أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - بلال عوض سلامة - ثقافة المدن، مرآتها سكانها: دراسة مقارنة ما بين الخليل وبيت لحم*















المزيد.....



ثقافة المدن، مرآتها سكانها: دراسة مقارنة ما بين الخليل وبيت لحم*


بلال عوض سلامة
محاضر وباحث اجتماعي

(Bilal Awad Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 4007 - 2013 / 2 / 18 - 20:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ثقافة المدن، مرآتها سكانها: دراسة مقارنة ما بين الخليل وبيت لحم*



*مجلة جامعة بيت لحم، ع 30 (2011)،ص.ص 10-48


الماعة سريعة
تعد دراسة ثقافة المدن من الدراسات الحديثة في مجال تفهم التنوعات الثقافية داخل المجتمع نفسه، وهو ما عكسته تفاعلات البشر اليومية في صياغتهم لأنماط ثقافية أصبحت جزءاً أساسياً من حياة سكانها. وفي استطاعة المهتم في الدراسات الفلسطينية الحديثة للمجتمع الفلسطيني إدراك تفرد تجارب المدن الفلسطينية على صعيد التطور الاجتماعي والسياسي والثقافي، هذا التفرد كان أقرب إلى حالة الانغلاق، وهو ما ساهمت فيه التجربة التاريخية للمدن الفلسطينية وطبيعة النخب الاجتماعية فيها وأدت دوراً مهماً في صوغ شخصية المدينة، والتي تميزها عن باقي المدن الفلسطينية الأخرى.

إن صورة المدن الفلسطينية وطبيعة الثقافة المهيمنة فيها لا تختلف نوعاً وإنما كماً، أعطتها تلك الخصائص نموذج يختلف عن نماذج مدن فلسطينية أخرى، فثقافة مدينة رام الله ليست ثقافة نابلس، وثقافة الخليل ليست ثقافة بيت لحم، وهذا ما أشارت إليه دراسة سليم تماري بشأن مدن الحداثة الفلسطينية ما قبل عام 1948(تماري،2005)، ودراسات ليزا تراكي(2004؛2006؛2008) عن المدن الفلسطينية المعاصرة، التي أكدت بعداً جديداً في فهم المجتمع الفلسطيني على أساس حالة من التفرد، فرضا ضمن سياق تطور المدينة، وحالة الحراك الاجتماعي والاقتصادي فيها.

ومن ناحية أخرى تسعى هذه المقالة إلى تحليل الثقافة الموقعية لمدن الجنوب في فلسطين، ومحاولة بيان نمط الثقافة المدنية التي نشأت وتطورت في سياقات مختلفة ارتبطت بنيوياً بتجربة المدن نفسها، ودور هذه المدن في التأثير على محيطها الريفي. ومن أجل ذلك لا بد من تقديم توضيح للثقافة المدنية وعلاقتها بالمدينة، ليس باعتبارها اشتقاقاً لغوياً منها فحسب، وإنما بإعتبار المدينة حاضنة للثقافة المدنية ومطورة لها أيضاً، فهي المكان الذي توجد فيه مؤسسات وأجهزة الدولة القضائية والتشريعية والتنفيذية، ومؤسسات المجتمع المدني، ومقار القيادات السياسية والاجتماعية والدينية، هي الإفراز الطبقي لشرائح المجتمع، وهي الثقافة السائدة فيها: فيها الجامعات والمقاهي والسينما والمسارح، وفيها التغير والحراك الاجتماعي (بركات، 2000)، ويعتمد التشكل الطبقي على مدى نمو المدينة، خصوصاً الطبقة الوسطى، حاملة لواء التغيير والتقدم والحداثة، والمدافعة الأولى عن الديمقراطية والعلمانية (هلال، 2006). وباختصار هي الحيز العام للسياسة: من الدولة إلى الحركات والأحزاب السياسية، حيث ان المدينة كبيرة ومتنوعة كفاية في مكوناتها وخياراتها وعروضاتها، حيث لا تستطيع القرية تقديم تلك الخدمات والامتيازات(Dagger, 1997: 155)، لما تتميز به من محافظة وانغلاق.

يعتبر هانسون، في معرض تفسيره العلاقة ما بين المدينة والثقافة المدنية، أن الثقافة المدنية تحيط بها تاريخياً سياسة الطرق الشعبية (folkways)، وتوقعات الناس (Public Expectation) ، وتوزيع القوة والمسؤولية (Hanson,1968: 110)، حيث استند في ذلك إلى تصنيفه الثقافة المدنية في المدينة الرئيسة إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول هو الاستغلالية والأبوية حيث أن الثقافة المدنية هي ميراث هيمنة مركزية نخبوية لجماعة صغيرة، إذ أن ثمة نماذج تهيمن على المجتمع مثل السياسة، والبنوك والإعلام. والنوع الثاني هو الخدمات والاستهلاك، وهما تعدديان ومن حيث تعدد الخدمات، وتقسيمات المجتمع الجغرافية، والولاءات الدينية، وتوزيعات الدخل، وقوى الاقتصاد والثقافة والسياسة، والنوع الثالث هو مؤسسات مجتمعية تشدد في خطابها الشعبي على الخير العام، وتزدهر بالتعاون والإجماع، ومها المؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، هذه التعبيرات تشكل ببعدها الثقافي الثقافة السائدة والثقافة الفرعية في ترجماتها وممارستها وتشكيلها لأنماط الثقافة المدنية في هذا المجتمع أو ذلك.

في المقابل، جرى مؤخراً تأكيد الفضاء الاجتماعي، بوصفه أحد حقول البحث في ثقافة المدينة، باعتبار هذه الأخيرة شرطاً مهماً وأساسياً في تطوير الثقافة المدنية ، حيث أن التضامن الاجتماعي يقل مع تطور المدينة وأسلوب حياة سكانها(Bronswijk et al., 2002 :14)، فيكون هنالك حاجة إلى التشبيك الاجتماعي، وتأسيس المراكز والمؤسسات المدنية. أما الجانب الآخر، هو أن نمو وتطور حياة المدينة يساهمان في تشكيل مرجعية ثقافية، ومن ثم تهيمن ثقافة المدينة على الريف، من حيث ربطها حياة الإنسان بمنظر وشكلها وثقافتها وطرق حياتها، بما يتطلب توفير شروط العيش فيها.

انطلاقاً مما تقدم، تشير الثقافة المدنية المحلية إلى المجتمع المحلي، فتدل على تعميم نماذج أو طرق معينة في حياة العامة، باعتبار أن كل مجتمع محلي يجسد ثقافة مدنية تبلورت بالشكل الأساسي تاريخياً، فتعمل على توجيه وتشكيل النظام السياسي والاجتماعي والثقافي. كما أن الثقافة المدنية المحلية تحدد طبيعة المشاكل والحلول التي تواجه المجتمع، وتفرض أيضاً رؤية مشتركة ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتعمل على تشكيل كل شيء(Reese & Rosenfeld, 2002)، من حيث طبيعة البني الاجتماعية والدينية والسياسية، إلى إفرازاتها المدنية والسياسية المتمثلة في الأحزاب والمؤسسات المدنية وطبيعة النخب في المجتمع المحلي.

وحتى يتم استعارة ما سبق، في فهمنا لموضوعة المقالة، لا بد من استعراض التاريخ الاجتماعي لمجتمع البحث (بيت لحم والخليل)، ومن ثم رسم وفهم التوجهات المجتمعية والقيم المدنية لحياة سكانها (1)، حيث أن المقاربة التي سنقوم بها بشأن المدينتين تعكس في المضمون حالة من التباين على صعيد النمط الثقافي والذهنية الاجتماعية للمدينة، وبحسب تفاعلات المواطنين وصورة مدينتهم كما يتخيلوها، وهي الحالة التي شكلت لاحقاً نوعاً من التفرد صاغ ما يميز المواطنين بعضهم من بعض من هوية ونمط ومسلكيات.

تمثل هذه المقالة دراسة تنقيبية لطبيعة تباين ثقافة المدينة وتوعها في جنوب الضفة الغربية (بيت لحم والخليل). حيث سيتم هنا استعراض وتلخيص خصوصية كلاً منهما، لا سيما التباينات في طبيعة البنية الثقافية، وطبيعة النخب الاجتماعية من حيث نفوذها وطبيعيتها، ومن أجل تحقيق هدف مقالتنا، سيتم تبني منهجية كلٍَ من ليزا تراكي وريتا جقمان في دراستهما (تراكي وجقمان، 2008)، المتعلقة بقراءة وتحليل البنية الاجتماعية والثقافية من خلال نتائج التعداد السكاني. إلى جانب ذلك، سنعتمد على إحصاءات عام 2009 بشأن التعداد النهائي لسكان المجتمع، موضوع البحث، وعلى بيانات متعلقة بالانتخابات التشريعية والبلدية ومستمدة من لجنة الانتخابات المركزية والبلديات.

أولاً: أرضية متشابهة وبنية اجتماعية مختلفة
تعد تجربة الخليل مختلفة بعض الشيء عن تجربة مدينة بيت لحم، من حيث أنها لم تتعرض لتغيرات دراماتيكية ومميزات كالتي اختبرتها مدينة بيت لحم، ابتداءً من أثر الإصلاحات العثمانية في أوائل القرن العشرين، التي مهدت بصورة أو بأخرى، لحالة الحراك الثقافي والصحفي في أربعينيات القرن الماضي، ووجود حالة من التنوع الديني المسيحي والإسلامي والتجربة المشتركة، مروراً بأحداث التطهير العرقي عام 1948 التي غيرت من ديمغرافية السكان في المدينة، ناهيك عن أهمية المدينة محلياً وعالمياً، والاتفاق ضمنياً على هوية المدينة المسيحية. هذه الجوانب تفتقد لها التجربة التاريخية التي مرت بها محافظة الخليل وجعلت من مركز المدينة حالة أقرب إلى التجانس الثقافي مع قُراها المحيطة، من حيث سيطرة الطابع الاجتماعي المحافظ، إذ يمكن القول أنها شكلت امتداداً ومصدراً لقيم محافظة في الوقت نفسه، باعتبار ان قلب المدينة يحتضن ثاني أهم مركز ديني للمسلمين في فلسطين، وهو الحرم الإبراهيمي. هذه الخصوصية جعلت حالة الاستمرارية الثقافية والاجتماعية ممكنة، سواء كانت متمثلة في الأنماط الثقافية التي يتبناها سكانها، أو متمثلة في نخبتها الاجتماعية في مركز المدينة أو في محيطها من القرى، حيث أن نفوذها ما زال مستمراًً على مدار القرن الحالي.

إن حالة حراك مدينة الخليل الثقافي والاجتماعي للمدينة مستقرة نسبياً، قياساً بمدينة بيت لحم في القرن العشرين، وحتى موجة اللاجئين في عام 1948 لم تحدث حالة من التحديات الثقافية لمدينة الخليل، باعتبار أن اللاجئين الفلسطينيين استقروا خارج مركزها كما هو حال مخيمي العروب والفوار، وبالتالي لم تشهد المدينة حالة من التلاقح والتثاقف ما بين ريفها ومخيماتها.

تكمن أهمية مدينة الخليل تاريخياً في الناحيتين الاقتصادية والتجارية في القرنين الثامن والتاسع عشر، باعتبارها مركزاً مهماً للطرق الداخلية، وموقعاً لتجمعات البدو من الجنوب، إلى جانب اعتبارها مركزاً زراعياً. ولكن نقص الأراضي الزراعية بداخلها أدى إلى الاستثمار في تربية الحيوانات، حيث تشكل الثروة الحيوانية بالخليل في يومنا هذا ما يقارب (30%) من الثروة الحيوانية في الضفة الغربية، وهو ما يفسر تعايش أنماط اقتصادية مختلفة في محيط اجتماعي واحد: حيث لم تستطع المدينة استقطاب نمط اقتصادي واحد متمثل بسيطرة النمط التجاري الذي تمتاز به المدن من ريفها، من حيث حالة الفصل ما بين القطاعين الزراعي والتجاري (تراكي وجقمان، 2008). وقد أدى بدوره إلى غياب حالة من تمركز النخب التجارية وملاك الأراضي في المدينة، وبالتالي لم تشكل الشرائح والنخب لنفسها حالة من النفوذ والتأثير في المدينة وفي التوجهات المفترض أن يتبناها سكان المدينة والتي تميزهم عن القيم الريفية. ومن جانب آخر، تتميز الخليل من بيت لحم بأن جباة الضرائب في الفترة العثمانية كانوا من محيط القرى المحاذية، في حين نجد أن الإقطاعيين في بيت لحم لم يكونوا من أهل المنطقة.

