|
العصافير لا تموت من الجليد النص الكامل
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 4970 - 2015 / 10 / 29 - 13:14
المحور:
الادب والفن
الأعمال الكاملة الأعمال الروائية (9)
د. أفنان القاسم
العصافير لا تموت من الجليد LES OISEAUX NE MEURENT PAS DU GEL
رواية
إلى ذكرى لويس آراغون إلى ذكرى محمود موعد
القسم الأول
الفصل الأول
دوى النفير إيذانًا بانتهاء العمل، واشتدت الحركة في أقاصي مصنع الأحاسيس. الأحاسيس، هذا ما لا يُصنع بالتأكيد. كنا ننتج كيلومترات وكيلومترات من خيوط النايلون والحرير، كي نصنع جوارب للنساء، وبناطيل قصيرة، ورافعات نهدين... لهذا سمانا الناس "عمال الشهوة"، وسموا مصنعنا "مصنع الأحاسيس"، لأن ما نصنعه يدفع إلى الرغبة، إلى الهوى، إلى الإغواء، أكثر الأحاسيس تعقيدًا، وأكثرها رقة. وها نحن، عمال الشهوة، نتفرق بعد نهار طويل من التعب والعرق، فرادى أو جماعات، على رصيف جيمّاب، ورصيف فالمي، وفي الشوارع الضيقة المتاخمة، وتحت خطواتنا تصر رقاق الجليد. غرقنا في الضباب كأضواء السفن التي تشق ممرًا في رماد البحار، وتبادلنا الكلمات التي اعتدنا عليها كل يوم في اللحظة التي نفترق فيها: - سلام سالم! - مساء الخير رونيه! - إلى الغد شباب! - إلى الغد بيير! - إلى الغد شارل! - إلى الغد! - إلى الغد! إلى الغد! لكن لم يكن يبدو على المارتينيكي أنه يعجل في العودة إلى البيت: - هيه! بييرو، انتظر قليلاً! العجلة من الشيطان، يا رجل! انتظر قليلاً، يا ماخور! ألست خائفًا من أن تزل بك القدم، وأن تتكسر عظام ظهرك؟ شتاء ابن مومس! - هناك من ينتظرني، أنت تعلم! - لموعد مع محبوبتك إذن أنت لا تبالي برقاق الجليد؟ - لا لموعد مع محبوبتي، زد على ذلك لا محبوبة لي. - لموعد مع من إذن؟ مع أركان حرب نقابتك الفظيعة أم ماذا، يا ماخور؟ - رجاء، يا المارتينيكي، لا وقت للثرثرة لي. مع السلامة، وإلى الغد! - يا مومس الغائط، انتظر! لا محبوبة لك، لا وقت للثرثرة لك، ماذا لك إذن، يا ماخور! ثم لجورج الأشقر: - هيه! يا الأشقر، هل تسمع؟ بييرو لا محبوبة له! لا وقت للثرثرة له! بلا معشوقة، بلا ذهاب وإياب كل مساء، آه! يا لها من عيشة مومس يعيش المسكين بييرو! - عيشة المومس نفسها التي نعيشها كلنا، يا المارتينيكي، تَبًا لها من عيشة! - أنت أيضًا لا معشوقة لك مثله؟ - لأنك أنت لك واحدة؟ - نعم، لي واحدة، أنا، ولي واحدة تساوي عشر مومسات من تلك المعشوقات، هذا، أنا، مَنْ يقوله لك، ولا تصدقني إن أردت. محبوبة تساوي عشر مومسات من النساء! معشوقتي لا نظير لها على وجه الأرض! أنا لا أفشي سرًا، معشوقة عن حق، يا رجل! واحدة من تلك النساء اللاتي يجعلن مدينة بأكملها محرومة من الحرارة في عز شتاء ابن مومس تنتصب! لكن بييرو لا واحدة منهن له، ولا وقت للثرثرة له، يا مومس غائط العيشة التي يعيشها... ستيفان، زميل قديم طردته الإدارة، وجعلته مجنونًا، أعاد عفويًا: - يا مومس غائط العيشة! يا مومس غائط العيشة! ابتعد بعضنا على دراجته النارية أو الهوائية، وسار بعضنا بعزم قاطعًا القنطرة، والجليد يمتد بلا توقف، يزحف، رابط الجأش، كالثعبان الضخم، وهو يلتف على كل ما يعترض طريقه، ويُحكم إغلاق درعه حول قناة سان-مارتن. واصل الوحش الأبيض سيره البطيء، سير المنتصر، بلا رحمة، فلم أذعن بالطاعة، وقلبتُ بقدمي تلك الأشكال الهندسية الغريبة التي تتخذها الأرصفة. جعلتها تطير شظى، وأنا أفكر أن الشتاء سيدوم إلى الأبد، أن الربيع لن يأتي أبدًا، وأن أشجار الكستناء في حدائق قناة سان-مارتن ستحرمنا من أوراقها وظلالها. شتاء ابن مومس، كما يقول المارتينيكي! من الواضح أن هذا انطباع عابر، لأن الجليد سيذوب حتمًا، ستنبثق الحرارة من الأرض، وستتفتح براعم اللَّذة. سنمحو كل قلقنا، كل آهاتنا، وكل صرخاتنا، بقوة الإرادة، الشهوة، والانتباه! لنفترض أننا نعيش عيشة مومس، لكننا نعرف، على الأقل، الأمل قليلاً. مع ذلك، بقيت قناة سان-مارتن شغلي الشاغل: كانت القناة صامتة، ميتة. بحثت عبثًا عن بجعة بيضاء اعتدت رؤيتها، فالقناة كانت انتظارًا فارغًا، فاغرة الفم، الرماد لونها. كانت هناك، غبية. كانت ترقد غائبة في تيهها. لاحظت على حوافها جزرًا من القاذورات المتحللة، لكن المرتجفة، كأن القناة، الملقاة في مزبلة عمومية، تغرق في النسيان أو حتى في العدم. أَضْرَمَ الصمت اللامعتاد المغلِّف للمكان لظى الهيجان في قلبي، صمت صحراء تجمد فجأة، مفرغة من زوابعها، وقوافلها. حركة ساكنة، متنامية، بلا توقف، تحاصر المكان بِمَلءِ المكان بالصمت والحذر. وهذا الصوت الذي يصل إلى أذني فجأة: - وقّع على العريضة ضد هدم قناة سان-مارتن! وقّع على العريضة! ادعم لَجنة التنسيق! وقّع على العريضة! وقّع على العريضة! تقدم البعض، ووقّع على العريضة تحت مصباح، حتى بلا قراءة المنشور الموضح لأسباب هذا الهدم. - وقّع على العريضة! ادعم لَجنة التنسيق! كانوا يتقدمون بصمت، كما لو كانوا يقومون بأداء ديني، ولم أعرف كيف انبثق جورج الأشقر أمامي. - وقّع على العريضة! وقّع على العريضة! قال لي بلهجة غريبة: - تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم... - ماذا؟ ماذا هناك؟ - يا للفظاعة! ظننت أنه يكلمني عن هدم القناة... - وقّع على العريضة! ادعم لَجنة التنسيق! تقدمت بدوري، ووقّعت على العريضة. أخذت منشورًا، ونظرت إليه. - وقّع على العريضة ضد هدم قناتك! وقّع على العريضة! لم يوقّع جورج على العريضة، تأملته، كانت له نظرة جامدة، كان يُحْدِقُ النظر في صحراء الجليد تلك، الممتدة إلى ما لا نهاية. - وقّع على العريضة! وقّع على العريضة! استدار برأسه نحو الجزر العفنة، وهمهم: - يا للفظاعة! وضعت المنشور في جيبي، وانتظرت أن يكشف عن الحقيقة، فيما يخص هدم القناة. - فظيع أن يغتالوا هكذا القناة! - وقّع على العريضة! - أن يهدموها، قلت بتردد. - أن يغتالوها، أن يغتالوها... أعاد جورج الأشقر بعصبية. - وقّع على العريضة! وقّع على العريضة! ادعم لَجنة التنسيق! عاد جورج إلى القول ساخطًا: - يا للفظاعة! - وقّع على العريضة! - ليست القناة مزبلة عمومية، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم! وكل هذا فظيع بالفعل! الصمت والحزن! اللاشهوة والاغتيال! الضباب، الانتظار والانتظار! لهذا لماذا أنا أكره الشتاء! هذا المتواطئ مع القتلة، أبناء العاهرة، يعني صمت وحزن وقتل دفعة واحدة. يغتالون القناة من قبل، ليهدموها من بعد، وهذه الجناية الفظيعة تتم باتفاق مع الطبيعة. آه! يا له من فصل غائطي هذا الشتاء المومسي! - وقّع على العريضة! وقّع على العريضة! فجأة، ابتسم: - إلا أنني أحب قناة سان-مارتن في الربيع! الأخضر الذي يدغدغك، الماء الذي يوشوشك، العصافير التي تطربك، آه! أي سحر. ثم تركني، وهو يعود إلى القول بصوت جهوري: - يا للفظاعة! يا للفظاعة! تصادى صوته، وغطى الصوت الآخر الذي لا يتوقف عن ترداد "وقّع على العريضة! وقّع على العريضة! وقّع على العر...يضة!". اجتاز جورج إحدى الحدائق الصغيرة المحاذية للقناة، فترددت قليلاً قرب بابها، ثم دخلت. هناك، شعرت باتصالي بعالم آخر مستقل عن الأرض حيث الأشجار الماردة تنتصب وحدها في عريها، وعنها تنتشر مناشيرُ جليدٍ تنشرُ الهواء. عشش الضباب بين أغصانها، وبدأ الليل الحالك يتساقط عليها، فغرقت الأشجار البيضاء في الظلام، وأدرك الزمن نهايته. تابعت طريقي حاثًا الخطى على طول الواجهات الحجرية، والمصنع خلفي يبصق دومًا جبال الدخان جاعلاً من الظلام أكثر كثافة، والظلام ينتشر بسرعة كبيرة دون أن يأبه بالمصابيح التي ترشق هالات الضوء هنا وهناك. لماذا يريدون هدم قناة سان-مارتن، قناة ارتبط وجودها بنقل بضائع نفبركها، ولكن أيضًا بتنقية الجو؟ أسرعت الخطى على الجليد، والنار تشتعل في قدمي. وصلت إلى شارع فوبورغ دي تمبل، والسَّكينة تملأ جوانحي، وأنا أخترق الحي الشعبي. كانت معظم الدكاكين قد أغلقت، وبعضها على وشك الإغلاق، وكان أصحابها يدخلون آخر بسطاتهم، أو يغسلون أرض محلاتهم، وأبوابها الحديدية نصف مجرورة. كانت بعض القطط تتناوش قرب صندوق قمامة، فرّقها أحد الباعة صارخًا "بعيدًا الحيوانات!"، والقطط تتفرق فزعة للحظة، ولا تلبث أن تعود إلى مِزودها. تكلم البائع مع نفسه "أوه! يا إلهي الطيب، يا إلهي الطيب!"، وصرخ ثانية "بعيدًا الحيوانات!"، والقطط تهرب قليلاً، ومن جديد تعود بتحد. صعدتُ الشارع الطويل المؤدي إلى بيتي، وكان عليّ أن أسرع الخطى أكثر كيلا أدع مارتا طويلاً بانتظاري. اجتاحتني محبة عميقة، وأنا أفكر في هذه العجوز السوداء الطيبة. كنت سعيدًا رغم كل شيء، كنت سعيدًا أن أجدها، سعادة اليتيم الذي وجد أمه. كنت إذن محظوظًا بالنسبة لبعض أصدقائي، يكفي أن تجد نفسك في أحضان البيت، وأنت تعرف أن أمًا ترصد أقل الخطوات. لم تكن لي محبوبة، لكني لا أعيش عيشة مومسية، فليطمئن المارتينيكي من هذه الناحية، ولا أعيش عيشة عادية، أعيش، فقط أعيش، وسأقول لمارتا هذا المساء إنني أحبها كأمي. أمي. قَرَصَ شيء قلبي. عند ملتقى الطرق، كانت الساعة تستسلم للضباب، لم تعد عقاربٌ للوقت، وغرق الوقت في اللامعقولية! كان الوقت وقت السوق السوداء، وكان المهربون من جميع الأصناف ملوك اللحظة: ساعات، مجوهرات، حقائب جلدية، بناطيل جينز، قمصان حرير، سجاجيد، سيجارات، سجائر... اقترب مني بائع سجائر: - عندي أبيض، إن أردت؟ - أب... - اخفض صوتك، يا ماخور! خفضت صوتي: - أبيض؟ - هيرو. - هيرو؟ - هيروين، يا غائط! - هيروي... - اخفض صوتك، يا ماخور! خفضت صوتي: - هيروين؟ - نعم، هيروين، يا مومس الغائط! أنت لست من هنا كما أرى! هيروين خالص! - هيروي... - اخفض صوتك، قلت، يا ماخور! خفضت صوتي: - هيروين خالص؟ - مائة فرنك الكيس، كيس يساوي كيسين. - مائة فرنك الكيس، كيس يساوي كيسين؟ - أنت مهبول لتصرخ هكذا أم ماذا، يا مومس الغائط! أنت لست من هنا، هذا أكيد. - أنا من هنا. - لا، غير أكيد. - أنا من هنا، هذا أكيد. أنا من هنا، أنا من الحي... - أنت من هنا، أنت من الحي... لماذا إذن أنت مهبول عامل حالك؟ - أنا مهبول غير عامل حالي. هذه هي المرة الأولى التي يعرض فيها عليّ هيرو... وخفضت صوتي: - ...وين في عرض الطرق. - أي والله، أي والله! وبما أنها المرة الأولى التي يعرض فيها عليك غائط، وأتمنى ألا تكون الأخيرة، كم كيسًا تريد؟ اثنان، ثلاثة، عشرة؟ - غائط؟ - اخفض صوتك، يا ماخور! خفضت صوتي: - غائط؟ لا، لا شيء، شكرًا! - جعلتني أضيع نهاري مقابل لا شيء، يا ماخور! - قلت لا، هل تسمعني؟ - طيب، تعال، لا تزعل! وزعل هو: - يا مومس مومس الغائط!... أترك لك الأكياس الثلاثة بسعر اثنين، هل يناسبك هذا؟ لم أجب، وأنا أتابع طريقي، والآخر يواصل بصق "يا مومس الغائط" إلى ما لا نهاية. فجأة، توقفت شاحنة شرطة في وسط شارع لا فيليت، ونزل منها رجال مسلحون بالهِراوات، فاستولى الهلع على المهربين وزبائنهم وزمر اللاعبين، لأن هناك لاعبين، وهم الأكثر عددًا. كانوا يشعلون النار في البراميل، ويغطسون في الجليد الذائب والوحل الصاخب، وهم يقامرون بأوراقهم الصغيرة ذات العشرة فرنكات أو الخمسين. استطعت أن أرى ظلالاً فقدت العقل، وهي تختفي في الظلام، وتابعت بعيني شاحنة الشرطة، التي وصلت الآن إلى مقهى عازفة الأُرْغُن. دفع رجال الشرطة اثنين من شمال أفريقيا بفظاظة، فاحتج أحدهما ضد هذا التوقيف التعسفي مقسمًا أنه يعود إلى بيته، والمطارق تجيب. ضربات. وأيضًا ضربات! سِباب. فيض من السباب. منيك! محشش! ابن شرموطة! عربي قفاي!... وأيضًا سباب! وأيضًا سباب! وأيضًا سباب! عندما حاول الرجل الإفلات، ألقوه أرضًا، وأيضًا ضربات، وأيضًا ضربات، وأيضًا ضربات. أمام ارتياع الرجل، هاجمت عصافير الشتاء النادرة رجال الشرطة، فأخرج أحدهم مسدسه من القراب، وصعق بعضها رميًا بالرصاص. عاد إلى عربيه، وأوسعه بقدمه ضربًا، أيضًا وأيضًا، ثم قذفه في الشاحنة. خلال ذلك، خرج أشخاص من المقهى، ليروا، فقط بدافع الكسل، فهذه الأمور بضاعة رائجة في الحي، لنقل غدت بضاعة رائجة، والمشهد نفسه يتكرر عدة مرات في اليوم. هذا الدم الشاب، المقدم قُربانًا هكذا على الرصيف، هو في الواقع فظيع! جرى كل ذلك بأقصى سرعة، وانطلقت شاحنة الشرطة كأن شيئًا ما كان. وأنا عني، أدركت أن انطباعاتي منذ قليل، حول إحساسي بالسَّكينة أكثر في حي شعبي، لم تكن سوى أفكار كاذبة. دفعت خطواتي دفعًا، لأتعثر بمخالب تنشب في الجليد. رأيت العصفور المهيض الجناح، وهو يفرش جناحين جامدين، في وسط مستنقع من الدم. كان الجليد يعمل طبقة خفيفة على منقاره، ويحوّل عينيه إلى دائرتين مفزعتين. على بعد خطوتين من شارع بيلفيل، رأيت عصفورين يتعلقان بسلك كهرباء، يتأرجحان، ويبدوان كمشنوقين من قوائمهما، ورأيت عصفورًا آخر يسقط في الضوء، ويبدو بحجم مفرط! كان جريحًا، وكان يرتعش، ويحوِّم تحت الحزمة الضوئية، كأنه يصرخ في أذن من كان في صمم عنه! تسللت الموسيقى من مقهى عازفة الأُرْغُن، وسمعتُ أصواتًا منفرة لبعض السكارى الذين يغنون. في نفس اللحظة، طردوا زَبونًا مخمورًا من مقهى مطلع الفجر، الواقع في الوجه المقابل. تخبط في الوحل، نهض بصعوبة، وجر قدميه نحو المقهى. نظرت من حولي حائرًا وحانقًا، فما رأيت سوى قادمين جدد يقيئهم المترو كل يوم. شبان صغار يحملون على أكتافهم حقائب كبيرة مضوا دون أن يلاحظوا بقع الدم على الرصيف، ودون أن يرفعوا رؤوسهم ليروا كيف تموت العصافير. على العكس، قهقهوا عندما رأوا المخمور، المطرود من المقهى من جديد. مضوا صاعدين، وأنا أتبعهم. توقفوا قليلاً عند قدم ناطحات السحاب التي على وشك الانتهاء من بنائها، ونظروا إليها، وهم يهزون رؤوسهم مذهولين. قطعوا الشارع بعد ذلك، ودخلوا الطريق المسدود حيث أسكن مع مارتا وبعض العمال.
