أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رزكار نوري شاويس - حكاية حب عراقية من زمن الحرب















المزيد.....

حكاية حب عراقية من زمن الحرب


رزكار نوري شاويس
كاتب

(Rizgar Nuri Shawais)


الحوار المتمدن-العدد: 4979 - 2015 / 11 / 8 - 03:42
المحور: الادب والفن
    



كأنّ كائن وحشي مدّ مجساته في أعماقه ليمتص آخر قطرة من بهجة هجرت روحه ، هكذا كان حزنه في طور تحوله البطيء لكآبة ثقيلة تسحقه بتراكمات زمن ظالم ..
تعابير وجهه هي نفسها على وجوه الاخرين ، إحساس عميق بالغربة ، بالوحدة و الضياع في متاهات الحنين لأشياء كثيرة كانت اوهام حلم عاشوه في زمن لم يكن و لن يكون ..!
وجوه تتشابه في تفاصيل خطوطها و تجاعيدها و ظلالها ، كأنهم توائم تقولبوا في رحم أم واحدة ..
وجوه معجونة بخوف مُثْلِجْ و توجس شرس من قادم غامض ، هي سمة المجند المساق لحرب لايعرف لها سببا و لايملك فيها حجة يصوب بها بندقيته نحو مجند في الجبهة المضادة ..
هي حرب تأججت نيرانها و تدفق نزفها كنزوة من النزوات الطائشة لدكتاتور أحمق ، أعلنها و رمى شعبا بأكمله في لجتها لأشباع غروره النرجسي ..
* * *
كان ضمن فصيل في عربة من عربات نقل المواشي في القطار النازل صوب البصرة .. حاويات صدئة ، مقفلة ، حشرت فيها وجبات طازجة من الجنود ، يساقون على عجل لجبهة الحرب لأشباع شهيتها الشيطانية النهمة .. تلتهم بنهم وحشي الطوابير تلو الطوابير شبابا حولوا بيادقا على رقعة ممسوحة المعالم ، هي مساحة بلد تحول مسلخا يعم ارجائه فوضى الذبح ، فمن لا يقتل في الحرب ، ينتظره الموت في أقبية التعذيب و السجون السرية ..
* * *
تثائب المساء ، و أقبل الليل ثوب حداد تطرزها الأنجم دموعا تومض بحزن .. و توغل القطار أكثر في جرح الجنوب النازف ..
إيقاع العجلات الحديدية و هي تدور على القضبان الفولاذية ، كان كترنيمة أم أنهكها التعب و تحرض على إشهار الحزن ..
ارتفع صوت أحدهم .. ليغني ببحّة شجية و حزن روح مضطهدة ، (أبوذية ) جنوبية ..
زمجر البعثي ذو البدلة الزيتونية مستنكرا و رافضا الأغنية ، حاول قمع المغني بالتشويش على (ابوذينه ) ، فأدار مسجلا ليرتفع منه ضجيج أنشودة سمجة ساذجة من أناشيد القادسية الملعونة ..
تضامن الجنود مع زميلهم ، بإيقاعات تتناغم مع أغنيته ، و أستمر يغني ..
هو أيضا ( الكوردي ) الحزين كان يدندن و يشاركهم الغناء ..
اطفأ ذو البدلة الزيتونية الة التسجيل مرغما و هو يهدد و يلعن ..
واسنمر المغني و أستمر الأيقاع ، و غاص الكوردستاني أكثر فأكثر في عمق همومه .
الجميع يرفض .. يرفضون حربا ستكون في يوم ما نهايتها كبدايتها ، غامضة مبهمة ..!
يرفضون بصمت .. يَقتلون و يُقتلون بصمت ، إنغمسوا برغم ارادتهم في مراسيمها ، صاروا وقودا لمحارقها و انفاسا للهيبها ..
الجندي في الحرب ، اينما كان سجين محكوم بالموت ، يترقب التنفيذ في كل لحظة ، منهم من ينتظر بيأس من لاحول و لا خيار آخر له ، و منهم من يستعجل الأمر تحررا وخلاصا نهائيا من كل شرور الحرب و آثامها ..
هم أسرى أينما تواجدوا ، رهائن مكبلة ، محاصرة ، مراقبة ..
اضاح جاهزة للذبح ، فموائد الحرب يجب أن تكون عامرة ..!!
* * *
في الأجازات الدورية النادرة ، اذا حظيوا بها .. في تلك السويعات الاثنتان و السبعين التي كانت تتسرب بسرعة لا مبالية من عمره المرصود من ناظور قناص مجهول ؛ كان عليه تأكيد تواجده من لحظه بدئها و لحين التحاقه بوحدته مجددا .