إن السمة الأساسية التي ساهمت في تأثير مركز مدينة الخليل تاريخياً على المناطق الريفية المحاذية لها هي إشرافها على الأماكن المقدسة من التكايا الصوفية وبعض المزارات والمسجد الإبراهيمي. وهذا ما يفسر استقطابها عدداً من المتصوفين والفقراء، كما أن عملية تقاسم الأدوار بين عائلات الخليل في خدمة الحرم الإبراهيمي، والإشراف على مردود المزارات الدينية شكل مصدراً لدخل الكثير من العائلات (Salameh & Da’na, 2006). وخلافاً لذلك، لم يلاحظ تأثير للمدينة على المناطق الريفية، وبالتالي لم تشكل الخليل مركزاً ومرجعاً حضرياً لجنوب الضفة الغربية: حيث أن هوية المدينة صيغت وشكلت بأنماط محافظة و تقليدية، فكانت سمعتها وصيتها ناظماً مسلكياً واجتماعياً وثقافياً لأهل المدينة، ما مازالت تأثيراته حاضرة حتى يومنا هذا.

شكلت منطقة دورا المركز الرئيسي لمنطقة الجنوب، حيث كان لأعيانها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر نفوذ اجتماعي واقتصادي، وهو ما جعلها سيدة جباة الضرائب من القرى المحاذية لها، وسيدة أهل الجبل، حسب تعبير تماري (تماري، 2005)، بفعل ما كان لها من قوة احتكار وقوة تأثير في العرف العشائري، وحل النزاعات والصراعات العائلية، واقتسام النفوذ والأراضي، واستمرت سيطرت عائلات ونخب دورا وتأثيراتها حتى فترة الانتداب البريطاني والعهد الأردني. متزامنة مع بروز نخب دينية من مدينة الخليل، أبرزها عائلة الجعبري، التي تمثلت في الشيخ محمد الجعبري ونفوذه وتأثيره السياسي والاجتماعي.

تلاحظ في هذا الجانب، وبعد أكثر من قرن، استمرارية وتمفصل نخب دورا والخليل العائلية من حيث تأثيراها على الصعيد المحلي و الوطني، إذ مهد لها ذلك امتلاك رأس مال اقتصادي، وبالتالي رصيد ووطني. وقد ساهمت هذه القوة في أن تنشئ وتدعم داخل العائلات نفسها نخبا استطاعت، بحكم نفوذها الاقتصادي ورأسمالها الاجتماعي، أن تخرج نخباً اجتماعية وسياسية ذات كفاءات علمية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يتمتع ياسر عمرو ونبيل عمرو ويونس عمرو بنفوذ في المجالات التعليمية والسياسية على صعيد الوطن، في حين ضلعت عائلتا الجعبري والنتشة في النواحي الإدارية والبلدية والأجهزة العسكرية في مدينة الخليل، هذا إلى جانب عائلة القواسمة والذي امتلك أحد أبنائها، وهو المرحوم فهد القواسمة رأس مال وطنياً من خلال علاقته بحركة فتح، وهو ما مهد بالضرورة لسحر القواسمة، انتخابها نائبة في المجلس التشريعي على قائمة فتح النسبية على صعيد الوطن في عام 2006، وتعيين خالد القواسمة وزيراً للحكم المحلي.
ومن الملاحظ أيضاً في هذا الجانب، أن معظم قيادات فتح تتمركز في القرى، في حين أن لقيادات الحركة الإسلامية لها نفوذاً في ريفها وفي مركز المدينة أيضاً. وبهذا، نستطيع القول هنا أن مدى تأثير النخب والقيادات وحجمها في محافظة الخليل ما زالا متمركزين ومستمرين في ريفها وليس في المدينة، ومن جانب آخر، تمركزت النخب الدينية في قلب المدينة، مما ساهم في تشكيل نمط حياة محافظ.

وإذا كان هذا هو الحال في الخليل، فإنه مخالفاً إلى حد ما لحال لمدينة بيت لحم، ليس من حيث النوع وأنما من حيث الكم، حيث أورث الحكم العثماني لفلسطين تشكيلة اقتصادية واجتماعية يختلط فيها الإقطاع الاقتصادي بالاستبداد السياسي(وهو حال المدن الفلسطينية)، في إطار مرجعية ثقافية تنتمي للقرون الوسطى وقد تلقت بيت لحم نصيبها من هذه التركة الثقيلة، وهي تركة وجدت تعبيراتها الرئيسية في سياسة التتريك التي استبعدت اللغة العربية من الدوائر الرسمية، وأدخلت اللغة التركية مكانها وناطت الوظائف العامة الرئيسية للعناصر التركية، وفي نظام الالتزام الضريبي على الفلاحين، وفي انعدام الحريات السياسية، والقمع السياسي الذي زج بالقوميين والوطنيين في السجون. وقد استمر هذا الحال حتى العقد الأول من القرن العشرين، مع صدور قانون الحريات المحدود عام 1908، وهو القانون الذي أتاح مناخات سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة لنهوض الحركة الفلسطينية بشقيها الوطني والثقافي(مسلم،2002)، حيث شهدت المدينة حالة من الانفتاح والازدهار باعتباراتها وأهميتها الدينية المسيحية، وهنا تكمن أهمية انفتاح المدينة على السوق الغربية، إلى جانب الزائرين والسواح والحجاج واختلاطهم بسكان المدينة يفوق بدرجة كبيرةً حجمها في الخليل، التي تعاني من حالة هي اقرب إلى الانغلاق على التجربة الذاتية، وقد ساهم هذا في التأثر بتجارب اجتماعية وثقافية وإدارية افتقدتها مدينة الخليل.

واستناداً إلى الشكل الإقطاعي في الإنتاج، سيطر على المدينة نمط الإنتاج الزراعي، إلى جانب الإنتاج الحرفي والتجاري المرتبط بالسياحة الدينية، والتجارة داخل المدينة أو التجارة مع مناطق بالخارج، كأمريكا اللاتينية والهند وأوروبا، في بداية القرن العشرين. وشكلت المدينة وامتدادها بمدينة بيت جالا وبيت ساحور واقعاً فلاحياً بثقافة مدنية وحضرية(تماري، 2005 : 49)، وذلك باعتبارات مرتبطة بدور البعثات التبشيرية والمؤسسات الكنسية المرتبطة بها، إلى جانب المؤسسات التعليمية اللاتينية والكاثوليكية التي تمركزت في المدينة في بدايات القرن العشرين، وأثرت على حياة التلحميين، من نظرتهم المفتحة إلى الآخر، إلى أسلوب الحياة المرتبط بقيم المدينة، التي تجد تعبيراتها في طبيعة النظم الإدارية في المدينة، ومن ثم نمط الحياة الحضري المنفتح نسبياً.

وشكل نظام الملَة والامتيازات الأجنبية في العهد العثماني ميزة مهمة لسكان المدينة؛ إذ ان الامتيازات أتاحت فرصة جديدة لتوسيع آفاق المسيحيين الفلسطينيين من حيث السفر للخارج، والعمل في التجارة الدولية التي تدر عليهم أرباحاً كثيرة بفعل حيازتهم امتياز التجارة مع الأوروبيين. وقد استطاع المسيحيون إنشاء شبكة تجارية كبيرة في أوروبا وأمريكا اللاتينية بسبب إتقانهم اللغات الأجنبية وأساليب التجارة الحديثة، الأمر الذي أدى إلى نشوء شريحة اقتصادية واجتماعية جديدة، ومن العائلات المسيحية التي اشتهرت بالتجارة في ذلك الوقت (دبدوب، و جعارة، وجاسر، وحنضل) (المؤسسة التعليمية العربية،2001).

وفيما يتعلق بأثر بالوجود البريطاني، فقد شوه ذلك الوجود تطور المدن الفلسطينية ونموها الطبيعي واعاقهما، بشكل عام، فتدهورت الأوضاع الاقتصادية نتيجة سياسة بريطانيا التحيز البريطانية المتمثلة في الحواجز الجمركية التي قضت على التجارة مع سوريا، وأثرت سلباً في شريحة واسعة من تجار المدن الفلسطينية، وفي الباعة بالمفرق أيضاً، إلى جانب الأفضلية والامتيازات التي كانت تعطى للمهاجرين اليهود الجدد ومؤسساتهم، وسياسة التمييز في الأجور، التي كانت تعود بالفائدة على المستعمرات اليهودية بالدرجة الأولى (الكيالي، 1985: 160-162)، وأيضاً منع عودة الفلسطينيين الذين تركوا فلسطين فيما قبل عام 1920 بجوازات سفر عثمانية، حيث سمح فقط لعودة ما نسبته (1.1%) من اللذين تقدموا بطلبات العودة(2)، مما حرم المدن الفلسطينية من عودة شريحة واسعة من المتعلمين والتجار إلى مدنهم، والمساهمة في تنميتها. لكن بالرغم مما سبق، نجد أن مدينة بيت لحم قد ازدهرت اقتصادياً في تلك الفترة، ويرجع السبب إلى حشد الانجليز الكثير من قواتهم فيها، حيث استدعى استدعى إحياء مهن مختلفة وتفعيلها، إلى جانب الاهتمام بتجميل المدينة والبنية التحتية بافتتاح الأسواق وبناء المستشفيات والفنادق في العهد البريطاني (بنورة،1982: ص91؛ المؤسسة التعليمية العربية،2001: ص 48).

ولقد تميزت السمة الأساسية للمدينة من ناحيتين: الناحية الإدارية والناحية التجارية، حيث أن معظم الوظائف الإدارية والقانونية والخدماتية إبان الانتداب البريطاني والإدارة الأردنية، والاحتلال الإسرائيلي نيطت بالمسيحيين الفلسطينيين؛ فكان نصيبهم (40%) من الوظائف الإدارية العالية والمتوسطة، مثل مناصب المسؤولين الرسميين والمترجمين والمستشارين أنيطت بالمسيحيين الفلسطينيين (المؤسسة التعليمية العربية،2001: ص45). وتم من جانب آخر تم إبراز المعالم الدينية المسيحية لمدينة بيت لحم وما يعنيه ذلك من تنشيط للمهن والحرف والاتجار وتنشيط للقطاع السياحي.

وخلافاً لمدينة الخليل، تميزت بيت لحم بأنه لم يكن في مركزها تاريخياً، أي في بداية القرن العشرين، شريحة من أعيان تقليديين، وذلك نظراً إلى الهجرة إلى الخارج؛ حيث تمركز نفوذ العائلات الكبيرة وأعيانها في خارج المدينة، او بما يعرف بالريف الشرقي(منطقة التعامرة) من المدينة، حيث يقطن البدو المستقرون، وبديلاً من الشكل التقليدي في تشكيل حارات المدينة التسعة، نشطت بمحاذاته في الأربعينيات حركة ونخب من القوميين، أبرزهم عيسى الخوري وباسيل البندك، ويوحنا خليل دكرت (مسلم،2002)، وهم من سكان الحارات نفسها، كانوا قد عاشوا مرحلة المد القومي والوطني (Musallam, 2007)، الأمر الذي أبرز الحركة الوطنية والقومية واليسارية وميزها في بيت لحم بتبني الحركة مفاهيم علمانية وديموقراطية في مراحل متقدمة، وهذا ما ميز مرحلة العمل السياسي لتجربة بيت لحم من نظيرتها في الخليل، باعتبار أن الأخيرة لم تشهد تنوعاً في الحركات السياسية في ذلك الوقت، وإنما كانت تشهد نمو حركات دينية التوجه.

وفيما يتعلق بحالة الحراك الثقافي والتعليمي والصحافي، فنلاحظ أن مدينة الخليل لم تشهد هذا الحراك في أربعينات القرن الماضي حيث أطلق عليها يونس عمرو(1987) بالفترة المظلمة في تاريخ المدن الفلسطينية. ولكننا نعتقد ان نظام الكتاتيب والتعليم الديني هو الذي كان يسيطر على الحالة التعليمية في المدينة وفي القرى المحاذية، حيث كانت نخب الخليل ترسل أبناءها في ما بعد إلى الأزهر في مصر، لتلقي تعليمهم العالي فيه (Salameh & Da’na, 2006:29)، وحتى في فترة الخمسينيات والستينيات لم يكن من أهل الخليل من شغل منصباً في الجانب الأكاديمي، وإنما كان صاحب المنصب من خارج المدينة (تراكي وجقمان، 2008: 46)، وهذا يؤكد على أهمية التعليم في تهيئة مناخات وأجواء حضرية افتقدها الجهاز التعليمي في الخليل تاريخياً، إلى جانب تأخر المدينة في خلق نخب من الطبقة الوسطي الحديثة، تعزز بدورها النمط التقليدي لطبيعة النخب الاجتماعية والسياسية في وقتنا المعاصر، وفيما يتعلق بأولى جامعات الخليل، وهي جامعة الخليل التي تأسست عام 1971، كان التوجه أن تكون معهداً لدراسة الشريعة الإسلامية، وهو ما صبغها بصبغة شملت حتى نفوذ الحركات الطلابية التي تتبنى الأيدلوجية الإسلامية فيها، في أيامنا هذه .

