أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - بلال عوض سلامة - العمليات الاستشهادية الفلسطينية: الجسد كأداة مقاومة















المزيد.....



العمليات الاستشهادية الفلسطينية: الجسد كأداة مقاومة


بلال عوض سلامة
محاضر وباحث اجتماعي

(Bilal Awad Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 4973 - 2015 / 11 / 2 - 22:16
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


العمليات الاستشهادية الفلسطينية: الجسد كأداة مقاومة

"ظل الشعب الذي يقولون أنه لا يفهم غير لغة القسوة، يحزم أمره الآن، على أن يعبر عن نفسه بلغة القسوة" فرانتز فانون(فانون ).
د.بلال عوض سلامة
ملاحظة : لقد تم تصعيد الفكرة لمقالة سابقة ضمن نظرية تربط بين جسد المقاوم، جسد الأرض، وجسد الجماعة، وتم نشرها في مجلة المستقبل العربي، 2015، ع. 441، ص.ص. 65-88.

تمهيد تاريخي لا بد منه
على مدار القرن المنصرم، عانى الشعب الفلسطيني تاريخ طويل من التضحيات والتشرد، بدءاً من؛ عمليات التطهير العرقي قبل عام 1948، مروراً بتاريخ من الهزائم المتتالية في أعوام (1936، 1948، 1967، 1982)، وصولاً إلى اتفاقية أوسلو عام 1993، التي شكلت منعطفاً وانزياحاً في المنظومة الاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية في السياق الفلسطيني، وليس على صعيد المشهد السياسي فحسب.
وما يزال الشعب الفلسطيني يرزح تحت الاستعمار المباشر؛ بأدواته وسياسياته وقوانينه وتكنولوجيات الرقابة والقهر والاستلاب، فتعرض للقتل والاضطهاد والامتهان والسجن والنفي والتعذيب والتغييب من قبل الاحتلال الصهيوني على مدار القرن المنصرم، وشكل استهدافه محور الصراع وحركة التاريخ المعاصر، فَسجل الفلسطيني تاريخ وكلمات وواقع أليم، سجل يحكي حكاية فلسطيني مشرد غائب وحاضر عن وطنه، تستدعيه أحزانه وكوارثه ونكساته إلى عالم من الجحيم المسكون بأعداد مكدسة في مخيمات اللجوء، حيث احتضان الثورة والتمرد( ).
منذ بداية الصراع الإسرائيلي/ الفلسطيني؛ شكل الوجود والتاريخ والهوية والحق الطبيعي للفلسطيني محور وساحة المواجهة الأول، انتظمت بها مركبات البنية والوعي والممارسة اليومية حول صياغة الرواية والذاكرة التي تشكل العماد المعنوي والرمزي في بناء مفهوم المجتمع والعقل الجمعي بقيمه ورموزه ومثله الوطنية العليا، في محاولات حثيثة منه لتقديم وتصدر الرواية الفلسطينية في صراعها وكشف زييف الرواية الصهيونية، وتجددها المستمر في كتابة وإعادة كتابة التاريخ حتى اللحظة من قبل الكيان الصهويني( )، إن هذه المحاولات هادفة لطمس الرواية الفلسطينية والحق التاريخي وتقديم مسوغات تنسجم مع الرؤية والرواية الصهيونية في اكتساح المكان والزمان والبشر في صياغة المشهد الفلسطيني، فاستهدف الاستعمار الفلسطيني من خلال جملة من السياسيات الهادفة لـ"محو الجمعي القائم"( )، والذاكرة الجمعية، وإعادة تشكيل الفضاء الفلسطيني برموزه وأسمائه ومدنه وتاريخه بما يدعم الرواية الصهيونية في احتلالها لفلسطين، حتى باتت فكرة "الصراع قائمة على الوجود" تعبر عن السياسات والأهداف الاستعمارية في فلسطين، تناغمت وتزامنت هذه التحديات مع حراك مجتمعي عبر عن مقاومته لهذه السياسيات في مرحلة الستينيات بطرق عدة، وتم مأسستها مع تصدر المشهد السياسي والوطني لحركات التحرر الفلسطينية( )، وانتظم المشروع الوطني التحرري حول استنبات واستعادة "أجساد" بالمعنى الوظيفي السياسي للكلمة في الحقل الثقافي والأدبي والسياسي التعبوي والاجتماعي التكافلي لمواجهة المشروع الاستعماري في فلسطين في معركة التحرير.
يعالج الناشف (2011) الاشكاليات الثقافية وارتباطها بالسياسي من خلال انتاج المعنى والفعل على أرضية الالتباس والتغيرات التي عصفت بالمشهد الفلسطيني ثقافياً واقتصادياً، فقام بمعالجة أطروحته الرئيسية ضمن معادلة ثلاثية مقدسة، تمحورت حول ما أطلق عليها بـ "جسد الأرض/ والجسد الجمعي/ والجسد الفردي" باعتبارها جوهر الصراع الذي ما انفكت حاضرة حتى اللحظة، وتمثل الوعي المقدس للقيم والرموز حول منظومة العمل التحرري، وسقوط أحد الأجساد أو تداعيه حسب اعتقاده، ستؤثر بالضرورة على الأخرى، - وهذا صحيح في مساحات معينة-، فجوهر القضية والصراع حسب الناشف يتمحور حول موقع الثقافة وتداعياتها على الأجساد الأخرى في المجتمع الفلسطيني، وتجريف الوعي من قبل السياسي، يتفق هذا الطرح مع مساهمة دراج (1996) الفذة والجريئة والعميقة حول تآكل واغتيال الثقافي والمثقف وخضوعه "للجسد السياسي" في سياق ديالكتيك السلب السياسي الذي افرزته منظمة التحرير الفلسطيني والحركات المنضوية تحت مظلتها، التي عبرت عن بنية ريفية تراتبية قامعة في عملية صنع واتخاذ القرار، تم استدعاء الجماهير الغفيرة لحظة احتياجها وما يمليه حاجة الموقف والمواجهة والتعبئة الوطنية، ولكن سرعان ما تم تخديرها بعد الاقتراب من توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، وعملت القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية على خلق حالة من الغربة والاغتراب للجسد الاجتماعي/الجمعي عن الجسد السياسي، والقضايا الملحة المرتبطة بها، وعدم معرفة ما هو الدور المفترض للجماهير في خضم التحرر/بناء الدولة العتيدة؟.
لم يستطع الفلسطيني كجسد فردي أو جماعي(سياثقافي) انتاج رؤية تحررية وتقدمية قادرة على وضع استراتيجية تتجاوز وجود الاستعمار، لأن السياسي اغتال ثقافة النقد والتنوع، فامتشاق البندقية/الحجر "كموضوع يطلق الرصاص/التمرد" استدعته العفوية للإنسان الراضخ للاستعمار والتي لم تنتظم أو تدعم بمشروع ثقافي تحرري وتقدمي منذ انطلاق حركات التحرر الوطني الفلسطينية في منتصف الستينيات ممثلة بالعمليات الفدائية والعسكرية، فالخيارات الجماهيرية كما هو حال الانتفاضة الشعبية عام 1987 والخيار العسكري كما أبرزته عروض انتفاضة الأقصى والاستقلال عام 2000 جاء محض العفوية كرد فعل طبيعي على انتهاكات ثلاثية المقدس عند الناشف(2011)، من قِبَل الجسد الجمعي، فسيطرت/هيمنت عليه غياب الرؤية والاستراتيجية الواضحة، أكثر من الفعل التحرري الذي افتقد لبوصلة ثقافية وتربوية وأخلاقية توجهه، وتحدد له معالم الطريق الذي يسلك.
وجد الفلسطيني نفسه فريسة الوصم والرواية الصهيوينة التي استغلت غياب الرؤية والموجه الاخلاقي في خضم نضاله ضد الاستعمار، ووسم الأخير الفلسطيني بصفات مثل الارهابي والقاتل والمتخلف، والبدائي، والتي نستدل عليها من خلال دراسات بعض من المستشرقين والصهيونيين مثل؛ روفائيل باطي( )، الذي اعتبر أن الفلسطيني يجاهد كي يثأر لشرفه، وليس من أجل أن يصلح الخطأ، ولا يعمل على إزالة الظلم وتحقيق العدالة، وبهذا النص المجرد يعني ضمنياً أن الكفاح الفلسطيني أو النضال الجماهيري هو نوع من الثأر وليس لرفع الظلم وإنهاء الكيان الصهيوني وسياساته الكولونيالية، هذه العقلية الصهيونية العنصرية؛ التي تسيطر عليها الهاجس الأمني والحل الأمني، والرؤية الأمنية، وفرض تسوية أمنيّة على الشعب الفلسطيني المقهور بالقوة، قائمة على نفي الآخر، ولهذا مورست كافة انواع السياسات العنيفة المباشرة ووسائل غير مباشرة لإرضاخ "الإرادة والجسد الفلسطيني".
في سياق محو المقدس للفلسطني "جسد الأرض" استخدم الكيان الصهيوني كافة السياسات والجرائم والمجازر في سيطرته على الأرض، بدأت ملامحها تتشكل قبل "النكبة عام 1948" من قبل العصابات الصهيونية وبدعم من الاستعمار البريطاني، سرعان ما تم مأسستها عبر رؤية استراتيجية في الاستعمار والاحلال والترانسفير لعمليات التطهير العرقي الممنهجة عام 1948، وهذا تم استيضاحه عبر مخططات واعية من قبل الكيان الاستعماري في الاستحواذ على الأرض الفلسطينية كما يوضحه الأرشيف الصهيوني( )، وتجددت هذه السياسة في استعمار باقي فلسطين التاريخية عام 1967، والتي فقد فيها الفلسطيني مادياً الأرض واحتفظ بقيمتها معنوياً ورمزياً في مخياله وذاكرته الجمعية بغض عن مكان تواجده، واستعاض عنها "بمفتاح العودة" كإشارة إلى مشروعه التحرري، ورأسماله الرمزي في نضاله وصموده.
مع فقدان الأرض كمنظومة قيمية وثقافية، ارتدت ارهاصاتها بشكل واضح على "الجسد الجمعي" الذي وجد نفسه في سياقات تاريخية وجغرافية مختلفة نتيجة التشتت الذي أفرزته سياسة الترانسفير القسري والطرد للاستعمار الصهيوني الذي مورس ضد الفلسطينيين، استعيض عنه "بالوعي الجمعي والذاكرة" كحاضنة فكرية تم استبداله بالواقع، وخاض الفلسطيني معركة التحرير لاستعادة المسلوب منه "الأرض والشعب والحلم" وشكل شعار "الانسان والأرض قضية"، بداية العمل الفدائي في مطلع الستينيات، وتكثيف عملها التعبوي الفصائلي في الثمانينيات، وانتقال ثقل العمل الوطني إلى داخل حدود فلسطين التاريخية بعد خروج فصائل العمل الوطني من بيروت عام 1982، والانتقال إلى طرق مواجهه شعبية في عام 1987. وبالرغم من تعددية الفعل والقرار والممارسات النضالية، إلا أن بنية منظمة التحرير لم تستوعب التعددية التي أفرزها الشارع الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية، وبداية انتظام الرؤية ووحدوية المشروع الذي توج بتأسيس القيادة الوطنية الموحدة(ق.و.م)، إلا أن التجربة وانجازاتها سرعان ما تم اجهاظها، كنتيجة حتمية لتفرد القرار داخل منظمة التحرير الفسطينية بيد حركة التحرير الوطني الفلسطيني"فتح" والقفز عن "إرادة الجسد السياسي" ممثلاً بفصائل العمل الوطني حينها.
شكل عام 1993 مفصلاً تاريخياً ومنعطف اخلاقي وثقافي انتهك بالضرورة "الوعي الجمعي" للفلسطينيين، وبدأت ملامح النظام السياسي والثقافي للدولة العتيدة بالتشكل عبر تحكمها بمفاتيح مفصلية في الواقع المعاش للفلسطيني، على الأقل في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، فكانت طريقة الوصول للسلطة مؤشر ودليل عن الثقافة التي تحكم ملامح الجسم السياسي الذي تم إفرازه في مناطق الحكم الذاتي، ومع احكام القبضة الأمنية وتفرد فصيل فلسطيني واحد على مفاتيح ومفاصل الخدمات والفرص والامكانيات من جانب، وهيمنته من جانب آخر على المؤسسات المرتبطة بها، سرعان ما تم شيئاً فشيئاً اخضاع الجسد الاجتماعي واذعانه، كنتيجة حتمية لتفرد فصيل واحد على استمرارية الحياة.
في مقابل ذلك، استمر سيناريو السيطرة وتفتيت المفتت عبر سياسات اسرائيلية تجاه الأرض الفلسطينية، من؛ شراء، واستيطان، ومصادرة، وتقسيمها إلى مناطق (أ. ب. ج.) كما نصت عليها اتفاقية أوسلو عام 1993 ( )، وتشتت وعزل الجسد الجمعي الفلسطيني في كانتونات استعمارية، لدرجة هيمنة الثقافة الموقعية على تلك التجمعات، التي أثرت بالضرورة على العقل/القيم الجمعي/ة الفلسطيني/ة، وعلى المنظومة القيمية والثقافية للمجتمع الفلسطيني، وبداية تمأسس الثقافة الليبرالية الفردية "لجسد الفرد" ونسيان الجسد الجمعي بما يعنيه من ذاكرة وهوية جمعية تعبر عن الهوية والانتماء في خضم الصراع أو زمن الاشتباك الناعم، وعملت السلطة الفلسطينية على تحييد وابتلاع الفصائل السياسية الأخرى المعارضة لها، خصوصاً الفصائل اليسارية، وتخدير الشعب وحركاته من خلال التحكم بقنوات العيش الاساسية؛ التعليمية والصحية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، هذه الحالة كادت أن تشكل المشهد وتختمه لولا سياسات الكيان الصهيوني، الذي يصر على محاصرة خيارات العيش للفلسطيني بكرامة.