الفصل الثاني
حيث نسكن طريق مسدود، لكنه لا كغيره من الطرق، لطريقنا باب لا كغيره! إن مررت به صاعدًا أو هابطًا شارع بيلفيل، وإن كان الباب بالصدفة مغلقًا، فلن تفكر أبدًا أن خلفه تعيش حارة بأكملها. إن كان الباب مفتوحًا –وهو غالبًا ما يكون مفتوحًا- استولت عليك الدهشة، وبدافع الفضول، شرفتنا بزيارة. هكذا كنا نكتشف وجوهًا غريبة من آن لآن، وجوهَ سياحٍ أتوا في أغلبهم لاكتشافنا. وكثيرًا ما علّقت مارتا ضاحكة، أنَّ رَدْبَنا أجدر له أن يكون متحفًا، ويا ليته كان متحفًا، لدر علينا ذلك باللبن، لا سيما وأن أحد جيراننا –ولا عجب في ذلك- طبيب بيطري، تتردد عليه يوميًا طيور وقطط وكلاب من شتى الأنواع، تصحبها سيدات من العجائز الثريات، لا تجدها إلا هنا، في عيادته طبعًا، لا في الحارة. أما نحن القاطنون، فلكل واحد منا قصة، كالتماثيل. قصصنا من نوع آخر، تحكي حياة أناس يعاركون البؤس، كل واحد على طريقته. كانت مارتا أشجعنا، تلك المرأة التي تبتسم دومًا للريح وللألم، والتي تسكن الحي منذ عشرات الأعوام، أصلها من السنغال، وتعمل خادمة مياومة بين وقت وآخر، تقول إن زوجها، عامل من عمال المناجم، مات في العمل، وإن لها ولدًا في مكان ما، لم أره أبدًا. كانت الحجرات موزعة في ردبنا على الجانبين، رطبة، تنشر رائحة العفن، ونادرًا ما تعرف الشمس، وكان مسكن مارتا في الصدر، في الطابق الأول، إلى جانب مسكن مدام ريمون، صاحبة الردب، نصعد إليه على درج خارجي من الخشب، وهو يمتد يمينًا ويسارًا بمعبر مُعَرَّض لكل الرياح. فوق مارتا، على اليسار، يسكن البرتغالي، نجار، على ما يبدو، يغلق بابه دومًا، ولا يتصل بأحد. على اليمين، تقيم أم فرنسية، منذ مدة قليلة، مع ابنتها ماري وابنها أنطوان. ماري شابة حلوة، لم تبلغ الثامنة عشرة، وهي تثير اهتمامي منذ فترة، تعمل في مصنع شوكولاطة. أما أنطوان، فهو ولد في العاشرة، يذهب إلى المدرسة التي خلفنا في شارع تورتيل. كانت هذه العائلة تنسى مشاكلها حتى اليوم الذي يأتي فيه الابن البكر، أندريه، وغالبًا ما يأتي في نهاية الأسبوع، فتسمع صياحهم من أقصى الطريق! إنها النقود مصدر كل مُروق! كان الابن، عاطل عن العمل مزمن غدا سوقيًا، يأتي في طلبها، إلى حد أن يتعارك أندريه وماري. يشرع هذا الأندريه في ضرب أخته، وبدورها تشرع ماري في ضرب أخيها، ثم تنفجر باكية، وتنفجر الأم باكية، وكذلك ينفجر أنطوان باكيًا، فتدخل مارتا وزوجة خباز مغربي اسمه لحسن، وتأتي مدام ريمون لترى، ونبقى نحن الرجال معقودي الأيدي في قلب الردب: أنا، عصام، أنطونيو، عادل، جان، لحسن وأولاده ووالده الشيخ، وكذلك بنات وأولاد جاؤوا لا ندري من أين. خلال ذلك، كان حسين يسكر في الوجه المقابل، ويقهقه، مغنيًا بصوت عال:
كانت هناك حديقة اسمها الأرض تشع في الشمس كفاكهة ممنوعة لا لم تكن الجنة ولا النار لا أشياء مرئية أو مسموعة
كان صوته يخدش الأذن، فينتهره لحسن، وينتقل الشجار من بيت العائلة الفرنسية إلى حجرة حسين، ولا ينتهي إلا مع تدخلنا، يكون أندريه قد غادر الردب، مرة أخرى، وأفلت من تأديبنا إياه، فيقهقه حسين، ولا نسمع غير الشتائم التي تئز كالطلقات: "وأمك... وأبوك... وأختك... ويلعن دين... ويلعن دين... ويلعن دين!" كان البرتغالي ينظر إلى المشهد واقفًا خلف نافذته التي لا يغادرها أبدًا، ومتى ينسحب كل واحد إلى بيته، يحل صمت مباغت، لا يعكره سوى بكاء ماري وأمها وأخيها. وأسمع مارتا مخاطبة ماري: - لا تبكي، يا قلبي الصغير، ستتلفين عينيك! بنت مثلك يجب ألا تعرف البكاء! لكنها تبكي مدة طويلة، ثم تتوقف فجأة، لتبدأ الأم بالابتهال أمام المسيح المصلوب، كي تبعد السماء عنها وعن أسرتها الشرور، تبقى تتمتم طويلاً، إلى أن يطوق الصمت كل شيء. خلال ذلك، يكون حسين قد خرج ليشرب في المقهى، وعادل، الطالب الوحيد بيننا، قد أغلق بابه، وأخذ يقرأ أو يكتب، وعصام قد ذهب بذقنه غير الحليقة لا أدري إلى أين، عند أوديت ربما، ولحسن قد نادى امرأته وأباه، وجمع أولاده، وأغلق بابه، بينما جان قد التحق بأنطونيو ليلعبا الورق، ومدام ريمون قد عادت إلى فواتيرها ودفاترها الحسابية، وهي تدخن بشراهة، وتفكر في طريقة لانتزاع الإيجارات غير المدفوعة لا بل رفعها، بما أن كل شيء يرتفع. لم تكن مارتا تغادر إلا عندما تطمئن على أن كل شيء عاد إلى نصابه، أن ماري عادت إلى تطريز غطاء، وأن الأم بدأت بتحضير العشاء، وأن الصغير عاد إلى الغوص في قراءة كتاب. وما أن تعود مارتا إلى بيتنا حتى تأخذ في طمأنتي، فهي تعرف، دون أن أقول لها، أنني أهتم بالبنت، وأنني أتألم ضعف ما هم عليه لعدم استطاعتي عونها. تقول لي إنهم لم يعطوا أندريه أقل فرنك هذه المرة، وقبل أن يذهب هدد بقتلهم جميعًا، فما العمل لو كان جادًا؟ أفكر بعض اللحظات، ثم أخرج لا إلى مكان، وأعود، والليل يزحف في الردب، فلا أرى سوى الأضواء الخافتة، الساهرة هنا وهناك، خلف نوافذنا البائسة.
* * * سألني القادمون الجدد أين يسكن لحسن، فأشرت إلى الباب باء: - أنتم أقاربه؟ - نعم، أجابوا. تابعت طريقي في اللحظة التي طرقوا فيها الباب، والبرتغالي يراقب واقفًا خلف نافذته. بحثت عن مفتاحي، لكن، قبل أن أجده، فتحت لي مارتا. كان الضباب في الردب يدك الظلام، فأشرت بإصبعي إلى الشبان: - أقارب، قلت لها. - أقارب! وأين سيضعونهم؟ - أجهل ذلك. دخلنا قبل أن يفتح لحسن الباب، فمن العادة ألا يفتح لأحد في الليل، بقدر ما كان حذرًا. ثم سمعنا صيحات ترحاب، فانحنت مارتا على النافذة، ورأت لحسن، وهو يعانق، واحدًا واحدًا، أقاربه الشبان في شعاع ضوء الباب المنفرج. بعد لحظة، كانوا كلهم في الحجرة الوحيدة مع حقائبهم! اتجهتُ نحو المغسلة، كما هي عادتي كل مساء. كانت مارتا قد أعدت ماء ساخنًا صبته لي، فأحسست ببعض الراحة. لم تكن لي رغبة في شيء، وأبلغت مارتا أنني لا أريد الأكل. احتدت، وألحت على أن أتناول شيئًا. عَمَلَتْ حساء طيبًا وطبقًا أفريقيًا حارًا. أشعلت نارًا في مَنقل، نارَ حطبٍ رطب، رائحته الطيبة للأرض، تلك النار التي كانت أمي تشعلها في ما مضي، في أماسي الشتاء، عندما لم تكن تكفينا حرارة أجسادنا. أشارت إلى السخان الكهربائي وقالت: - يستهلك كثيرًا، وعلى أي حال، لا يصمد طويلاً أمام البرد. تركت ضحكتها تنفجر: - لكن الشتاء سيمضي، وستعود العصافير إلى الغناء! تضايقتُ، وأنا أستعيد رؤية العصفور المبقور في وسط مستنقع الدم. نهضتُ دون أن أكمل طبقي، اتجهت نحو حجرتي، ومارتا تلاحقني بعينيها الحائرتين. تمددت على السرير المرتب، وفكرت في ماري. لماذا لا أعترف لها بحبي، لماذا لا أتزوجها، وأنقذها هكذا من أشياء كثيرة؟ أخشى أن ترد طلبي، لكن رغم ذلك، يجب أن أجرب حظي. لم أفعل حتى الآن، فماذا سأخسر لو أحاول؟ لدي انطباع أن لديها نفس الشعور تجاهي. إن كان رد فعلها آخر، فلن أخسر سوى أوهامي، وسأخرج غالبًا على أي حال، لو تغلبت على ترددي. لا، أنا لا أخشى النتيجة. ستكون إيجابية، أنا أعرف، أنا أحس. ثم، سخرت من نفسي، وأنا أتذكر حبي الذي تركته في الأرض المحتلة. قصة حب أفلاطونيه، لم يكن لها حل في ذلك الوقت. كيف أتأمل في النجاح اليوم؟ لا بد أن لماري صديقها الذي تلتقيه عند خروجها من المصنع، كل مساء، ولو أني لم أرها مرة واحدة بصحبته. عند ذلك، سمعت خطواتها في الردب، ثم على الدرج. سمعتها، وهي تفتح بابها، وتغلقه. سألتني مارتا إن كنت أريد شيئًا قبل أن تنام، لكني أجبت لا شيء. أطفأت النار والضوء، ونامت. صَعَدَتِ الدرجَ خطوات حازمة، ثم طرقات على الباب، جعلتها تنهض. قلت لنفسي هذا لحسن، جاء يطلب خدمة لأقربائه الشبان، وبالمقابل وَقَعَتْ على حسين. - أريد أن أرى سالم، قال لها. خرجت لألقاه، فوجدته هادئًا، باسمًا، مصفوف الشعر، على غير عادته. طلب مني أن أسمح له بالدخول أو أن أصحبه إلى حجرته لأن لديه ما يقوله لي. أرادت مارتا أن يدخل، لكني عزمت على الذهاب معه لأدعها تنام. سألته إن كان يعمل هذا المساء، فأجاب إنه يعمل، لكنه لن يذهب إلى العمل، فلم ألح. كانت حجرته باردة كمبولة، ثيابه مدلاة على علاقات من السقف، يحتاجك للحديث معه أن تدفع رأسك ما بينها. جلست على كرسي مكسور، واعتذرت عن شرب كأس بيرة معه. - اشرب لتدفأ، قال. رفضت عرضه متذرعًا بصداع. أخذ يحكي لي عن صنائعه في العمل، لم يعد يكسر صحنًا واحدًا، وغدا أحسن غاسل أوانٍ. صاحبة المطعم، الإسبانية الأصل، لاحظت ذلك، ودعته لشرب كأس معها، حوالي الساعة الواحدة صباحًا، بعد إغلاق المطعم، فظن أنها تريد أن تضاجع، لكنهما بقيا هكذا، يشربان، ويحكيان، حتى الفجر. وعند ذلك عرف أنها لم تكن شرموطة، وإنما وطنية حقيقية، عندما اقترحت أن تغني تطوعًا –تعرف الغناء في الواقع، وصوتها لا بأس به حسبه- في العيد القادم لماخور النهمين العرب. زد على ذلك أنها قامت باللفتة نفسها لصالون واحد أنغولي، وحضر جمهور غفير للطعام والشراب والغناء معها. - كنتَ تريد أن تقول لي شيئًا آخر؟ قلت. جرع كأسه دفعة واحدة، وملأها من جديد. - هذا بخصوص الغرفة. مدام ريمون، هل تعرفها؟ شرموطة، هذا كل ما هنالك! تطالبني بإيجار شهرين، وكما تعرف، بدأت عملي ليس غير، ولم أستلم بعد راتبي. هل يمكنك أن تقرضني إيجار شهر واحد فقط؟ - أرسلتُ مبلغًا صغيرًا إلى أمي منذ يومين. مدام ريمون، ألا يمكنها الانتظار؟ - شرموطة، قلت لك! - ألا يمكنها الانتظار؟ - لا. جرع كأسه الثانية، وملأها من جديد قبل أن يضيف: - طلبت من عادل، لكنه لم يستلم بعد منحته، وأنت تعرف عصام، مفلس دومًا، أما جان وأنطونيو، يا شرموطة الغائط، فأنا لا أطيقهما. - طيب، سأتدبر أمري. كم الإيجار؟ - ألف فرنك. سألت مستغربًا: - إيجار شهر أم شهرين؟ - إيجار شهر. - تدفع ألف فرنك إيجار شهريًا! - إنه مبلغ كبير لمخرأة كهذه، لكن مدام ريمون شرموطة، شرموطة عن صح، أقول لك! كنت أعرف أنه يكذب: - طيب، سأتدبر أمري للحصول على المبلغ. - ألف فرنك، أعاد، بالتمام. - متى تريدها؟ - غدًا مساء، عند عودتك من المصنع. نهضتُ، لكنه أمسكني: - في بيروت تسير الأمور من سيء إلى أسوأ، وإلا طلبت من أهلي أن يرسلوا إليّ نقودًا. لا شيء يمشي! إنه الغائط الأسود للجميع، يا شرموطة الغائط! لم يعد هناك مكان للفقراء في بيروت! عندما كنت طالبًا في ما مضى، لم أكن محتاجًا إلى غسل صحون أو مخرآت، كان والداي يتدبران أمرهما ليرسلا إليّ ما يقدران عليه، وكان ذلك يكفيني على أي حال. اليوم، لا شيء يمشي! أخي الأصغر يأسن حاليًا في سجن من سجون الأرض المحتلة، اعتقلوه، لما كان في مهمة هناك، لكنه نجح في الهرب، فاعتقلوه من جديد. أنا لا أجرؤ على طلب أي مليم من أخي الأوسط، الذي يقيم في الكويت، والذي تبرأ منا بعد أن اغتنى وتزوج من شرموطة كويتية. أما زوج أختي، فله سبعة أطفال شراميط، هو وأبناء عمي في الجزائر، رواتبهم لا تكفيهم، بسبب غلاء المعيشة هناك... جرع كأسه الثالثة، وملأها من جديد. نظرت إلى عينيه الناريتين، وسمعته يتابع: - لكل واحد نصيبه، وهذا هو نصيبي الداعري الغائطي، أنا! كان بإمكاني أن أصبح مهندسًا أو طبيبًا أو عالم فيزياء ولكن... ابتسم ابتسامة تراجيدية وأعاد: - لكل واحد نصيبه. أخذ جبينه ينضح عرقًا ويأسًا، فجرع كأسه الرابعة، وملأها من جديد، وما لبث أن اعترف والابتسامة التراجيدية على شفتيه، بصوته الواهن: - اليوم ردت الثورة إلينا كل شيء، الشرف والكرامة، لكن الوطن يضيع! هل تعرف من هو المسئول؟ شراميط الدجالين أولئك، ريشليو جديد كل واحد منهم، يقولون للناس سنستعيد الوطن، لكنهم يعملون كل شيء لضياعه. انطفأ، ثم صاح فجأة: - بنادقنا وحدها التي ستسترد وطننا، يا غائط...! جرع كأسه الخامسة، وملأها من جديد. بدا لي أنه سكر تمامًا، فأعاد متوترًا: - بنادقنا، يا غائط! بنادقنا الشرموطة التي لنا جميعًا، وأنا أولنا، وفي الخط الأول. هل تسمع؟ - أسمع. - لن يبتلع فدائيونا أقراص المسكنات كما كان ذلك في الماضي، فالثورة تقعد على قلب أولئك الشراميط الدجالين، وهم يعدون الخطط لخنقها. لكن بيروت ليست عمان، وهم يجهلون أن جبهة الثورة هي جبهتنا المشتركة التي لنا جميعًا، فلم يعد لنا ما نخسره، يا غائط...! في نفس الوقت، فكرت في أخي الفدائي، وقلت: - لم يكتب لي عبد السلام منذ مدة. - ألم اقل لك؟ تسير الأمور من سيء إلى أسوأ، إنه الغائط الأسود للجميع، ولا حاجة لي إلى إخبارك بهذا النبأ... وأكمل بصوت منخفض: - ...الكلام للبنادق، يا شرموطة الغائط! وكالمختل: - الكلام فقط للبنادق، فقط، هل تسمع؟ - أسمع. - لا كلام إلا بالرصاص، يا غااااااااااااااائط! أيقنت ألا فائدة من مواصلة الحديث، قلت له إنني أشعر بصداع عنيف، وإننا سنعود إلى الكلام عن هذا غدًا، ورغم الألم الذي سببته له، انسحبت، وأنا أسمعه يصرخ من ورائي: - لا كلام إلا بالرصاص! لا حل إلا بالحرب! وأخذ يغني على شرف الوطن: - بلادي بلادي بلادي... فتح ثورة عالأعادي! فسَقَطَتْ عليه السِباب والصيحات من كل مكان، طالبة منه الصمت، لينفجر ضاحكًا وصارخًا: - إنه الغائط الأسود للجميع! ثم، بعناء، على نحو محزن: - كانت هناك حديقة اسمها الأرض... جرع كأسه السادسة واتجه كبطل (ولكن متمايلاً مترنحًا مترنحًا جدًا) نحو المقهى. عند عودتي، سألتني مارتا: - ما به؟ - شرب قليلاً. - قليلاً؟ - كثيرًا. - وماذا يريد؟ - أن أقرضه الإيجار. كنت أرغب بالفعل في إيجاد مبلغ الإيجار لحسين، سأحاول الحصول عليه من الأصحاب في مصنع الأحاسيس. فكرت، وأنا في سريري، في كل ما قاله حسين، في أولئك الشراميط الدجالين الذين كل واحد منهم ريشليو جديد، وقلت لنفسي في كل عصر وفي كل بلد إنهم ها هنا، أولئك الشراميط الغشاشون، مستعدون لكل شيء، وأنا أفكر في هدم قناة سان-مارتن. ثم، فكرت قليلاً في ماري. عندما انطفأت أضواء الردب، عدت أرى أمي في الأرض المحتلة، وأخي عبد السلام في بيروت. أطفأت السخان الكهربائي الذي أشعلته مارتا لِتُبقي حجرتي في الدفء خلال وجودي عند حسين، وغفوت.
الفصل الثالث
كنا نصل إلى مصنع الأحاسيس باكرًا، فرادى أو جماعات، تمامًا كما كنا نغادره، ونحن نتدثر بمعاطفنا، كالسناجب في عاصفة بيضاء. وكان الجليد أخطبوطًا يرفع أصابعه، ثم يتركها تسقط، وتنشل، ولاقتلاعه، كنا كما لو نقتلع باخرة غرقى من أعماق البحر. على بعد خطوتين من المصنع، في الضباب المتعارك مع المصابيح الغامضة، انطلقت نداءات واضحة: - الحُلم، الحُلم! نداءات المنقذين للغرقى، وكلما اقتربنا، كلما اختلطت أنفاسنا، والتحمت بأنفاس بائع الجريدة، لتذوب مع الصدى، وتزيد من مداه. لم يكن الشاب الذي اعتدت على رؤيته منذ شهور، كان لهذا شعر قصير وأسود، وقامة معتدلة ورشيقة، بوشاحٍ من الصوف الأحمر، معقودٍ حول عنقه، وكان يقفز من آن لآن، وهو يمد لنا الجريدة. - الحُلم، يا رفيق! اشتر الحُلم! اشتر الحُلم! على مسافة يسيرة من البوابة، ارتفع صوت أنثوي عذب، كموسيقى الثلج، أو كحَفنة من الثلج مرشوقة على وجه الشمس: - اشتر الحُلم، يا رفيق! اشتر الحُلم! لم أميز بوضوح ملامح الفتاة، مع روحات العمال وغدواتهم، لكنها بدت لي رقيقة رقة صوتها. توقف بعض العمال ليشتروا الجريدة، ثم مضوا متأنين، وهم يقرأونها تحت المصابيح. - الحُلم، الحُلم، اشتر الحُلم! اشتر الحُلم... وستيفان، مجنون المصنع: - اشتر الحُلم! اشتر الحُلم! دخلتُ الورشة، كان جورج الأشقر هناك، حياني بترداد ""تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم..."، وبواسطة مِحْجَنين، بدأ بترتيب خيوط النايلون المسحوبة على الآلات الواقفة. توزع عمال الشهوة في الورشات وفي الأقسام الجديدة التي لم ينه المهندسون بعد تركيبها، حيوا بعضهم، وتراشقوا اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة ببعض الجمل: - كيف نمت؟ - كيف تريدني أن أنام؟ - جيدًا، طيبًا. - لم أنم جيدًا، يا ماخور! وأنت؟ - لم أنم جيدًا، أنا، أيضًا! اثنان آخران: - الجليد لا ينتهي! - نعم، يا مومس الجليد! - لا ينتهي! ثالث: - لم يعد الماء يسيل في المزاريب. - ماذا يقول؟ - لم يعد الماء يسيل في المزاريب. - جليد الغائط هذا سيستمر أيضًا طويلاً. - مع ذلك تؤكد دائرة الأرصاد الجوية أن باريس ستعرف جليدًا أقل في الأيام القادمة. - أنا لا أثق بدائرة الأرصاد الجوية. - ولا أنا. - طُز في دائرة الأرصاد الجوية! - طُز وثم طُز! اثنان كذلك: - امرأتي تؤرقني طوال الليل... - وماذا تريد امرأتك؟ - تؤرقني طوال الليل. - هذا لأنك لا تكرس وقتك لها بما فيه الكفاية! - امرأتي تؤرقني طوال الليل... واثنان آخران أخيرًا: - اتصل بالنقابة. - لستُ من النقابة. - استشرها على أي حال. هيه، بيير! رونيه في الغائط، نصحته بالتوجه إلى النقابة، بالرغم من أنه ليس نقابيًا. - حسنًا. لا تنس الاجتماع بعد العمل. - سنكون كلنا؟ - سنكون كلنا. - سيهدمون قناة سان-مارتن، هذا أكيد. - وهدم مصنعك سيكون بعد ذلك. - مصنع تم تجديده، يا موووووووووووووومس! - يريدون أن يبنوا ناطحات سحاب محله. - ونحن، ماذا سيفعلون بنا؟ - سيلقون بنا في عُرْض الطريق كالغائط! ثم دوى النفير إيذانًا ببدء العمل، ولم نعد نسمع سوى عجيج الآلات الجبارة التي تبتلع مادة الكابرولاكتام المشتقة من النفط، والتي تحولها إلى مادة جامدة، لتشكل كيلومترات من خيوط النايلون، خيوط أرق من أشعة الضوء.
* * *
في الكانتين، قلت لجورج الأشقر إنني أحتاج إلى بعض النقود حتى آخر الشهر، فأخرج لي في الحال ثمانمائة فرنك: - نحن إخوان، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم! لم أكن آمل بمبلغ بهذا القدر، قال بابتسامة يسيرة إنه يخبئها للأيام الصعبة، فلا أحد في منجى! قلت لنفسي لم تكن الأمور على مثل هذا السواد، كل شيء كان غاليًا بصورة مدوِّخة، كل شيء كان غاليًا بفظاعة، لرواتبنا، مقابل واجباتنا واحتياجاتنا اليومية، كنا نعيش أيامًا مستحيلة. لم يكن جورج يفكر بالطريقة نفسها، أو بالأحرى، كان يرمي إلى شيء آخر. كان يريد أن يقول لي إنه يدخر نقودًا لأجل مآسٍ محتملة: مرض مفاجئ، موت مباغت، أو حتى رغبة، مغامرة عابرة. أعارني المارتينيكي المائتي فرنك الباقيتين، وألح على إرجاعهما عند نهاية الشهر: - هكذا أو لا شيء، يا مومس الغائط! وعدته بذلك، وأنا أقول لنفسي إن إلحاحه يعني حاجته الماسة، إنه يعيش بالفعل، من وجهة نظر مالية، عيشة مومس. كنت على وشك أن أعيدهما إليه لأطلبهما من شارل، شيخ عمال الشهوة، الذي يكسب ضعفنا، نحن الشبان، بسبب أقدميته. كان بإمكانه أن يعيرني إياهما، المائتي فرنك هاتين، رغم أعبائه العديدة. لكن، في الحانة الصغيرة، المجاورة لمصنع الأحاسيس، حيث نذهب لنأخذ قهوتنا، أدهشني المارتينيكي. راهن على الأحصنة الثلاثة الأولى بمائة فرنك دفعة واحدة! كان واثقًا من الربح ثقتي بأن بلاده المارتينيك! - سأربح الأحصنة الثلاثة الأولى حسب تسلسلها، هذه المرة، يا رجال، وإلا فلن يكون اسمي المارتينيكي، يا مومس الغائط! قال لنا. ثم جرع قهوته بالروم دفعة واحدة، وذهب ليلعب الفليبر مع بعض الأصحاب. وأنا أعود إلى الرَّدْب، في المساء، لاحظت أن البرتغالي يسحب ستارة نافذته ليرى من القادم، ويبقى هكذا دون حراك. كان يرجع من العمل قبل الجميع! طرقت الباب على حسين، فوجدت عادل. طننت، للحظة، أنني أخطأت الحجرة. غدت أكثر اتساعًا، بعد إلقاء الثياب المتدلية من السقف في زاوية. أدخلني عادل موضحًا لي أنه هنا منذ مدة طويلة، وأن حسين قد ذهب لشراء بعض قناني البيرة، لكنه تأخر، من المحتمل لأنها ساعة الإغلاق، ولا بد أنه ذهب بعيدًا بحثًا عنها عند الشمال الإفريقيين، الوحيدين الذين يبقون فاتحين حتى ساعة متأخرة من الليل. أضاف، كمن يعتذر، أنه وحسين أرادا أن يحكيا. - لا يستطيع حسين أن يحكي دون بيرة، علق عادل. - عندي قنينة بيرة وقليل من النبيذ، قلت له. - قنينة لا تكفي الكحولي الذي هو الغبي حسين، وأنا لا أحب النبيذ. - لأنك تريد أن تشرب، أنت أيضًا؟ - لأحتمل كل هذه المخرأة، هذا طبيعي، ولأكابد منطق غاسل أوان غائطي. أي نوع من النبيذ عندك؟ - نبيذ عادي. - آه! إذا شربت نبيذًا، فلن يكون عاديًا، أنا أشرب البوجوليه، بشرط أن يكون جديدًا. عندما يكون جديدًا، يكون خفيفًا. أو الروزيه، لأنه خفيف كذلك. مد لي كرسيًا من القش مثقوبًا: - اجلس. - ربما سيتأخر، سأعود. - لا، لن يتأخر. جلست، وجلس بدوره، على السرير الذي لا يعرف الترتيب، وبقدمه راح يدحدل قنينة فارغة كانت ترتد قرب قدمه. سألته متى سيقدم أطروحته. - قريبًا، أجاب. كان جوابه الأبدي على هذا السؤال. أخبرني كذلك أنه يعد عدته لكتابة كتاب عن الطبقة العاملة، الوحيدة القادرة على حل كل المشاكل. - هل عليّ أن أفهم من كلامك أنك قطعت كتابة أطروحتك؟ نفى بشدة: - من اللازم أن تفهم أن الطبقة العاملة صلب موضوعي. طبعًا، أقوم بأبحاث في الفلسفة، لكن في فلسفة العمل، المخصصة للدفاع عن عمال الشهوة خاصة. ولماذا تراني بينكم؟ أنا أعيش في هذه المخرأة لأستمد القوة على الخلق، وإلا لِمَ بقائي هنا كل هذه السنوات؟ هل تعتقد أنني غير قادر على إيجاد غرفة مريحة، في الحي الجامعي؟ أو استئجار أستوديو مناسب، في أحسن أحياء باريس؟ - وماذا ستكتب عن العمال؟ - كل شيء. - كل شيء؟ - نعم، كل شيء. - وماذا ستقول؟ - برجوازية الاحتقار لن تكون سعيدة من المضمون. على أي حال، سيعمل هذا الكتاب ضجة كبيرة. - هاءَنذا، قال حسين. دفع الباب بقدمه، وهو يضم إلى صدره كيسين من قناني البيرة. - رأس المال، الفاقد الحس أمام الأحاسيس، تابع عادل، عدوكم الأخير! للتحرر من ربقته، يجب امتلاك أدوات الشهوة، بمعنى القضاء على الملكية الخاصة، وإعلان الملكية العامة. للوصول إلى هذا الهدف، عليكم أن تقوموا بثورة الأخلاق. لم أفهم ما يعني: - علينا أن نقوم... قال حسين: - عليك أن تشقى للحصول على قنينة بيرة عند أولئك الشمال الإفريقيين الشراميط! تجاهله عادل تمام التجاهل: - وإلا، فسيكون الوقت متأخرًا. لماذا؟ انظر إلى الأحوال كم تدهورت، الجمود الاقتصادي، الجمود الاقتصادي، الجمود الاقتصادي! بورجوازية الاحتقار مرتبكة، تائهة، تلهث تعبًا، لم تعد تتحكم في مقاليد السلطة. ستقول لي: وماذا إذن؟ - وماذا إذن؟ - كما قال حسين، الأكثر ذكاءً، الأكثر اعتدالاً بين سكان مخرأة الرَّدْب هذا، الثورة هي الحل الوحيد! خلال ذلك، صب حسين البيرة في ثلاث كؤوس، لكني رفضت عرضه، متعللاً بعدم تناولي طعام العشاء، فقال لي بابتسامة ملحة: - لا تكن مغفلاً! لا أحد تناول طعام العشاء بعد. رغم ذلك، لم أشرب. قلت له إن معي ما طلبه مني، وخوفًا من إحراجه أمام عادل، طلبت منه اصطحابي إلى الخارج. سخر بي، وأخذ مني النقود بوقاحة. رأيته، وهو يمد مائة فرنك إلى عادل، دون أن يقيم لي وزنًا. قلت له من اللازم أن يرد النقود عند آخر الشهر، فطمأنني، وأخذ يحلف الأيمان المُغَلَّظة لأشرب. أخذت جرعة وجدتها ساخنة وكريهة الرائحة، وسألته إن كان سيذهب إلى العمل هذا المساء. - يا شرموطة العمل! قال. لنننننننننننننننن أذهب! قال عادل إنه سينتهي به المطاف إلى الطرد، فقال حسين إنه سيعود طبيبًا للحصول على شهادة طبية، وأشار بإصبعه إلى ناحية الطبيب البيطري في الرَّدْب، فانفجرنا ضاحكين. نهضتُ، إلا أنه واصل حلف الأيمان المُغَلَّظة لأنهي كأسي، فجرعتها دفعة واحدة كي أخلص. وأنا في الرَّدْب، أحسست بالدوار، ورغم الضباب الخفيف، لم ألاحظ حضور ماري إلا وهي قريبة مني، ولم أفطن إلى تحيتها إلا وهي صارت بعيدة أمامي. يا للخيبة! كل هذا بسبب بيرة حسين وثرثرته المدوِّخة. وأنا أضع قدمي على الدرجة الأولى، رفعت رأسي، ورأيت ساقيها البيضاوين. تابعت برغبة ثنيةَ خصرِهَا الرخص، وشعرت بشهوتي، وهي تتصاعد. بحثت عن مفتاحي، لكنها كانت قد فتحت بابها. - ليلة سعيدة، قلت لها، قبل أن تدخل.