في مقابل ذلك، شهدت مدينة بيت لحم في الفترة نفسها ثورة في الحركة الإعلامية والثقافية، فأسست مطابع ومجلات دينية وثقافية وقومية (Musallam, 2008)، ونمت الحركات الوطنية والقومية التي كانت تنادي في ذلك الحين إلى وحدة سوريا الكبرى (سوريا، فلسطين،الأردن، ولبنان) (مسلم، 2002 : ص20)، تتويجاً لانتشار المدارس اللاتينية والكاثوليكية والأرمنية في أواخر القرن التاسع عشر (القضاة، 2007)، والتي أثرت كثيراً في أنماط حياة هذه النخبة وفي طرق تفكيرها، وبالتالي باتجاه التحضر والمدنية وتبني شعارات علمانية وقومية، وبروز نخب قومية من عائلات مسيحية وإسلامية ذات أبعاد قومية وعلمانية.

وقد بدأت مدينة بيت لحم تأسيس المدارس الأجنبية والوطنية في مرحلة مبكرة، خصوصاً المدارس الابتدائية والثانونية. وكان طلاب تلك المدارس يتوجهون في المراحل التالية إلى القدس أو إلى بيروت، وجدير بالذكر أن فرص التعليم كانت متوفرة للمسيحيين أكثر مما كانت متوفرة للمسلمين في المدينة ومحيطها، الأمر الذي يفسر تنامي جيل من المثقفين القوميين المسيحيين، أما المسلمون فكانوا في مجال تلقي التعليم أقل حظاً من الميسحيين (باستثناء شريحة الأغنيا)، حيث أن النظام التعليمي في العهد العثماني كان يعتمد على (الكُتَاب) المعروف ببساطته.

وكان الحدث الثقافي المهم في تاريخ المدينة تأسيس جامعة بيت لحم عام 1973 لخدمة المجتمع الفلسطيني كله (مسلمين ومسيحيين)، ومن جميع التجمعات الجغرافية (مدينة وقرية ومخيم) والنوع الاجتماعي. ويكمن سر تميز هذه الجامعة في الفضاء العام الذي تتيحه، إذ أن مناخها الثقافي يستند إلى قاعدتين أساسيتين:
• الأولى هي أن الدراسة فيها تعد مفصلاً أساسياً في حياة الطلبة؛ إذ أنها تهيئ للطالب المناخ التعليمي والتربوي والأكاديمي كي يعيش حياته الجامعية بعيداً عند تدخل الأهل، فتوفر له الاستقلالية النسبية لاتخاذ القرارات في الحرم الجامعي، وتتبع طريقة مميزة في التعليم والتدريس تقوم على التعليم المرتكز على الحوار والتعلم الجماعي، خلافاً لكثير من الجامعات والمعاهد الفلسطينية التي ما برحت تعتمد على التعلم التلقيني والبنكي، وهو ما يرسخ أرضية خصبة للتثاقف وتقليل الفجوات الثقافية القائمة في الوعي والإدراك بين المناطق الثقافية المتعددة التي يتسم بها المجتمع الفلسطيني.
• أما القاعدة الثانية، فهي تعدد الرموز الثقافية والدينية في حرم الجامعة، بما يشيع مناخاً خصباً للتعرف على الآخر المختلف من حيث الموقع الجغرافي (مدينة أو قرية أو مخيم) والديانة (مسلم ومسيحي) والنوع الاجتماعي، ولإثارة رغبة في التكييف واستيعاب الآخر، وهو ما يعني طرق حياة ومعتقدات اجتماعية تتعايش وتتسامح مع في حيز اجتماعي وأكاديمي واحد.

يؤكد رفيق الخوري (الخوري، 2001) في شهادته الشخصية أن جامعة بيت لحم ساحة للتعاون الثقافي المشترك، تساعد على تقريب وجهات النظر بين المسلمين والمسيحيين، في الوقت الذي يتهم الجهاز التعليمي في المراحل الابتدائية والثانوية بالتضليل الاجتماعي الذي يحول دون الاندماج في المجتمع.

أما جامعات الخليل، فإن الكادر التعليمي فيها أقرب إلى النمط المحافظ، باعتبار أن المناخ الأكاديمي والبيئة الثقافية المحيطة به محافظان وتقليديان، في حين تتميز أغلبية الكادر التعليمي وحتى الإداري في جامعة بيت لحم بنمط منفتح ذي توجه علماني، خصوصاً فيما يتعلق بأسلوب الحياة، والمرأة، والنظام السياسي الديمقراطي، وما يعنيه ذلك من تأثير في توجهات الطبقة الوسطى الحديثة من طلبة الجامعات.

وتعد هذه الخلفية الأكاديمية والبيئة الثقافية والقوى السياسية في جامعة بيت لحم وتوجهاتهم أقرب إلى النموذج الحضري والمدني، وهذا ما يفسر سيطرت الحركات الطلابية الوطنية اليسارية سابقاً، والعلمانية حالياً، على مجلس الطلبة. ومن الجدير التنويه هنا أن عدداً ليس بسيطاً من قيادات الحركة الطلابية سابقاً يقوم في الوقت الراهن بدور مهم وقيادي، بغض النظر عن خلفياته الاجتماعية أو الاقتصادية، من هذه القيادات عيسى قراقع، عضو المجلس التشريعي، ومحمود فنون عضو اللجنة المركزية في الجبهة الشعبية، وآخرون. وبهذا نستطيع القول إن جامعة بيت لحم تساهم بدور ايجابي في خلق وصقل توجهات خريجيها من الطبقة المتوسطة؛ توجهات حضرية ومدنية تفوق ما تساهم به جامعات مدينة الخليل.

ثانياً: صورة المدينة: ما بين التسامح والتقليدية (3)
إن المتمعن في تاريخ المدينتين الاجتماعي والسياسي يستطيع إدراك مدى الإختلاف بينهما من حيث نمط سكان كل منهما وأسلوببهم وعاداتهم، ولهذا الأمر دلالات ومسببات اجتماعية، وحتى سياسية راكمتها تجاربهم، فالبنى الاجتماعية وتشكيلاتها في مركز مدينة الخليل، وكذلك ريفها، تُُعد من أكثر المدن اشتمالاً على شبكة من العلاقات القوية القائمة على علاقات القربى والدم، وهذا ما يجعلها امتداداً لريفها. وبالتالي، تشكل العائلة والحمولة مركزاً وثقلاً وداعماً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً لأفرادها، وقيمة لا يمكن التخلي عنها، وما يعني ذلك لنمط العلاقات العشائرية في ما بينها، كنظام اجتماعي محدد لموازين القوى الخارجية ما بين العائلات، أو حتى من حيث تكريس اللامساواة القائمة على النوع الاجتماعي أو العمر، وهذا يفسر كونها المرجعية العشائرية لشيوخ جبل الخليل في منطقة جنوب الضفة الغربية.

وحول نمطية المدينة، تذكر الباحثتان تراكي وجقمان مواقف أحد الرحالة الغربيين من مدى عدائية وعنف وتعصب الخليل في القرن التاسع عشر تجاه الأجانب، مقارنة مع مدن أخرى، حيث يرى الرحالة أن ذلك هو نتيجة تهميش المدينة من حيث حالة الاستثمار التي كانت تشهدها المدن الساحلية، وإلى جانب عدم احتكاك أهلها بالأوروبيين، وندرة المقيمين فيها من الحجاج أو المؤسسات الأجنبية أو المسيحية الأخرى، وهو رأي تتفق معه الباحثتان(تراكي وجقمان، 2008: 44). إلا أننا نود تحليل هذا الواقع بطريقة لها مسبباتها البنيوية والسياسية؛ فصحيح القول أن ندرة المؤسسات الأجنبية والمسيحية الفلسطينية على وجه التحديد حرمت المدينة من تعددية طرق ونظام الحياة، وبالتالي حالت دون تراكم نظرة متسامحة تجاه الآخر نتيجة عدم الاحتكاك به يومياً، لا على أساس النمطية التقليدية المرتبطة بصورة الأجنبي، وهذا يعد جانباً مهماً. ولكن هذا هو ما اختبرته المدينة فعلياً في بداية القرن العشرين، حيث إن تنوع الديانات فيها (المسيحية أو الإسلامية واليهودية) ساهم بصورة أو بأخرى في خلق حالة من التسامح بين الديانات، خصوصاً بين الإسلام واليهودية، جنباً إلى جنب مع العلاقات التقليدية مع مخاتير الحارات والديانات، حيث شهدت المدينة حالة من التسامح والتعايش السلمي والتجاري بين سكانها المسلمين واليهود، ولا سيما في ما قبل بداية المشروع المشروع الصهيوني، وهذا ما يؤكده الكاتب الصهيوني ابيشار(1970: 43-44)، وتؤكده روايات الكاتب اليهودي اسحق الشامي والذي هو من سكان أهل الخليل،وكثيراً ما لجأ إلى مسلمي الخليل لحمايته من أسرته المحافظة والمتدينة (تماري، 2005: 226-244).

ولكن، هذا الحال لم يستمر على ما هو، باعتبار أن عام 1929 شكل حالة من القطيعة في تاريخ المدينة، حيث أن المواجهات الدموية ما بين الفلسطينيين واليهود أدت إلى مقتل 60 يهودياً، فشكلت منعطفاً جديداً في العلاقات بينهم، وساهمت في تشكيل صورة راديكالية لسكان المدينة الفلسطينيين، إلى جانب سمعتها المحافظة.

وحتى يتسنى لنا فهم ذلك بصورة علمية، علينا عدم الانجرار وراء التعميمات المتعلقة فقط ببنية الخليل الاجتماعية؛ حيث نرى أن النزعة الراديكالية في مدينة الخليل ترجع إلى تنامي المشروع الصهيوني في ذلك الوقت، وإلى تداعياته، من تخوف المجتمع الفلسطيني على مدنه وقراه، فأدى إلى ردود فعل عنيفة كان ابرزها بالقدس وصفد والخليل. يضاف إلى هذا أن الكثير من العرب اليهود، في الخليل، بدأوا يعتنقون الهوية الصهيونية.

ولكن، لماذا ما تزال هذه الحالة مستمرة حتى يومنا هذا؟ إن الإسرائيليين يفتاحيل وروديد (Yiftachel & Roded, 2008) يشددان على مدن النبي إبراهيم الثلاثة: القدس، والنقب، والخليل، في دراستهما المعنونة بـ (ETHNOCRACY AND RELIGIOUS RADICALISM)، كما يشددان على العلاقة بين سياسة الإعمار من قبل الاحتلال الكوليانيلي الإسرائيلي وسياسات التميز العنصري والاستغلال في هذه المدن، إلى جانب خلق خطاب مقدس حول مدن النبي إبراهيم، وعلاقته بنمو الحركات الدينية اليهودية فيها، وقد تزامن ذلك مع نشوء حركات دينية إسلامية فلسطينية متباينة في خطابها الراديكالي، حسب المدينة والسياسة الكولونيالية التي تم إتباعها في المدن الثلاث، وفي مقدمتها مدينة الخليل.

إن تقديس الفلسطينيين المكان ورمزيته كمشروع قومي مدعم بخطاب ديني قد طاول مدينتي القدس والخليل فقط، وذلك من أجل خلق خطاب مناهض لخطاب الحركات الدينية الإسرائيلية بشأن المدينتين، باعتبارهما تمثلان هوية الفلسطينيين القومية والدينية.

وهذا ما يفسر تاريخياً انتشار الحركات الإسلامية (حزب التحرير، الإخوان المسلمين، الجهاد الإسلامي، وحركة حماس) في الخليل، وفوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي 2006(لجنة الانتخابات المركزية-فلسطين، 2006) بجميع مقاعد المجلس التشريعي في المدينة، وبمعظم المجالس المحلية فيها. حيث أن قدسية الخليل ورمزيتها وهويتها كرمز سياسي بدأت تاريخياً مع بداية المشروع الصهيوني باحتلال فلسطين. وهذا ما يفسر أيضاً، من الناحية التاريخية حزب التحرير الاسلامي الذي يتميز بمواقف أصولية معادية للديمقراطية والعلمانية والمدنية باعتبارها أداة غربية لاختراق العالم الإسلامي ثقافياً، في الوقت الذي كانت بداية الحركات السياسية في بيت لحم ذات بعد قومي وعلماني استوعب العنصر المسلم والمسيحي في إطارها، وكان للمسيحيين الدور الأكبر في بلورة تلك الحركات.