شكلت الاتفاقيات التي تم استنساخها من اتفاقية أوسلو- اتفاقية طابا وبروتوكول باريس وواي ريفير- عوامل لجم وتقويض لتطور المجتمع الفلسطيني في "مناطق الحكم الذاتي" عبر الاستغلال الاقتصادي وغياب السيادة الاقتصادية والسياسية للسلطة الفلسطينية، والقهر وابتذال الجسد الجمعي/الفردي الفلسطيني على الحواجز العسكرية، وسياسة الاستيطان التي تضاعفت في ابتلاع ما تبقى من مناطق السلطة المفترضة حسب الاتفاقيات، وكان المآل هو تحطيم امكانية الوصول لاتفاقية مع الكيان الصهيوني التي تعرقل رؤيته وعقيدته الأمنية ذلك، سرعان ما وصلت المحادثات إلى طريقها المسدود في محادثات كامب ديفيد2 عام 2000.
بهذا الواقع القهري، والاستغلال الاقتصادي، وحتى العقائدي، يضمر الفلسطيني المقهور الحقد على المحتل، والتمرد والثورة "تكون صبر ساعة"، فتكاملت تداعيات انهيار الأجساد المكونة للمجتمع الفلسطيني "جسد الأرض، الجسد المجتمعي/الفردي والجسد الثقافي والسياسي" وصولاً للأفراد، فشكلت العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية والعقائدية تلك بنية تحتية لبداية الانتفاض والمقاومة، التي تستدعي بالضرورة استعادة المتخيل والجمعي من الرواية والذاكرة والوعي الجمعي الفلسطيني( )، وما يرتبط به من رموز وطنية "العلم الفلسطيني والفصائلي، الشهيد، والمقاوم...الخ"، جميعها تساعد على انتظام العمل المقاوم لمواجهة سياسة فرض الواقع الذي يمليه الكيان الاستعماري.
في محاولة من الاستعمار لتطويع الجسد الجمعي/الفردي الفلسطيني لفرض شروطه وسياساته كانت القوة المفرطة حاضرة وبضراوة في مراحل تاريخية مختلفة، أهمها انتفاضة الاقصى والاستقلال عام 2000، من خلال؛ القصف والتدمير للأحياء السكنية والجامعات، واغتيال القادة والسياسيين، واقتحام وتدمير القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية الواقعة تحت وصاية "سلطة الحكم الذاتي"، وتدمير ونسف وقتل الأمكنة الفلسطينية والبنية التحتية، كما حدث في مخيم جنين ونابلس عام 2002، والعدوان على قطاع غزة في الاعوام المتوالية (2008، و2012، و2014)، قتل مقومات العيش والاستمرار الذي يضمن الكرامة الانسانية على صعيد المجتمع/الفرد، وبهذا تم نسف العالم والوجود الذي يألفه الفلسطيني، من هنا تأتي ضرورة التحام التجربة الفردية مع التجربة الجماعية في هذا السياق، الذي يبرره العنف الموجه ضد الشعب كافة( ).
تستدعي هذه النوعية من الأعمال الإجرامية حالة من الاستنفار في المجتمع الصهيوني، تروجه وتصوغ له وسائل الاعلام والتلفزة والايدلوجيا، والتي صاغت وعياً للجمهور الصهيوني يتناسب مع ردة الفعل والقرار للخطاب السياسي والعسكري "لحكومة الاستعمار" تسيطر على الأجواء هستيريا أمنية جماعية تجاه ما يدعي "بالعدو الخارجي" في خضم هذه الهستيريا الجماعية لا تكاد تفرق ما بين "اليسار؟" أو اليمين الصهيوني، لا على مستوى الخطاب السياسي ولا على مستوى الدعوة لتدمير الفلسطيني كمكان وزمان وحتى كفكرة الانسان، فنرى على سبيل المثال المؤرخ الصهيوني بني موريس يتنازل عن مواقفه المقنعة سابقاً ويعود إلى تأنيب الأب السياسي للفكر الصهيوني "بنغوريون" لعدم إبادة كل الفلسطينيين عام 1948 حينما سنحت له الفرصة( )، ويعلن ولائه للدولة الصهيونية،؟ هذا التوحد في العقلية العسكرية القمعية تؤدي إلى حالة من الجنون في مجمل النظام، وبالتالي يبرر غباء الأجزاء والنظام والجنود كأجساد طيعة للنظام والخطاب، ويجعل الخطاب السياسي الصهوني -لبنغوريون المفكر وشارون المنفذ وباراك القاتل ونيتنياهو الفاشي المتطرف- وممارساته من الجرائم والمذابح المقترفة بحق انسانية الشعب الفلسطيني مشروعاً وقراراً عقلانياً ومنطقياً مدعم بسياسات وغطاء أمريكي وأوروبي.
بقدر ما يقترب الفلسطيني من فهم العلاقة التي تربطه بالمحتل الذي يقهره ( )، بقدر ما يوظفها في حركته وفعله النضالي، فتعد مجابهة المحتل نوع من الإحساس بالقوة، التي تصبح رمز الحياة في فترات الثورات والانتفاضات، ببداية التمرد والثورة يتغلب الفلسطيني على "الخوف من الموت"، لأن تحدي الموت وقهره يحمل في النهاية معنى للانتصار المعنوي على القهر والاضطهاد والاستعمار، لأن العيش تحت الاستعمار عبارة عن موت معنوي ووجودي، ومن هنا؛ نجد أهمية الشعارات والمسميات التي تطرح في بداية التحدي والثورة " الشهيد، المقاتل، الفدائي، الصامد، الجريح، والسجين، والاستشهادي" كمعطى تعبوي تحريضي وثوري لأجساد نموذجية صلبة تستدعيها حالة الاشتباك، جميعها تُستدعى من الذاكرة والممارسة والثقافة الفلسطينية المقاومة في حال ثورتهم على المستعمِر، تحمل في ثناياها مكانة اجتماعية وسياسية وعقائدية ورمزية تُحيل إلى التقدير والاحترام لمن يمتلكون تلك الصفات أو لذويهم، تشكل البنية التحتية لشروط التحمل والتحدي والاستمرار في مواجهة سياسات المستعمِر.
فكلما ازداد قهر وظلم الاستعمار، كلما زاد الشعب الفلسطيني في إصراره على المقاومة، وهذا ما برهنت عليه اعوام 2000-2004، فمع ازدياد وتيرة ومستوى القمع والقصف، تستدعي الحاجة لتطوير الأدوات القتالية للمناضل الفلسطيني القادرة على استعادة الثقة والشعور بالقوة، وتجلى ذلك من خلال الأعمال النوعية على صعيد السياق الفلسطيني، وتمظهرت بعدة مستويات، منها؛ " اقتحام معسكرات للجيش الصهيوني في نابلس، اغتيال وزير السياحة "زئيفي" وتصفية ضباط عسكريين، واشتباكات مسلحة داخل العمق الصهيوني والعمليات الاستشهادية".
عودة لمقولة: "يتغلب الفلسطيني على الخوف من الموت"، التي تحمل في ثناياها مصفوفة نفسية اقتصادية وسياسية وعقائدية ثورية، تنظم وترسم حركة ونضال المقاتل الفلسطيني ضد من يستعمره، فتجعل من الموت أمراً طبيعياً بل ودافعاً يتجاوز اللاشعور، ليصبح برنامجاً محفزاً لتحديه الموت والمحتل معاً، وبعلاقة المستعمِر والمستعمَر يشكل هذا التحدي رمزاً معنوياً لوجوده الجديد، البعيد عن التوتر الوجودي الذي كانت عليه حالته في مرحلة الرضوخ والإذعان لتكنولوجية التأديب والتطويع والتعذيب التي مارسها الاستعمار بين أعوام فترة الركود السياسي 1993-2000. هنا، وفي هذه الحالة النفسية المتمردة المدعمة بعقيدة المقاومة ورفض الامتثال للمحتل، يشعر الفلسطيني كجسد فردي/جمعي بالرضى عن الذات من خلال قدرته على تغيير موازين القوى، والتحكم بمصيره وبمحيطه الاجتماعي، تتجلي سياسة وأداة الفلسطيني في رفضه لواقع ومعطيات سياسات الاستعمار بممارسات عدة، جميعها تصب في نفس البوتقة كـ: "التظاهرات والمسيرات الشعبية، ضرب الحجارة، الدعوة لمقاطعة الاحتلال ومنتجاته، النضال السلمي السلبي، الاشتباكات المسلحة في عمق الكيان، تحدي طفل فلسطيني لماركفاة(مدفعية مدرعة)، وعمليات استشهادية"، الأخيرة كما قبلها، من حيث الهدف والمبدأ، ولكنها أشدها ايلاماً وزعزعةً للكيان الصهيوني، ومن حيث أنها استدعت مركز اهتمام العالم بشكل عام، وأثارت نقاشات حادة ما بين قلة من المثقفين الثوريين الفلسطينيون وطغمة من عمالة الأنجزة من منظري ومروجي الفكر الليبرالي حول الظاهرة، وانقسم المجتمع الفلسطيني على صعيد الجسد السياسي و المجتمعي، ما بين مؤسطر ومقدس للظاهرة، وما بين ليبرالية وعقلانية مفترضة تحت الاستعمار ذهبت إلى مدى استفادة المجتمع الفلسطيني من نجاعتها السياسية، وموقف آخر يدينها ويرفضها( )، والموقف الأخير مرتبط ببنية سياسية واقتصادية تدافع عن اتفاقيات أوسلو، الذين يرفضون عسكرة الفعل الوطني لتنافيه مع مصالهم السياسية والاقتصادية.
وبالرغم مما سبق، في خضم تراكم عوامل التأزم/التمرد والثورة يصبح الأمل والعمل من أجل الانفلات من بنية الرضوخ أمراً تستدعيته الحاجة للبحث عن الذات، "حينها يتقدم الفرد متطوعاً بتكريس جسده لهدف مقدس"( )، في محاولة منه لخلق موازين قوى جديدة، فيكتشف المستعمِر نفسه بالعنف الثوري الذي يشكل/ويصيغ ذاتاً فاعلة وموجودة.
تعد هذه المقالة؛ عبارة عن محاولة جديدة لفتح ومناقشة هذا الملف الذي اغلق بطريقة اعتباطية واستنكارية، وهوجم من قبل مؤيدي أتفاقية السلام والبنية السياسية التي تحكم السلطة الفلسطينية، بل ذهبوا إلى إدانة العملية واتهامها بـ"الارهابية"، ومن جانب آخر بروز بنية سياسية انهزامية في خطابها وممارستها السياسية، تم استدخال خطاب الهزيمة في الجسد السياسي الفلسطيني الرسمي، والعمل على تثبيط إي مقاومة أو ممارسات شعبية أو سياسية تتجاوز النص والاتفاقيات السلطة، فالتساؤلات المنسحبة؛ "هل يستطيع الحجر تحرير فلسطين؟" في نهاية 1987، وفي بداية انتفاضة الاستقلال عام 2000 "هل تستطيع البندقية مقارعة دبابة "ماركفاة" صهيونية" وما "هذه الصواريخ العبثية التي تضر بالمصلحة الوطنية" "والعمليات التفجيرية -الاستشهادية والبطولية- أضرت بالمجتمع الفلسطيني"، والتقليل من الانتصار المعنوي كما حدث في مخيم جنين عام 2002 وصمود المقاومة بأدواتها المتواضعة أمام امكانيات المستعمِر، وبنفس السياق ما جرى أبان العدوان الذي جرى على غزة بين سنوات 2012-2014، جميعها ما هي إلا وشاية بل دليل على البنية السياسية والاقتصادية التي تبلورت بعد اتفاقية أوسلو والمستفيدة من استمرارية الأوضاع باعتبارها نخب اقتصادية وسياسية متعاقدة بالباطن وبالظاهر مع الاستعمار الصهيوني، والأمر لم يتوقف عند الجسد السياسي فحسب، بل تجاوزه إلى الجسد الثقافي، الذي غييب ثقافة المقاومة والكفاح المسلح والصمود والمقاومة، وهو ما أعلن عنه من خلال ما يسمى بيان 55( )، الذين وقعوا على إدانة العمليات الاستشهادية.
إن الادوات الفلسطينية للقتال وتطورها "الحجر والمقاومة الشعبية والسلمية، كما العمليات الاستشهادية وصواريخ المقاومة في قطاع غزة" جاءت استجابة وتطور نوعي في خضم الصراع ضد استعمار انتهك الوجود للفلسطيني، وعملت المقاومة على خلق معادلات جديدة في الصراع من "توازن الرعب" إلى "توازن الردع".