زمن ثمين لا يعوض من عمره المحاصر بالموت ، يضطر قسرا الى هدره في صالة استعلامات مبنى الأمن في بلدته بأنتظار المكلف بمراقبته و إستجوابه و تأشير أسباب تواجده في مدينته بعيدا عن الجبهة ..
دائما ، و فور وصوله و لحظة فرحة الأهل البائسة بلقائه مجددا ، كان الهاتف يرن ..!! ليرحب به رقيب الأمن المكلف بمراقبته بذلك الأسلوب الارهابي الفج الذي لايتقنه الا الفاشست و لا يفهمه الا كل محاصر بتلك الممارسات السلطوية المقيتة .. فيستدعى لتأكيد تواجده ، و هناك رغم كل الغثيان الذي كان يملأه كان مجبرا على استنشاق كل روائح المجاملات العفنة و المستهلكة ..
كان حالة ضمن حالة عامة ، مسيّر رغم ارادته ، هو الثمن المطلوب نقدا أو بالتقسيط و الأهل رهائن لحين تسديد الثمن كاملا .
أحيانا كان يواجه ذاته الانانية ، يتصارعان بعنف ليتغلب أحدهما على الآخر و كانت الغلبة له دائما هو الضحية ..! ضحية تفدي أسرة جل افرادها نسوة و اطفال ، اسرة لا معيل و لا حام لها ، مسجلة في قوائم المشبوهين السوداء لدى اجهزة قمع الدكتاتور ..
و كان ذلك أضعف الأيمان .
* * *
دوت صفارة القطار حادة كئيبة ، و بدأت أضواء المحطة الخافتة تتراقص بين أشباح النخيل و عيدان القصب الكثيفة ..
و لأول مرة منذ بدء رحلة الألتحاق بوحدته ، توهج نبض ابتسامة في عينيه ..
( وردة ) ..
إذن سيلتقيها مرة أخرى ـ انها هناك في انتظار الحزانى القانطون ، قادمون و مدبرون .. في الحرب الكل يسافر للمجهول ، الكل منهك ، ضجر و مهموم ..
الكل يبحث عن شيء مفقود ، ربما كان الأمان ..
لكل منهم حكاية ، و هناك في زمن الحرب ، في تلك المحطات البائسة ، تلتقي الحكايات لتنسج فصول رواية كبرى .. الكل فيها أبطال ، لكن ليس من ذلك الصنف السوبرماني الذي يقهر المستحيل .. هم صنف من تلك الاصناف الشائعة من اجناس البشر .. أبطال هم بهمومهم ، بألامهم الكبيرة و أمالهم البسيطة ، بخوفهم و جبنهم و ضآلة وجودهم أمام الموت .. ابطال بغريزة تعلقهم بالحياة ، بخدعهم الساذجة و نفاقهم الطيب .. بصراعهم من أجل البقاء حتى و إن خرجوا من العاصفة أجسادا معوقة و ممزقة ، هم كل شيء و لا شيء ، مجرد أرقام و حروف مسجلة في سجلات سميكة مهترئة من كثرة الحك و الشطب بمداد أحمر .. خطوط دموية تحصي بصمت جهنمي حجم الكارثة ..
في هكذا ملاحم و معمعات لا يحق لأي كان ان يكون بطلا سوبرمانيا سوى الدكتاتور ، فله وحده المجد و الأناشيد و أكاليل الغار ..
* * *
توقف القطار ..
و تعالى ضجيج بدأ همهمة ليصير صخبا يوقظ المحطة الصغيرة من نعاسها .. عليهم الأنتظار الان لحين ورود أوامر جديدة .
لمحها من نافذة القطار ، كانت حيث التقاها أول مرة .. واقفة في حانوتها الصغير المبني من الصفيح و الواح صناديق العتاد الحربي الخشبية تبيع ( خبز العروق ) و شايا اسودا يتصاعد منه البخار ..
وردة .. هذه الحلوة الجنوبية ، الحنطاوية أم الجدائل السود و العيون السومرية .. هجرت الهور لتستقر هناك في تلك المحطة النائية لتعيل إخوتها الصغار بعد أن فقدوا الآب و الأم في حملة فاشستية على الأهوار ، دمر فيها الحرس الجمهوري قريتهم بأكواخها و مضيفها الرحب و مشاحيفها و أحالوها اكواما من رماد .. أبادوا كل شيء بالسم و البارود و حقد مريض .