في الجانب الآخر، لم يكن هنالك خطاب يعبر عن حالة من الصراع على هوية مدينة بيت لحم، بل بالعكس، فقد كان هنالك اتفاق على عالمية المدينة، نظراً إلى أهميتها الدينية عند مسيحي العالم، وكونها منفذاً لإقامة علاقات مع دول الغرب، حيث أكدت القيادات السياسية العلمانية والإسلامية أهمية المدينة باعتبارها مهد المسيح، أو بعبارة أخرى مدينة السلام، وهي التسمية التي ستشكل مخيالاً اجتماعياً لصورة المدينة في أذهان المواطنين وفي ممارساتهم، فتجد تعبيراتها في أن أول مقاومة شعبية سلمية بدأت من بيت لحم، وبالتحديد من بيت ساحور التي اشتهرت في الانتفاضة الأولى بالعصيان المدني(الشوملي،1991)، حيث أظهرت الكنائس المحلية ومؤسساتها والمؤسسات المدنية والوطنية دعماً قوياً ومساندة لأهداف المقاومة السلمية. وبالرغم من أن هذه الحركة لم نشهدها في بداية الانتفاضة الثانية (2000) التي اتسمت بطابع عسكري، فقد رأينا دور الحركة العالمية للتضامن مع الشعب الفلسطيني بجانب الفلسطينيين في أكثر من مناسبة، أبرزها محاصرة قوات الاحتلال الإسرائيلي لكنيسة المهد، وللرئيس عرفات في المقاطعة في رام الله في نيسان/أبريل 2002، حيث كانت تحركات المتضامنين تدار من قبل مجموعة شبابية في مركز المعلومات البديلة ببيت لحم (www.Jersusalem.indymedia.org)، إلى أن ظهرت مجدداً بعد عام 2004، فسيرت المظاهرات السلمية بقيادة مجموعات ناشطة فلسطينية ودولية في منطقة المعصرة الشرقية، بالتعاون مع مركز التقارب ما بين الشعوب في بيت ساحور. وتُعد هذه التجربة، وبالتالي ثقافتها، جزءاً من تراث مدينة بيت لحم وشخصيتها. وقد مهدت لها المؤسسات المجتمعية الفلسطينية عبر ثلاثة عقود من الخبرة والأداء. وفيما يتعلق بدور النخبة فإننا نرى تجسيداتها في مشروع بيت لحم2000، الذي كان أحد مشاريعه هدم السجن القديم في ساحة كنيسة المهد، الذي استخدمته السلطات البريطانية والأردنية والاحتلال الإسرائيلي، بهدف إزالة رمز يتناقض مع صورة المدينة. ويوضح هذا دور النخبة التي تحاول الإبقاء على صورة المدينة كما هي في مخيلتها، حتى إن اسم المركز الذي تم تشييده مكان السجن سمَي "مركز السلام".

نرى أننا أمام صورتين متناقضتين: صورة الخليل الذي استند تاريخها السياسي إلى مرجعية أساسية هي الصراع على هوية المدينة وبُعدها الديني، في محيط محافظ وتقليدي وذي حالة من التعصب، بنيته الأساسية العائلات والحمائل، التي ما تزال تهيمن بأنشطتها وفعالياتها على المشهد السياسي والاجتماعي.وصورة بيت لحم التي استند جوها السياسي والاجتماعي إلى ما هو أقرب إلى العمل المؤسساتي والإداري، في إطار خطاب علماني أو متحرر ينزع إلى البعد القومي.

ثالثاً: حارات المدينة وتشكيل البلدية: الثابت والمتحول(4)
حارات، كلمة تُستخدم لوصف منطقة سكنية ذات بيوت متجاورة. وهي تشكل هوية اجتماعية لمن يسكن في المدن الفلسطينية، وهو تقليد فلسطين راسخ في الذهنية القائمة على التقسيمات العائلية كما هو الحال في مدينة الخليل، أو على التقسيمات الطائفية، كما هو الحال في بيت لحم، وقد أصبحت الحارة ناظماً مسلكياً وعرفياً لأهل المدينة في تشكيل واتخاذ القرارات، حيث يقول المرحوم أيوب مّسلم في مذكراته: إن " مجلس بلدية بيت لحم يُشكل من أعضاء أو مخاتير الحارات التسعة، بعدما انتظم السريان في حارة قائمة بذاتها" يساهمون في تسيير أمور المدينة بحاراتها، واستمر هذا الحال حتى صدور أول دستور عام 1876، في إثر الإصلاحات البنيوية في النظام المركزي العثماني. وبموجب هذا الإصدار، تم تشكيل حكومات محلية ومجالس بلدية تنظم شؤون الولايات والأقضية بشكل لا مركزي، إضافة إلى تشكيل لجان مجالس محلية طائفية تكون مسؤولة عن طائفتها وتسيير أمورها الحياتية والاجتماعية والثقافية بنفسها (مسلم،2002)، ومُثلت الحارات بمخاتيرها في مجلس البلدية حتى عام 1948، وتم عقب النكبة إضافة عضويين، واحد من اللاجئين وآخر من التعامرة، وكان القانون الناظم لأعضاء البلدية يطلق عليه صفة الستاتيكو "أي النظام القائم" (من الانجليزية، Status quo)، الذي مفاده أن يكون الرئيس مسيحياً، وإذا كان الرئيس من طائفة اللاتين فعلى نائبه أن يكون من طائفة الروم الأرثوذكس، وبالعكس.

هذه هي الخلفية التي استند عليها تأسيس مجلس بلدية بيت لحم تاريخياً. السؤال الذي نود طرحه: هل حدثت تغيرات جوهرية في بنية المجلس؟ نجيب ، اعتماداً على انتخابات المجلس البلدي عام 2005، بالقوم إننا نرى أن النظام الأساسي لم يتغير، وهو أن يكون رئيس البلدية مسيحياً، إلا أن عدد أعضاء مجلس البلدية أصبح 15 عضواً على أن تكون الكوتا المسيحية 8، والمسلمة 7، إي أن تمثيل المسيحيين بواقع (51%)، إن الانتخابات لا تستند على أرضية التنافس ما بين الحارات وإنما على أساس التنافس ما بين الفصائل السياسية، على أن يكون هنالك قوائم للمستقلين. وكانت نتائج الانتخابات ملفتة للنظر من حيث وجود حالة من التنوع في شخصيات المجلس وأصولها الجغرافية والسياسية والدينية، إلى جانب حضور أسماء لعائلات من حارات المدينة في تمثيلها، كعائلة شوكة المسلمة (أحد أفرادها من حركة فتح، وسابقاً منحزب الشعب، والآخر من حركة حماس) والهريمي الذي يقطن في حارة الفواغرة(مسلم، المبادرة الوطنية)، وبطارسة من حارة التراجمة(مسيحي، الجبهة الشعبية)، والبندك من حارة العناترة (مسيحية، على قائمة فتح)، وعائلة سعادة (مسيحي، الجبهة الشعبية)، إلى جانب وجود شخصيات أصولهم كانوا من عائلات في الخليل كعائلة النتشة وصافي(مسلم، حماس)، وأفراد من التعامرة(مسلم، جهاد إسلامي)، وأيضاً من اللاجئين من منطقة القدس المتمثل بعائلة سعادة(مسلم، حماس)، وهذا يؤكد مدى اندماج اللاجئين الفلسطينيين في المدينة، ومدى استيعاب سكانها للاجئين اللذين هاجروا من قراهم في 1948و1967، وشكلوا نخبة جديدة في المجتمع التلحمي (بلدية بيت لحم، 2010).

وفي نظرة سريعة إلى انتخابات المجلس التشريعي، نجد أنها حددت حجم تمثيل المدينة بأربعة نواب، نائبان منهم مسلمان ونائبان مسيحيان حسب قانون الانتخاب الفلسطيني على صعيد المحافظات، وبالرغم من أن حجم المسيحيين لا يتجاوز 35% من المحافظة، إلا أن الكوتا الانتخابية ساوت بين المسلمين والمسيحيين، واستطاعت حركة فتح أن تحسم المقعدين لصالح الكوتا المسيحية، في حين حسمت حركة حماس المقعدين لصالح الكوتة المسلمة، أحجهما لمرشح أصوله من التعامرة، وقد حصل على أعلى الأصوات، والآخر لمرشح لاجئ من مخيم عايدة، اما على صعيد تمثيل المحافظة في القوائم الحزبية على صعيد الأراضي الفلسطينية، فقد فاز ثلاثة من المحافظة، اثنان من لاجئي مخيمي الدهيشة وعايدة والثالث من بيت ساحور(لجنة الانتخابات المركزية، 2006).

نلاحظ مما سبق أن أغلبية أعضاء مجلس البلدي هم من اليسار، وأن نصف أعضاء المجلس التشريعي ينتمي إلى التيار العلماني، واثنين منهم إلى التيار الإسلامي، أما النتائج على صعيد الوطن، فقد كان الأغلبية للتيار العلماني في مقابل واحد من الإسلاميين؛ هذه التشكيلة المتنوعة توضح عموماً توجهات سكان المحافظة من خلال طبيعة النخب التي تختارها، وبالتالي طبيعة نخب هي أقرب إلى الثقافة المدنية وتوجهاتها الحضرية ذات خطاب علماني قومي. هذه الثقافة قادرة على استيعاب التنوعات والاختلافات وإدارة هذا التنوع على أرضية مشتركة، وهي تفسح للفئات الاجتماعية ذات الأصول الجغرافية المختلفة مجالاً كي يكون لها دور ونفوذ في اتخاذ القرارات فيما يتعلق بواقع المدينة ومستقبلها، فوجود أعضاء مجلس بلدي من أصول خليلية أو لاجئة يؤكد على مدى اندماج تلك الأصول في حياة المدينة، في حين أن بلدية الخليل تفتقد هذه التركيبة المتنوعة في تشكيلة أعضاء مجلس البلدية.

ومن اللافت في تاريخ مدينة بيت لحم أيضاً الدور الوطني والثقافي البارز الذي نيط بمخيماته الثلاثة، ومشاركة هذه المخيمات الفاعلة على الصعيد النضالي منذ ثمانينيات القرن المنصرم حتى اللحظة، حيث استطاعت تجربة لاجئيها الغنية أن تقدم نخباً وطنية واجتماعية لها نفوذ ودور على صعيد المحافظة والوطن، ناهيك عن تركز أبرز قيادات الأحزاب اليسارية والعلمانية فيها، حيث أن مشاركة مخيم الدهيشة في الفعاليات الوطنية والاجتماعية والسياسية حالة من التمييز لاحتضانه حركات سياسية فاعلة ومؤسسات اجتماعية وثقافية توازي أنشطتها وفعالياتها مؤسسات مدينة بيت لحم وبيت ساحور، إلى جانب وجود شخصيات بارزة فيها على الصعيد السياسي في المحافظة؛ حيث أن أمين سر حركة فتح في المحافظة وعضو مجلسها الثوري العام محمد طه، يقطن في المخيم، وكذا ماجد فرج رئيس جهاز المخابرات في الضفة وغزة، وإسماعيل فرارجة، رئيس جهاز المخابرات في الضفة حالياً، ونائب المحافظ سابقاً، وعلى الصعيد الاجتماعي هنالك لجاناً حزبية وشخصيات وطنية تساهم في حل النزاعات العائلية والتنظيمية وهي شكل بديل لشيوخ العشائر الذي يتميز بها الريف الشرقي في المحافظة، أو شيوخ العائلة في محافظة الخليل.

وبهذا نستطيع أن نستنج ان لاجئي مدينة بيت لحم استطاعوا، تاريخياً ، الاندماج بسهولة في المدينة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، لاعتبارات ترتبط بالقرب المكاني من المدينة، حيث استقروا في قلب المدينة، وأخرى ترتبط بترحيب واستيعاب التلحميين للاجئين الفلسطينيين، وأهمها انخراط اللاجئين على الصعيد الوطني والذي ساعد على خلق وتقديم نخب وطنية جديدة تساهم وتقود وتؤثر في مجمل وتفاصيل حياة سكان بيت لحم. هذه العوامل ساهمت في صوغ مفاهيم وقيم مستمدة من تماهي المخيمات في قيم مركز المدينة، باعتبار الأخير نموذجاً لهم.

أما فيما يتعلق بتمثيل المحافظة في الجانب الوزاري، فيلاحظ أن في داخل تشكيلة الحكومات الفلسطينية تقليداً خاصاً بمنصب وزير/ة السياحة والآثار الفلسطينية، وهو أن يكون الوزير/ة مسيحياً، ومن سكان مدينة بيت لحم، باعتبارها أكثر المدن الفلسطينية نشاطاً في الحركة السياحي. وقد أصبح هذا التقليد "ستاتيكو" جديداً على صعيد الحكومات الفلسطينية؛ فحتى حماس قامت بعد فوزها في انتخابات المجلس التشريعي 2006 بتبني هذا التوجه فأختارت المسيحي ماهر ابو عيطة وزيراً للسياحة، وكان متري ابو عيطة قد شغل هذا المنصب من قبل، والاثنان من العائلة نفسها في بيت ساحور، وتتولى الوزارة حالياً المسيحية خلود دعيبس، وهي من بيت جالا ومحسوبة على قائمة الطريق الثالث بزعامة سلام فياض.

على خلاف هذه الصورة تقف مدينة الخليل، لا من حيث البنى الدينية أو السياسية باعتبارها تشكل المرجعية فحسب، وإنما من حيث الأرضية العائلية أيضاً، حيث أن بنية الأحزاب السياسية في الخليل تستند إلى أرضية عائلية أكثر بكثير مما هو بنية الأحزاب السياسية في بيت لحم، باعتبار أن حجم عائلات الخليل يفوق نظيره في بيت لحم، وهذا ما أدى إلى هيمنة الصورة العائلية على المناصب الإدارية والتنظيمية والعسكرية في مركز المحافظة، وبالرغم من عدم وجود انتخابات على صعيد مجلس البلدية إلا أن العائلات الخليلية في المجلس بتدخل من السلطات في ذلك الوقت. ومؤخراً قامت السلطة الفلسطينية بتعيين رئيش البلدية في بلدية الخليل، من مصطفى النتشة سابقاً وخالد عسيلة حالياً، استناداً إلى موازين القوى العائلية، وذلك تفادياً لمواجهة بين السلطة الفلسطينية مع العائلات. ومن الملاحظ أيضاً أن عسيلة المحسوب على حركة فتح، قد شارك في القائمة الوطنية في انتخابات البلديات عام 1976، وفاز بأصوات تقل عن الأصوات التي فاز بها المرحوم فهد القواسمة، الذي شغل منصب رئيس البلدية في تلك الفترة، وكأن السلطة الفلسطينية تتعامل مع نتائج انتخابات 1976 كأرضية ستاتيكية في مجالات التعيين، حتى يحين إمكانية اتخاذ عقدها.