موضوع البحث وأهدافه
تدور المقالة الحالة حول تساؤلات؛ لماذا يحمل شاب في عمر الحياة بندقيته ويقتحم معسكراً أو مستعمرة صهيونية؟، أو يحمل/تحمل كمية من المتفجرات في حقيبته/ا، ليكون الفعل والنضال التضحوي "مقاتلون تضحويون"، ما الذي يدفعه إلى فعل ذلك؟، وكيف تحول الفلسطيني من موضوع يطلق الرصاص إلى ذخيرة وأداة قتالية ممثلاً بالتضحية بجسده، هذه الاسئلة وما يشابهها، يطرحها على نفسه كل من يهتم بهذه الواقعة كأداة قتالية مشتقة من السياق التاريخي الفلسطيني الذي أنتجها كظاهرة اجتماعية وسياسية، ويهدف البحث الحالي تبيان السياق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي الذي قدم الجسد الفردي العمليات الاستشهادية كأداة قتالية مشتقة من سياق الصراع الفلسطيني في سبيل نيل حريته الذي حول الجسد الفردي للفلسطيني إلى أداة قتالية في سبيل المجموع.

منهجية وأسلوب البحث
من أجل تحقيق هدف البحث الحالي، قام الباحث بالاعتماد على المنهج الوصفي الكمي والكيفي الذي يصف الظاهرة المبحوثة من حيث الظاهر، وتم توظيفهما كما يأتي: استخدام المنهج الوصفي الكمي في الاستبانة المعدة للمسح الاجتماعي الذي قام به فريق البحث ( )، لتحديد السمات الديموغرافية والاجتماعية والدينية والوطنية والدوافع للعمليات الاسشتهادية بغض النظر عن الوسيلة والطريقة المتبعة ( ) حسب اتجاهات أسر وعائلات الاستشهاديين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبلغ عدد الاستشهاديين 451 شهيد وشهيدة، تم تعبئة الاستبانة مع ذوي الاستشهاديين وأقاربهم من الدرجة الأولى، وأشارت نتائج التحليل الإحصائي إلى مصداقية الفقرات وثبات أداة الدراسة من الناحية الكمية ( )، وتم توظيف المنهج الوصفي الكيفي وأسلوب تحليل المضمون في تحليل ونمذجة وصايا الاستشهاديين، وكما وتم توظيف المنهج التاريخي في قراءة السياق التاريخي للظاهرة المبحوثة.

تأصيل نظري وتحليل شكلي للظاهرة
بدايةً، لا ندعي القدرة على معالجة موضوعة المقالة بشكل كامل؟، لأنها تتعلق بأسباب قهرية واضطهادية ودينية تؤدي إلى الظاهرة قيد النقاش. ولأن حقل القهر يعد من أصعب الحقول لدراسته، فقد تمارس القهر يوماً على شخص آخر، ولكنك من الصعوبة أن تدرك حجم وألم وقهرك له، ما لم تكن مكانه، وتحس أنت بإحساسه، وتتحدث بمشاعره، وتدرك وتقييم الأمور من خلال شخصه وفكره وثقافته، فما بالك عند الحديث ليس عن ظاهرة فردية مرتبطة بشخصين، وإنما مرتبطة بعقل جمعي وثقافة جمعية وحقوق قومية مرتبطة بأبعاد سياسية واقتصادية وعقائدية.
اشتهرت حركة المقاومة الاسلامية "حماس" بالعمليات الاستشهادية في بداية التسعينيات وبالتحديد عام 1993 حين قام المقاتل ساهر التمام من مدينة نابلس بعملية استشهادية. وتزايدت الظاهرة فيما بعد، مما أثار حفيظة الكثيرين، خصوصاً الطغمة السياسية المرتبطة بالسلطة الفلسطينية، فعملوا على الصاق سمات بما يدعى "بالإرهاب" على هكذا عمليات لأنها تتناقض بالعمق مع مصالحهم الطبقية، رغم أن المواثيق الدولية وقرارات الأمم المتحدة التي يتمسك بها هؤلاء، تعطي الأحقية لأي شعب محتل: النضال واستخدام كل الوسائل المتاحة ضد الاحتلال، فلما يستنكر العالم هذا الفعل على الشعب الفلسطيني،؟ وقد دوفع عنه بفرنسا، والاتحاد السوفيتي سابقاً، ونمور التاميل واليابانيين، أو على اقل تقدير تفهمت الظاهرة.
بالرغم ان العمليات الاستشهادية ارتبط بداية تأريخها بحركة "حماس" إلا ان الشواهد التاريخية تؤكد محاولات الاقدام على عملية استشهادية كان من قبل "المناضلة عطاف عليان" المنضوية تحت حركة الجهاد الاسلامي الفلسطيني حالياً في ثمانينيات القرن الماضي، وأعتبرت حركة الجهاد الاسلامي أول من نفذت عملية استشهادية في انتفاضة الأقصى والاستقلال بتاريخ (29/10/2000)( ).
وسرعات ما دخلت حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" والجبهة الشعبية والديموقراطية لتحرير فلسطين إلى ساحة العمليات الاستشهادية، بحيث شكلت في السياق التاريخي ذاك ثقافة الاستشهاد بين مختلف أعمار المجتمع الفلسطيني، ولم يعد الأمر مقتصر على فصيل محدد أو محدد بالرجال فقط، وإنما ساهمت المراة الفلسطينية في ذلك(10 استشهاديات من اصل 451)، والذي يعبر عن حالة من التماهي في الوعي الجمعي بقيمه التضحوية التي سرعان ما استعادت ذاتها في خضم الهجمة الاستعمارية التي واجهها المجتمع الفلسطيني بكافة شرائحة وتركيباته.
والأمر الذي أدى إلى تصعيد وانتقال العمل النضالي الجماهيري إلى العسكري فالاستشهادي ارتبط بعدة جوانب، منها: 1. خلو المناطق الفلسطينية المسماة "A" التي تقع تحت سيطرة السلطة الفلسطينية من الوجود الاسرائيلي المباشر 2. عدم امكانية الوصول إلى حل سلمي يضمن للفلسطينيين الحد الأدنى من حقوقهم 3. امتهان ومعاناة الفلسطينيين كأفراد ومجتمع على الحواجز العسكرية 4. العقلية الصهيونية التي تتبنى عقيدة العدوان والعنف وتشجعه( ).
وفيما يتعلق بردود وتفسير الظاهرة الاستشهادية من قبل الكيان الصهيوني فقد درجت الدراسات الصهيونية والغربية على مهاجمة هذه الظاهرة من خلال مهاجمة حركة "حماس" بداية، باعتبارها رائدة ومبدعة الظاهرة على الصعيد الفلسطيني، وحركة فتح والجهاد الاسلامي والشعبية والديموقراطية لانضمامهم إلى هذا الحقل في انتفاضة الاستقلال عام 2000، على اعتبار أن الدين الاسلامي يؤمن بالحياة الأخرى، ومن خلال الفعل الاستشهادي يتقربون إلى الله وينعم عليهم الدخول إلى الجنة ( )، وذهبت دراسة صهيونية، إلى تسويغ العمليات الاستشهادية على اعتبار"ان لكل شهيد سبعين حورية في الجنة"!، فخرجت نتائج الدراسة بصورة مسخة تكرس من الصورة النمطية للاستشراق، تقول أن المجتمع الفلسطيني يعاني من الكبت الجنسي، وهذا ما يدفعهم إلى طلب الشهادة، فلو كان الأمر بهذه السذاجة لما أصبحت ثقافة الاستشهاد كثقافة مقاومة ومقدسة، حالة تستدعي التقدير والاقتداء به في المجتمع الفلسطيني، ونعتقد بدورنا أن العامل الديني مهم وأساسي في هذا الفعل، فقد أشارت الدراسات الصهيونية إلى وجود علاقة ارتباطية بين العنف الصهيوني وانتشار التدين بين أوساط الشباب الفلسطيني، ولكن ليس شرطاً لتفسير ذلك، فالدين جزء ومكون أساسي من النسيج الثقافي والاجتماعي في حياة وتفاصيل بنية وسلوك المجتمع الفلسطيني جميعاً وليس فقط لدى الاستشهاديين، ولو كان كذلك، لما وجدنا رجل دين على قيد الحياة!، وإنما قام بالفعل، حيث أن ملخص وصايا-رسائل- الاستشهاديين تحتوي على أبعاد دينية، واجتماعية، وسياسية، وأن النسبة العالية كما تؤكدها نتائج المسح، تبين أن الاستشهاديين متدينون بدرجة متوسطة بما نسبته (67.8% حسب اتجاهات ذويهم متدين نوعاً ما، و29% متدينين، و1.4% غير متدينيين)، وفيما يتعلق بدوافعهم للقيام بالعملية، نذكر بعض منها، مرتبة حسب الأهمية( احتسابا لوجه الله، فداءاً للوطن، كسب الحياة الآخرة، رداً على المجازر الاسرائيلية اليومية بحق الفلسطينيين، وأخيراً التضحية بالنفس من أجل حياة كريمة للفلسطينيين) كان المتوسط الحسابي يتراوح بين (4.40-4.90 من أصل 5 للمقياس)، تشير تلك النتائج لاستطلاع ذوي الأسرى إلى أن الأبعاد الوطنية كانت حاضرة وبقوة حسب اعتقادهم، وهذا يفند البعد الديني باعتباره لوحده قادر على تفسير هذه الظاهرة، أو على الأقل نستطيع القول: أن المكون الديني جزء من الوعي الجمعي للمجتمع الفلسطيني خلق حالة تحريض وبث لثقافة الاستشهاد والمقاومة، وترى الجيوسي (2010) أن الايمان والتدين يمنح "الاستشهادي" المغزى الأخلاقي والدلالات المشتقة من الفعل.
في محاولة لفهم الظاهرة عالمياً، ومنها ظاهرة الانتحار، والتي الصقت بظاهرة الاستشهاديين الفلسطينيين في محاولة لإقحام وتعميم مصطلحات على واقع وبنية اجتماعية واقتصادية ونفسية في تجربة سياسية مختلفة، وهذه ليست الوحيدة التي روجت لها الامبريالية الثقافية مصطلحاتهم وفهمهم للتاريخ على العالم، من أجل سيادة نمط وفعل التاريخ الغربي، وأي سياق يختلف أو يتناقض عما شهده الغرب، يكون خارج التاريخ وما قبله وخارج المدنية وما قبلها، فما هي المصلحات من "الامبراطوريات، وتقسيم التاريخ من دوركهايم وفيبر إلى هنتنجتون وغيرهم من؛ الحضارة في مقابل البربرية، التقدم والتخلف، الارهاب، المتطرف والمعتدل، المسلم الجيد، والمسلم الارهابي" إلا جملة من المفاهيم الاستعمارية وما بعد الاستعمارية لسيادة نمط ثقافي ذو بعد واحد يتزاوج و يُهجن العالم قسراً مع تجربة الغرب، والمجتمع العربي على وجه التحديد، وللأسف تلقف بعض من الكمبرادور الثقافي والسياسي في فلسطين هذه المفاهيم وتم تبنيها عن ظهر قلب، واندفعوا إلى المدافعة عن أطروحات الغرب والاستعمار، دون دراسة واقعهم بأنفسهم وتقديم حلول ووصفات تلائم الواقع والبيئة العربية، وهذا متفهم سيكولوجياً( ) ولكن ليس قومياً ووطنياً، حيث تنطبق عليهم مقولة ابن خلدون في وصفه للشخصية المقهورة والمغلوبة على أمرها، حينما قال "إن المغلوب مولعٌ أبداً بتقليد الغالب" وقول فرانتز فانون "بشرة سوداء واقنعة بيضاء إنهم مستميتون على أن يكونوا بيضاً"، حيث أن مروجي ثقافة الهزيمة هاجموا ونددوا بالعمليات الاستشهادية واستنكروها في محافلهم الدولية، وأبرز حدث هو توقيع 55 شخصية اكاديمية وثقافية ضد العمليات الاستشهادية( )، دون تداول ونقاش الظاهرة مجتمعياً.
ننتقل الآن إلى استعراض كيفية دراسة الانتحار في الغرب، ممثلاً بدراسة اميل دوركهايم، حينما درس ظاهرة الانتحار باعتبارها واقعة اجتماعية مرتبطة ببنية المجتمع (كان صناعياً أو تقليدياً) مدعمة بعوامل ثقافية/اجتماعية وميسرات دينية، وبينت نتائج دراسته إلى وجود ثلاثة أنواع من الانتحار(الانتحار الأناني، واللامعياري، والإيثاري أو الإلزامي) ويعني الأخير الموت في سبيل تحقيق أهداف وغايات مجتمع أو جماعة معينة، وذلك لارتباطها بمفهوم "التضامن الاجتماعي"، ونوه آنذاك أن أية ظاهرة اجتماعية تدرس وتفهم من خلال واقعها الاجتماعي والحضاري-وأغفل العامل السياسي والاقتصادي والنفسي-، ونجاح واستمرار أية ظاهرة تعتمد على الاستجابة لمتطلبات وحاجات البيئة الاجتماعية.
وعلى أعتبار أن سؤال الثقافة في هذا السياق مهم، نستدعي أفكار عبد الله العروي( ) حول الايدلوجيا والفكر: "إن حدود الانتماء إلى ايدلوجيا سياسية وحدود الدور التاريخي الذي يمر فيه المجتمع ككل،... وإن فهم الإنسان لموقعه داخل الكون، والبنية الفكرية العامة التي تصوغ تجربته داخل الكون، وهما اللذان يحددان إحداثيات العصر" ينبني ويستعاد ترميم الوعي/الجسم المجتمعي وتضخم النحن ويستعاض عنها بدلاً من الأنا، معززة بذلك ثقافة التضامن كشرط تاريخي للصمود والتحدي في سبيل توفير حالة عالية من التماهي مع المجموع وتحقيق أهداف الجماعة، ولعل التضحية بالذات في سبيل أهداف المجتمع، يختبر أعلى درجات الاستنفار في مرحلة الحروب والتصدعات/التحديات في المجتمع، فما بالنا عند الحديث عن المجتمع الفلسطيني الذي يختبر الحرب المستمرة لأكثر من 100 عام على الأقل.
