقلاً للتحليل؟
- الشركات دولية النشاط، للباحث أحمد مجدي الشرقاوي
- مقال: المقريزي، للباحث محمد جابر عامر


المزيد.....




- كاميرا مراقبة ترصد لحظة اختناق طفل.. شاهد رد فعل موظفة مطعم ...
- أردوغان وهنية يلتقيان في تركيا السبت.. والأول يُعلق: ما سنتح ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا القصف الإسرائيلي
- الدفاع الروسية تكشف خسائر أوكرانيا خلال آخر أسبوع للعملية ال ...
- بعد أن قالت إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.. أستاذة جا ...
- واشنطن تؤكد: لا دولة فلسطينية إلا بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل ...
- بينس: لن أؤيد ترامب وبالتأكيد لن أصوت لبايدن (فيديو)
- أهالي رفح والنازحون إليها: نناشد العالم حماية المدنيين في أك ...
- جامعة كولومبيا تفصل ابنة النائبة الأمريكية إلهان عمر
- مجموعة السبع تستنكر -العدد غير المقبول من المدنيين- الذين قت ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكي - الفكر الاقتصادي لكارل ماركس