وفي ما يتعلق بانتخابات المجلس التشريعي، فقد كان مقرراً تمثيل المحافظة بتسعة أعضاء على صعيد المحافظة. واستطاع مرشحوا حركة حماس الفوز بالمقاعد كلها، وبسهولة، وهم "باسم الزعارير، حاتم قفيشة، سمير القاضي، عزام سلهب، نزار رمضان، محمد الطل، نايف الرجوب، محمد مطلق، عزيز دويك:رئيس المجلس التشريعي". ومن اللافت للنظر أن ثلثيهم من مدينة الخليل، والثلث المتبقي من دورا، وصوريف، وهم من ثاني أكبر المواقع في المحافظة نشاطاً ودعماً لحركة حماس. أما فيما يتعلق بممثلي الخليل على صعيد القوائم، فقد فازت سحر القواسمة عن قائمة حركة فتح.

وبملاحظة سريعة نستطيع اكتشاف عدم وجود نخبة ذات أصول لاجئة وذات تأثير ونفوذ في محافظة الخليل، أو حتى على صعيد قيادي للأحزاب السياسية والتي تركزت بالقرى، في حين تمثلت سابقاً من خلال محمد الحوراني من مخيم الفوار عن قائمة فتح، وهذا يعكس بالمضمون حالة العزلة والتهميش التي تشهدها مخيمات الخليل، لا في الانتخابات الأخيرة فحسب، بل حتى تاريخياً، حيث أن التقسيمات الجغرافية (مدني، فلاح، لاجىء) نجدها أكثر حدية في الخليل بمقارنة مع بيت لحم، إلى جانب وجود المخيمات في الخليل على هامش المدينة، وليس في قلب المدينة، كما هو حال مخيمات بيت لحم، الأمر الذي حرم اللاجئين إمكانية الاندماج والتأثير في مجال صنع القرار، وهذا ما يفسر بعض النزعات المحافظة في مخيمات الخليل، في مقابل الانفتاح النسبي لمخيمات مدينة بيت لحم التي تشهد حضوراً للحركة الوطنية واليسارية يفوق حضورها في مخيمات الخليل.

وفي مقارنة سريعة لحجم المشاركة السياسية في المحافظتين، فأننا نجد أن نسبة مشاركة المواطنين في الانتخابات الرئاسية 2005 في الخليل يشكل (58%)، في حين إنها بلغت في بيت لحم (74%)، والسبب، على ما يُعتقد، هو عدم مشاركة حركة حماس فيها، أو مقاطعة حزب التحرير الإسلامي لها. وعلى صعيد انتخابات المجلس التشريعي2006، كانت نسبة مشاركة بيت لحم (74%) أكبر قليلاً من نسبة المشاركة في الخليل (70%)، علماً أن النسبة الاجمالية في الأراضي الفلسطينية كانت (77%) (لجنة الانتخابات المركزية،2005)، وقد لوحظ عدم وجود مقاطعة في بيت لحم من قبل الأحزاب الإسلامية لأي اعتبار، حيث بقيت النسبة ثابتة، في حين زادت (12%) في مدينة الخليل. والجانب الأكثر بروزاً على صعيد المحافظتين هو أن نسبة تأييد وانتخاب أحزاب يسارية، كالجبهة الشعبية وقائمة البديل في بيت لحم، أعلى بكثير من محافظة الخليل.

تلخيصاً لما تقدم، نرى أن طبيعة التشكيلات التقليدية، أي "الحارات" سواء على أساس العائلات أو الطوائف، ما زالت قائمة، حيث أن الأحزاب السياسية تبنت توجهاً يقضي بأن يكون مرشيحها من ذات أصول متنوعة (قرية مدينة ومخيم، مسلم ومسيحي) تلامس تنوعات المجتمع، وهذا ما عكس نفسه في قوائم مرشحي الأحزاب السياسية، إن كان ذلك على أساس المجالس البلدية أوعلى أساس المجالس التشريعية. إلا إننا نرى في تلك الأصول اختلافاً بين المدينتين من حيث التنوع، وهو ما نشاهده في بيت لحم بصورة اوضح مما نشاهده في الخليل؛ حيث أن بنية الأحزاب وأداءها أيضاً يختلفان في المحافظتين، وإن كانا من نفس الفصيل السياسي نفسه. هذا إلى جانب دور وحضور نخب من أصول لاجئة نراها أكثر تمثيلاً في بيت لحم، وأكثر تأثيراً أيضاً، لا على صعيد المحافظة فقط، وإنما أيضاً على صعيد الأراضي الفلسطينية.

رابعاً: مؤسسات العمل المدني ما بين التقليد والحداثة
يُعد عمل المؤسسات المدنية واداءها صورة تعكس مضمون البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تعيش في محيطها، وذلك من خلال طبيعة الأنشطة التي تتبناها وتقوم بالإشراف عليها، وعليه، نستطيع قياس الذوق المدني من خلالها.

تُعتبر ظاهرة انتشار المؤسسات المدنية في الأراضي الفلسطينية من المميزات التي استطاع المجتمع الفلسطيني تحقيقها في ما قبل تشييد الدولة المركزية، وبالتالي ارتبطت التجربة المؤسساتية في فلسطين بفرادة وشخصية المؤسسات المدنية والتجربة التاريخية التي مرت بها، واختلفت بحسب بحسب رؤيتها وأهدافها وطبيعة أنشطتها، فتعددت أنواع تلك المؤسسات بين مؤسسات الخيرية وإغاثية وخدماتية وشبابية ونسوية وبحثية وزراعية...الخ.
تمتاز مدينة الخليل، إلى جانب ما ذُكر، بتأطير الحياة العشائرية وتنظيمها، بحيث يمكن القول أن إنهما أصبحا يشكلان حيزاً بارزاً في فضاء العلاقات في مركز المدينة وفي ريفها؛ حيث ان العائلة في الخليل تشارك في أنشطة متعددة، منها: الضمان والتكافل الاجتماعي لأفراد العائلة، ولجاناً أخرى تتعلق بالتأمين الاجتماعي والصحي، ودعم الطلبة من أبناء العائلة، وهو عمل مُمَنهج يعرف بـ" الدواوين العائلية"، التي تنتشر في الخليل على نحو يتناسب مع حجم عائلاتها، حيث يشارك أعيان العائلة الواحدة في بناء ديوانها ليكون مرجعية لاتخاذ القرارات المتعلقة بمصير العائلة، ومكاناً تلتقي فيه العائلة في أفراحها وأتراحها، وتناقش العائلة فيه مشاكلها الداخلية أو المشاكل التي تنشأ بين عائلة وأخرى، هذا الشكل من المؤسسة العائلية تفتقده تجربة بيت لحم، حتى في ريفها الشرقي والمتعارف عليه بنفوذ ودور العائلات.

إن تاريخ تأسيس منظمات المجتمع المدني في الخليل اتخذ منذ البداية في الستينيات الشكل التقليدي في العمل، والطابع الخيري والإغاثي والديني، وهو يتمثل في جمعية الشبان المسلمين، وجمعية الشابات المسلمات، باعتبار ان تجربة العمل المؤسساتي فيها متواضعة، قياساً بالعمل المؤسساتي في مدينة بيت لحم، التي يعود تاريخ العمل المؤسساتي إلى العشرينيات من القرن الماضي، حيث تمثل بالمؤسسات الكنسية والخيرية والنسائية، ثم تطور في الخمسينيات إلى مؤسسات وطنية وعلمانية، مثل النادي العربي الأرثوذكسي والاتحاد النسائي العربي، ومركز النشاط النسوي.

ويبدو أن لتاريخ التجربة ونوعها والبيئة التي نشأت فيها تأثيراً كبيراً في طبيعة المؤسسات وعملها في يومنا هذا؛ فلو قارنا ما بين المحافظتين، فنجد أن نسبة المؤسسات إلى الأشخاص في محافظة بيت لحم هي (مؤسسة واحدة لكل1961 شخصاً)، في حين إنها في محافظة الخليل (مؤسسة واحدة لكل5990 شخصاً)، أما فيما يتعلق بطبيعة عمل تلك المؤسسات فنجد أن نسبة المؤسسات، نجد أن نسبة المؤسسات التقليدية الخيرية في بيت لحم هي (24%) من حجم المؤسسات، في مقابل (36.9%) في محافظة الخليل(وزارة الداخلية الفلسطينية، 2009)، وتتساوى الإعداد تقريباً في المؤسسات الشبابية، والثقافية، والصحية، والبيئية، ومؤسسات فن المسرح في المحافظتين، بالرغم من أن عدد سكان الخليل يفوق عدد سكان بيت لحم بخمسة أضعاف.

وبشأن تميز بعض مؤسسات مدينة بيت لحم من حيث الأنشطة والأهداف، نجد مؤسسات تعمل على تقريب وجهات النظر الإسلامية والمسيحية، أبرزها "مركز اللقاء" الذي تأسس في عام(1982)، ومؤسسات تنادي بالمقاومة السلمية، أبرزها "مركز التقارب ما بين الشعوب" الذي تأسس في عام (1988)، ومؤسسات تنادي بدولة واحدة في فلسطين، أبرزها "مركز المعلومات البديلة" الذي تأسس في عام (1984) ويضم نشطاء سياسيين فلسطينيين وإسرائيليين. أما في الخليل، فلا نجد مؤسسة واحدة مماثلة من حيث الأهداف، ذلك أن بيئة الخليل لا تستطيع إنتاج، أو حتى احتضان، مؤسسات كهذه.

إلى جانب ذلك،؟ نجد في المحافظتين مؤسسات كثيرة تعمل في مجال التنمية المجتمعية والبحثية والزراعية والثقافية، وتهدف إلى نشر مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتمكين المرأة. وما يميز بيت لحم من نظيرتها في الخليل هو طبيعة كوادرها الإدارية والتنظيمية ذات التجربة العميقة والواسعة، كجزء من تاريخ المدينة، وهو ما يفتقد إليه الكادر الإداري في الخليل.

وحول وجود مؤسسات دولية، فقد عرفت مدينة بيت لحم مثل هذه المؤسسات في بداية القرن العشرين؛ حيث ساهم تواجد السياح والحجاج والمتطوعين الأجانب في تغيير نمط وأداء المؤسسات التي تحتضن مشاريعهم، او في طبيعة المشاريع المقدمة لهم من دول أوروبية، إلى جانب الاختلاط بين السكان المحليين والمتطوعين الأجانب المتضامنين مع الشعب الفلسطيني، وما يعنيه ذلك من خيارات في طرق التفكير والحياة قد يفتقدها الواقع في المدينة، حيث ساهمت هذه التجربة، بصورة او بأخرى، في استيعاب حضور الأجنبي ووجوده كجزء أساسي من واقع المدينة وسمعتها، فضلاً على وجود المتطوعين الدوليين المتضامنين مع الشعب الفلسطيني، خصوصاً مع بداية الانتفاضة الشعبية الأولى، وتكثيفها في الانتفاضة الثانية.

أما في الخليل، فإن واقع وجود "الأجانب" فيها والتآلف معهم مختلف؛ فأول اختلاط مع المؤسسات الدولية كان مع " البعثة الدولية للوجود الدولي المؤقا في الخليل" عام 1997، وهي البعثة التي أُنتدبت للانتشار في المدينة نتيجة الاتفاقية السياسية بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي. وقد حرص القائمون على أعمالها أن يكون جزء من موظفيها من أصول عربية تحمل جنسيات أوروبية، إلى جانب تواجد الحركة المسيحية للسلام في قلب المدينة لتوثيق حالات انتهاك حقوق الفلسطينيين.

في هذا الصدد، نلاحظ أن تجربة سكان الخليل مع المؤسسات الدولية هي حديثة نسبياً، مقارنة بتجربة بيت لحم، وهي بالتالي تعكس محدودية فهم الآخر "الأجنبي" في واقع اجتماعي تقليدي وسياسة حصار إسرائيلية حرمت المدينة الانفتاح على تجارب وأنماط معيشية أخرى، حيث إن صورة المؤسسات الأجنبية يُنظر إليها بأعين من التشكك والريبة، كما حدث مثلاُ عندما هبت الجماهير في مدينة الخليل في 14/3/2006 في إثر قيام جنود إسرائيليين بإقتحام وتدمير سجن أريحا من أجل اعتقال الأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات ورفاقه، على الرغم من كون هؤلاء الأسرى في حماية بريطانية وأمريكية؛ فقد أثار هذا الحدث حفيظة سكان مدينة الخليل، فطالبوا بطرد كل الأجانب كلهم، وعلى وجه التحديد الأمريكيين والبريطانيين، الأمر الذي دفع بعثة التواجد الدولي المؤقت إلى تطبيق مشروع شامل يوضح دور وأهمية الدور التنموي الذي تقوم به في خدمة المدينة.