إن استدعاء الشهيد كما هو حال الاستشهادي كحالة ضرورية/تعبوية في الواقع المعاش والمشتبك للفلسطيني يتطلبه مستلزمات العمل التحرري، وتقديس ما يستل من الأخير "المناضل والأسير والجريح والوطن" من معاني وقيم رمزية ومعنوية، تشكل منظومة اخلاقية وثقافية دفاعية، وبنية تحتية رصينة، تتماهى به الأفراد في سبيل التحرر والانعتاق، فلا نستغرب أن دراج (1996) قد بدأ بتساؤله عن بؤس الثقافة في بنية المؤسسة الفلسطينية بتقديسه للشهيد "إلى أين يذهب الشهداء"، كحالة تم تبديدها من قبل مشروع حركات التحرر الفلسطينية، فالمسافة بين الشهيد والوطن تجيب عنه الثقافة الفلسطينية المقاومة، يقول: "منذ عقود عدة والشهيد يتناتج في المسار الفلسطيني، ويتناسل طليقاً فيه، حتى أصبح الشهيد علاقة يومية في الوجود اليومي الفلسطيني، إذ أن الثاني يستدعي الأول ولا يقف من دونه"، ومع أن الخطاب الفلسطيني الثقافي والسياسي في الجسد الرسمي منفصم عن الواقع بل بعيداً عنه ويساهم في اغترابه، إلا أن الثقافة الفلسطينية الشعبية للجسد الاجتماعي حالة متقدمة، والاجابة عن الشهداء لم تنتهي إلى قصاصة ورق وصور على جدار كما وصفها دراج، بل اصبحت رسومات ومخطوطات ولوحات فنية تحفر على جدران المخيم وشارعه الرئيسي، في حالة تقديس وإعلاء من شأن الشهيد، فما بالنا إذا كان الحديث عن الاستشهادي "للجسد الفلسطيني"، الذي يدرك دوره الوظيفي في بنية تتهاوى من جراء حجم سياسات المستعمِر، فيلتصق جسده بالذخيرة المتفجرة ليحول من عظامه شظايا قاتلة ومقاومة.
إن معنى مفهوم الشهيد/الاستشهادي كجسد وقيمة مشتقة من الثقافة الشعبية، التي احالته إلى عالم المقدس، لتعبر عن ثلاثية الفلسطيني بل ترتقي عنها "جسد الأرض/ جسد المجتمع/وجسد الفرد" لأن معنى الثلاثية لا يمكن أن يفهم بمعزل عن الشهيد/الاستشهادي، باعتبارها العلاقة الضرورية لحضورهما وتماسكهما، إن قيمة الشهيد وادراك معناه في الثقافة الفلسطينية، هو خط الدفاع الأول عن الكرامة الشخصية والمجتمعية والأرض، وهو صمام أمان المجتمع الذي يتعرض لأقصى درجات الامتهان والقمع، ولهذا لا نستغرب أن حجم الاستشهاديين يرتفع أو يقل حسب التهديد والتدمير الذي اختبرته المدن الفلسطينية أبان انتفاضة الأقصى والاستقلال، فظاهرة الاستشهاد مرتبطة بنيوياً بوجود الاحتلال وتصاعدها وتناميها مرتبطة بتصاعد درجة عنف وقمع الاستعمار الصهيوني للشعب الفلسطيني، حيث بينت نتائج المسح أن(47.5%) من العمليات الاستشهادية، كانت بين عامي 2002 و2003 بواقع (33.5%) و(14%) على التوالي، وهي الأعوام التي شهدت ارتفاع وتيرة ارهاب الكيان الصهيوني ضد المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، أبرزها مدينة نابلس وجنين واللتان شهدتا حملة شرسة عنوانها الإنسان الفلسطيني، والمدينة الفلسطينية كمكان مستهدف للتصفية، في محاولة لكيّ الوعي/الجسد الفلسطيني، يقول الاستشهادي( ) :
"...من منا لا يغضب ولا يعتريه شعور الانتقام عند سيره في جنازات الشهداء، خاصة جنازات نابلس الجماعية، من منا لا يغضب ويحب الانتقام عند مشاهدة امهات الشهداء وزوجاتهم وابناءهم على التلفاز، ومن منا لا يشعر مع اصحاب البيوت التي هدمت أخيراً في خانيونس ومتاجر الخليل، من منا لا يغضب عند قتل الأطفال وقطع الأشجار وقصف المدن..."
نلاحظ مما سبق، حالة التماهي في المجموع في جسد المجتمع من خلال استحضار تدمير وقتل من خانيونس غزة...مروراً بنابلس ... والخليل جنوباً، وبما أن عنوان الصمود كان في نابلس وجنين فقد شكلت نسبة الاستشهاديين في نابلس لوحدها(14.4%)، تلتها جنين بما نسبته(8.4%)، وتعد المدينتين من أكثر المدن الفلسطينية واجهتا حملة لتطويع الإنسان الفلسطيني وثقافته المقاومة، فمورست سياسة تصفية وقتل للمكان كرمز للمقاومة في مخيم جنين و ومدينة نابلس "البلدة القديمة" كشاهدتين على جرائم الاستعمار الصهيوني، فلماذا لا يمكن اعتبار العمليات ظواهر صحية وطبيعية في المجتمع الذي يرضخ تحت الاستعمار؛ الذي يسلب كرامته وينتهك أمنه وسلامته ويهدد وجوده؟، فثقافة الموت أصبحت مكون أساسي من ثقافة الفلسطيني نتيجة العدوان والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطيني، كما كانت هي الاحوال في عام 2002 في الضفة الغربية، وما شهده قطاع غزة نتيجة عدوان 2014 والذي انتج ما اُطلق عليها ظاهرة "العمليات الاستشهادية الفردية"، والتي تختلف فيها العوامل والحوامل السياسية لمعنى ومغزى المسمى، عن موضوع البحث الحالي، ولكنها تتشابه معها في الهدف.
أن محاولتنا في معالجة موضوع المقالة الحالي، تحاول قدر الإمكان أن لا تستنسخ الدراسات السابقة التي عالجته بعمومية ووصفية كمية لا ترتقي إلى استطلاع رأي حسب اعتقادنا، فقراءة الظواهر الاجتماعية لايتأتى من الاتكاء على إطار نظري ديني أو وصفي ثقافي يغوص في العمومية، فسوسيولوجية الظاهرة تعني سبر غور الظاهرة والتعرف على حقيقتها بعد تحليلها وتفسيرها بطريقة علمية، وليس من أبعاد اجتماعية، فالأخيرة تعني الانزياح إلى فهم الناس للظاهرة، والتي قد تكون فهماً تضليلاً أو تأملياً، وهذا سبب تأخر نشر بيانات المسح جميعها، فلا نستطيع اقحام صورة الاستشهادي كما هي في مخيلة ذويهم وأقاربهم واصدقائهم إلا للإشارة إلى معنى وصورة ورمزية الاستشهادي لذويه، وحتى في الشارع الفلسطيني، فهذا فهمهم كأفراد أو كأسرة من الناحية الاجتماعية كيف هم الاستشهاديين، أو ماذا يجب أن تكون سمات ودوافع الاستشهاديين، فنتائج المسح الميداني خلص إلى خصائص الاستشهاديين موزعة حسب: الخصائص الدينية للاستشهادي كان أهمها حسب توجهات أهل أو مقربي الاستشهادي: يؤمن بما كتب له، يفرق بين الحلال والحرام، يؤدي الصلاة في وقتها، يقتدي بالرسول عليه الصلاة والسلام...، أما خصائصه الاجتماعية، فهي : يحظى باحترام الآخرين، علاقاته طيبة مع أسرته، يثق بأفراد أسرته، يتمتع بشعبية بين الأصدقاء، يستمتع الناس بالحديث معه... وفيما يتعلق بدوافع القيام بالعملية كان أهمها: احتساباً لوجه الله تعالى، فداءً للوطن، كسب الحياة الأخرى، اقتداء بالشهداء... ويشارك في المسيرات...الخ، اما الخصائص النفسية: مثابراً طموحاً ثورياً غامض يشعر باليأس( ).
إن هذه السمات والدوافع هي من فهم أسرهم لأبنائهم الاستشهاديين، وهو فهم اجتماعي اسقاطي- بمعنى اسقاط صورة على الاستشهادي كما نريد أن تكون صورته- وليس فهماً سوسيولوجياً للظاهرة، فينطبق على أهل الشهداء وعلى الناس جميعاً مقولة "أذكروا محاسن موتاكم" فما بالكم الحديث عن استشهادي؟، ونود هنا التحذير من الانزلاق إلى استخدام تلك المقاييس النفسية، الاجتماعية...الخ، واقحام فهم المجتمع عليهم، لأن الشهداء ينطبق عليهم مقولة: "يولد الشهداء بصمت ويعيشون بصمت ويموتون بصمت" وهي التي عبر عنها أحد الاستشهاديين، بصورة أخرى:
"نحن معشر الاستشهاديين ربما نكون قليلي الكلام، ولكن ندرك أن الدم يترك كلمته.."( ).
تعد وصايا الاستشهاديين مادة جيدة للتحليل، لأن كلماتهم تعبر عن خصائصهم وتوجهاتهم النفسية والاجتماعية والدينية والوطنية والانسانية، وعلى وجه الخصوص تلك التي كتبت إلى ذويهم، وليس أمام التلفاز، والمراد منها إرسال رسائل سياسية الى العالم، والعرب، والفلسطينيين، وإلى حكومة تل أبيب الصهيونية، وأما الجانب المتعلق بالرسائل والوصايا-حيث أعدها رسائل أكثر منها وصايا- نجد أن مضمون معظم رسائل الاستشهاديين سياسية بحتة، فمنها ما يتعلق بخلق توازن القوى والرعب في المجتمع الصهيوني، وثورية تحريضية للنضال، تسعى لنشر العمل المقاوم والثورة، ورسائل إلى أنظمة الدول العربية، ورسائل إلى الجيش الصهيوني وقياداته، رسائل تحريضية ضد الاتفاقات السياسية والإعلان عن موتها، وإن جميع الرسائل قد بدأت بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، تدلل على البعد الديني في العمل الاستشهادي، والذي سبق أن قلنا أنه شرط ولكن ليس سبباً وحيداً في فهم الظاهرة، فنسرد هنا رسالة الاستشهادية( ): حين قامت بتوجيه رسالة مصورة، مضمونها وفعلها الثوري يلخص مأساة الفلسطينيين، وجهتها لثلاثة جهات قبل أن تستشهد، الجزء الأول من الرسالة وجهته إلى الحكام العرب قائلة " كفاكم تخاذلاً " والجزء الثاني وجهته إلى الجيوش العربية والتي "تنظر على بنات فلسطين وهن يدافعن عن الأقصى" على حد وصفها ... وكان الجزء الثالث موجها إلى إسرائيل تهدد وتتوعد فيه الكيان. اعتقد أنها تشكل نموذج كامل لصورة الاستشهادي، من حيث أن وضعها المادي لأسرتها جيد جداً، وكانت طالبة مجتهدة، ليست بمشاركة في أنشطة سياسية، كانت مقبلة على الزواج من شاب في مخيم الدهيشة، ربطها معه علاقة انسانية فتقدم للزواج منها وقبلت وقبل الأهل، واجتماعية في علاقاتها، وأبرز مما سبق: لفت انتباهها الجرائم الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، أبرزها حادثة مقتل الشهيد عيسى زكري في منزله القريب من بيت الاستشهادية بمخيم الدهيشة، حيث رأت إبنه الصغير يلهو بدمه.
في سياق معالجة وتفسير الظاهرة محليا وعالمياً لا بد من تسجيل ملاحظات سريعة، فمنها استخدام مفاهيم وعناوين حيادية كما هو الحال في دراسة (Clive, 2003) "( ) حيث تبدأ المقالات بعناوين حيادية تقود إلى تشويه فهم الظاهرة من حيث الظاهر اعتبار أنها "إرهاب" أو تحرير أو "حرب اهلية"، ونفس الأمر ينسحب على دراسة(Franke, 2007) ( )، وبالرغم من انها أشارت في نتائج رسالتها إلى أن دوافع الاستشهاديات(10 استشهاديات) كانت بالأساس من أجل: العدالة، اعادة الهوية الذاتية، الحصول على الشرف، والمكانة الاجتماعية، والدفاع عن النفس، وعلى الرغم من كونها حاولت أن تكون موضوعية إلا أن استخدامها للعمليات التفجيرية-كما هي تراها- قد أساء إلى فهم الدراسة، وبالتالي نتائجها، فاعتبرت أهم دافع اساسي للعمليات الاستشهادية هو رد فعل، وأخرجت العمليات الاستشهادية من سياقها التاريخي وموازين القوة ما بين المستعمَر والمستعمِر، هذا من جانب، ومن جانب آخر سياق تطور الأدوات القتالية للمجتمع الفلسطيني في تاريخ الصراع الفلسطيني/الصهيوني على مدار قرن منصرم. وبنفس السياق أيضاً خلصت دراسة (Banat, 2010)( )، الى دوافع الاستشهاديين وخصائصهم من وجهة نظر ذوي الاستشهاديين بواقع (200) أسرة من أسر الاستشهاديين. وهي نفس الصفات التي توصل اليها المسح الشامل الحالي(451) أسرة كما سبقت الاشارة، فبعد انجاز المسح تبين وجود (40.1%) وصايا مكتوبة، و (5.3%) مسموعة، و(10.6%) مرئية، و(16%) اخرى (سمعية مرئية، مكتوبة مرئية)، تعد مادة مهمة في تحليل البنية السياسية والوطنية التي تحكم الظاهرة، الذي نستل منها ما هو مناسب في سبيل توضيح طرح موضوعة المقالة الحالية.