الفصل الرابع
وجدتُ رسالة من أخي عبد السلام، فمزقتُ الغلاف بسرعة، بينما مارتا تدندن لحنًا إفريقيًا، وهي تعد العشاء. قال لي عبد السلام إنه ذهب ليرى العائلة في مخيم عين بيت الماء بالأرض المحتلة: أمي تدفع دومًا عربة خبزها في الوحل، أختي الصغيرة في المستشفى، أخي الصغير في السجن. عند عودته إلى بيروت، صديقته المسيحية برناديت راحت مع مجهولين، رجال ضد الثورة التي يضحي بنفسه من أجلها، ولم تعد، منذ ذلك الحين. وأنا أتعشى مع مارتا، حكيت لها أخبار عائلتي، وهي تصغي بانتباه، فأُقْلِعُ عن غروري، وأجدني غيرَ قادرٍ على ترجمة موج الانفعالات على وجهها. قالت لتطمئنني: "ستعود برناديت، ستبرأ أختك..." ثم أضافت بعد لحظة من الصمت: "وسيخرج أخوك من السجن." كانت واثقة ثقتها بلون جلدها. ضَحِكَتْ حسب عادتها لتخفف من جسامة الأمر: "سيغدو رجلاً، قويًا، أخوك الصغير، تمامًا كالمهر الذي عليه العدو ليغدو حصانًا، وعليه العذاب ليكبر. كلما تعذب، كلما غدا قويًا، وكلما نما سريعًا." عند ذاك، حدثتني عن ابنها، وكيف تَرَكَتْه حرًا منذ نعومة أظفاره، لتسمح له بالتكون، بالكبر، بالغُدُوِّ قويًا. هو الآن يعرف طريقه، وبدت أكثر ما تكون عليه اطمئنانًا. ثم قامت مارتا لتغسل الأواني، وكعادتي، ذهبت إلى غرفتي. ما أن مضت بضع لحظات حتى سمعنا خطى حذرة تقترب، ودقات خفيفة على الباب. وهذا النداء المشوب بالخوف لماري: - مارتا، افتحي لي! خَفَّت مارتا إلى فتح الباب، فدخلت ماري بِحُمَيَّا، ووجهها يهتاج من الخوف. - ماذا هناك، يا حبيبتي؟ - أخي يريد قتلي. حكت لنا أن أخاها أندريه قد حضر فجأة لينتزع نقودها، وأنها هربت من النافذة لتجدنا. كانت تتوجه بالحديث إليّ، وكنت حانقًا من عجزي عن مواجهة هذا الطاغية. قالت إذا اكتشف هربها، جاء للبحث عنها، وليقتلها. لكني طمأنتها، وطلبت منها ألا تخشى شيئًا: - سنحميك، قلت لها. ابتسمت لي، ففتنتني ابتسامتها. خفّفنا الأضواء، وأسدلت مارتا الستائر. - ستنامين هنا هذا المساء، قالت لماري. - لن ينتظر، سيأتي في أعقابي. - إذا أتى طردناه، أكدت بلهجة جازمة. وأنا أقف أمامها، كنت أرنو إليها، وهي تستند بيدها على الكرسي. فجأة، وصلتنا خطى ثقيلة، فاستقامت ماري فزعة، وشدت نفسها إلى صدري. سمعنا الأم تصرخ: - سأبلغ الشرطة، أيها الدعيّ! اقتربت الخطى، وتوقفت. لم يجرؤ أندريه على الطَّرق، وكانت الأم قد خرجت: - اذهب من هنا، أيها المجرم! انفتحت بعض النوافذ والأبواب، وخرج بعض السكان. نزل الابن اللعين الدرج على عجل، واختفى بين حيرة الجميع وارتباكهم، والبرتغالي يراقب إلى ما لا نهاية من وراء نافذته. سحبتُ ماري إلى غرفتي، وجعلتها تجلس على طرف سريري، وأنا أمسك يديها، ورغبتي أن أمسك يديها حتى الموت، تلك المخلوقة الواهية التي تونع مع الخوف، والتي يهدد الإخاء أيامها. كانوا يغتصبون منها أحلى أيامها، وكم كنت أحبها في تلك اللحظة! تبادل الجيران بعض الكلمات، سبوا أندريه، وقالوا إنهم سيمسكونه في المرة القادمة، ويأخذونه إلى الشرطة، فهو ينغص ليس فقط عيشة أمه وأخته وأخيه، بل وكل سكان الرَّدْب. عندما عاد الكل إلى مأواه، سمعنا الطرقات الحذرة لأم ماري على الباب: - مارتا! فتحنا في الحال، فاحتضنت الأم ابنتها، وشكرتنا. أرادت أن تذهب بها، لكني قلت: - بإمكان ماري أن تنام في غرفتي، سأذهب عند بعض الأصدقاء. شكرتني الأم من جديد، ولاحظتُ ماري، وهي تلقي عليّ نظرات الامتنان. - نحن لا ندري، ربما عاد هذه الليلة، أضفت. - لا، لن يعود، إنه جبان جدًا ليعود. - كما تريدين. بعد مغادرتهما، سمعنا ابتهالات أم ماري، وزفراتها القانطة، والأصداء المختنقة تخترق حجراتنا قبل أن تصعد إلى السماء. بقيتُ طويلاً دون أن أنام، فكرت في اليدين الخائفتين اللتين أزهرتا، لحظات، بين أصابعي، وقلت لنفسي ربما كانت ماري الزوجة التي ستربي أمي أولادها، فقررت أن أنتظرها غدًا عند عودتها من العمل، أمام فوهة المترو، لأدعوها إلى أخذ فنجان قهوة، وهي لن ترفض حتمًا. لكن هل ستقبل أمها طلب زواجي؟ كانت ماري صغيرة جدًا. سننتظر عامًا آخر، وسنفتح بيتًا متواضعًا، لن ننسى أمها، ولن ننسى أنطوان. على البنت أن تتزوج بعد كل حساب، أليس كذلك؟ وبمن تحب. تخيلتها تحبني، وعزمت على قول كل شيء لمارتا إن قبلت ماري دعوتي غدًا. كنت على وشك النوم عندما علت صرخات في الرَّدْب، فنهضت بسرعة صوب الباب، وأنا أخشى أن يكون أندريه قد عاد. تبعتني مارتا، واستولت علينا الدهشة. رأينا لحسن، وهو يضرب زوجته بقدمه، في وسط الرَّدْب، والمرأة تدب على الأربع كالحشرة، حافية، تائهة، لا نار لها ولا قرار، ملعونة، مرجومة، لأبسط الأسباب، وأبسط الأسباب كونها امرأة. احتج والده الشيخ صائحًا بصوته الواهن، ونطنط كالضفدعة الحبلى، لِشَدَّ ما تشده السنون إلى الأرض. حاول الإمساك بولده، لكن بلا جدوى. ران على مارتا حزن جارف، فانطلقت لنجدة المرأة التعسة. نجحت في تخليصها من عذابها، وصعدت بها عندنا. خلال ذلك، خرجت مدام ريمون، وأرعدت ضد الرجل، مهددة إياه بالطرد. أصر الرجل أكثر على ما يفعل، ووجّه إلى مدام ريمون ضربة بقبضته في صدرها، مما جعلها تُوَلِّي على عَقِبَيْها، بعيدًا عن الخطر، وهي تُفلت رشقة من الشتائم، ضد هؤلاء البدو العرب، هؤلاء الوحوش، هؤلاء القتلة! يا لسخرية القدر أن يكون معظم مستأجريها عربًا! تبادلت الألفاظ البذيئة مع أقارب لحسن الشبان، الذين يتابعون المشهد، كالبرتغالي من الناحية الأخرى للرَّدْب، وهم لا يحركون ساكنًا، وأقسمت ألا تؤجر الحجرتين الفارغتين الواقعتين تحت شقتها إلا لعائلة فرنسية! استغربتُ كيف أنني لم أقع على أنطونيو، ولا على جان، ولا على حسين، ولا على عصام، حتى أنني لم أر ظل عادل. كان الأربعة الأوائل يغرقون في البيرة، وفي لعبة الورق، وهم يخسرون دومًا لصالح عصام. عادل وحده الذي ألقى نظرة ليرى ما يجري، ثم عاد إلى مكانه ليواصل قراءته لرأس المال. حكت امرأة لحسن لمارتا الحكاية من أولها، قالت إنها طلبت من زوجها أن يستأجر القادمون الجدد –أخ وثلاثة أبناء عم- حجرتيْ مدام ريمون الفارغتين، أو أن يذهبوا للإقامة في فندق، بما أنهم يريدون البقاء هنا، فهي لا تحب النوم مع رجال، حتى ولو كانوا أقرباء مقربين. يكفي أنها تحتمل أباه وأبناءه، يكفي أنها تحتمله هو، وحياتها الشقية معه. ثم فسدت الأمور... نامت زوجة لحسن على سرير مارتا، وتمددت مارتا على الأرض، تاركة سخان الكهرباء مشتعلاً طوال الليل.
الفصل الخامس
انتشر الجليد في كل مكان أكثر فأكثر، كالصمغ، دق الأشياء، والتحم بها. كانت باريس صامتة، في ذلك الصباح، تلاشت قناة سان-مارتن، في الضباب، وخلت الأرصفة. تحت المصباح، قرب البوابة، وقف بائع "الحُلم" بصحبة الفتاة صاحبة الصوت العذب. عندما مررت أمامها، ابتسمت لي ابتسامة كبيرة، مرددة جملتها الطقسية: - اشتر الحُلم، يا رفيق! ابتسمت لها ابتسامة كبيرة بدوري، ونظرنا إلى بعضنا بجراءة. كنت أجهل من أين أتتني هذه الجرأة المفاجئة، ربما بسبب هذه الابتسامة التي في غاية الصراحة، وفي غاية العفوية! وضع ستيفان نفسه ما بيننا، وهو يَرِيل، ويردد على طريقته: - اشتر الحُلم، يا رفيق! اشتر الحُلم، يا رفيق! في المصنع، توافد العمال واحدًا بعد آخر، فترك بيير جريدته على الطاولة ليذهب لا أدري إلى أين. اقتربت، وقرأت: "مظاهرة لدعم عمال المتعة." قسم تجهيز الملابس الداخلية النسائية الذي يُذهل، الذي يُسحر، الذي يُمتع. عنوان آخر يقول: "لا لهدم قناة سان-مارتن! العمال لن يدفعوا!" وإلى جانب هذا العنوان: "السلطة تحمي متعهدي البناء، الفقراء وحدهم الذين يتحملون النتائج!" فتحت الجريدة، ولاحظت: "انخرط في الحزب الشيوعي، حزب قوي، لفرض مطالب العمال." عاد بيير، وطلب منا المشاركة في دعم عمال المتعة. كانوا يريدون إغلاق ورشتهم، لينزرعوا في المغرب أو في التايلند، بحثًا عن أيد عاملة أقل رخصًا. لكن خاصة لهدمِ فضاءٍ واسعٍ يحتلونه، وبناء عمارات كبيرة على الطريقة الأمريكية فوق "جثة" قناة سان-مارتن. اعترض رئيس القسم: - والعمل؟ - سيتوقف العمل عند منتصف النهار، قال بيير بتحدٍ. - كل شيء بيد رب العمل. - كل شيء بيد العمال. - افعلوا ما أردتم، كل هذا ليس في صالحكم. - صالح قفاي، تدخل المارتينيكي. أي صالح هو المقصود، يا رجل، عندما يبدأ هذا بعمال المتعة، وينتهي بنا، عمال الشهوة، يا ماخور الغائط؟! لنجد أنفسنا في الغائط، لنعيش عيشة مومس المومس! - كنت أظن أنك ضد نقابتهم الكريهة، يا المارتينيكي، قال رئيس القسم. انظروا لي هذا، انظروا كيف تبدل الناس رأيها بين عشية وضحاها! - نعم، الناس تبدل رأيها، يا مومس الغائط! الناس التي تفكر، التي لها مخ لا غائط مثلك، يا مومس العفن! افرنقع قبل أن أفرقع بوزك، يا رئيس الغائط! انفد بجلدك! اهرب، هيا، أسرع! انسحبَ، وانسحبَ معه ثلاثة من أزلامه. قال رونيه إن السياسة لا تهمه، فحاول بيير شرح أن دعمه لعمال المتعة يعني دعمًا لنفسه، بما أن هذا يقوي التضامن بين العمال في جبهة واحدة، مقابل أرباب العمل. اعتذر، وأصر على موقفه: - السياسة لا تهمني، عاد إلى القول. عندئذ، ارتج صوت بيير بالتناوب: قويًا أحيانًا، هادئًا أحيانًا، ساخنًا أحيانًا. حَدَّثَنَا عن قضية رونيه، الموعود بزيادة منذ عامين، بينما لم يوقعوا بعد معه عَقدًا. كان رونيه أبًا لثلاثة أطفال، وزوجته لا تعمل، فاقترح المارتينيكي تنظيم جمع تبرعات، ليتساوى راتبه، وربما يزيد عن راتب أحسن واحد بيننا. بدا جورج الأشقر متفقًا معه، ورأيته يرفع يده بعفوية نحو محفظته. لكن بيير قال إن هذه حلول مؤقتة، ونحن نريد حلاً دائمًا. إضافة إلى ذلك، هذا الاقتراح يرضي رب العمل، فمن الخاسر إن لم يكن نحن؟ لن يدفع سنتيمًا واحدًا من جيبه، ومن قال لكم إن بإمكاننا كلنا المساهمة في هذه التبرعات؟ أنا شخصيًا ليست لدي الوسائل، لأني أعيل أمي وأبي، وأريد تحقيق المشاريع التي طالما أجلتها. قال كذلك إن النقابة تبنت الأمر، وإنها ستطلب رسميًا حل الوضع، وذلك بتوقيع عَقد معه. ستكون الخطوة الأولى، إن نجحت، نَعمًا حدث، وإلا لجأنا إلى إجراءات أخرى لإرغام رب العمل على الاستسلام، وهي كثيرة. من جهة ثانية، مظاهرة اليوم أحدها، فأغلب عمال الشهوة موافقون على وقف العمل، والانضمام إلى التجمع في الباستيل. تردد رونيه، ثم همهم كما لو كان يهمهم لنفسه أنه لم يذهب إلى الباستيل منذ مدة طويلة. عاد رئيس القسم مع أزلامه الثلاثة وثلاثة آخرين من الحراس، وأعلن أنه آن الأوان كي نبدأ العمل، وأن شيئًا كهذا لن يتكرر في المستقبل. أراد المارتينيكي التدخل من جديد، لكن بيير منعه. لم تتأخر الماكينات عن الهدير، ثم هدير أصواتنا الذي ربطني خلال المظاهرة بِضَعف أمي في الأرض المحتلة، بالقمر الصاعد في بيروت، بالساعد الساهر حول خصرها.