ومن جانب آخر، شكلت بيت لحم ملجأً للأجانب العاملين في مدينة الخليل، نظراً إلى ما في المدينة من خيارات متاحة لارتياد المطاعم والبارات، ونظراً إلى طبيعة الحياة المنفتحة نسبياً فيها. ولذلك، فإنها تقصد كمكان للسكن أو لتمضية أوقات الفراغ أو للعطل الأسبوعية، هذا إلى جانب قيام مؤسسات في الخليل بالإشراف على مخيمات شبابية دولية في مدينة بيت لحم لا في بالخليل.

خامساً: المرأة والحيز العام
تعتبر تراكي وجقمان النوع الاجتماعي إحدى مميزات شخصية المكان؛ حيث إن لدور المرأة ومكاننها وأذواقها وملابسها وأنشطتها دلالات في ما يتعلق بطبيعة البنية الاجتماعية التي تحيط بها، والتي تعكس بالعام مزاج وتوجهات السكان في المدينة، فهما تؤكدان أن الخليل لم تقدم نخبة نسوية على مدار القرن السابق، خلافاً لما فعلته مدينتا رام الله ونابلس (تراكي وجقمان، 2008) ، وهذا صحيح؛ فكما سبقت الإشارة، فإن بنية المجتمع الخليلي هو اقرب للنظام الأبوي، الذي تكون فيه مساحات ضيقة لحرية المرأة وحقوقها ودورها، فاقتصرت أنشطة المرأة في محافظة الخليل تاريخياً على الأنشطة الخيرية، ولم يكن لها أي دور ريادي بارز على صعيد الحركة النسوية، وحتى في مراحل متقدمة في وقتنا.

تتماهى تجربة بيت لحم نوعاً ما مع تجربة الخليل من حيث إنه لم يكن في القرن الماضي ثمة نخب نسوية تلحمية على صعيد الوطن، باعتبار أن مدينة بيت لحم لم تشكل وزناً في المجال القيادي للمناطق الفلسطينية. ومع ذلك، كان هنالك بعض القيادات النسوية التي ساهمت وتساهم بدور ريادي في مجال العمل المؤسساتي الخدماتي والاغاثي والتراثي، من امثال جوليا دبدوب وفكتوريا قنواتي، فكانت مدينة بيت لحم من أول المدن التي احتضنت المؤسسات النسوية، حيث أسست حلوة جقمان مع نساء أخريات الاتحاد النسائي العربي عام 1947، وجمعية الرعاة الخيرية في عام 1960، ونادي الاتحاد العائلي في1969. وارتبطت المؤسسات النسوية تلك، وغيرها ، بمؤسسات مقدسية، ارتبطت لاحقاً بنخب ومؤسسات وأحزاب في رام الله، خصوصاً مع بداية الانتفاضة الأولى، وتمتاز المدينة أيضاً بحضور المرأة في المناسبات والأنشطة المجتمعية على نحو يفوق حضورها في الخليل، التي لا يوفر وسطها الاجتماعي المحافظ بيئة حاضنة لأنشطة نسوية.

وعلى خلاف ذلك، نرى اختلافات واضحة من حيث طبيعة لباس المرأة في بيت لحم، فهو أكثر ارتباطاً بحياة المدينة وأكثر تحرراً. وفيما يتعلق بين الجنسين، فإنه معمول به في معظم مراحل المدارس الخاصة، وفي المرحلة الجامعية عموماً، حتى بالنسبة إلى المدارس التي ليس فيها اختلاط بين الجنسين، فإنها تختبره في مرحلة الجامعية. وبالتالي نجد أن للمرأة في بيت لحم حدوداً أبعد ومساحة أوسع مما هي عليه في الخليل، التي يتميز لباس النساء فيها بالحجاب ولبس وتغطية الرأس بمنديل بصورة شاملة، وينعدم فيها الاختلاط في المدارس، وفي الجامعات إلى حد ما. وبالتالي نستطيع القول إن بيت لحم تهيئ فضاء اجتماعياً قائماً على الاختلاط بين الجنسين أكثر مما توفره مدينة الخليل.

تعكس هذه التوجهات الاختلافات نظرة مغايرة حول مكانة ودور المرأة في المحافظتين إلى طبيعة العادات والتقاليد حول دور المرأة التقليدي في المنزل وخدمة أسرها، وطبيعة الفضاء الاجتماعي الذي يستوعب دور ولباس المرأة بهذه الصورة أو بتلك.

سادساً: هل تعكس الإحصائيات حالة التباين هذه ؟
بعد استعراضنا أهم خصائص كلً من شخصية المدينتين ومحيطها، وهي الخصائص التي ساعدت فيها التجربة التاريخية والثقافية والاجتماعية على خلق حالة من التفرد لشخصية المكان، وانعكاس ذلك على توجهات السكان الحياتية وسلوكياتهم اليومية، لا بد من أن تعبر حالة التباينات هذه عن نفسها بتوجهات وممارسات، وحتى بخصائص ديموغرافية، اقتصادية، تعليمية، نعتقد أنها ذات صلة ومرتبطة عضوياً ببنيتها الثقافية والاجتماعية. وحتى يتم لنا ذلك، سنقوم بالاعتماد على تقرير النتائج النهائية للتعداد لعام - تقرير المحافظات -2009 الذي أجراه الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عام 2007 ، إضافة إلى إحصاءاات من مصادر أخرى سيُشار إليها عند استخدامها.

1_ تباينات ديموغرافية
يوضح جدول رقم (1) التباينات الديموغرافية بين المدينتين، وهي اختلافات نعتقد أن لها علاقة بتباين توجهات المدينتين حول مفاهيم الحياة العائلية، وكذلك بالمستوى المعيشي، وحتى على صعيد التخطيط في ما يتعلق بمستقل الأسرة، باعتبارها جزءاً من ثقافتها.
جدول رقم (1):
متغيرات ديموغرافية في محافظتي بيت لحم والخليل(بالنسبة المئوية).
المؤشرات بيت لحم الخليل
نسبة الأفراد الذين تقل أعمارهم عن 14 سنة من حجم السكان 39.3 % 44.7 %
15- 64 سنة 54.9% 51.7%
65 فأكثر 3.7% 2.6%
العمر الوسيط (بالسنوات) 19 سنة 16 سنة
العمر الوسيط عند الزواج الأول بالسنوات ذكور 24 / اناث 18 ذكور 23/ اناث 18

متوسط حجم الأسرة 5.4 شخص 6.1 شخص
نسبة المتزوجات من الإناث 12 سنة فأكثر 50.9% 53.7%
نسبة المطلقين من مجموع السكان 12 سنة فأكثر 0.6% 0.4%


نلاحظ ممَا سبق أن هنالك تباينات ديموغرافية ما بين محافظتي بيت لحم والخليل؛ حيث نجد أن مستوى الخصوبة في الخليل أعلى منه في بيت لحم؛ إذ تبلغ نسبة الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 14 سنة في بيت لحم (39.3%)، وفي الخليل (44.7%)، علمناً بأن العمر الوسيط في بيت لحم هو 19 سنة في مقابل 16 سنة في الخليل. وتعكس هاتان النسبتان توجهات الاعتداد بالأطفال وما يمثله ذلك لقيم العائلة الممتدة الريفية وحجمها. ومن جانب آخر، وصلت نسبة الإعالة في الخليل إلى 91.5 لكل مئة شخص في مقابل 78.3 لكل مئة شخص في بيت لحم، وهو ما يعني تكاليف زائدة على كاهل الأسرة، وبالتالي تقليل التوجهات نحو أنشطة في مجال الترفيه، وهنالك من جانب آخر تأثير عدد الأطفال في مستقبلهم، خصوصاً في ما يتعلق بتحصيلهم الدراسي، حيث دلت نتائج التعداد على علاقة عكسية ما بين عدد الأطفال والمستوى التعليمي. أما فيما يتعلق بالفئة 65 سنة فأكثر، فنجد أن نسبتها في بيت لحم (3.7%) وفي الخليل (2.6%). ونستطيع التكهن أن مستوى الرفاه والرعاية الطبية والصحية في بيت لحم أعلى مما هو في مدينة الخليل.

أما فيما يعلق بحجم الأُسرة، فتشير نتائج التعداد إلى أن متوسط حجم الأسرة في محافظة بيت لحم هو 5.4 شخص لكل أُسرة، في حين إنه في الخليل 6.1 شخص لكل أسرة، حيث تميل الأسر من الطبقة المتوسطة الحديثة (التي يفوق عددها عدد الأُسر من الطبقة المتوسطة في الخليل) إلى أن يكون عدد أطفالها ما بين (3-5). وإذا قارنا نتائج التعداد في ما يتعلق بالتفاوت بين المناطق الحضرية والريفية، نجد متوسط حجم الأسرة في مدينة بيت لحم هو 4.7 أشخاص لكل أسرة في مقابل المدن جميعاً (5.3) وفي القرى (5.7) وفي المخيمات (5.2). ووصلت نسبة الأطفال أقل من 14 سنة في مدينة بيت لحم (67.3%)، وبالتالي تميز مركز مدينة بيت لحم باقترابه من العدد المفضل لحياة المدن العصرية من حيث عدد أفراد الأسرة فيها، وبالتالي تشكيل نموذج حضري لحجم الأُسرة. في مقابل ذلك نجد أن حجم التفاوت بين مركز المدينة في الخليل والتجمعات المحيطة بها قليل، وهذا ما دفعنا إلى القول إن مدينة الخليل تشكل امتداداً لريفها من حيث بنيتها العائلية والتي تتماثل مع محيطها الريفي، حيث ان متوسط حجم الأُسرة في مدينة الخليل هو (6) وهو رقم مرتفع إذا علمنا أن متوسط حجم الأُسر في مدن الخليل هو (6.1) أفراد، وفي الأرياف(6.6) أفراد، وفي المخيمات (6.1) أفراد، وبلغت نسبة الأطفال دون سن 14 سنة في مدينة الخليل لوحدها (88%) من حجم السكان فيها.

ومن جانب آخر، بلغت نسبة المتزوجات من الإناث 12 سنة فأكثر (50.9%) في بيت لحم، مقابل (53.7%) في الخليل، وهو ما يدل على أهمية الزواج وتوجهات المجتمع المحافظ لزواج الفتيات في وقت مبكر، حيث إن عدد حالات الزواج المبكر في الخليل أعلى منه في بيت لحم. أما نسبة الطلاق، فنجد أن نسبة مدينة الخليل أقل من بيت لحم، وتتسق هذه النتيجة أيضا مع النتائج السابقة، من حيث أن الطلاق، بالمفهوم التقليدي يساهم في تشتيت الأُسرة، وبما إن الاعتداد بالعائلة وأهميتها فيها أكبر، فلا بد أن تكون نسبة الطلاق فيها أقل من أي مدينة ثانية.

يمكننا أن نستنتج من الأرقام السابقة أن مدينة الخليل تتماهي مع ريفها من حيث بُعدها العائلي والعشائري كقيمة أساسية ومحرك مهم للافتخار بعدد أكبر من الأطفال، وهي سمة مرتبطة بالمجتمع الأبوي التقليدي الأمر الذي يفسر حالة التماهي ما بين مدن الخليل والقرى. وبهذا نستطيع القول إن مدينة الخليل لم تساهم في تقديم صورة مغايرة لمحيطها فيما يتعلق بشكل الأسرة وحجمها وتشكيلها، كما هو الحال في مدينة بيت لحم .