ومن المهم الإشارة في هذا السياق إلى معالجة الناشف(2011) المتقدمة على الدراسات السابقة في معالجتها لموضوعة البحث الحالي كونها تؤسس اؤضية نظرية لفهم الظاهرة، فقد استند نقاشة على دمج مفهوم الاغتراب لدى دوركهايم وماركس وتوظيفهما في فهم "الثوابت الوطنية الفلسطينية" باعتبارها رأس المال الرمزي على مستوى الفردي والجمعي، فالخوف من خلخلة العلاقة "الأرض/المجتمع/ الافراد" وتركيب الذاكرة الوطنية وتماسكها/ انفصالها حسب السياق التاريخي، وتعامل مع فكرة الوطن في السياق الفلسطيني باعتباره الدال في الرأسمال الفلسطيني رمزياً، ينتج طقس الاستشهادي الجماعي، ليحول إلى مشهد ثقافي/سياسي مميز يجمع بين الاغتراب والمقاومة المسلحة في سياق الاستعمار، فالكفاح المسلح هو الذي ينفي الجسد وحالة الاغتراب الجمعي الذي خلقته اتفاقية أوسلو والبنية الرأسمالية التي تحكم السياق الفلسطيني واعادة صياغته بما يتلائم مع السقف السياسي.
فالكفاح المسلح في هذا السياق؛ الكفيل الذي يقرب المسافة بين الشهيد والوطن وينفي حالة الاغتراب عن جسد الأرض، لأنه ذهب في سبيل فكرة تجاوزت البنية التي أنتجته وما زالت تنتجه، لاقى بجسده متطلبات اللحظة بما استطاع ذلك سبيلاً، وما استطاع اليه سبيلاً هو أعلى ما لديه، إذ رمى التاريخ بأعلى الأسلحة على الأطلاق؛ سلاح الجسد.
بنفس السياق، تعالج جيوسي(2010)( ) العمليات التفجيرية/الاستشهادية في اطار سلطة الاقصاء/والاستثناء في علاقة الاستعمار بالمستعمِر، والذي يعمل تشكيل أو اعادة تشكيل الذوات المستعمرة، بل دفعها للخضوع او حتى تدميرها إن استدعى الأمر، ليتحول الاستثناء لقانون يستلب حق الجماعة المستعمرة في تكوين نفسها كجماعة سياسية، فهندسة المستعَمر-وفي هذه الحالة الفلسطيني- اجتماعيا وسياسياً أتى ضمن رؤية "الكيان الصهيوني" بحقه في ممارسة سلطته على الفلسطيني، فإقصاء الفلسطيني عن الأرض تعد ضرورة للمستعمِر، على اعتبار أن الارض هي ميدان الصراع، وكيف تم فصل/ضم للأراضي ضمن اتفاقية اوسلو -وما بعدها- بما يضمن استمرارية السيطرة على السكان والأرض في حيز مكاني مضبوط باتفاقيات وبسياسات المستعمر، التي جعلت الشعب الفلسطيني بكامله مستهدفاً ومستباحاً، ليتحول الاحتلال إلى بنية عقلية في واقع/ممارسة الفلسطيني اليومي والمعاش، فسعي الفلسطيني للتحرر من حالة الارتهان هذه يدفعه للتعبير عن ذاته الفردية/الجماعية في العنف الثوري، الأمر الذي يجعل من الشهادة مطلباً وضرورة، ويتعدى الحركات الاسلامية والوطنية لتشكل بنية تحتية للمقاومة وشرط استمرارها، وتتداخل الحدود الفاصلة بين الموت والحياة، ويكون الطابع العرضي هذا طبيعة طارئة للموت، يتجازها الشهيد.
فالشهيد كما يقول دراج (2011: 9) "بداياته المعروفة العصية على التحديد، يأتي من بيوت عافت ذلها وإيمان بالحق شديد ومن معرفة توحد بين الحرف والكلمة... يذهب إلى حيز معمور بالاحتمالات... يذهب إلى حيز الحلم والوعي الصحيح... والبندقية التي افرغت طلقاتها... ورغم تأمل فارغ من المسرة يتابع الشهداء دربهم نحو الحلم"، إن نفي الاغتراب بين الجسد السياسي وممارساته وقهر الواقع وانفصام خطاب الرموز عن العودة والمُعاش، هي حالة الاغتراب بحد ذاتها عن الواقع الذي يفرضه الاستعمار، ومقاربة الحلم "التحرر والانعتاق الجسدي والمعنوي" هو لتقريب الخطاب من مسافة الوطن، ولهذا يكون الشهداء.
رؤية مختلفة في فهم الاستشهاد: السياسة والجسد الفلسطيني كوحدة للتحليل
لقد تفردت المقاومة الفلسطينية بظاهرة الاستشهاديين في المجتمع الفلسطيني، باعتباره مجتمع نشأ وتطور في ظروف استثنائية ميزته بالاستعمار والاحتلال، هذه التركة شوهت بناه المجتمعية والاقتصادية، وتحصيل حاصل أفرزت معها منظومة اجتماعية واقتصادية ونضالية، مرتبطة بوجود حالة من الصراع على الأرض والوجود الإنساني عليها، واستهدف الجسد الفلسطيني تحت عناوين عدة: "القتل، التعذيب، السجن، النفي، العزل، القمع، الامتهان للكرامة، التطويع لإرادة المحتل ولقوانينه...الخ"، واستخدمت معه جميع أساليب تكنولوجيا التعذيب( )، وباعتبار أن الجسد الفلسطيني رمز لوجود صاحب الحق في هذه الأرض، فكانت تقنيات التعذيب تتلاءم مع حالات التمرد والثورة والانتفاضة، في خضم هذا الاشتباك اليومي بدأ الفلسطيني باكتشاف جسده كـ "الثائر، المقاوم، الفدائي، المناضل، الجريح، الأسير، الصامد، المطارد، الاستشهادي" وفق معطيات تاريخية للصراع الفلسطيني الصهيوني، الذي حاول الاستعمار جاهداً سلب جسده ووعيه الوطني، من أجل تطويع الفاعلين سياسياً، خصوصاً في حالات التعذيب في سجون الاستعمار الصهيوني، ولهذا قيل "تستطيعون سلب حريتي ولكن لا تستطيعون سلب إرادتي"، كمنظومة ثقافية مقاومة في تحدي معنوي للمستعمِر، فالجسد والإرادة كانتا محور الصراع في علاقة المستعمَر بالمستعمِر، حيث أن -الإرادة والوعي- صاحبة الفعل المقاوم والرافض، فالجسد بدون إرادة، لا يعني شيئاً، وامتلاك الجسد بفعل إرادي واستقلاله هو رمز لامتلاك الإرادة، فالعمل الاستشهادي كان في هذا السياق، وفق معطيات سياسية "أتفاقية اوسلو عام 1993" التي استلبت الوجود الفلسطيني، وخلقت من واقعه اللامعنى وتم التفريط بكل المقدسات والثوابت التي يعيها الفلسطيني، ولهذا لا نستغرب أن سياق تنامي العمليات الاستشهادية ارتبط بنيوياً بتجسيدات سياساتها الأمنية والسياسية، في محاولة لاستعادة جسد الأرض، وإن كان على الصعيد الرمزي.
وتحول الصراع إلى احتواء/ امتلاك الجسد المقاوم المختلف عن الجسد السياسي الذي فرضته السلطة والاستعمار معاً بسياقان مختلفان، إلا أن النتيجة آلت إلى ما آلت عليه، وبالتالي القدرة على التحكم بالواقع السياسي أو عدمه، وبما أنها مخاطرة في سبيل حرية الجسد في سبيل الوطن فقد عوقب ذوي الاستشهاديين لردع تنامي هذه الظاهرة بأجسادهم، من حيث عدم تسليمها، أو بهدم منازلهم، فامتلاك الجسد هو امتلاك الوطن ببعد الرأسمال الرمزي، وهذا يحلينا إلى فكرة تراجع حالة الانتماء للوطن بعد اتفاقية اوسلو، فطبيعة الانماط الثقافية والاستهلاكية المرتبطة بالمرحلة السياسية الجديدة للاستعمار شكلت استراتيجيات جديدة لإعادة تطويع الجسد الفلسطيني بأدوات ومؤسسات فلسطينية مأنجزة أو متأمركة ومتسلطة، وعملت على انتاج الوعي الفلسطيني بما يحفظ حالة من الاغتراب لجسد الافراد عن جسد "الدولة" المفبرك، فيكون النكوص إلى المصالح الفردية والانتهازية سمة المرحلة الجديدة المشوهة في الوعي والممارسة. فانعدام بواقي الحوامل السياسية التي كانت مشروطة بالسياق الذي أنتج العلمليات الاستشهادية في انتفاضة الأقصى، وانعدام تلك البنية وبقاء الفكرة في الذاكرة الجمعية، أنتج "العمليات الفردية" الاستشهادية التي حدثت مؤخراً في القدس المحتلة بين اعوام 2014-2015.
عودة ذي بدء؛ إن الجسد الفلسطيني قد استهدف تاريخياً باعتباره المجال الرئيسي للنشاط السياسي، وتجسيدات الخطاب السياسي، الذي يقاوم فكرة الاستعمار/الاذلال في الوجود، فحالات الاعتقال والتعذيب وانتزاع الاعتراف من السجناء كانت تمر بطقوس تعذيب جديدة لم يألفها المجتمع الفلسطيني كاملاً في السابق، وعلى وجه التحديد؛ الانتفاضة الشعبية عام (1987)، حين اختبرها جميع شرائح وفئات المجتمع الفلسطيني، لكون الحالة النضالية كانت شعبية، وبالتالي استدعت الحاجة إلى انخراط كل الفئات العمرية ذكوراً وإناثاً في العمل الوطني، ولذلك استهدفت جميع الشرائح بسياسات تأديبية صهيونية عبر عنها بـ: "الاعتقال، والمطاردة، والهدم، والمحاصرة، ومنع التجوال، والاصابة أو القتل"، وفي الحالة الأولى "الاعتقال التعسفي للأطفال ما دون سن 18 على وجه الخصوص" ينطبق عليهم مفهوم "طقوس العبور إلى الرجولة"( )، وحتى نوضح ما نعنيه هنا، ولكي لا يفهم الحديث ببعد استشراقي في فهم المجتمع الفلسطيني- فقد اضفنا إليه المجتمع الصهيوني-، باعتبار أن الفرد "الجسد للمقهور والقاهر" يمر بمراحل وسمات رمزية مجتمعية متغايرة، حيث طقوس العبور للرجولة "كجسد ووعي" في المجتمع الفلسطيني في الانتفاضة الشعبية عام 1987 كانت تمر بثلاثة مراحل "الفراق، أي انقطاع العابر "السجين الفلسطيني" عن مكانته السابقة في المجتمع، متزامنة مع سياسة رعب، من اقتحام للمنزل، إثارة ضجة، اطلاق النيران ونشر حالة من الرعب، تهدف إلى عزل الفلسطيني "كجسد ووعي" في زنزانة التحقيق بعيداً عن مجتمعه، ومن ثم تبدأ المرحلة الثانية، وهي الهامشية أي شعور الفلسطيني "جسدياً ومعنوياً" بحالة من الانعزال التام عن محيطه الاجتماعي، ويواجه جلاديه بجسده ووعيه فقط، والوجود المتضمن لهويته الوطنية، وتتسم هذه المرحلة بحالة الخوف مما يأتي، حالة من الغموض، والتي لا يستطيع السيطرة على ما يحيطه، ويستخدم معه كل وسائل التحقيق لانتزاع الاعتراف منه، أبرزها بما هو متعارف لدى الاسرائيليين في التحقيق "سياسة العدو والصديق"، حيث الضابط الصهيوني "الجيد؟" والذي لا يستخدم القوة، يكون متنكراً بصورة الصديق للسجين، مقابل الصهيوني الآخر الذي يستخدم القوة "العنيفة"، وإذا لم تستميله "السجين" الوسائل النفسية التي تجعله وحيداً يواجه مصيره، تستخدم معه كل وسائل التعذيب الجسدي، من "الشَبح" المتواصل "وقوفاً أو على الكرسي أو ربط اليدين مع الأرجل إلى الخلف"، والعزل ومنعه من النوم، خلق حالة من الرعب كإصدار أصوات تتألم، الضرب على جميع نواحي الجسم، والفلقة، والاستهزاء والابتذال، في هذه المرحلة يكون "السجين" لا يملك قيمة إنسانية ومكانة اجتماعية، حيث يواجه مستعمر يبخس من وجوده كإنسان، وقد يهدد أو يحاول اسقاطه بالأبعاد الغرائزية لجسده من أجل التعاون مع المحتل، تكون الارادة "وهي مستمدة من ارادة المجتمع كجسد نضالي" المرجعية الوحيدة في الوجود المتضمن لذاكرته وقدرته على التحمل والمقاومة، وبعد الانتهاء من التحقيق يدمج مع السجناء الأخرين، وقد تعزز ثقته بذاته إذا لم يتم انتزاع اعتراف منه من قبل زملائه في المقاومة والأسر. المرحلة الأخيرة، هي مرحلة إعادة التجميع، حيث يعود إلى مجتمعه ليحظى بمكانة استطاع الفلسطينيين في نضالهم أن يحولوها إلى مكانة اجتماعية تستدعي الاحترام والتقدير، فتكون له امتيازات لا يمتلكها من لم يدخل السجن ولم يمر بتلك المرحلة، وينطبق التحليل السابق أيضاً على الجريح، والمطارد، وأسرة الشهيد ...الخ.