تعرف اليها يوم سيق مخفورا هو وآخرون من الهاربين و المتخلفين عن الخدمة العسكرية الاجبارية مباشرة الى وحدة مرابطة على خط التماس شرق البصرة ..
كانت هناك في حانوتها الغريب المتهالك ، تلبي الطلبات . كان الأخير في الطابور و لمان حان دوره كان الخبز قد نفذ ، لكنها هرعت راكضة الي حيث تأوي و عادت على عجل لتقدم له مع ابتسامة ود عذبة بدل الرغيف أربعة . أراد أن يؤكد لها اكتفائه برغيف واحد ، لكنها أصرت .. و لما اراد ان يدفع لها ، رفضت بحنان أم صغيرة ..
- هَذَّنّي موش بفلوس ..
- استسلم لأصرارها و عنادها الكريم ..

فيما بعد و بعد ان تعرف عليها أكثر ، أدرك كم هي شهمة هذه البنت الجنوبية و سخية الطباع .. و نسج إحساس عميق رباط الألفة بينهما ، كانت تنظره في ذهابه و أيابه ، و كانت على باله اينما كان ..
غطت ابتسامة فرح وجهها المجهد لما لمحته يلوح لها ببيريته من نافذة القطار ، و شعر هو ايضا بنسمة سعادة تخفف من كآبته ..

- الله يساعدچ وردة .. اشلونچ ؟
- الله يسلمك ، چا انت اشلونك ، و الأهل اشلونهم ، انشاء الله طيبين و سالمين ؟
-
غاص في سحر عينيها ، فتوردت خدودها و أطرقت برأسها حياء و خجلا ..
- وردة ..؟
- عيون وردة ؟
- جبتلچ حنة ، خوش حنة .. تعاي دحجي وصلة القماش هاي حيل تلوگلچ ..
- چا لی-;-ش هالزحمە-;- ؟ مستورە-;- و الحمد لله ..

تناول أرغفة العروق الطازجة ، كانت شهية بمنظرها و رائحتها الزكية .. قضم من إحداها لقمة و هو يصغي لدوي و هدير متواصل لأنفجارات بعيدة ..كان الأفق حيث خط الجبهة الأمامي يلتهب بضراوة ..
التفت اليها ، هزت رأسها خائفة ، قرأ في عينيها قلقا و حرصا شديدين عليه .. ما كان بيده أية حيلة فالقطار بدأ يستعد للتحرك ..
- لا تخافي .. كلها چم يوم و نتشاوف .. اشوفچ بخير وردة ..
- الله وی-;-اك .. ( تمتمت بشيء كأنها تقر أرقية أو دعاء ) الله وياك ، ترّد سالم بعزّته و جاه رسوله ..
دوت صفارة القطار و تحرك متثاقلا حذرا ككائن خرافي يخشى التقدم نحو خطر كامن .. تقدم خائفا مترددا ثم تسارعت ايقاعات حركته ، و ابتلع ظلام الليل العربة الاخيرة ..
* * *
مجازر شرق البصرة و بحيرة الأسماك بزت سابقاتها من المجازر .. الكارثة بكل معانيها كانت ترتعد امام فضائعها ..
و انتظرت ( وردة ) عودة القطار ، ذبلت عيونها السود انتظارا و ترقبا و خبى بريقهما ..
ذات مساء و الصمت وشاح حزن يغطي الارجاء .. انتفضت ، صفارة القطار فجرت كل مكامن القلق في كينونتها ، كان كئيبا غامضا ، حقودا حادا يغوص في الجسد ببلاهة نصل من جليد حارق ، فيقطعه شرائحا و يحيل دفء الآمال رمادا يتجمد في كفّ صقيع مشؤوم يسبق مواسمه ..
مر القطار بكسل من انهكه التعب و هموم لا تطاق ، تجاهل المحطة ، لم يتوقف ، فالموتى لا يتسكعون في المحطات .. هم على عجل ، لا وقت لديهم يقضونه في انتظار .
كانت تحدق بذهول في نوافذ القطار..
لا ، فالجنود القتلى لا يلوحون بقبعاتهم من نوافذ القطارات ..
هناك في واحدة منها كانت العتمة أشد و الصمت أعمق ، تشع بحزن أسود معلنة نهاية بداية لن تتكرر..
هكذا شعرت ( وردة ) , و تحول احساسها ليقين .. تأكدت هذه المفجوعة بمصائب حرب لم و لن تفهمها أبدا ، انها فقدت عزيزا اخرا ..
صرخت بيأس يترجى القطار ان يتوقف ، فصرخ القطار رافضا ..
امتزجت الصرختان ، فجفل الجنين في أحشائها و استيقظ ساخطا ، و سرعان ماعاد لنومه العميق ..



#رزكار_نوري_شاويس (هاشتاغ)       Rizgar_Nuri_Shawais#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ألأمم المتحدة و سلطان الكبار
- أحاديث كوردستانية .. الحقّ كعنصر بناء و الباطل كأداة هدم
- قصاصات مبعثرة
- بعد (100) عام .. سايكس – بيكو و عودة اللاعبين الى حلبتها
- قصة قصيرة جدا ..(تفاصيل اللحظة الأخيرة)
- حكاية رضيع كوردي مهاجر اسمه ( ئالان )
- رغبة ..
- ملاحظات حرة
- هوامش على حواف الثقافة و الأرهاب ..
- مقدمات (5)
- ك (الغرس الفاسد) بفروعه و ثماره ..
- مقدمات (4)
- هوامش ديمقراطية ..
- مواجهة التطرف و الارهاب االديني .. مهمّة من ؟
- مقدمات (3)
- حيرة من الموقف الدولي و حربها ضد الأرهاب ..!
- مقدمات (2)
- أغان قديمة
- مقدمات (1)
- داعش و أخواتها .. بيادق ، مجرد بيادق


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رزكار نوري شاويس - حكاية حب عراقية من زمن الحرب