2 _ الخصائص التعليمية
تكمن أهمية التعليم في المجتمعات في كونها مدخلاً إلى التعرف إلى أنماط ثقافية واجتماعية وطرق حياة جديدة قد يفتقدها الواقع المعيش. ومن هنا رأينا أهمية استعراض هذا الجانب في مقارنتنا ما بين الخليل وبيت لحم، ليست باعتبارها أرقاماً إحصائية فحسب، وإنما باعتبارها أيضاً نتاجاً لقيم بنيوية تشدد أو لا تشدد على أهمية التعليم وتدفع باتجاهه.
وهذا ما تتفق معه نتائج الخصائص التعليمية؛ فمستويات التعليم في الخليل منخفضة مقارنة بمستوياته في بيت لحم، وسجلت الخليل أكبر نسبة من حيث الأمية، وأقل نسبة من حيث حملة شهادات البكالوريوس، حيث يوضح جدول رقم(2) التوزيع التعليمي في محافظة بيت لحم والخليل.
جدول رقم(2)
التوزيع التعليمي في محافظة بيت لحم والخليل (بالنسبة المئوية)
مؤشرات بيت لحم الخليل
عشر سنوات فأكثر حسب الحالة التعليمية
أمي 5.7% 6.7%
ملم 13.2% 14.8%
ثانوي فأقل 69.3% 68.8%
دبلوم متوسط 3.8% 3.3%
بكالوريوس 6.8% 5.6%
دبلوم عالي فأكثر 1.2% 0.6%
التخصصات التعليمية
المركز الأول 18.8% العلوم التجارية والإدارية. المركز الأول في العلوم الإنسانية 23.4%.
المركز الثاني 15.9% علوم تربوية المركز الثاني العلوم التجارية 12.7%

بلغت نسبة الأمية من مجمل السكان 15 سنة فأكثر (6.8%) في بيت لحم، و (8.3%) في الخليل. كما أن نتائج التعداد تعكس التباين، ليس على صعيد المحافظتين فقط، وإنما أيضاً على مستوى التجمعات الجغرافية والنوع الاجتماعي، حيث كانت التباينات في محافظة بيت لحم كما يلي: نسبة الأمية بين الذكور كانت (3.7%) من حجم الذكور، في مقابل (9.9 %) نسبة الأميات من حجم الإناث، أما في ما يتعلق بتوزيعها على الصعيد الجغرافي، فقد كانت أقلها في الحضر (6%)، والقرى (8.8%) والمخيمات (7.1%) من حجم السكان، حيث نجد ان نسبة الأمية في الحضر هي أقلها ومن ثم في المخيمات والقرى. أما على صعيد محافظة الخليل، فقد كانت نسبة الأمية لدى الذكور (4.7%) من مجمل عدد الذكور، ولدى الإناث (12.1%) من مجمل عدد الإناث. وفيما يتعلق بتوزيعها على التجمعات الجغرافية، فقد كانت أقل نسبة للأمية في المخيمات، حيث وصلت النسبة إلى (6.3%)، ثم الحضر (7.7%) وأخيراً الريف (13.2%)، وهي سمة مرتبطة بمخيمات الأراضي الفلسطينية عامة، حيث أن سكان المخيمات ينظرون إلى التعليم كمسألة أساسية لعملية الحراك الاجتماعي ولتحسين فرص العمل، بما يعنيه ذلك من تحسين لأوضاعهم الاقتصادية.

أما فيما يتعلق بالاختلافات بين مخيمات بيت لحم ومخيمات الخليل، فقد أشارت نتائج المسح إلى أن نسبة الأمية في صفوف من هم في سن 15 سنة فأكثر في مخيمات الخليل وصلت إلى (7.1%) من حجم السكان، وفيما يتعلق بتوزيعها حسب الجنس، فهي (3%) من حجم الذكور، في مقابل (11.2%) من حجم الإناث. وعلى صعيد مخيمات بيت لحم، فقد كانت نسبة الأمية أقل من مخيمات الخليل وبتفاوت اقل حسب النوع الاجتماعي، حيث وصلت نسبة الأمية إلى(6.2%)، بواقع (3.3%) لدى الذكور، و (8.6%) لدى الإناث. وفي ما يتعلق بحملة شهادات البكالوريوس وما فوق، فقد كانت نسبتهم (9%) في مخيمات بيت لحم، في مقابل (5.8%) في مخيمات الخليل(الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2008)

توضح هذه النتيجة تفاوت النتائج، ليس على صعيد المحافظتين فحسب وإنما على صعيد المخيمات أيضاً، في ما يتعلق بأهمية التعليم في محافظة بيت لحم، وتماهي المخيمات مع تلك القيمة، باعتبار أن شروط التوظيف مرتبطة بمستويات تعليمية أعلى، وحيث إن هذه النزعة نحو التعليم ليست مرتبطة فقط بخيارات فردية وإنما هي مرتبطة بسوق العمل الذي تتطلبه مؤسسات وشركات المحافظة. وما نريد أن نؤكده هو أن مخيمات بيت لحم تأثرت بتجربة مدينة بيت لحم، خصوصاً في بالمجال التعليمي، ودرجة إقبالها تفوق درجة إقبال المخيمات في الخليل، وهو ما يعني فرصاً أفضل لتحسين المستويات الاجتماعية والثقافية، لارتباط التعليم بمستوى وطريقة تفكير ترتبط أكثر بنمط الحياة الحضرية والمدنية والأذواق المرتبطة فيها.

تعكس النتائج السابقة تباينات عدة على جميع الصعد التي تم ذكرها، وكانت كلها لصالح بيت لحم، وأبرز النتائج هي أن نسبة الأمية في المدن تفوق المخيمات في الخليل. وتفسر هذه النتيجة عدة قضايا مرتبطة بحجم الطبقة المتوسطة الحديثة(5) في المخيمات مع حجمها في المدن، خصوصاً إذا علمنا أن اهم متطلب للطبقة المتوسطة الحديثة هي الشهادة الجامعية. وتفسر هذه النتيجة قضايا عدة، أهمها وجود علاقة ما بين متوسط الزواج، الذي يرتفع بارتفاع متوسط التعليم، وحجم إنجاب الأطفال. وعلى ما يبدو، فإن محافظة الخليل لا تعتبر التعليم مسألة أساسية ومهمة كما هو الحال في بيت لحم، باعتبارات عدة، أهمها حسب اعتقادنا أن الحصول على العمل في محافظة الخليل لا يتطلب مستويات تعليمية عالية، وخاصة في المجالات التجارية والتجارة الصغيرة، إلى جانب العمل مع شركات ومؤسسات تخص العائلة، وهو ما تتقاطع معه تحليلات تراكي وجقمان (تراكي وجقمان، 2008)، وتفسر ذلك، من جانب آخر، نسبة الحاصلين على الشهادات الجامعية، حيث كان المركز الأول في بيت لحم لتخصص العلوم التجارية والإدارية التي تعكس احتياجات السوق وطبيعة نمط المؤسسات، والطلاب وسعيهم إلى العلوم الحديثة، خصوصاً الجوانب الإدارية، في حين كان أن المركز الأول في الخليل هو تخصص العلوم الإنسانية، وهو تخصص مرتبط بمؤسسات تعليمية أو خدماتية أكثر.

والجانب الأهم في هذا المجال هو أن لدى فئات الطبقة الوسطى الحديثة اهتماماً بتعليم الأبناء، ذكوراً وإناثاً، كما وحرصاً على تقديم التعليم الأفضل لهم، خصوصاً في المدارس الخاصة التي تستخدم الأساليب الحديثة في التدريس، إلى جانب أهمية تعليم اللغات الأجنبية فيها، حيث ان حجم الطبقة المتوسطة والمدارس أكثر انتشاراً في بيت لحم من الخليل.

3 _ المجال الاقتصادي
سنقوم في ما يلي بتوضيح التباينات على صعيد أهم الأنشطة الاقتصادية، وطبيعة المهن في المدينتين، حيث يوضح لنا جدول رقم (3) أهم الأنشطة الاقتصادية، التي تفوق نسبة تمثيلها في مدينة بيت لحم نسبة تمثيلها في الخليل. وكما سبق القول، فإن السمة الأساسية هو وجود أنواع مختلفة من الاقتصاديات المتعايشة. بالرغم من أن حجم الأنشطة التجارية هو أكثر الأنشطة حضوراً في المدينتين، فإنها تتباين في جوانب أخرى .
جدول رقم (3)
أهم الأنشطة الاقتصادية، إحصاءات منتقاة ، وفق نتائج التعداد السكاني لعام 2009(بالنسبة المئوية).
أهم النشاطات الاقتصادية بيت لحم الخليل
تجارة الجملة والتجزئة وإصلاح المركبات 51.4% 57.3%
الصناعات التحويلية 19.6% 16.3%
أنشطة الخدمات المجتمعية والشخصية 8.6% 7.1%
الفنادق 3.7% 2.8%
الزراعة (تربية الماشية وحيوانات أخرى ) 1.8% 3.4%

نلاحظ من الجدول السابق وجود تفاوت في حجم الأنشطة الاقتصادية. وهو أمر مثير للانتباه في جانبين، أولهما جانب السياحة، الذي هو السمة الأساسية لاقتصاد بيت لحم؛ إذ وصلت نسبة الأنشطة الاقتصادية في مجال الفنادق إلى (3.7%) في مقابل (2.8%) في الخليل، وبالرغم من التفوت ليس كبيراً، فإنه لصالح بيت لحم، خصوصاً إذا علمنا أن القطاع السياحي في مدينة بيت لحم استحوذ على جميع القادمين إلى الأراضي الفلسطينية، وأن (80%) من السياح أقاموا في بيت لحم، وفقاً لاحصاءات رسمية (وزارة السياحة والآثار، 2008).

ومن الجانب الثاني، كانت الانشطة المرتبطة بالزراعة وتربية الماشية أوفر في الخليل منها في بيت لحم، علماً بأن ثلث الثروة الحيوانية تتركز في محافظة الخليل، وهذا ما عنيناه بالتباينات في الأنماط الاقتصادية واختلاطها بالخليل أكثر من بيت لحم.

وهذا ما تدعمه أيضاً إحصائيات المهن الرئيسية، التي يزاولها النشيطون اقتصادياً؛ حيث تعكس إحصاءات الجدول رقم (4) اختلافات المهنة، ليست باعتبارها عملاً فحسب، بل باعتبارها أيضاً دليلاً على فروق طبقية بين المدينتين .

تشير إحصاءات جدول رقم(4) إلى توزيعات المهن الرئيسية لمحافظتي الخليل وبيت لحم، حسب النوع الاجتماعي ونوع التجمع السكاني؛ حيث تظهر فروقات عالية على صعيد النوع الاجتماعي في المهن المختلفة، وهي ظاهرة مرتبطة ببنية المجتمع الفلسطيني ككل. أما فيما يتعلق بمجتمع البحث، حيث نجد أن حجم مشاركة المرأة في قوة العمل أكبر في بيت لحم، حيث وصلت نسبتها إلى (15.8%)، في حين كانت (10.6%) في محافظة الخليل.

جدول رقم (4)
التوزيع المهني للقوى العاملة (النشيطة اقتصادياً) في بيت لحم والخليل حسب النوع الاجتماعي، نوع التجمع السكاني، وفق نتائج التعداد السكاني لعام 2009 (بالنسبة المئوية).



المهن الرئيسة بيت لحم الخليل
النسبة ذكر أنثى النسبة ذكر انثى
وظائف طبقة وسطي حديثة * 26.2% 58.7% 41.3% 21% 63.2% 36.8%
عمل في الخدمات والبيع 14% 86.5% 13.5% 17.6% 94.5% 5.5%
عمل يدوي ماهر وغير ماهر** 29.6 % 96.2% 3.8% 33% 97.9% 2.1%
عمل حرفي 26.6% 94.5% 5.5% 25.5% 96.5% 3.5%
غير مبين*** 3.6 % 95.4% 4.6% 2.9% 87.1% 12.9%

توزيعها حسب التجمع السكاني
مدن القرى المخيمات مدن القرى المخيمات
وظائف طبقة وسطي حديثة * 69.2% 22.3% 8.5% 86.9% 8.1% 5%
عمل في الخدمات والبيع 68.4% 22.6% 8.9% 91.1% 6.2% 2.7%
عمل يدوي ماهر وغير ماهر** 61.8% 30.8% 7.4% 83.5% 14.7% 1.8%
عمل حرفي 68.5% 25.5% 6% 89.1% 9.2% 1.7%
غير مبين*** 1.7% 36.1% 6.9% 85% 13.6% 1.4%
_____________________________________________________________
* تشمل أربعة فئات من الوظائف: الفئة الأولى ، تشمل : المشرعين وموظفي الإدارة العليا، الفئة الثانية المتخصصين، الفئة الثالثة: الفنيين والمتخصصين المساعدين، الفئة الرابعة: الكتبة.
** تشمل العمال المهرة في الصيد والزراعة، ومشغلي الآلات ومجمعيها، والعاملين في المهن الأولية.
*** أفراد قد يكونوا من الطبقة الرأسماليين او من الفئة الأولى من المشرعين وموظفي الإدارة العليا.
ملاحظة: قام الباحث باستخراج الأعداد وحساب نسبة التوزيع المهني للقوى العاملة حسب النوع الاجتماعي والتجمع السكاني من نتائج التعداد السكاني لعام 2009 لمحافظتي بيت لحم والخليل.