في مقابل هذه الصورة يقف الصهيوني، المستعمِر، الجندي، الذي يمر بطقوس عبور وحشية حيث حالة التجنيد لكل المستعمرين، حين يفارق "الحضارة؟" المعبئة سلفاً بمفاهيم التفوق والعنصرية للتجمع الاستعماري في فلسطين المحتلة، لتبيح كل الوسائل اللاإنسانية في استخدامه للعنف المبرر لمن هم أدنى منه "وهي صورة صهيونية غربية بالأساس"، فيقتل ويعذب ويكسر عظام الفلسطينيين، ويصلب ويشبح، ويسقط ما بداخله من حالة القمع في مجتمعه الرأسمالي له، ليفرغ شحنات الغضب والحقد على السجين والمناضل والمتظاهر الذي يريد استعادة وجوده المستلب وحقوقه، وبعد الانتهاء من مراسم وطقوس التعذيب "ليحولها إلى رحلة صيد وتسلية ومرح، فيعود متفاخراً مع رسم الابتسامات وعلامات النصر من قبل الجنود العائدين من المجزرة إلى الحضارة، ومن قتل العائلات إلى عائلاتهم ومن التنكيل بالمدنيين إلى الحياة المدنية. فهو ليس فرح الجبناء فحسب بل طقوس العبور لتشكيل الرجولة في مجتمع المستوطنين المستعمرين العابرين"( ).
إن السمة الأساسية التي تميز أعوام الانتفاضة الشعبية 1987 -1992 هو وجود جسد وإرادة (الفلسطيني أو الفلسطينية) تقترب في نظمها وفكرها وشعاراتها إلى الحقل السياسي المقاوم والفعل التحرري، وجسد المرأة الفلسطينية على وجه التحديد أدلج وفهم في هذا السياق، فنضال الفلسطينيات، وسجنهن، وتعذيبهن، وحتى في حالة احتكاك أجسادهم مع الجنود من أجل تخليص الشباب المناضلين من أيدي الجنود، فهن في هذا الإطار، وبالتالي رمزية الجسد في الحقل السياسي والثقافي أعلى من شأن الجسد الفلسطيني، فدخول الجسد حقل السياسة يخرج الجسد من المعنى المجرد للغريزة الذي استطاع الفلسطيني أن يعنونها في هذا السياق، والعكس صحيح.
تعد تجربة أوسلو التخريبية من حيث البعد القيمي والوطني والاخلاقي، واستنساخاتها الاقتصادية وبروتوكولاتها كجسد سياسي يحكم وينظم طموح الكيان الفلسطيني كجسم مشوه ونهائي "دولة حكم ذاتي" الأخطر في تاريخ الشعب الفلسطيني، حيث كانت تداعياتها على الأفراد بتحديد مسألة الهوية الفردية، فمفهوم الوطن وسيادته "وليس الدولة بالمعنى السياسي" تعبر عن انتماء واحساس الأفراد لهويتهم الذاتية، ولكن التآمر عليه من خلال القضاء على هذه الإرادة، بارتباط طغمة من الفلسطينيين، أخذوا على عاتقهم مسؤولية السيطرة على الجسد الفلسطيني وإرادته كعنوان للنضال والثورة والجهاد والمقاومة، وتم استنساخ اجساد أخرى استهلاكية، حدها وسقفها الإتجار بالجسد والذي بُخس من قيمته النضالية والانسانية على حساب الجسد "المناضل والثائر والمقاتل"، وأصبحت الاجساد تباع وتشترى، وهبط التعامل معه إلى مستوى غرائزي شهوي "همه اشباع الغريزة وركوب سيارة من نوع فاخر"، حيث ارتهان وترويض الجسد الفلسطيني والتحكم فيه وبمسلكياته وأذواقه واتجاهاته الاستهلاكية غير المنتجة لا بالبعد الاقتصادي ولا حتى السياسي، ومن هنا يمكننا تفسير ذلك من خلال عملية تكييف القوى السياسية للأحزاب السياسية الفلسطينية في الجسد السياسي "دولة الحكم الذاتي"، والذي جسده وتماهى فيه الجسد الاجتماعي للمواطن الفلسطيني، باعتبار أن الفلسطيني هدف وموضوع وصورة ورمزية للخطاب والنظام الاجتصاسي( ) للقوى السياسية الفاعلة في المشهد الفلسطيني.
ومع التحولات في الفضاءات الاجتماعية والسياسية التي يشغلها الخطاب بأبعاده الاجتصاسية، تكون لها آثاراً عميقة في تشكيل الأفراد، حيث يشمل هذا التحول على تغيير الهدف من تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، إلى سلطة ضيقة النطاق والسيادة، وفي موضوع ونطاق الحقل السياسي والاقتصادي "ما بعد أسلو"، حيث فسح للجسد الفلسطيني- المكون من لحم ودم - مرة أخرى: الطريق أمام الوعي بوصفه مركز الجسد المعقلن، في قراءاته لطبيعة التغيرات الدراماتيكية لإرهاصات تجربة أوسلو، والتي أحدثت منعطفاً وتصدعاً في الوعي الفلسطيني كأفراد أو جماعات، وبما أن الجسد دائماً في انتظار أن يتم تشكيله عبر الخطاب بصرف النظر عن الزمان والمكان، كموضوع لاستقبال المعنى والحدث، وباعتباره قيمة رمزية تدمج تحليل الجسد كظاهرة مادية وروحانية تتشكل وتُشكل من قبل المجتمع، تم اكتشاف الفلسطيني لجسده "الاستشهادي" وفق معطيات سياسية جديدة حرفت وحيدت أدوات كفاحية أخرى-ضرب الحجارة، العصيان المدني، النضال الجماهيري بأشكاله المختلفة كما كان عليه الحال في الانتفاضة الشعبية عام1987- بارتباطها مع مرحلة جديدة في اكتشاف العلاقة ما بين المستعمِر والمستعمَر، وشكل عام 1993 مرحلة جديدة في عملية تأريخ لظاهرة العمل الاستشهادي، تجددت في عام 1996، ثم تم تعميمها في انتفاضة الأقصى والاستقلال عام2000.
إن سياق ومضمون الاستنساخ للجسد السياسي "سلطة الحكم الذاتي" كان معداً سلفاً لتجربة روابط القرى في ثمانينيات القرن المنصرم، هذه التجربة لا تختلف عن نظيرتها وهي استنساخ "النعجة دوللي"، حيث اعتقد البعض أن استنساخ الأخيرة هو عملية خلاقة، فكان التصفيق والتفاخر بهذا الانجاز، لكن سرعان ما ماتت النعجة باعتبار أن جيناتها المستنسخة كان تحمل صفات جينية لأم هرمة، وهذا حال كل العمليات الاستنساخية السياسية، والبروتوكولات الاقتصادية الموقعة ما بين سلطة الحكم الذاتي والكيان الصهيوني، حيث سرعان ما تموت، باعتبارها لا ترتقي إلى المستوى الأدنى لجسد سياسي يستطيع تمثيل حقوق وأمال المجتمع الفلسطيني، ولهذا كانت الانتفاضات-الهبات الجماهيرية- من(1996 و1998 و2000)، كتعبير عن رفض التشوهات والارهاصات السياسية والاقتصادية والتي تتنكر للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
إن ما يميز انتفاضة عام 2000 باندفاعها نحو العنف الثوري، لارتباط المرحلة التاريخية للعمل السياسي والعسكري بذلك، وتزامنه مع سياسات عنصرية صهيونية عدة تميزت بالعنف والقسوة والوحشية أبرزها منع التجوال، وهدم البيوت، وتشريد العائلات، والقتل العفوي والهمجي والعقاب الجماعي للشعب الفلسطيني، وسياسة عزل وتدمير المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وقتل تطورها الطبيعي وتوسعها من خلال محاصرتها من قبل المستعمرات، نقاط التفتيش وطوابير الانتظار لساعات عدة من قبل المواطنين، الاعتقالات، التصفية والاغتيالات. معبرة بذلك عن تقنيات تأديبية قاسية وعنيفة هدفها تطويع الجسد/الوعي الفردي/الجمعي الفلسطيني الذي أحيل من مرحلة الرضوخ في مرحلة الكمون السياسي (1993-2000)، إلى مرحلة التحدي ورفض سياسات الاستعمار، حيث تنطبق مقولة فانون على واقع الصراع الفلسطيني الصهيوني: "ظل الشعب الذي يقولون انه لا يفهم غير لغة القسوة، يحزم أمره الآن، على أن يعبر عن نفسه بلغة القسوة " فكانت العمليات الاستشهادية الأكثر انتشاراً وايلاماً للاستعمار في انتفاضة الأقصى، باعتبار أن مرحلة الرضوخ والانصياع للمحتل قد انتهت، يعنونها الاستشهادي بكلماته:
"وسيعلم المجرم شارون وحكومة جنرالاته وجيشه القذر أن الدم بالدم والنار بالنار وأن المجزرة في مخيم جنين لن تمر دون عقاب وسيدفع الصهاينة المجرمون الثمن..." ويضيف أن " الدم هو الطريق نحو النصر، وكل الحلول الاستسلامية ستسقط ودم الاستشهاديين سيبقى شاهداً ومناراً" ( )
أن من الملاحظ في انتفاضة الاقصى والاستقلال حدوث تغيير جوهري على صعيد الخطاب القومي والوطني الفلسطيني، من حيث تجلي الخطاب الديني ونكوص الخطاب القومي – هذا لا يعني أن الخطاب الديني كان مغيب تماماً في السابق- باعتبار أن حالة الصراع من أجل السيطرة على الحيز العام "السياسي والاجتماعي والثقافي والديني أيضاً" ما بين حركة فتح وحركة حماس قد بدأ في المراحل الأخيرة لانتفاضة عام 1987 واستمر بعد تأسيس السلطة الفلسطينية، فكان هدف حركة فتح – والتي كان همها الأول والأخير- متمثل بالاستحواذ على امتيازات سلطة الحكم الذاتي، فأدى ذلك إلى تنازلها واندراج خطابها الأقرب إلى الخطاب الديني والقبلي العشائري، في مقابل هذه الصورة تنامى الاسلام السياسي ممثلاً بحركة حماس التي طرحت نفسها كممثلة للدين ومرجعيته، وسيطرت على المناخات أجواء دينية، بتزامن مع انحسار الحلول السياسية شيئاً فشيئاً، وانحسار حجم مشاركة الجماهير في اعتراضها على شاكلة الاحتجاجات والمظاهرات، لعدم وجود احتكاك مباشر إلا على نقاط التفتيش والحواجز العسكرية، ومن جانب آخر وجود حالة من الفراغ الثقافي/ القيادي الوطني، اعطى الفرصة للاسلام السياسي باستحضار خطاب الحق الديني الذي عمل على تكوين ذات اخلاقية( ) بمرجعية دينية.
وبما أن الروح مركز الجسد بالبعد الديني، وبما ان الجسد الاكثر جاهزية للنظام الاجتماعي والسياسي، فالجسد والروح كناية عن المجتمع ككل، حيث أنه في وقت الأزمات والانتفاضات والحروب تتعرض حدود وهوية المجتمع للخطر من المرجح أن يكون انشغال المجتمع بقواه السياسية والاجتماعية بالحفاظ على طهرانية الجسد والروح، ومن هنا كان تمجيد أجساد الشهداء وتحريم العبث أو فتح أو استخدام قبور الشهداء باعتبار ذلك بالمفهوم الديني والشعبي "أن جسد الشهداء لا يتحلل، وإنما يبقي كما هو"، وتم معاقبة أهالي الاستشهاديين بأجساد ابناءهم، حيث بين المسح إلى وجود ما نسبته (39.2%) من أهالي الشهداء، لم يتم تسليم جثة الاستشهادي/ة لذويهم. فثقافة الاستشهاد شكلت الحاضنة الدينية، والعكس صحيح، بتزامن مع حالة المد الثوري متشابكة مع ظروف نفسية واقتصادية وسياسية قاهرة للشعب الفلسطيني، أدت إلى انتشار ثقافة الاستشهاد والموت في المجتمع الفلسطيني بعد انتفاضة الأقصى عام 2000، وتطورت وسائل المقاومة بما يتلاءم مع حجم ومتطلبات العمل المقاوم والثوري، وشكل الجسد الفلسطيني أداة قتالية موجعة جنباً إلى جنب مع البندقية، كشرط تاريخي للتخلص من الاستعمار، ولم تعد العمليات الاستشهادية حكراً على حركة المقاومة الاسلامية "حماس" فقط في انتفاضة الاقصى والاستقلال، بل تعدتها إلى الأحزاب السياسية الأخرى، ، فعدد الاستشهاديين لحركة حماس كان(157) بنسبة (34.8%)، وعدد الاستشهاديين لحركة "فتح" كان(137) بنسبة (30.4%)، و (108) استشهادي لحركة الجهاد الاسلامي بنسبة (23.9%)، و17 استشهادي للجبهة الشعبية بنسبة (3.8%)، وعدد الاستشهاديين للجبهة الديمقراطية كان 12 بنسبة (2.7%)، و8 عمليات لفصائل آخرى (1.8%). وعددهم 441 استشهادي من حيث الجنس بما نسبته (97.8%)، و 10 استشهاديات بما نسبته(2.2%).