* * * انتظرتُ ماري قرب المترو، فسمعتُ أحدهم يقول: عصفور في اليد خير من ألف كُرْكِيّ في الجو! لم أكن وحدي، كان شارع لا فيليت وشارع بيلفيل يعجان بلاعبي القمار وبالمهربين، كما لو لم يكن الجليد موجودًا، وكان مقهى عازفة الأرغن ومقهى مطلع الفجر يطفحان بالسكارى، فقررت أن آخذها إلى حانة صغيرة، بجوار جاليري باربْبِيس، في الناحية المقابلة. انتظرتُ خلال ساعة، لكنها لم تأت. لم أعد أحتمل البرد، وفوق هذا، جعلتني المظاهرة كالملاكم العاجز عن متابعة المباراة. قلت لنفسي إنها لمن المحتمل أن تكون قد عادت إلى البيت قبلي، أو دون أن أراها، واتجهت نحو الرَّدْب، فتلقفني عصام: - سالم، أين تختبئ، يا مومس الغائط؟ منذ مدة طويلة لم أرك. كان بذقنة الأبدية، وجبهته المجعدة، وعينه الخضراء المضببة، وكان أحدهم عنده، قدمه لي على طريقته: - هذا مهندس، ومهندس له بيضات كبيرة هكذا، حسب ما يزعم. - تشرفنا! بذلة براقة، حذاء لماع، شعر مصفف، ذقن ناعمة، ناعمة... - نحن في فرنسا منذ مدة طويلة، تابع عصام، وهذه هي المرة الأولى التي يزورني فيها، يفكر فيّ، هذا المومس المهندس! - لكن، يا عصام، يا أحسن صديق لي، رد المهندس، اسْمَحْ لنفسك بقول هذا! إنها الظروف، هذا كل ما في الأمر. - ظروف الغائط! - ظروف الغا...! اسْمَحْ لنفسك بقول هذا! نبر المهندس. ثم لي، لتغيير الموضوع: - حضرتك عامل؟ - نعم. - منذ متى أنت في باريس؟ - منذ مدة طويلة. - يعني؟ - منذ أكثر من عشر سنين، من قبل حرب الأيام الستة. صَفّر: - منذ أكثر من عشر سنين! يعني صرت فرنسيًا! - تقريبًا. - لم تعد إلى البلاد منذ ذلك الوقت؟ - البلاد؟ منذ متى الأرض المحتلة بلاد؟ لا، لم أعد إلى الأرض المحتلة. - لماذا؟ - لا أستطيع العودة. - لأنك لا تريد العودة أو لأنك لا تستطيع العودة؟ - لأني لا أستطيع العودة. - فهمت. - ماذا فهمت؟ - لأنك لا تستطيع العودة. - ليس كما تفكر. - إذن ليس لأنك تشتغل سياسة. - لا. - ... - لأني غادرت قبل الاحتلال. - إذن أنت لم تعد. - أنا لم أعد. - الإسرائيليون يمنعونك من العودة. - نعم. - هل تربح حياتك جيدًا؟ - بين بين. - بين بين أو بين بين؟ - بين بين. - فهمت. - ماذا فهمت؟ - بين بين، لا جيد ولا سيء. - بين بين. - أنا، مثلاً، أربح احداشر ألف فرنك شهريًا تطير... - احداشر ألف فرنك شهريًا!!! - ...في لمح البصر. - احداشر ألف فرنك شهريًا!!! - أنت تعرف، الحياة غالية بفظاعة. ثم لي سيارة مرسيدس سوداء، تلك الواقفة هناك، أمام الباب، هل رأيتها؟ بالوعة بنزين! لو كنت أعمل في بيروت لاختلف الأمر، ولتقاضيت واحدًا وعشرين ألف فرنك. أنا مهندس ذو خبرة وكثير من المهارة، إلا أن هنا ازدهار تكنولوجي وحضارة، لهذا السبب لم أفكر أبدًا في الذهاب. لو أردت رِبْح المزيد من المال لذهبت إلى الكويت أو إلى السعودية، لكن ما نفع النقود بلا حضارة؟ والحضارة التي أتكلم عنها ليست في العمارات أو السيارات. إنها الحضارة! أما أن أذهب إلى بيروت الآن، فلا، حتى المجنون لا يفعل هذا! لأن بيروت، كل بيروت، تقف اليوم على عود كبريت. ما أسعدك وأنت ذاهب لتُقتل بالمجان! لا، أنا أفضل الحداشر ألف فرنك شهريًا وأسكت، هذا هو الموقف السليم. التهم عصام بيضة مسلوقة، بدا عليه التعب والزهق، ومع ذلك علق: - أن تأكل بيضة مسلوقة على العشاء، هذا هو موقف الغائط السليم. وتهكم بنفسه: - عشاء غائط الطفرانين. قال المهندس: - عصام عاطل عن العمل بشهادة! لماذا لا تأتي للعمل معي كرسام، في تولوز؟ ستربح أربعة آلاف وخمسمائة فرنك في البداية، وبعد بضع سنوات خبرة واجتهاد سيكون لك نفس راتبي. لكني لا أتمنى لك ذلك، للنقود الكثيرة همومها الكثيرة! قفز عصام صائحًا: - أرجوك! أقبل بهموم الدنيا كلها، وكل غائط الكون، وكل، وكل، أعطني فقط نقودًا. ثم خاطبني: - هلا أدنتني مائة فرنك احتفالاً بعيد ميلاد هذا المليونير المومسي؟ سأعيدها إليك غدًا. - عيد ميلادي؟! - نعم، عيد ميلادك، يا مومس الغائط! ابتسمت محرجًا: - لا يوجد معي. سبق لعصام أن استدان مني عدة مرات، وفي كل مرة يعد بإعادة المبلغ غدًا. مد إصبعًا مهددة نحو صديقه: - كل هذا بسببك، يا مهندس البغاء! - لماذا؟ - كيف تأتيني بلا نقود، يا مومس الغائط؟ قل لي كيف؟ قل لي لماذا؟ - لأن. - لأن ماذا؟ - أنت تعرف جيدًا. - لا، أنا لا أعرف جيدًا. قل لي لماذا؟ - لأن. - يا مومس الغائط، لأن ماذا؟ لا تقل لي إنك عملت دورة، تبعًا لعاداتك القديمة، عند الحرامية قبل أن تأتي هنا، وإنك فقدت كل شيء. - لم أشأ الاعتراف بذلك أمام جارك الذي أراه للمرة الأولى، لكن بما أنك حزرت... - إذن أنت أنفقت كل نقودك في كازينو الغائط! قل لي إنك لم تنفق كل شيء. - أنفقت كل شيء. - قل لي بالله عليك، هل أحلم؟ قل لي إنني أحلم! - لا، أنت لا تحلم. - خسرت كل شيء، يا مومس الغائط! لم يكن الحظ حليفك؟ - بما أنك حزرت. - الللللل الححححظ للللللم يكككككككككن حليييييييييفك؟ - مع الأسف لا. ترامى عصام محطَّمًا على كرسي بلا زنبرك وبلا مِرفق، وبدا لي فارغًا وتعسًا. - أنا قرفان! أنا خريان! أُرْوِحُ خراء! كل شيء يُرْوِحُ الخراء، كل شيء يُرْوِحُ الخراء! ردد. لاحظت على الطاولة رسالة كتبها لأهله منذ شهرين، ولم يرسلها أبدًا. - هل تريد طابعًا؟ سألته. - لماذا؟ أجاب دَهِشًا. - للرسالة. - آه! سأرسلها غدًا، قال، كما لو تذكر بغتة. - كيف حال أوديت؟ - شرموطة، قال بهدوء. - هل هي بخير؟ - أقول لك شرموطة! رد ساخطًا. - أين سأنام؟ سأل المهندس. قهقه عصام: - على قفاي! - لا، بجد! لا تقل لي على هذا السرير! - وأين يا ترى، قل لي؟ - لا، هذا مخرأة! - لماذا لا تذهب إلى الهيلتون، يا مومس المهندس؟! - لا، لكنه غائط خمس نجوم! - نعم، لكن اذهب إلى الهيلتون، يا مومس الغائط! ماذا تنتظر، يالله، روح! - هيا، أوقف مزاحك! لا يتوقف عن المزاح، ومع ذلك، إذا كنت جادًا، فسأذهب إلى الهيلتون، أنت تعرف جيدًا أنني قادر على أن أبصق نقودًا، أن أمشي على ذهب. أخذ يرتعش، فحاول عصام تهدئته: - لا تزعل، يا غائط! أنا أمزح، يا مومس! - هل هذه مكافأتي؟ هل هذا لأني أريد رؤيتك، البقاء معك؟ - هل هذا لأنك أردت البقاء معي أم لأنك بددت نقودك في مومس كازينو الغائط ذاك؟ - اسْمَحْ لنفسك بقول هذا! أقسم لك، عصام... - لا، لا تقسم! - أقسم لك برأس... - لا تقسم، قلت! - ...أمي، لأني أريد البقاء معك. أريد البقاء معك، أقسم لك، لكن لا في مخرأة كهذه! حرك عصام ذراعه أمام وجهه، كشراع ممزق: - هذا بسببك، فلو كان معك نقود، يا غائط، لما بقينا دقيقة واحدة بين هذه الجدران القذرة التي تفوح بالرائحة الكريهة. ودفتر شيكاتك؟ - وماذا؟ - دفتر شيكاتك، دفتر شيكاتك... - دفتر شيكاتي؟ - نعم، دفتر شيكاتك. - أنا لا أحمل دفتر شيكاتي عندما أسافر. - يا للأبله المسكين! أنت تهزأ بي، هاه؟ يا لمومس الغائط! يا لمومس الغائط! يا... نهضتُ حانقًا. - إلى أين أنت ذاهب، يا غائط؟ - أنا تعب. - إذا أردت، ذهبنا نشرب كأسًا على حسابك في ماخور غائط. - أنا تعب جدًا. - الكل تعب، يا غائط! - أنا تعب جدًا جدًا. في الخارج، كان البرتغالي يعسّ دومًا من وراء نافذته. جذبني عصام من ذراعي، وخفض صوته: - عشرة فرنكات فقط. أعطيته إياها. - كل ما عندي. - أشكرك. هذا بسبب مومس المهندس، وإلا... أشكرك. قابلتنا ماري، فدق قلبي كما لم يدق من قبل. - مساء الخير! قالت لنا. - مساء الخير! رَدَدْنا معًا. كما لو انشللنا. كنت مشلولاً، وحزينًا. خارت كل قواي، وكل أحلامي ذهبت أدراج الرياح. صحوت على صوت عصام: - حلوة وشهية هذه البنت! - مع السلامة، قلت له بلا تعليق. - هل أنت متأكد من عدم حاجتك إلى كأس؟ - أنا متأكد. - لك هيئة تعبة بالفعل، يا مومس! - أنا تعب، تعب جدًا، تعب جدًا جدًا. كانت حجرة حسين مظلمة، فقلت إنه يعمل هذا المساء. وأنا أمضي بمحاذاة نافذة عادل، رأيته يكتب في وسط محيط من الكتب، تحت صور ماركس ولينين وماياكوفسكي، وجهاز أسطواناته يدور بصوت خفيف. عادت امرأة لحسن عند زوجها، وأنا أجهل إن حلوا المشكل أم لا. قلت لمارتا إنني أشعر بالتعب، بتعب شديد، شديد جدًا، وإنني أشعر بالحزن. - لا تكن حزينًا، قالت لي، تعال لتغتسل، لقد حَضَّرت ماءً ساخنًا لك.
الفصل السادس
في اليوم التالي، قابلت ماري أمام فوهة المترو، وعرضت عليها أن تأخذ فنجانًا ساخنًا، لكنها قالت لي إن المقهى يعج بالرواد، وإنها تعبانة. عندما أشرت إلى المقهى الآخر في الوجه المقابل، اعتذرت لأنها مستعجلة. - غدًا، ربما، ما رأيك؟ - سأحاول. - سأنتظرك هنا. - ربما تأخرت قليلاً غدًا. - سأنتظرك رغم كل شيء. ابتسمتْ بفيض. صعدنا معًا شارع بيلفيل، فأشرقت الشمس في قلبي. قلت لها إننا، أنا ومارتا، نتكلم عنها طوال الوقت، ونقول إنها بنت شجاعة تتفانى في عملها من أجل أمها وأخيها أنطوان. أما أنطوان، فأمامه مستقبل زاهر، لأنه ولد ذكي، ولأن أصدقاءه الوحيدين كتبه، لا يخالط أشقياء الحي، وهو على تربية عالية. قلت لها إنني أحبه كأخي الصغير. وبخصوص أمها، قلت إن أمها امرأة عظيمة، لا تريد سوى سعادة ابنتها. تجنبت الحديث عن أخيها أندريه. لم أرغب في تعكير هذا الكابوس لأجمل خطوات خطوتها في حياتي. نسيت على طريق الجليد البرد وعصافير الشتاء والموت في قناة سان-مارتن. لم أذكر سوى حضورها إلى جانبي، هذه المخلوقة المدهشة، التي تسمع وتتبسم، تتبسم وتسمع، مائلة برأسها إلى جانب، مداعبة صليبها المتدلي من ياقة معطفها. لم أنتظر سؤالها: - هل لك أخوات؟ - أخت واحدة. - ما اسمها؟ - ياسمين. - هل يعني هذا شيئًا؟ - نعم. - ماذا يعني؟ قلت لها. أطلقت ضحكة لذيذة. - هل هي كبيرة؟ - أصغر منك بقليل. - هل تعمل؟ - كانت تعمل. - ماذا كانت تعمل؟ - زارعة لفاكهة الهوى. - فاكهة الهوى! - هي الآن في المستشفى. - هل هي مريضة؟ - لا. - هي في المستشفى وليست مريضة! - لا. - إذن لماذا هي في المستشفى؟ - لأنها جريحة. اخترقت كتفها رصاصة. - اخترقت كتفها رصاصة! - جنود الاحتلال، أنت تعرفين. كانت تتظاهر، فأطلقوا. - لهذا هي في المستشفى، أختك؟ - لهذا. أختي الصغيرة في المستشفى، وأخي الصغير في السجن. هو، كان يقذف الحجارة، فأوقفوه. - لأهلك حياة غير مألوفة. منذ وقت طويل لم ترهم؟ - نعم. - بسبب الاحتلال؟ - نعم. - ... - ولأن أمي تريد أن آتي معي بزوجة جميلة فرنسية لتربي بنفسها أولادي. قهقهت ماري. - هل معك صورتها؟ - صورة أمي؟ - أريد القول... نعم، صورة أمك، صورة أختك "جاسمين". - إن أردتِ، السبت القادم، تعالي عند مارتا، فأريك الكثير من الصور. - اتفقنا. لم أصدق أذنيّ. ونحن في الرَّدْب، لاحظتُ أن البرتغالي يراقب من وراء نافذته، بينما عيادة الطبيب البيطري تغرق في الظلام. كان علينا أن نفترق على الدرج، فقالت لي "مساء سعيد"، والابتسامة على شفتيها. - إلى الغد مساء. - إن لم أتأخر. - سأنتظرك. - اتفقنا. صعدتْ إلى الطابق الثاني، فتحتِ الباب، وأغلقتْهُ من ورائها. أغلقتُ الباب كذلك، وحملتُ مارتا بين ذراعيّ، دائرًا بها، صائحًا من الفرح. مضى جزء كبير من الليل، وأنا أحكي خلاله لمارتا قصة حبي.