أما في ما يتعلق بحجم الطبقة الوسطى، فإن نسبتها في بيت لحم أعلى من نسبتها في الخليل، فكانت في الأولى (26.2%) وفي الثانية (21%). وتدلل الإحصاءات على أن حجم الفجوة في النوع الاجتماعي في بيت لحم أضيق ممَا كان في الخليل من حيث وظائف الطبقة المتوسطة الحديثة، حيث كانت نسبة الذكور (58.9%) في مقابل (41.3%) للإناث. أما في الخليل فكانت نسبة تمثيل الذكور (63.2%)، ونسبة الإناث (38.8%)، وتركز أكثر من نصف قوى العمل من النساء بمحافظة الخليل (54%) في مجال مهنة التعليم، في حين إن النسبة في بيت لحم (38.9%). والتعليم مهنة تقليدية نيطت دائماً للنساء، وهو ما يعطي انطباعاً بأن بيئة بيت لحم تشجع وتدعم تعليم النساء أكثر وفي مجالات مختلفة، ومن ثم تدعم مشاركتهن في العمل، خصوصاً أن مهن الطبقة المتوسطة بحاجة إلى درجات علمية أعلى من الدبلوم. وبهذا نستطيع القول إن سبب هذا التباين يعود إلى أن بيت لحم أكثر تشجيعاً للإناث على الحصول على شهادات علمية، وبالتالي الحصول على عمل، أو أن نسبة كبيرة من الحاصلات على الشهادات في الخليل لا يفضلن العمل من أجل التفرغ للأعمال المنزلية، والسببين يتسقان أكثر مع سمات ثقافة الريف لا مع ثقافة المدن.

وفيما يتعلق بتوزيع المهن حسب الديانة، فقد وصلت نسبة النشطاء من المسيحيين إلى (18.7%) من حجم القوى العمالة في بيت لحم. أما فيما يتعلق بحجم الطبقة الوسطى الحديثة على صعيد الفلسطينيين المسيحيين، فإنهم يشكلوا ما نسبته (31.1 %) من حجم وظائف الطبقة المتوسطة الحديثة على صعيد الفلسطينيين المسيحيين، فإن هذه الطبقة تشكل ما نسبته (31.1%) من العاملين في مهن البيع والخدمات، و(22.5%) من أصحاب المهن والحرف، و (6.4%) من القوى العاملة. وهو رقم مرتفع نسبياً خصوصاً في تمثيلهم في وظائف الطبقة الوسطى، ويعكس توجهات أكثر ترتبط بثقافة المدن ودور وتأثير هذه الشريحة في المجتمع التلحمي، وهي نسبة متفهمة باعتبار أن أغلبية طلاب المدارس الخاصة في بيت لحم هم من المسيحيين، حيث توفر المدارس الخاصة امتيازات أكبر لا توفرها المدارس الحكومية.

من الواضح، بصورة عامة، أن التفاوتات في المهن على صعيد التجمعات السكنية كانت كبيرة جداً في محافظة الخليل، مقارنة بالتفاوتات في ببيت لحم، وهو يدل على حالة من هيمنة العاملين في التجمعات الحضرية على جميع الوظائف لديهم، ويدفعنا إلى تفسير هذه الحالة باعتبارات لها صلة بنيوية بنمط التوظيف على الأساس العائلي، أو العمل لصالح العائلة، كما تشهد ذلك مؤسسات الخليل على نحو يزيد عمقاً عمَا تشهده مؤسسات بيت لحم، وبالتالي لم يكن للجانب التعليمي في المدينة تأثير في الجانب التعليمي في الأرياف.


خلاصة
يتضح لنا حجم الفروقات والتباينات التي تختبرها مدينتي بيت لحم والخليل، حيث أن للتكوينات الاجتماعية والسياسية، والسياق التاريخي الاجتماعي، خصوصية المكان والتجربة التي مرت به المنطقة، وبالتالي ارتباط تلك البنية الاجتماعية واستمرارها بسمات ومسلكيات وقيم مرتبطة بالمدينة وثقافتها أو صورتها في المخيال الاجتماعي لساكنيها، ووجدنا أن مدينة بيت لحم لعبت دوراً فاعلاً على صعيد المحافظة من حيث تأكيد قيم التسامح والتعددية المرتبطة بحالة التنوع الديني والجغرافي في بقعة جغرافية صغيرة، سهلت من عملية الثتاقف والتأثر بقيم حياة واسلوب المدينة. وقد أثبتت التجربة التاريخية لمدينة بيت لحم سهولة استيعاب العناصر الجديدة في تركيبتها السياسية والاجتماعية والإدارية بصورة واضحة للعيان، في حين عجزت الخليل عن ذلك؛ حيث إن التجربة التاريخية الثقيلة، وحالة شبه الانغلاق على قيمها وطرق الحياة المرتبطة بسمعتها المتدينة والمحافظة، والصراع الفلسطيني_الإسرائيلي على هوية المدينة، كل ذلك حرم المدينة حالة التنوع التي تعيشها مدينة بيت لحم.

وفي مقارنتنا بين المدينتين اتضحت لنا حالة الاختلاف إلى حد التباين بين ثقافة مدينة مدينة بيت لحم وثقافة مدينة الخليل، من حيث سيطرة روح ونزعة حياة المدن المتمثلة بقيم ومسلكيات مرتبطة بالحياة العصرية، بالرغم من القرب المكاني في ما بينهما. وقد تم توضيح كيفية انعكاس التجربة التاريخية والمنظومة القيمية التي تتبناها المدينة على مسلكيات وقيم ساكنيها في وقتنا الحالي، وهذا كان سبب اعتمادنا على بعض الإحصاءات التي تم استخدامها في المقارنة لتأكيد أن هذه الأرقام والنسب ليست صماء، وإنما مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالمنظومة الثقافية والقيمية لكلتا المدينتين، ووجدنا أن ارتباط مدينة بيت لحم بحياة المدن العصرية على الصعيد الفلسطيني أعظم من ارتباط مدينة الخليل.


الهوامش
1. القيم المدنية في هذه المقالة تعَبر عن القيم المفترضة التي يتبناها القاطنين في المدن مثل الحوار المسبوق بالتعددية والتسامح مع وجهات النظر المختلفة، كانت دينية أم سياسية أم اجتماعية، والحريات والحقوق للمرأة والانسان، إلى جانب المشاركة السياسية والمجتمعية، وليست مرتبطة بتوسع المدن العمراني.
2. أشار د. عدنان مسلم ، المتخصص بموضوع الهجرة في بيت لحم، إلى محاولة عودة 9000 فلسطيني كانوا قد انتقلوا إلى امريكا اللاتينية وأوروبا للعمل او الدراسة قبل عام 1920، حيث منعت السلطات البريطانية اغلبيتهم من العودة، في مقابل السماح فقط بعودة 100 منهم، وذلك بذريعة أنهم يحملون الجنسيات العثمانية.
3. يعبر مصطلح التسامح عن النظرة المتفهَمة للآخر في طرق وأسلوب الحياة، حيث إن احتكاك تلك المرجعيات وتنوَعها الاجتماعي والسياسي والثقافي والديني في بقعة جغرافية تساعدان على تقليل الفجوات الثقافية، وبالتالي التعايش معها، في حيث يشير مصطلح التقليدية عكس ما تمَ ذكره.
4. تم استخدام مفهوم "الحارة" كأداة معيارية أو "نموذج" حسب مفهوم ماكس فيبر، يعبَر عن الشكل التاريخي لتشكيل المدينة بتعبيراتها الإدارية والسياسية، وحالة التغيرات او الاستمرارية فيها، حيث إن حارات المدينة تشكلت تاريخياً على أساس طائفي أو عائلي، ولهذا فحصنا المفهوم على الكوتة المسيحية كقانون يحكم الانتخابات التشريعية في بيت لحم، و تشكيل الحارات في الخليل على أساس الانتماء العائلي. وليس لها بالضرورة لها علاقة بالبُعد المكاني.
5. تتألف الطبقة الوسطى الحديثة من :المثقفين والتقنيين والمهنيين والإنتلجينسيا وخريجي الجامعات، والاداريين والمهندسين والاطباء والمحامين والتجار...الخ، للمزيد يرجى مراجعة كتاب: جميل هلال (2006). الطبقة الوسطى الفلسطينية: بحث في فوضى الهوية والمرجعية والثقافة. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.


المصادر والمراجع
ابيشار، عوديد (1970). كتاب الخليل. ترجمة حمدي النوباني. القدس (د.ن).
بركات، حليم (2000).المجتمع العربي في القرن العشرين : بحث في تغيير الأحوال والعلاقات. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

بلدية بيت لحم.(2010)، "انتخابات بلدية بيت لحم." > http://www.bethlehem-city.orgwww.elections.ps<
لجنة الانتخابات المركزية-فلسطين(2005). "الانتخابات الرئاسية." >www.elections.ps<
مسلم، أيوب (د. ت.). مذكرات أيوب مسلم. بيت لحم: مركز التراث الفلسطيني، جامعة بيت لحم.
مسلم، عدنان أيوب (2002). صفحات مطوية من تاريخ فلسطين المحلي في القرن العشرين: تطورات سياسية واجتماعية وصحفية وفكرية في مدينة بيت لحم في العهد البريطاني 1917-1948. بيت لحم.
المؤسسة التعليمية العربية (2001). بيت لحم: كتاب مجتمع. بيت لحم: المؤسسة التعليمية العربية.
هلال، جميل (2006). الطبقة الوسطى الفلسطينية: بحث في فوضى الهوية والمرجعية والثقافة. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية
وزارة الداخلية الفلسطينية(2009). "عدد المؤسسات المرخصة من قبل السلطة ببيت لحم والخليل".
وزارة السياحة والآثار الفلسطينية(2008). "تقرير احصائي سياحي." >www.mota.gov.ps<

Bronswijk, Johanna, Carnelis Doevendan, Vmeets & Johan Verbeke (2002). Contribution to The Second USO-Built Research, presented at the Ecole Polytechnique Federal de Lausanne, Switzerland : held on November 28-30 2002.
Dagger, Richrard(1997) Civic Virtues: Rights, Citizenship, and Republican Liberalism.New York: Oxford University press.
Hanson, Royce(1986) “Institutional Renewal in America” The ANNALS of the American Academy of Political and Social Science .(ANNLS),488,100-119.
Musallam, Adnan .(2007). “The Role of Christian Assyrians and Christian Arabs in Arabic Islamic Civilization in the First Abbasid Era: The Translation Movement and its Impact”, Al-Liqa’ Journal. 28;20-37.
Musallam, Adnan .(2008).“Turbulent Times in the Life of the Palestinian Arab Press: The British Era,1917-1948” Al-Liqa’ Journal, 31;106-119.
Reese, Laura & Raymond Rosenfeld.( 2002) “Comparing Civic culture : Testing A Typology of Local Civic culture” Paper presented at the annual meeting of the American Political Science Association, Boston Marriott Copley Place, Sheraton Boston & Hynes Convention Center, Boston, Massachusetts, Aug 28, 2002. < http://www.allacademic.com>.
Salameh, Bilal & Abed Al-Alim Da’na (2006). Democratic feature in Hebron district. Hebron. Hebron: Palestinian Center for Media and Research.
Taraki, Lisa.(2004). “The Palestinian City Reborn: The Middle Class As Historical Agent” in Palestinian Social History :Between the Archival Forest and the Anecdotal Trees. Birzeit University .Ibrahim Abu- Lughod for international Studies.
Taraki, Lisa (2008). “Enclave Micropolis: The Paradoxical Case of Ramallah/Al-Bireh” Journal of Palestinian Studies,(XXXVII).4; 6-20
Yiftachel, Oren, & Batya Roded.(2008), “Ethnocracy and Religious Radicalism: Colonizing Abraham’s Cities”, Israel Academia Monitor.

*مجلة جامعة بيت لحم، ع 30 (2011)،ص.ص 10-48



#بلال_عوض_سلامة (هاشتاغ)       Bilal_Awad_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المرأة والمشاركة السياسية
- محاولة بحثية لموقع ومكانة المرأة في المؤسسات الاسلامية في فل ...
- ملاحظات عامة في قضايا مرتبطة بالمدن العربية
- القهر الاجتماعي والفراغ السياسي وأزمة الشباب: مخيم الدهيشة ا ...
- قراءة نقدية للاعلام الفلسطيني: تشخيص ورؤية مستقبلية للإعلام ...
- تكاد تتحول العمليات الاستشهادية إلى ايدلوجية فلسطينية1
- لاجئو مخيم الدهيشة : حق العودة لا يسقط بالتقادم
- اريتريا الافريقية : درس للفلسطينيين
- ثقافة الغالب والمغلوب في فكر ابن خلدون: قراءة فلسطينية
- العدوان على غزة : انها لحظة تصحيح الاعوجاج في سبيل الفعل الم ...


المزيد.....




- جملة قالها أبو عبيدة متحدث القسام تشعل تفاعلا والجيش الإسرائ ...
- الإمارات.. صور فضائية من فيضانات دبي وأبوظبي قبل وبعد
- وحدة SLIM القمرية تخرج من وضعية السكون
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /25.04.2024/ ...
- غالانت: إسرائيل تنفذ -عملية هجومية- على جنوب لبنان
- رئيس وزراء إسبانيا يدرس -الاستقالة- بعد التحقيق مع زوجته
- أكسيوس: قطر سلمت تسجيل الأسير غولدبيرغ لواشنطن قبل بثه
- شهيد برصاص الاحتلال في رام الله واقتحامات بنابلس وقلقيلية
- ما هو -الدوكسنغ-؟ وكيف تحمي نفسك من مخاطره؟
- بلومبرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث وجهة النظر الأوكرانية لإنها ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - بلال عوض سلامة - ثقافة المدن، مرآتها سكانها: دراسة مقارنة ما بين الخليل وبيت لحم*