تقول الاستشهادية المحسوبة على كتائب شهداء الاقصى، التابعة لحركة فتح:
"ولأن الجسد والروح كل ما نملك، فإني أهبه في سبيل الله لنكون قنابل تحرق الصهاينة، وتدمر أسطورة شعب الله المختار، ولأن المرأة المسلمة الفلسطينية كانت وما زالت تحتفظ في مكان الصدارة في مسيرة الجهاد ضد الظلم، فإني أدعو جميع أخواتي للمضي على هذا الدرب، ولأن هذا الدرب درب جميع الأحرار والشرفاء، فإني أدعو كل من يحتفظ بشيء من ماء وجه العزة والشرف، للمضي في هذا الطريق، لكي يعلم كل جبابرة الصهاينة أنهم لا يساوون شيئاً أمام عظمة وعزة إصرارنا وجهادنا، وليعلم الجبان شارون بأن كل امرأة فلسطينية ستنجب جيشاً من الاستشهاديين"( ).
إن الخطاب السياسي للحركات والاحزاب السياسية تماهت مع الخطاب الديني، حتى لو اختلفت ايدلوجياتها وتوجهاتها الفكرية، وعلى الرغم من حالة تحفظ بعض الأحزاب السياسية-على وجه التحديد حركة حماس- على دخول المرأة إلى حقل العمل الاستشهادي، إلا أن حركة حماس قامت بذلك مع فصائل أخرى، وذلك بارتباطات دينية واخلاقية متعلقة بسلامة وحفظ المرأة وجسدها، وعدم ابتذالها على الحواجز الصهيونية من قبل الجنود، وهذا ما لا تسمح به الثقافة المتشكلة.
إن حالات الابتذال لكرامة الفلسطيني المتمثل بجسده ووعيه كانت سمة أساسية في التعامل الشبه يومي من قبل الجنود الصهاينة على نقاط التفتيش، خصوصاً ما بين أعوام (2001-2004) حيث عُومل الفلسطيني متمثلاً بجسده دون المستوى الانساني من قبل الجنود الصهاينة، والتحرش بالصبايا الفلسطينيات، والطلب من الشبان تعرية اجسادهم على الملأ من أجل الفحص والرقابة والتفتيش، ويفرض عليه إبادة جماعية عبر الاغلاقات والحصار والتجويع، والمعاناة والاضطهاد، هذه الممارسات وأكثر؛ تجدها يومياً في واقع الفلسطيني المضطهد، حيث تسحق فيه شخصية الفلسطيني ويمتص كرامته، ويهدر دمه وماله واملاكه ووقته( )، ويحاول الاستعمار أن يزرع مكانها شعوراً بالنقص والدونية لذاته "الجسد والارادة" أمام ظالمه وقاهره، فتجرح نرجسيته، نتيجة اضطهاده قومياً والتعامل معه بالعنف والقوة، والتنكيل الجسدي والتي تترك آثاراً نفسية عن مفهومه لذاته "وارتباطاتها عن مفهومه لحقوق شعبه " التي سلبت منه، ومع اشتباك الصراع واحتدامه يدرك الفلسطيني ثلاثية المقدس وتماهي/اكتشاف جسده في جسد المجتمع والأرض.
هذه الأرضية تصعد وتفاقم العوامل التأزمية للواقع الفلسطيني، يكون التغلب على الخوف من الموت أولى وأهم متطلبات الحياة بكرامة، فتتمثل في خلق أناشيد تخاطب وعي ومشاعر جسد الفلسطيني مثلاً "إن عشت فعش حراً أو مت كالأشجار وقوفاً"، أو من حيث الشعارات "نموت ولن نركع" و "الامة التي لا تتقن فن الشهادة لا تستحق الحياة" و"لن نركع إلا لله"، فيكون الاستشهاد دافع شعوري وواعي للفرد نتيجة اداركه للقمع الذي يتعرض له وشعبه، حيث دلت نتائج المسح إلى تعرض (53%) من الاستشهاديين للعنف والقمع والأذى من قبل الاحتلال بصورة مباشرة، متمثل بـ استشهاد عزيز، إهانة وشتيمة، معاملة سيئة على الحواجز والبيئة المحيطة، الضرب، واصابة، مداهمة المنازل، واعتقال، وفقدان مصدر الرزق ...الخ، إلى جانب العنف غير المباسر ممثل بالأخبار وصور الشهداء والتدمير الشامل، فالقمع القومي والوجودي من قبل للاستعمار طال تفاصيل حياة الفلسطيني في واقعه اليومي، وبهذا السياق يتحول الموت "الاستشهاد" إلى بوابة للحياة لأفراد استطاعوا التغلب على الخوف من الموت وتضحيتهم بأجسادهم في سبيل المجموع من أجل الحرية المنشودة، فالفلسطينيون يعذبوا وينتهك حقهم في الوجود، ويموتون معنوياً ووجودياً في كل يوم ألف مرة، فيكون الموت الفزيقي "الجسد" أمراً مستحباً وحياة، وقليلون من هم قادرون على إدراك وفعل ذلك، من خلال الفعل الاستشهادي، يقول الاستشهادي :
"ما أجمل أن أكون الرد، لتكون عظامي شظايا تفجر الاعداء. ليس حباً في القتل ولكن لنحيا كما يحيا الناس، فنحن لا نغني أغنية الموت، وإنما نتلو أناشيد الحياة، ونموت لتحيا الأجيال من بعدنا"( ).
بهذه الكلمات، يُعبر الاستشهادي عما يجيش بنفسه من الأفكار والأهداف، ليعبر بدمه وعظامه وجسده كأداة مقاومة واعية الفعل والارادة، من أجل شعبه ووطنه، من أجل فتح خيارات للحياة والأمل للأجيال الفلسطينية التي تعيش في ظروف الموت، فاستشهاده هو انتصار مادي ومعنوي وديني على الموت، ليس له فقط، وإنما لشعبه الذي يعيش في ظروف استثنائية سلبت منه امكانية العيش بكرامة، فيتنصر على الموت بالاستشهاد، ليقتل حالة اليأس لدى شعبه نتيجة رؤيتهم للدماء التي تسيل من أجساد أبناء شعبه "أطفال، ونساء ورجال ومسنين ومقاومين رفضوا الرضوخ"، ليخلق بذلك خطاباً يحفز ويرفع معنويات شعبه بتضحيته بذاته، يقول أحد الاستشهاديين في مقدمة وصيته:
"ولا تهنوا في ابتغاء القوم أن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون"( ). وتضيف الاستشهادية "لسنا وحدنا من يجب أن ندفع الثمن ونحصد ثمن جرائمهم، وحتى لا تبقى أمهاتنا تدفع ثمن الإجرام الصهيوني، وحتى لا تبقى أمهاتنا تبكي وتصرخ على أطفالها وأبنائها بل يجب أن نجعل أمهاتهم يبكون فقد قررت بعد الاتكال على الله أن أجعل الموت الذي يحيطوننا به يحيط بهم وأن أجعل أمهاتهم تبكي دمعاً وندما" ( ).
هذه أرضية توازن القوى والفعل والقدرة والإرادة التي يحاول الاستشهاديين/ات أن يخلقونها وإيصالها للمجتمع للمجتمع الفلسطيني أو للاستعمار على حد سواء، وحالة اشتباكها بالخطاب المقاوم، ويدعموها بأجسادهم وبدمائهم بأرواحهم، من أجل شعبهم وكأنهم صمام أمام لهذا الشعب وحقوقه، حيث بذلوا أجسادهم كأداة للحماية والدفاع عن شعبهم وحقوقهم، وتحسين ورفع المعنويات للإرادة الفلسطينية، لخلق خطاب الانداد ما بين الفلسطيني والمحتل، ليقدموا نموذج مثالي للمقاومة لتأكيد فاعلية الذات والجماعية في مواجهة الموت كما حدث في معركة مخيم جنين البطولية( ).
إن درجة الوعي وأدراك حالة القمع الوجودي/القومي متناسبة طردياً، حيث أن ذلك يتمثل بطبيعة رسائل الاستشهاديين، حيث أن (24.4%) منهم يحملون شهادات الدبلوم فأكثر، فتختلف مضامين رسائلهم عن غيرهم من الاستشهاديين، بإدراك واحساس أدق تفاصيل القمع والتنكيل الذي يختبره الشعب الفلسطيني، حيث عبرت الكلمات عن مستوى يخاطب الوعي أكثر من العاطفة، تهدف إلى خلق واستنهاض كل الاجساد الفلسطينية في السياق التحرري النضالي، وأن الأغلبية من الاستشهاديين هم من الفئات الشابة، حيث أن (42.1%) منهم يقعون في الفئة العمرية ما بين 25 إلى 30 سنة، وجميعهم كانوا بمتوسط عمري قدره (26.4) سنة، وهو عمر الطاقة، وقدرة العمل والتأثر والتأثير، وليسوا مرتبطين بمسؤوليات اجتماعية أسرية، وإنما التزموا بالقيام بمسؤولية وطنية وسياسية دفاعاً عن شعبهم، وأستطاعوا ان يدركوا دورهم في الكون الذي يعيشون به.
وبما أن الجسد كموضوع مقاوم مشتبك أيضاً بالبيئة والجغرافيا المحيطة، فقد وجدنا أن تقنيات أدوات المقاومة متغايرة ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث أن الأخيرة عاشت وما زالت تعيش حالة من العزلة الشديدة، ودرجات الرقابة والسيطرة ودرجة الاحتكاك بالمحتل فقط تكون في حالات الاقتحام، وليس كواقع الضفة الغربية، القريب من العمق الصهيوني، والمستعمرات، فتوصلت نتائج المسح إلى أن نسبة العمليات الاستشهادية "حزام ناسف، تفجير سيارة، حقيبة مفخخة" في قطاع غزة هي )20.2%( من حجم العمليات الاستشهادية في قطاع غزة، في حين أن بقية العمليات الاستشهادية كانت "اشتباك مسلح، اقتحام مستعمرة، اقتحام حاجز"، وكانت على التوالي (72.6%) من حجم العمليات الاستشهادية في الضفة الغربية، في مقابل )27.4%( "اشتباك مسلح، اقتحام مستعمرة، اقتحام حاجز"، ولهذا استحدثت الجغرافية الغزية بعداً آخر في المقاومة؛ الصواريخ المصنعة والمطورة محلياً، التي تستطيع الوصول إلى العمق الصهيوني، فشكلت ميزان ردع يهدد الاستقرار السياسي الذي يعيشه الكيان الصهيوني، كاستعاضة عن عدم قدرة اختراق أجساد الفلسطينيين الاستشهاديين الحواجز الصهيونية حول قطاع غزة.
وشكل ما نسبته )31.3%( من العمليات الاستشهادية كانت داخل العمق الصهيوني و(14.2%) في المستعمرات الواقعة في الضفة الغربية، وأن حجم العمليات الاستشهادية في القطاع كانت بما نسبته (53.9%) .
والسمة الأخرى للفعل الاستشهادي، أن توزيع الاستشهاديين حسب مكان السكن كانت كما يلي: (38.4%) من حجم الاستشهاديين من سكان المدن، و(35.5%) من سكان المخيمات، و(26.2%) من سكان القرى، وهذا مؤشر لنتيجة يفترض أن تكون متناقضة للمتعارف عليه، باعتبار أن العقل/الوعي/التضامن الجمعي في القرى والمخيم أكثر أكثر تماسكاً وتماهياً مع الحس العام لحالة الظلم والاضطهاد، وهو ما ينسجم مع البنية الريفية وقيمها وثقافتها المستمدة من جسد الأرض، وقد تعود هذه النتيجة إلى الانسحاب الاسرائيلي من المناطق المسماة "A" حسب اتفاقية أوسلو، مما قدم المدن كنقاط ساخنة في الاحتكاك المباشر مع الاستعمار، واختبار السياسات القمعية أكثر، وقد يكون أن المدن في انتفاضة الأقصى شكلت المركز/التجمع الرئيسي للعناصر القيادية فيها، وكثرة التسهيلات اللوجستية، وبالرغم من أن الثورة والتمرد ارتبط تاريخياً بالمخيمات رمز الوطن والتضحية، إلا تلك النسب تحيل إلى أبعد من ذلك، لأن أكثر من 70% من المجتمع الفلسطيني هو لاجئ.
وهذا ما تشير إليه نتائج المسح حول أصول الاستشهاديين على أرضية اللجوء عن جسد الأرض، فقد وجدت نتائج المسح أن (64.3%) من الاستشهاديين من أصل لاجئ، في مقابل (35.7%) غير لاجئ. وهنا يتم التأكيد على تداخل التجربة السياسية في تاريخ الشعب له علاقة بالتعبير عن الجسد النضالي في واقعه الإيكولوجي، حيث أن ما يميز انتفاضة الاقصى والاستقلال هو استهداف المدن الفلسطينية في عمليات الاقتحام أيضاً، خصوصاً تلك المناطق الواقعة أو المتاخمة للمستعمرات، أو تلك التي شكلت مراكز العمل الوطني والكفاحي، كما هو الحال لمدينة نابلس، والتي تعد مدينة الاستشهاديين، من حيث أنها من أكثر المدن التي قامت بذلك النوع من عمليات المقاومة، وحالة تدمير وسحق مخيم جنين باعتباره الشاهد الحي على جرائم التطهير العرقي على مدار أكثر من 67 سنة، حيث بؤس اللجوء وحالة الاكتظاظ، الذي يحتضن خطاب التحرر والثورة، وما زالت الرمزية القدسية للثلاثية تحتفظ بذاتها في المخيم "المفتاح والعودة والبندقية" والمكان والوصمة شعور متسق بوعي اللاجئ الفلسطيني، الذي خلق منه السياق الاستعماري شعوراً بالاغتراب حتى لو ما زال داخل جسد الوطن في بقعة المخيم، فحجم المعاناة والتجربة تشكل ذاكرة ورواية اللاجئ في تفاصيل حياته وواقعه اليومي.