* * *
لم أر ماري أبدًا منذ ذلك المساء. طبعًا، ذهبت إلى العمل في الغد، وبانتظار موعدي، كنت في حالة من الثَّمَل والفرح. لم أهتم بما يقوله زملائي، بخصوص حركة عمال المتعة. لاحظ جورج الأشقر ذلك، وسألني إذا كان كل شيء على ما يرام، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم! أجبته إيجابًا. قال إن لي سحنة غريبة اليوم. أكدت له أن كل شيء على ما يرام، لكنه أجاب أنه يعرف السر، فما هذه سوى أمارات العاشق! ضحك عمال الشهوة من حولي، وقال المارتينيكي ليناكدني: - ربما لأنه طاهر كالعذراء، يا رجال، مثلكم كلكم، يا مومس الحياة، وهذه هي معشوقته الأولى، يا ماخور! ضحك عمال الشهوة من جديد، وأنا أضحك معهم محرجًا. لاحظ بيير ذلك، فطلب منهم أن يتركوني وشأني، لأن لا شيء تَبدل فيّ. قال إنه يجدني ككل يوم، وغمزني، بلا علم أحد، فتبادلنا ابتسامة مديدة. مضى الوقت بطيئًا، وأنا أشعر بالحب لأول مرة فعلاً، كما ادعى الأصحاب. فكرت، ورسمت الخطط: ماذا سأفعل وماذا ستفعل؟ ماذا سأقول وماذا ستقول؟ متى ستضحك ومتى سأضحك؟ غبت مع أفكاري، وتسارعت أحلامي: رأيت ماري عارية في أحضاني. اغترفت الحب من جسدها، وتنشقت المِسك. ومن جديد، خِلتني، وأنا ألفها بذراعي على ضفة نهر السين، وأنا أقطف شفتيها. خلتها كذلك، وهي تركض، وتعلو بصوتها العذب، وأنا أركض من ورائها، ثم وأنا أحملها، وأمددها على رمل الصيف: ذراعها شراع أبحر نحوه. في المساء، كمنت لها أمام المترو، وأنا أرتدي أنظف ثيابي، بعد أن خلعت ثيابي الزرقاء، واغتسلت، وتمشطت. بصق المترو كل أنواع العمال، وشممنا كل أنواع الروائح. قرأت على الوجوه السأم والتعب، وبعض الوجوه تتحرك بآلية. تقوس الناس، لينسكبوا في الأزقة الضيقة، ولينغرسوا في البؤس. كانت امرأة عجوز تتدثر من الرأس إلى القدم، وهي تبيع الجرائد في كشك صغير أصفر يتدلى منه مصباح غاز، يضيء ويسخن الكشك في آن، وكان معظم الناس يشترون جريدة المساء ليعرفوا آخر خبر تافه، أو آخر تكهنات سباق الخيل. قرأت العنوان الكبير لليومية، بحروف غامقة: "الجليد يبيد المحاصيل، الخضروات أكثر غلاء." نعم، طبعًا! والعنوان الصغير، بحروف عادية: "الحكومة تتخذ التدابير الضرورية، لكن الجليد أقوى من كل شيء." انتظرت طويلاً، وأنا أرتعد من البرد القارس. تباطأ النشاط في الحي تدريجيًا، حتى مات تمامًا. ذهبت بائعة الجرائد، بعد أن أطفأت مصباحها، وأغلقت كشكها. أصبحت الأرصفة خالية، ولم نعد نسمع صياح المهربين، ولا السكارى، ولا المجانين. لاحظت بعض التجمعات أمام مقهى مطلع الفجر، كانوا لاعبي القمار. تحت الضوء الشاحب، رأيت عقارب الساعة الزاحفة كدبابة مهزومة، لتشير إلى التاسعة. تأخرت ماري أكثر مما اعتقدت، فاخترقني القلق. رأيت ولدًا يركض نحو لاعبي القمار، ويزلق في آذانهم بعض الكلمات. وفي الحال، يختفي لاعبو القمار في المقاهي أو في الأزقة. فهمت السبب مع وصول رجال الشرطة، المسلحين بالمطارق وبالمسدسات المعلقة تحت معاطفهم الجلدية. ابتعدت عنهم، أولئك الشياطين الذين لا قلب لهم! ابتعدت أكثر ما يكون عنهم. جحيمهم جليد ونار! حوالي الساعة العاشرة، وجدت نفسي وحيدًا، في صدد الانتظار، في الضباب الذي تجمد ماؤه، وأصبح سميكًا. جَمَدَ الدم في عروقي تقريبًا، فقطعتُ إلى الرصيف المقابل، وأنا أتحاشى الوقوع في البرك القذرة الموحلة. رأيت نادل مقهى عازفة الأرغن، وهو يُخرج صناديق القمامة تحت المصابيح. وما أن دخل حتى هجمت كل أنواع القطط والكلاب المهجورة على الغنيمة، وكلمات أغنية نائحة: هناك شمس على فرنسا ولا أهمية لما تبقى. ردد السكارى اللازمة، فابتسمت بمرارة، وأحسست بالحزن. لأن ماري لم تأت، ولأن الأغنية تقول هناك شمس على فرنسا، بينما لم نر أو نذق طعم الشمس منذ أيام وأيام، لكن أيضًا لأن بين من يغني هناك أفارقة وعربًا وشيليين. كم كان ذلك حزينًا! أحسست فجأة بأنني في الغائط، رغم أن لا علاقة لي بهم. وأنا أفكر في كل هؤلاء الأفارقة، وفي كل هؤلاء العرب، وفي كل هؤلاء الشيليين، وحتى في كل هؤلاء الفرنسيين الذين يدندنون الأغنية في مقهى عازفة الأرغن، كنت مكروبًا تمامًا. دفعت باب المقهى، ووجدتني بينهم. طلبت كأس بيرة خلف المشرب، وشربتها على مهل، أمام لامبالاة كل تلك الوجوه المُغَشَّاة بالكحول وبالدخان. ثم كلما فَرِغَت كأسي كلما التفوا حولي، في الدخان، وهم يغنون: هناك شمس على فرنسا... أخذتُ أغني معهم، محاولاً تقليد أصواتهم الخشنة. ضحكنا، وحكينا لست أدري عن ماذا، وشربنا نخب بعضنا. طلبتُ كأسًا ثانية، ثم ثالثة. ولو لم أتذكر ماري، ورغبتي في رؤيتها، لما خرجت. كنت ثملاً مع شمسي الخيالية، ومومس عيشة الأعزب السعيد! على باب المقهى، رأيت جان يأتي في الضباب. سألني أين ماري، وهو يتخطى حدود حقه. استغربت في البداية، ثم أوضح لي أن مارتا قالت لأم ماري إنها معي، فأرسَلَتْهُ الأم في طلب ابنتها، لأن أنطوان مريض.
الفصل السابع
جلست مارتا قرب الطفل المريض، ووضعت عل رأسه فوطة مبلولة لتخفف من حدة الحرارة، بينما ابتهلت الأم إلى السماء بكل كيانها، وهي راكعة عند قدمي المسيح، وأقعى أنطونيو بجسده السمين، وهو مثقل بسلاسل الصمت. عندما أنهت الأم ابتهالها، أوضحتُ لها أن ماري لم تأت كما وعدت، وأنني انتظرتها كل هذا الوقت بلا جدوى. ذهلت الأم، كانت بمصيبة، فصارت بمصيبتين: ولدها المريض، وابنتها الغائبة. طَلَبَتْ من أنطوان أن يبلع حبتي الأسبرين، فرفض في البداية، ثم أطاع في النهاية، وأنا كلي دهشة من ابتلاع الحرارة لوجهه! - منذ متى وهو هكذا؟ سألتُ الأم. - منذ رجوعه من المدرسة، أعادته المعلمة إلى البيت قبل الآخرين. حاولت مارتا التخفيف من الجو: - هذا لا شيء، أخذ بردًا، كل شيء سينتهي غدًا. وافق أنطونيو بهزة من رأسه، مرتبكًا ومنفعلاً، وأراد جان الانسحاب، لكن أنطونيو أبقاه خفية، وجذبه، على الرغم من طوله وقوته، إلى كرسيه، كدمية من الخشب، قائلاً بين أسنانه: - يا لأبله الغائط! كان الرَّدْب خاليًا من سكانه، ولم يكن للأم سواهما. رماها بنظراته، خوفًا من أن تكون قد رأته، وبقينا صامتين، بينما أنطوان يئن، تحت وطأة الحرارة. - ألا يوجد أطباء نناديهم؟ سألتُ. - لا يوجد أطباء على هذه الساعة، رد جان. أشار بإصبعه إلى الساعة العتيقة: - منتصف الليل تقريبًا. - عجبًا! - بخلاف ذلك، هناك مركز العلاجات العاجلة السيء الذكر! - ماذا؟ - مركز العلاجات العاجلة السيء الذكر! - السيء الذكر ماذا؟ - مركز العلاجات العاجلة السيء الذكر! - تقول مركز العلاجات العاجلة السيء الذكر؟ - في يوم ليس ببعيد، كانوا على وشك أن يقتلوني في مركز العلاجات العاجلة السيء الذكر. - هناك صيدلية فاتحة، قال أنطونيو. - آه! لو تشرح لهم الوضع، اقترحت مارتا. نهض على التو، والأم تقول من ورائه: - نحن نزعجه! أجاب جان بدل أنطونيو: - لا، نحن لا نزعجه. عندما ذهب أنطونيو، أعلنت الساعة منتصف الليل، بصوت مختنق، فتنهدت الأم: - لم تعد ماري بعد. ونهضت لتطل من النافذة. - سأذهب إلى المترو لأحضرها، قلت. تركتني أذهب، دون أن تكف عن الابتهال إلى السماء. عند باب الرَّدْب، رأيت عصام والمهندس، وهما ينزلان من سيارة المرسيدس. سألني عصام: - إلى أين أنت ذاهب في هذه الساعة، يا مومس الغائط؟! - لم تعد ماري إلى البيت، فأرسلتني أمها إلى المترو لأحضرها، أنطوان مريض، وهي قلقة كثيرًا عليهما. - إذا احتجت إلى شيء، اطرق عليّ الباب، قال عصام بهيئة جادة، لن أتحرك من مكاني! - أوكي. قال لي المهندس بلامبالاة، بعد أن تفقد سيارته: - تصبح على خير. - تصبح على خير، قلت. أضفت بأمل، وأنا أنظر إلى عصام: - سأحاول إيجادها. - كما أقول لك، يا مومس الغائط! اطرق بابي! - سأحاول أولاً إيجادها. لكن محاولتي باءت بالفشل. عند عودتي، وجدت الأم منهارة تمامًا، ورأيت مارتا ممسكة بها بدلا من الإمساك بالمريض الصغير. قالت لي بصوت متهدج: - قل لها إنه لمن المستحيل! تظن أن ماري قد قتلها أخوها! قلت لها إنه لمن المستحيل. هَدَّأت مارتا الأم، ورأينا عقرب الساعة، وهو يتقدم بدقة، متحديًا كل أحاسيسنا القلقة. أغمض الطفل عينيه بسبب الحمى، وتقلَّب، وهو يئن، فنهض أنطونيو فجأة. - لنبلغ الشرطة، قال. ماذا ننتظر، يا مومس الرب! - نعم، لنبلغ الشرطة، قلت. احتارت الأم من جديد، ومن اليأس أطلقت صرخة مكتومة. تركنا، أنا وأنطونيو، جان مع مارتا والأم. في الرَّدْب، قال لي أنطونيو بنبرة جسيمة: - الأمر خطير! - تدعي أمها أنها لم تتأخر مرة واحدة دون أن تشعرها بذلك، وعندما كان يحصل، كانت تقول دومًا أين تتصل بها. لم يزل الضوء مشتعلاً في حجرة عصام، فحملت شجاعتي بيدي، وطرقت بابه، وصوت الأم اليائس، التي عادت إلى ابتهالاتها، يوصلنا بجبن الواقع. عندما علم عصام بذهابنا إلى مركز الشرطة، رغب في المجيء معنا، واقترح المهندس بفتور أن يصحبنا في سيارته. طلبت منه ألا يزعج نفسه، فمركز الشرطة ليس بعيدًا، لكن عصام أصر على ذلك: - بلى، بلى، بلى، يا مومس! عاد عادل في الوقت الذي عاد فيه لحسن وباقي أسرته، وجاؤوا ليروا ما يجري. لاحظتُ –دون أن أتوقع ذلك- أن أقارب لحسن الأربعة يخرجون واحدًا تلو آخر من غرفتي مدام ريمون اللتين كانتا أمس فارغتين، وهي التي أقسمت ألا تؤجرهما إلا لعائلة فرنسية! كذلك، عاد حسين من عمله مخمورًا كعادته. عندما عرف الخبر، بدا عليه أنه صحا من غَشْيَتِه، وأراد أن يصحبنا، فطلب منه عصام أن يبقى. وبالطبع، كان البرتغالي يراقب من فوق. في مركز الشرطة، وجدنا شرطيًا يصرخ في وجه خمسة أولاد قاصرين (أشقر، أسود، أسمر، أجنن، أشطن) في حبس احتياطي، داخل قفص كالحيوانات: - عصابة سوقيين! لصوص! نصابون! مهربو خراء! أدنياء! ما أنتم إلا خراءات، خراءات، خراءات! - نحن لا شأن لنا في كل هذا الخراء الذي يخرج من فمك، يا سيد الشرطي! - ما أنتم إلا خراءات، خراءات... - لا شأن لنا. - ...خراءات! - لا شأن... - خراء... - ...لنا! - ...ات، خراءات، خراءات! - أنت تخرينا، سيد الشرطي! - ما أنتم إلا خراءات، خراءات، خراء... - أنت تخري... - ...ات. - ...نا! أنت تخرينا! - خراءات... - تخري... - خراءات! - نريد محاميًا. - خراءات، خراءات! رشهم بماء مع مطهر كريه الرائحة، وهم: - أنيك أمك! أنيك أباك! أنيك أختك! أنيك... أنيك... أنيك... ثم بصوت واحد: - محامٍ، محامٍ، محامٍ، محامٍ، محامٍ، محامٍ، محامٍ، محامٍ، محامٍ، محامٍ... جاء شرطي آخر ليلم الماء بمكنسة، وهو يغرق في لامبالاة كلية. استمع الأول إلينا على مضض. - محامٍ، محامٍ، محامٍ، محامٍ، محامٍ... لم يبد عليه أنه يعير قصتنا أية أهمية. سألنا من طرف شفتيه عن علاقة القربى بماري. أوضحنا أننا الجيران، فرفض القيام بأي إجراء. - على أحد أقربائها إبلاغ السلطات، قال. - ليس لها سوى أم كبيرة السن، قلنا، هي التي أرسلتنا إلى المركز. عاد يرفض، وألح على حضور الأم لتقوم بالإفادة، وإلا فلن يتحرك. اقترح المهندس أن يذهب لإحضارها، فقلنا ليس إحضارها هو المشكل، لكن كونها امرأة مسنة ومنهارة. أمام العناد الغبي للشرطي، رضخنا للأمر. عند مغادرتنا المركز، ألقينا نظرة على الشرطي الذي يتثاءب عاليًا. ذهب قرب الأولاد الخمسة المبللين، الذين يواصلون: - محامٍ، محامٍ، محامٍ، محامٍ، محامٍ... عندما سحق عصام سيجارته في منفضة مليئة بالأعقاب، وأسقط عقبًا أو عقبين على الأرض، أخذه الشرطي الثاني جانبًا، ولاحظ عليه أنه ليس في بيته. تقدم منا بمكنسته، فابتعدنا مع الهمهمات المختنقة لعصام دون أن يتوقف عن ترداد: يا مومس الغائط، يا مومس الغائط، يا مومس الغائط... مقهورة ومنهكة، تركت الأم دموعها تسيل، ومارتا تحتج على التشريع. صحح المهندس: - المشرِّعون. إلا أنها لم تفهم، وقالت إنه تشريع ظالم. بمساعدة امرأة لحسن، ألبست مارتا الأم في غرفة ماري. عندما صارت جاهزة، ساعدناها على شق طريق، بين سكان الرَّدْب الساخطين، الذين يتأكلهم الحقد، الحائرين، وعندما رأتنا مدام ريمون، جاءت تجري نحو المرأة التي نحميها، لتسألها إن كانت تحتاج إلى مساعدة. قلت لها إننا في سيارة، وإننا لن نحتاج إلا إلى بضع دقائق. رافقتنا حتى باب الرَّدْب، وغادرتُ مع الأم والمهندس. في الطريق، قال لي هذا الأخير متثائبًا: - تصور أنني لم أنم منذ يومين. قلت له بخشونة: - لماذا لا تذهب لتنام؟ ضحك من الخجل، ثم سكت. في المركز، لم يعد الأولاد الثلاثة يتحركون. سأل الشرطي الذي كان يكنس الأم، وقد اختفى الآخر: - أنت الأم؟ - نعم. - لم تعد ابنتك إلى البيت؟ - لا. - هي بالغ؟ - منذ شهر. - إذن، نحن لا نستطيع أن نفعل شيئًا. - كيف؟ انهارت الأم. - نحن لا نستطيع أن نفعل شيئًا. لو كانت قاصرًا، لأرسلت برقية في الحال... إرسال برقية إلى من؟ إلى وزارة الداخلية؟ إلى وزارة الخارجية؟ إلى رئيس الوزراء؟ إلى رئيس الجمهورية؟ إلى الرب الطيب الأشقر الساهر؟ لم يحدد. - ...لكن ابنتك بالغ، أنا لا أستطيع أن أفعل شيئًا. همهمتُ: - أختى في المستشفى، أصابتها رصاصة، هي قاصر. - عفوًا؟ - لا، لا شيء. - ماري بالغ منذ شهر واحد فقط، ألحت الأم. - أنا لا أستطيع أن أفعل شيئًا، أجاب الشرطي من جديد. تدخلتُ: - فتش في أوراقك، ربما وقع حادث. أعطيناه الاسم، فتش، لكنه لم يجد شيئًا. - لو كان هناك حادث لأخطروني. على أي حال، عودوا غدًا صباحًا، ربما كانت عندي أخبار. - غدًا صباحًا؟ الساعة الثانية صباحًا! - إنها العادة، خراء! منذ عشرين عامًا، وأنا في قحبة الماخور هذا، ولا أفرق بين الساعة الثانية مساءً والساعة الثانية صباحًا. عودوا بعد قليل، ربما كانت عندي أخبار. أنا أشك في هذا شكًا قويًا، لكن عودوا مع ذلك. وَصَلَنَا فجأة صوت يكاد يُسمع: - محامٍ، محامٍ، محامٍ... - خراااااااااااء! وها هم يعودون إلى البدء! كنت أظنهم ينامون في خراهم، يا قحبة الماخور! في طريق العودة، طمأنتُ أم ماري: - أرأيتِ؟ لو وقع حادث لعرفنا. لم يحصل لماري ما هو خطير. - ولماذا هذا الغياب؟ - لماذا هذا الغياب؟ - نعم، لماذا هذا الغياب؟ لم أجد ما أقول: - هي عند صديقة أو... - لو عند صديقة، لقالت لي. - ...هي ربما... - قتيلة! هي قتيلة! قتلها أندريه! - لا تقولي هذا. - قتلها. سوقي، مجرم، لن يتردد! قتلها! قتل أخته! أخته من لحمه ودمه! أوه! يا ماري التي لي! أوه! يا حبيبتي! كان سكان الرَّدْب ينتظرون، عندما علموا برد فعل الشرطة، بقوا مشلولين. من العادة أن يسب لحسن، وأن يرغي جان ويزبد، وأن يتفلسف عادل، لكنهم بقوا كلهم مشلولين. عرفنا عن ماري عمرها، ولا شيء عن حقيقتها. أين ذهبت ماري؟ لماذا اختفت؟ ما هو سرها؟
الفصل الثامن
اتفق جميعنا على أن أندريه، الأخ البكر، اختطفها، لكننا استبعدنا فرضية القتل. حسين وحده، مدفوعًا بنظرته المتشائمة إلى العالم، طلب منا ألا نجزم، وأن ننتظر حتى الغد، ربما وجدوها مقتولة على ضفة نهر السين. انفجرت الشتائم من كل الجهات، فشعر حسين بالخجل. قال إن من طبيعته إثارة المخاوف من غير داعٍ، فغفرنا له، ونحن دَهِشون من بقائه دون كحول. نسينا أنطوان تمامًا، وفكرت أنه يغرق في النوم، فلم تكن مارتا إلى جانبه، ولا الفوطة المبلولة على جبينه. بقينا مدة طويلة، بانتظار ماري، وخلال ذلك الوقت، توثقت عرى الصداقة بيننا. هذا على الأقل ما كنت أشعر به، ورؤوسنا تقترب من بعضها. سمعنا أحيانًا بعض الهمسات، بعض السِّباب، بعض الضحكات الخافتة كذلك. ونحن نغوص في قلقنا، كنا نبحث، بشكل من الأشكال، عن جَوْنِ رملٍ ساخنٍ نُغرقه فيه. لكن الحقيقة التراجيدية كانت تطاردنا، ولم نكن نراها بوضوح. كنا نحس بها جيدًا، ونرفض الحديث عنها. ولأول مرة أعلم أن أنطونيو أصله من البرازيل، وليس من إسبانيا. كنت أعتقد أنه إسباني، ومع ذلك لم أسمعه يومًا يتكلم الإسبانية. كانوا يتكلمون البرتغالية هناك، وهو لم تكن له أية علاقة "ببرتغالينا". حكى لنا أن أباه زارع قهوة، عشرات الهكتارات من القهوة. لكن ليشربها، كان مضطرًا لشرائها! في الواقع كان زارع قهوة للشركات الاحتكارية! قال لنا كذلك إن أمه ماتت عندما كان طفلاً، فتزوج أبوه من خالته الصغيرة التي ماتت بدورها. ثم تزوج من خالته الكبيرة التي أعطته تسع أخوات، وبقي ابنًا أوحد. - تسع بنات، يا مومس! هتف عصام، هل تدركون؟ - تسع بنات، أعاد أنطونيو، مبسوطًا من نفسه. - إذن أبوك عربي، يا مومس! - أبي برازيلي. - برازيلي من أصل عربي. - من أصل أندلسي تعني؟ - نفس الشيء، يا مومس! وكل هذه البنات! كل هذه البنات!... - إذا ما فقد أبي واحدة، أوضح أنطونيو... - تسع بنات، يا مومس! - ...فلن يسيئه ذلك بتاتًا، سيرسل اثنتين أخريين في طلبها، متمنيًا ألا يراهما ثانية، مما يوفر عليه بعض الهموم، ختم، وهو يفرك سبابته وإبهامه. أنتم ترون ما أعني؟ ابتسم بعضنا، ولم يشأ أحدٌ الرد. كان لأنطونيو وجهٌ أرجوانيُ اللون، مليءٌ بالنمش. حقًا كان سمينًا، لكنه لم يكن بدينًا. كان خفيف الروح، ويحب كثيرًا جان. استمع جان إلى صديقه بكثير من الاهتمام، ثم، قال بدوره: - أبي الذي لي، أعطته أمي تسعة صبيان. إذا ما فقد واحدًا، فلن يسعده ذلك بتاتًا، لن يرسل أحدًا في طلبه، خوفًا من أن يفقد ابنين آخرين. كل واحد منا يدفع حصته من النفقات التي دونها ستسقط على دماغه أطنان الهموم. ضرب جان بقبضته رأسه، أخذه بيديه، وتظاهر بِلَوْيِهِ، وهو يَحْوَلُ، ويبصقُ لسانه. أخفى الجميع الضحكة نفسها، وأنطونيو يضربه بقدمه، لأن الوقت لم يكن للضحك. كنا، نحن الرجال، نجتمع في حجرة، والنساء في أخرى. اقترب والد لحسن من عادل، وراح يحدثه عن حربه، فأصغى عادل بانتباه. أوضح الشيخ أن الصانعين الحقيقيين لاستقلال المغرب هم حاليًا في السجن أو في المنفى، وعاد إلى الوراء، وهو يحكي عن ذكرياته، فتظن أنك تخترق التاريخ عبر نظرته العميقة. كان صيادًا، وفي الليل، كان يغوص في أعماق البحر ليضع الألغام تحت هياكل البوارج الحربية التي ما أن تُقْلِع حتى تتفجر هشيمًا يكون طُعمًا للأسماك. لم يكن يذهب إلى المكان ذاته مرتين، فعرف كل مدن المغرب الساحلية، حتى أنه ذهب مرة لتنفيذ عملية في طولون. رأيته، وهو يكشف بيد عصبية عن كتفه الضامرة: - هذا الجرح سببه انفجار لُغم. تحركت البارجة، ولم أزل بعد قربها، عندما تفجرت ألف قطعة. سال دمي بغزارة حتى الشاطئ، حيث غبت عن الوعي. عندما فتحت عيني، قلت لنفسي "يا ولد، وقعت في أيدي الفرنسيين!" لكني وجدتني في بيت أبيض، ووجوه باسمة تحيط بي. ابتسم بسعادة، ثم قال بمرارة: - وها نحن، يا ولدي، في البرد والجليد! نهض عادل معتذرًا، وسارع إلى كراسه ليدون ما قال له الشيخ، وصور ماركس ولينين وماياكوفسكي تبتسم. جاءت مدام ريمون، وقالت لعصام وحسين إنها لن تستطيع الانتظار أكثر، وعليهما أن يدفعا الإيجار، وإلا رفعته. احتد حسين، وقال لها إنه لا يبالي، وإنه سيترك في أول فرصة، لأنها امرأة عبدة للنقود، لا تقدر ظروف مستأجريها. أمسكته، ورجته ألا يرفع صوته، احترامًا لأم ماري. وعدته بالانتظار، لكنها أنذرته بأنها ستزيد الإيجارات. شددت على كلماتها الأخيرة لتتحاشى احتداد حسين، فعلق لحسن دون أن ننتظر ذلك: - لمدام ريمون قلب طيب! كنت أظن أن لها قلب الشيطان: في النهاية، لها قلب طيب! هذه هي الحقيقة! الحقيقة الصرفة! كما أقول لكم، أؤكد لكم! فتذكرته مدام ريمون: - أما أنت، فمتى سيدفع لي أقرباؤك؟ يهبطون علينا من السماء فجأة! يستقرون! دون أن يدفعوا فلسًا! قل لي مَنْ غير مدام ريمون تفعل هذا؟ استدار نحونا، وهو يقطب حاجبيه، ويرفع كتفيه: - ألم اقل لكم؟ لمدام ريمون قلب طيب! قال المهندس: - لم يعد باستطاعتي! - ابق أيضًا بعض الشيء، يا مومس! قال له عصام، سنغادر معًا. - سأذهب للنوم. خرج، تتبعه مدام ريمون، فجان، فأنطونيو. - سأبحث عن ماري غدًا، لا تخشوا شيئًا، تلعثم حسين. ذهب هو كذلك. لم يبق سوى عصام الذي يدخن، ولحسن الذي يتثاءب، والشيخ الذي ينام. أشارت الساعة إلى الثالثة وعشرين دقيقة صباحًا. نهضتُ لأنظر من النافذة. لم أميز شيئًا في السماء. عدت إلى مكاني ونظرت إلى الساعة من جديد. سمعت دقاتها الرتيبة، وتأملت الرقاص القديم. فكرت في ماري: أين ماري؟ هل حقًا قتلوها؟ لماذا ماري بالذات؟ هذا الحلم الذي لم يتحقق! ابتسمتُ بحزن، وأنا أفكر في نهاري، في انتظاري، في ملاحظات جورج الأشقر، في أحلامي! عادت ابتهالات الأم القانطة إلى الوصول إلينا، واطئة، كالمستسلمة. تركتُها في الطريقِ، وحدَهَا، وغفوتُ. عملتُ كابوسًا: ماري، حبلى مني، وَضَعَتْ طفلاً بلا وجه، قطعته أمي بضربة فأس. ثم، بسكين، ذبحت ماري كالخروف.
* * *
هزتني مارتا بيدها، وطلبت مني النهوض. لم أجد أحدًا حولي، ذهبوا كلهم. سألتها عن أخبار ماري، فرجتني أن أخفض صوتي، لأن العجوز والطفل ينامان. - ماري دومًا غائبة، قالت. وقبل أن تصحبني، لَمَسَتْ جبين أنطوان. نزلت الحرارة، فابتسمت مارتا، رغم تعبها. قلت لها إنني حلمت حلمًا مزعجًا، لكنها دعتني إليها، لأنام، وأرتاح، فما كان إلا حلمًا مزعجًا. قبل أن ندخل بيتنا، سمعنا الأم، وهي تردد في نومها: - ذبحوا ماري، ذبحوا ابنتي الصغيرة!