أن حالة الاستلاب الوجودي والاغتراب بأوجهه الاجتصاسية التي يعيشها الفلسطيني منذ عام التطهير العرقي 1948، التي أدت بالمحصلة إلى فقدان الأرض لأهميتها في تشكيل حاضنة للدولة "للجسد السياسي"، فنشأ الفلسطيني في حالات الاغتراب عن واقعه وما يحيطه من رموز احتلالية كولونيالية، أو حتى اغترابه عن قياداته المهزومة، تمثل في وعي وجسد وواقع اللاجئ الفلسطيني، والذي هو عنوان أساسي من العناوين الرئيسية في الصراع الفلسطيني الصهيوني.
في نفس السياق والتعبير عنه لمعنى الانتماء والغربة والقهر، تجد أن الشهيد فهم دوره وأعد نفسه لمواجهة الموت وحماية المخيم -باعتباره التجسيد والاستعاضة عن الوطن المفقود- الذي ينتمي لتفاصيل زقاقه التي نسج منها روايته ورموزه وقيميه وذاكرته، التي أقصت الواقع الذي لم تعد تنتمي إليه وحلت محله( )، بعد انهيار المسافة التي كانت تربط بين الواقع والرموز الوطنية في مرحلة الصعود لحركات التحرر الوطني، فتحولت عملية اللجوء واللاجئ والمكان الذي يحتضنهم" المخيم" أو خارجه كفكرة؛ علامة شاردة من النسق السياسي المهيمن، ليتناقض معه في البنية والسرد ليبني نصه المفارق، وحتى نقارب الواقع بالنص الحالي، نورد وصية للشهيد جهاد الجعفري البالغ من العمر 19 سنة المحسوب على حركة فتح، والذي استشهد في مخيم الدهيشة الساعة الثانية صباحاً بتاريخ 24/2/2015 أثناء تصديه بالحجارة والزجاجات الحارقة لمجموعة من الجنود الصهاينة التي حاولت دخول المخيم ليلاً، والتي تجسد ما سبق ذكره، يقول:
"في الضفة نفس القصة وأسرانا يعانون من كل انواع الاضطهاد بدكش تبلش مقاومة ..، يلي بتظل تفاوض على دم أبناء شعبه ومشغول في إعلان دولة وهمية عمرو ما بصير ... أما بالنسبة لأهلي بعرف إني عذبتكوا وغلبتكو كثير بتمنى أنكم تسامحوني وترضوا عني، بعرف أنه بعد ما استشهد إن شاء الله الجيش راح يعذبكم ويمكن راح يهد دارنا بس شو بدي أسوي، بقدرش أشوف أبناء شعبي بنقتلوا وأظل ساكت، بقدرش أشوف الي بسووه الجيش في المرابطات في الأقصى واظل ساكت، بقدرش أشوف المستوطنين كل يوم بيقتحموا المسجد الاقصى واظل ساكت، عشان هيك لازم اسوي اشي صغير عشان الأقصى.... انا ما بقدر بوصفلكم شو كنت شايف وانا بحمي مخيمي وداري من الاحتلال.... يا شباب فلسطين يا شباب الدهيشة ديرو بالكم على المخيم( )"

بالرغم من صغر سنه، إلا أننا نجد في وصية "الشهيد الحي"( ) خمسة رسائل، بل هي ترتقي لمواقف وجودية في السياق الذي تمر به القضية الفلسطينية، تعكس مشاعر اللاجئ في حياته ودوره المفترض"شهيد مع وقت التنفيذ":
أولاً: بالرغم من انتمائه لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" إلا أنه يقف موقف المعارض من الاتفاقيات السياسية ومسار المفاوضات التي لم تعود على الفلسطيني إلا بالمذلة "وامتهان الرجولة" لعدم المقاومة.
ثانياً: موقف/رسالة لأهله، بالرغم من أنه يدرك عواقب انخراطه في صفوف النضال، وما يمكن أن يؤثر ذلك على أهله من جراء رد الاحتلال على فعله النضالي من هدم أو تنكيل، وهي سياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها العقيدة الاستعمارية، إلا أن ذلك لم يردعه، فانخرط في الثورة.
ثالثاً:عدم قدرة "الشهيد اللاجئ" الوقوف موقف المتفرج أمام الانتهاكات التي تشهدها مدينة القدس والمخططات التي يرنو اليها الاستعمار، ومعاناة الأسرى في سجون الاستعمار والعزل والقمع والتنكيل، واقتحام المخيم، التي تستدعي تحركات وفعل لرفع الظلم.
رابعاً: الموقف من الشهادة كحالة منعتقة عن الظلم الوجودي للفلسطيني الذي يرضخ تحت الاستعمار، وقبوله بالشهادة بل وطلبها، ويشاع أن وصيته هذه كتبت لتفكيره بالقيام بشيء أكبر من ضرب الحجارة والمولوتوف.
خامساً: الموقف من أهمية الدفاع عن المخيم باعتباره الشاهد على كرامة القضية وبداية المسافة مع الوطن الذي يفتقده، ومؤشرات معنوية وفعلية لجسد الأرض.
فانتاج خطاب كهذا لا ينفصل عن بنية المخيم، فالمخيم عتبة الصمت المفقودة في ضوء عشوائيات خارجة عن النسق المتواطئ لأنه عنوان القضية، تشعر أن جسد فلسطين الوطن ما زال حاضر، وأن للفصيل السياسي رسالة رغم أنها لا تخطو لخارجه، في المخيم طعم الكرامة ما زالت تنبض في عيون طفل ينتعل حذاءه المثقوب في جوف اللامعنى وفوضى الحواس الملتبسة وتكاملها على جداريات رسمت معاناة شعب، تبكيك الجدران وتعذبك أسطح المنازل، وتؤنسك شبابيك جيرانك على قصة سرمدية، ينتفض جوفك من الحنق ويحتضنك التمرد بلا مواربة، في المخيم تتحول الكلمات والاوجاع إلى تحدي، تتحول الكرامة إلى إله المارقين والقاعدين والساجدين والمارين بين الزقاق ليكفروا بآلهة واصنام وثنية السياسة وجسد السياسة الملتبس.
في المخيم يتقدم بنى الزينكو ليبرالية المدن وقيم الارض في القرية رغم فوضويته المبتكرة، لتلتحم مع قدرية الواقع واشتباكات المستحيل، لتصحى باكراً لتنتفض على لقمة العزة والكرامة كما فعلها جهاد الجعفري وآخرون، في المخيم سيميولوجا الدلالات القاتلة الغائبة الحاضرة والمؤولة، كأنها ملتينة الأشياء تقولبها تمرسها تصوغها في فضاءات المعاني الجامدة، في المخيم طوعوها لتكون حياة، ولكنهم لم يطيعوا أحداً رغم انتماءاتهم الضيقة كما هي زقاقهم وشوارعهم القديمة والمتهالكة.
المخيم الذي يحتضن الغربة والاغتراب عن غوغاء السياسة الدهماء والذي يساهم بانتاجها بنفس الوقت بفعل تمرده بواقع الحال وانصياع الامل في دفات مقاتل يمتشق الحجارة لانها لعبة الجحيم واشارة الوجود الخانق في حلق المستحيل.
صنف المخيم طبقيا بأنه الهامش المزعج على زاوية سياسة وضعته في حال الدفاع عن النفس فتمرد حينما طلب منه، وثار لعل قيادة ترتقي لوصيته، وقاوم بعدم دفع فاتورة الماء ولا الكهرباء أبان الاستعمار في انتفاضة عام 1987، لأن دمه ضريبة الالتزام، ولأنه يتحتض الثورة في أزقة المخيم وحيطانه التي تهالكت ومازال صامد يشكل دعامة بشرية لرمزية المخيم وأسطرة فعل اللجوء، وتحمل شقاء العيش في فشل السياسات التي همشته، وعززت قيادته البائسة حالة اغترابه وحافظت عليه حتى لا يدرك اغترابه عن القيادة( ) وعن نفسه ودوره، تستدعيه القيادة وقت انهيارها وتستل شرعيتها من المخيم، وتستوعبه تارة أخرى لأنه خطورة التساؤلات العميقة عن استمراية وضعه الغائب الحاضر، وأسئلة القضية الأولى لبداية المعاناة.
في المخيم تولد وبيدك حجر تنتظر بندقية الخلاص تستدعيك مأساة التمرد على العيش، ولست بحاجة لفصيل سياسي يؤطرك لأن المخيم أضحى حزباً بنفسه، وشوارعه ولباسه ومناطق الحروف لديه ايدلوجيته، تعبئته الوطنية المغتربة تنشأ وتؤطر في الشارع وحيطان الاسمنت المتهاوية وصور الشهداء والقادة والاستشهاديات أبطال الفعل المسلح، وعلى طول شارعه الرئيس الذي يسهر على دفتيه كجندي يحمي الثغور، لأن المعركة حسب معادلاته التي يمارسها لم تنتهي ولم يعلن عن عودته، أسئلة الوجود في أسماء القرى والشهداء والأسرى والجرحى، في أسماء الاطفال وفعل الكبار، المخيم حاضر رغم وصمه بالصفيح لأن الزينكو الذي يقرع منه طبول الحرب ودوي حناجر الله اكبر كفعل دلالي عن اشتباك مع دورية صهيونية.
إن التغلب على حالة الاستلاب والتوتر الوجودي للاستعمار، تجعل من الشهيد والاستشهادي أيقونة لا تحتفظ بها جدران المخيم للمخيم فقط، وإنما في الوعي المغترب في ذاكرة الصراع. حيث أن وجع المخيم ينتج مقاتلاً وشهيداً، ذلك الشهيد يعرف أنه مخذول ورغم ذلك يصعد إلى حتفه حسب وصف فيصل دراج. فحين ذهب من قال: أن التراجيديا في السياق الاغريقي كانت تقاتل من أجل أسطورة، فإن الفلسطيني كان يقاتل بجسده من أجل الضرورة.
خلاصة عابرة
تعد هذه المداخلة تأسيس فكري وتنظيري في موضوعة العمليات الاستشهادية، وإزاحة إلى الحقل المعرفي المشتغل في الجسد، كحيز متشتبك ومرتبط بنيوياً مع التاريخ والخطاب والسياق الفلسطيني على مدار تاريخ النضال الفلسطيني، وتم توضيح تطور وارتقاء الاداء المقاوم بما ينسجم مع المعطى السياسي والثقافي، باعتباره حالة ثورية ووطنية لا بد من فحصها وتحليلها وتعميمها.
مَثّل الجسد الفلسطيني ايدلوجيا متدحرجة في مراحل الصراع الفلسطيني، صنع من الاجساد أدوات مقاومة وقتالية يُستدعى نوعها حسب السياق وما يمليه الشرط التاريخي، باعتبارها ثلاثية المقدس المشتبكة "جسد الأرض/ المجتمعي/الفردي" فحين يتآكل أو يتراجع أحدهما يتقدم الآخر ليشكل حاضنة/رافعة، ومدافعاً عن فكرة الوجود الذي تجسده "ثلاثية المقدس".



#بلال_عوض_سلامة (هاشتاغ)       Bilal_Awad_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اللاجئين الفلسطينيين ومسألة التمثيل في الخطاب السياسي
- حزب التحرير الاسلامي- فلسطين: من مرحلة الوعي السياسي إلى الم ...
- سوسيولوجيا الكتابة بالحمام: تحليل مضمون كتابة ورسومات المراه ...
- فلسطين: كلمات موجعة وكتابتها مؤلمة... بلد الالتباسات
- الفاعل الاجتماعي( 1) : رؤية نقدية على ضوء تحديات المشهد الفل ...
- فشة خلق تعبوية بفلسطين الهوية والمنهاج
- شذرات سريعة في المخيم والقدس والقهر
- وسائط الاتصال/الاعلام وثقافة المقاومة الفلسطينية: من حرب الع ...
- فلسطين: يوجد مقاومة ولكن ليس هنالك انتفاضة ؟ من يقرر ذلك؟
- سلطة القمع والخضوع والتمرد ما بين سلطة أوسلو وقهر الاستعمار؛ ...
- أن تعمل في بيئة غير قابلة للعمل: نحو تأصيل مفهوم وممارسة الع ...
- استطلاع رأي بمناسبة الاحتفالية ب 40 سنة لتأسيس جامعة بيت لحم
- الحركة الطلابية الفلسطينية ما بين الواقع والامكان *
- الثقافة المدنية: حصار الثقافة وغياب المدينة في فلسطين
- الحركة الطلابية في بيت لحم
- تحليل نقدي للمجتمع الفلسطيني: البنية الثقافية والمجتمع المدن ...
- مكونات وعناصر المجتمع المدني في الخليل (فلسطين)
- الخطاب السياسي لدى الطفل الفلسطيني: أطفال مخيم الدهيشة بين ر ...
- ثقافة المدن، مرآتها سكانها: دراسة مقارنة ما بين الخليل وبيت ...
- المرأة والمشاركة السياسية


المزيد.....




- محتجون في كينيا يدعون لاتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ
- التنظيمات الليبراليةَّ على ضوء موقفها من تعديل مدونة الأسرة ...
- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - بلال عوض سلامة - العمليات الاستشهادية الفلسطينية: الجسد كأداة مقاومة