الفصل التاسع
وجدت الأم حقيبة ماري في جوف الخزانة، كانت تخلو من أوراقها: جواز السفر وبطاقة الهوية. أحست بصدمة كبيرة، وبذلت جهدًا لتتذكر: استيقظت على صوت خطوات ماري، وظنت أن الساعة كانت الثامنة، ساعة ذهابها إلى العمل. قالت لها ماري إن الساعة لم تكن سوى السادسة، إنها لم تكن تقدر على النوم، وإنها ستسقي أصص الزهور في الخارج. عندئذ عادت إلى النوم، ثم، ساعة فيما بعد، نهضت الأم، ولم تكن ماري هناك. حَضَّرت الأم المسكينة ابنها للذهاب إلى المدرسة، أعدت الفطور، رتبت البيت، ناسية ابنتها تمامًا. فكرت أن ابنتها غادرت للعمل ساعة قبل وقت مغادرتها كل يوم، حتى اللحظة التي اكتشفت فيها الحقيبة. والآن، هل يعني هذا أن ماري بارحت البيت على الساعة السادسة؟ ولماذا الساعة السادسة تحديدًا؟ هل من أجل سفر في قطار أم في طائرة؟ أن تترك الحقيبة يعني أنها لم تكن تريد إيقاظ الشكوك لدى أمها، لكن جواز السفر يعني أشياء كثيرة، من بينها السفر إلى الخارج، فهل هربت؟ و... لماذا؟ ونحن نبحث في الحقيبة، وجدنا ورقة صغيرة كتب عليها اسم واحدة إيزابيل، ورقم هاتف. لم تكن الأم تعرف هذه البنت. في الواقع، كانت لماري صديقة طفولة واحدة، بريجيت، تعيش اليوم في بوردو. - هل تفكرين أنها في بوردو؟ سألتها. - أنا لا أفكر. - ربما ذهبت عند بريجيت، في بوردو. فوضت المرأة أمرها إلى المسيح، واستشاطت: - لماذا ستذهب عند بريجيت، في بوردو؟ - قلت "ربما" ذهبت إلى بوردو، عند صديقة طفولتها، بريجيت. - لماذا، أيها الشيطان، ستذهب إلى بوردو؟ ولماذا كل هذه الألغاز؟ كل هذه التكتمات؟ لم تخبئ عني شيئًا أبدًا! لماذا تريدها أن تهرب مني لتذهب إلى بوردو؟ ماذا فعلت لها؟ - لا تثيري أعصابك! أنا أبحث عن تفسير، فقلت لنفسي ربما ذهبت إلى بوردو. - لا، لم تذهب إلى بوردو. - أنا أبحث فقط عن تفسير، فقلت لنفسي ربما ذهبت إلى ب... - لا، لم تذهب إلى بوردو. - ...وردو، عند صديقة طفول... - أنا أمها، وأنا أعرف أنها لم تذهب إلى بوردو. - ...لتها، بريجيت. - لا، أقول لك. - كما تريدين. - لم تذهب إلى بوردو. - طيب، طيب، لا تثيري أعصابك، لم تذهب إلى بوردو، لكن قلت لنفسي... - لممممم تذذذذذهب إلىىىىى بوووووردووووو. - طيب، طيب، لم تذهب إلى بوردو. بعد بضع لحظات تفكير، عدت إلى القول: - إذن، لم تذهب إلى بوردو. - لا، لم تذهب إلى بوردو. - لم تذهب إلى بوردو. - لا. رجعنا، أنا وأنطونيو، إلى مركز الشرطة، دون أن نجد مسئولي الليل. لم تذكر سجلاتهم دائمًا أي حادث ذهبت ضحيته واحدة اسمها ماري. قالوا لنا على الأم أن تجيء عند مفوض الشرطة لتحرر محضرًا رسميًا، ولتنقل القصة بحذافيرها. لم يكن أحد هناك في قفص الاعتقال، وكانت بقع دم سوداء تلطخ الجدران. خاطب أنطونيو الأم، بفرنسية برتغالية النبرة: - يجب قول كل شيء في المحضر. - انتظر، قلت له، سنتلفن أولاً لإيزابيل. - نتلفن لمن؟ التقطت قطعة الورق: - إيزابيل. - فكرة جيدة! - هل تظن أن الشرطة ستهتم بحالنا؟ سنقوم بالبحث على طريقتنا. - سنخطر الشرطة في الوقت نفسه، ماذا تقول؟ - ماذا أقول؟ لنتصل أولاً بإيزابيل. - وهب أن الاسم ما هو سوى حيلة أو الرقم أو كليهما؟ - لا شك أن أحدهما حقيقي، وإلا لِمَ هذه الورقة في الحقيبة؟ لنتلفن. تلفنت من مقهى مطلع الفجر، والرائحة العطنة للمراحيض تخنقني. كان الرقم موجودًا، كإيزابيل، التي، مع الأسف، كانت غائبة. أجاب صوت امرأة طاعنة في السن أنها تعمل، وأن باستطاعتي الحديث معها على الهاتف، على هذا الرقم. سألتها إن كانت تعرف صديقة لإيزابيل باسم ماري، فأجابت إن لإيزابيل صديقات عديدات، ربما توجد بينهن هذه الماري. هاتفت إيزابيل في العمل، لم تر ماري منذ اختفائها. كانتا تعملان معًا في مصنع الشوكولاطة، ومن العادة أن تلتقيا كل يوم. سألتني إذا ما أصابها مكروه، وطبعًا نفيت، رافضًا إعطاء تفاصيل أخرى، وحددت معها موعدًا ساعة الغداء، لأبلغها أشياء مهمة بخصوص ماري. أدارت رأسي الرائحة العطنة للبول، لكني بقيت، واتصلت برئيس قسمي، للاعتذار عن غيابي. أجابني أنه سيخصم يومًا من راتبي إن لم أُحضر ورقة تبريرية و، في حالة ما تغيبت أكثر، عَرَّضت نفسي للطرد. تركتُ صوته الشيطاني يرعد، وأنطونيو يسمع قرب الهاتف، وهو يهز رأسه، ويتظاهر بالهزء. صارت رائحة البول غير محتملة، فأقفلت، وصعدنا. - ما العمل؟ سأل أنطونيو. - ستذهب لتخبر الأم، قلت، وسآخذ المترو لأرى إيزابيل. - لماذا لا نذهب معًا؟ لدي دراجة نارية. - لديك دراجة نارية، أعرف. - ربما كنتُ ودراجتي النارية لك عونًا نفيسًا. - أنت لا تعمل اليوم؟ - بلى، لكن طز في العمل! أنا مرصص، كما تعلم، ومعلمي ليس صارمًا. إذا ما لم أعمل مرة في الشهر، لا بأس في ذلك، بشرط أن أقدم له قدح "كالفا" مزدوج. ثم، كل شيء يتوقف على عدد المرات التي يرن فيها الهاتف: آلو! عند مرحاضي إسهال. آلو! الأنابيب تضرط طوال الليل. آلو! المجاري تسعل وأجهل لماذا. ثلاجتي ترقص الرومبا. غسالتي تغني أغاني ثورية. سخاني يبكي من شدة البرد. إلى آخره، إلى آخره. لكن قليلاً ما يرن الهاتف هذه الأيام، لماذا؟ لأن الناس يفضلون البقاء في الغائط، والأحوال، كما ترى، لم تكن أسوأ مما هي عليه. إذن اتفقنا؟ سنأخذ دراجتي النارية؟ - سنأخذ دراجتك النارية، لكن علينا أولاً إعلام أم ماري. - سأذهب لإعلامها وإحضار الدراجة. - هل آتي معك؟ - لا، انتظرني هنا. - سآخذ قهوة وأنتظرك.
الفصل العاشر
رشفت قهوتي على المشرب، ومن حولي الهدوء المطلق. كان شخصان أو ثلاثة يشربون الخمر أو البيرة، والمعلمة تجلس خلف الصندوق، وترشف قهوتها المزدوجة. كان شاب جزائري أو مغربي يلعب الفليبر، والمعلم يقطب حاجبيه، ويلمع الكؤوس، بينما ينظف النادل المشرب، فنضطر إلى رفع كؤوسنا أو فناجيننا، كلما اقترب منا. دخل عربي آخر، وحيا المعلم بمرح. ناداه باسمه، بول. حيا المعلمة كذلك، وسألها إن نامت جيدًا، فأطلقت آهة. أحضر المعلم، وهو مقطب الحاجبين دومًا، كأس ريكار للزبون، دونما حاجة له إلى طلبه. كان العربي، الحليق والنظيف، يتجاوز الأربعين بقليل. قال لامرأة المعلم: - كان بإمكاني أن أربح الرهان المثلوث لو سمعت كلامه! أراد الحديث عن المعلم الذي وافق على ما يقول، رابط الجأش، ووعد العربي باتباع نصيحته، المرة القادمة. سأله المعلم أين كان أمس، فهو لم يره طوال النهار. أجاب الآخر أنه لا يمكنه المجيء كل يوم، بسبب عمله، فسأل المعلم ثانية إن كان سيذهب إلى العمل اليوم. - لا، إنه يوم راحتي، قال. علق المعلم: - من الشاق العمل وهذا الجليد. لكن الآخر حكى مزهوًا أنه لا يرفع يديه أبدًا من جيبيه، عندما يراقب فريقًا من العمال الذين يحفرون المترو. إضافة إلى ذلك، البرد أقل تحت الأرض من فوق الأرض! وأعلن أنه سيجيء للعمل في ورشة بيلفيل عما قريب، فهم المهندسون أنفسهم الذين يعمل معهم منذ أعوام. - هكذا سنراك كل يوم، هتفت المعلمة. - كل يوم، قال العربي بابتسامة واسعة. - كل يوم، قال المعلم بالابتسامة نفسها قبل أن يسأل: ومتى، "عما قريب"؟ - عما قريب. وكل يوم. - كل يوم، عاد المعلم إلى القول. - شارع بيلفيل ليس قناة سان-مارتن، قال العربي المُدَلل، هنا، لهدم عمارة قديمة، يكفي أن يشتروها. يشترونها غاليًا، لكنهم يقدرون على شرائها. هنا ليست أملاك الدولة، وليست هناك لجان تنسيق، وكل الغائط الذي يتبع! - كل يوم، همهم المعلم كمن يهمهم لنفسه. لفتت المعلمة النظر إلى كونه أنيقًا اليوم، ولم أقف جيدًا على ما أبداه المعلم من إطراء، لأن شلة من الرجال، بين سن اليأس وسن النضوج، وصلت كالإعصار، في نفس الوقت الذي هتف فيه العربي: - ها هم مهندسونا الأكثر كفاءة في العالم! كان أحدهم يجر كلبة تزحف كالفقمة خلفه. - اسرعي أكثر، يا مومسي الصغيرة الكلبة! اسرعي أكثر، يا مومسي الصغيرة الكلبة! ردد دون توقف. حيوا المعلم بصخب، ومزحوا مع العربي، بينما صب المعلم لهم كؤوس الريكار. لاعَبَ العربي الكلبة، قرص أثداءها، وأهاجها لتصرخ، فعوت بقوة. - لا تعوي عاليًا، يا مومسي الصغيرة الكلبة! لا تعوي عاليًا، يا مومسي الصغيرة الكلبة! ردد الرجل بلهجة هَزِلَة، وانتزع منه الحيوان. قهقه الآخرون، والتعليقات تنفجر كالصواريخ. ثم عادوا يتكلمون عن الرهان المثلوث، والعربي يحكي لهم، أنه لو أصغى إلى نصائح المعلم، لحقق ربحًا كبيرًا. سأل أحدهم إذا ما شاهدوا برنامج لست أدري ماذا على التلفزيون أمس مساء، وأجاب آخر أن لا تلفزيون لديه، وهو يعزم على شراء جهاز بالألوان. مع ذلك، ابنه يملك واحدًا أسود وأبيض، لكن، كلما ذهب لزيارته، وجد الجهاز معطلاً. ضحك جاره، وهو يعتمد على عكاز. - من الأفضل أن يكون معطلاً، قال، أنا لدي واحد، من النادر أن أفتحه، للأفلام، التي لا أنظر إليها أبدًا حتى آخرها، لأنها مملة مَلل المومس، لا يمكنكم تصور كم. أما البرامج، فهي سَلَطة بالفعل، تنتن غائطًا! صاح بعصبية. تنتن سياسة! فقال أصغرهم سنًا: - ماذا تريد، يا بابا، كل شيء مسيس الآن. والرجل يصيح بعصبية دومًا: - تنتن غائطًا! - كل شيء ينتن غائطًا، يا بابا، كل شيء مسيس، قلت لك. - تنتن غائطًا! - نعم، فهمنا، برامج التلفزيون تنتن غائطًا، وماذا بعد. - تنتن غائطًا! - نعم، فهمنا، فهمنا، السياسة غائط! - أنا، المهندس القديم، اشتغلت سياسة، في الماضي، لكن سياسة اليوم تختلف. في ما مضى، كان لسياستنا المشتركة هدف مشترك: النازية. اليوم، نحن أعداء ما بيننا: مستأجر ضد مالك ضد متعهد! وخلف كل هذا تختبئ الأحزاب: دوجولي ضد شيوعي ضد اشتراكي. نحن نكره بعضنا كره المومس، لا يمكنكم تصور كم. همهم البعض مؤيدًا، العربي منهم، وللتشجيع، صاح الشيخ بأعلى صوته، وهو يرتعش هذه المرة، ويهدد بعكازه: - وها أنا الآن أحذركم، نقبل بكل شيء ما عدا أن تصبح فرنسا حمراء. هل تعرفون ماذا، أن تصبح فرنسا حمراء؟ إنه غروب مومس لا نهاية له، سيجتاح حياتنا، لا يمكنكم تصور كم. إنها لجان التنسيق في كل مكان، وليس فقط لجنة قناة سان-مارتن! سينسفون مشروع الهدم الذي أنا واحد من المساهمييييين فيه! كفى ثم كفى! فلننعم بالفوائد الحالية، بدلاً من أن نقضي الوقت في التظاهر، في الإضراب، والمس بالمصلحة الوطنية. وهذه الأصداء: المصلحة الشخصية... المصلحة الشخصية... المصلحة الشخصية... وهذه اللهثات: لا تعوي عاليًا، يا مومسي الصغيرة الكلبة! لا تعوي عاليًا، يا مومسي الصغيرة الكلبة! وأيضًا هذه اللهثات: لا تعوي عاليًا، يا مومسي الصغيرة الكلبة! لا تعوي عاليًا، يا مومسي الصغيرة الكلبة!... خرجتُ عندما رأيتُ أنطونيو قادمًا. سنصل إلى موعدنا باكرًا، لكننا سننتظر أمام المصنع، قرب ساحة "فوج". كان أنطونيو يضع خوذة على رأسه، ليحتمي خاصة من البرد، أعطاني خوذة أخرى، وانطلق تحت سماء صافية كالبلور. كان البرد قارصًا، الدراجة النارية تخترق الريح، والريح تخترق جسدينا، وجسدانا كالجرح. عند الضوء الأحمر، رأيت جرافات تقتلع الجليد عن الأرصفة، وهي تعمل ضجيجًا مصمًا، واقترح إعلان دعائي ضخم: اسكنوا في الهدوء والهواء الطلق! تأملت من جديد جبال الجليد التي يقتلعونها من جذورها، ويلقونها في الشاحنات الضخمة. بدا الجليد أقوى من الجرافات، فتذكرت ما قاله الراديو: الجليد قدري، وكل شيء يتوقف على إرادة السماء! حتى أن بعض الكرادلة أقاموا القُدَّاسات بهذه المناسبة، لطلب الرحمة. جاءت إيزابيل، وقدمت لنا ألواح شوكولاطة. أكلناها، ونحن نحكي لها حكاية ماري، فأدهشها سماع هذا في موضوع صديقتها. بدا أنها تجهل كل الأمر، وشعرت بالتعاسة على فكرة أن صديقتها المفضلة قد خبأت عنها كل شيء. بما أنها لا تعمل بعد الظهر، اقترحت عليها المجيء لرؤية الأم، فذهبت مع أنطونيو على الدراجة النارية، وأخذت المترو، وكم كان أنطونيو سعيدًا أن ترافقه. في الدار، طلبت إيزابيل من الأم الذهاب إلى مركز الشرطة، وتحرير محضر رسمي، لأن من اللازم العثور على ماري. كانت الأم في حالة يرثى لها، وابنها يرتمي دومًا في الفراش، إلا أن لا حمى لديه. رافقتُ الأم إلى مركز الشرطة، وأوضحنا القضية للضابط الذي عاد يسألنا إن كانت ماري قاصرًا. أجبنا أنها بالغ منذ شهر واحد فقط، فعبَّرَ محياه المغلق عما سيقول: - لا نستطيع القيام بمحاولة أي شيء قبل اثنتين وسبعين ساعة. - قبل اثنتين وسبعين ساعة؟! - قبل ثلاثة أيام ابتداء من اختفاء ابنتك، مدام. - قبل ثلاثة أيام من اخ... - من الممكن أن ترجع إلى البيت خلال ذلك. - ...تفاء ماري؟! - وإلا فلا تترددي عن العودة غدًا. على الباب، طلب الضابط من الأم: - هل تعرف شابًا من الممكن أن تكون قد ذهبت معه؟ - شاب؟! - من الممكن أن تكون قد ذهبت معه. نفت الأم، وأضافت: - لنفترض أنها على علاقة بواحد، هل على هذا أن يبرر هربها؟ على طريق العودة، سألتُها لماذا لم تبلغ المفتش بتهديدات أندريه. أجابت أنها لم ترغب في تعقيد الأشياء، لأنها مقتنعة الآن أن لا يد لأندريه في الأمر. - حقيقة أن تكون ماري قد استطاعت الهرب مع ولد، أيقظت في نفسي الشكوك، ختمت قائلة.
* * *
بدافعِ شعورٍ مُضْنٍ بسوء التصرف، بدت إيزابيل الأكثر عزمًا على العثور على ماري، كما لو كانت هي من وراء اختفائها. اجتاح الوجوم وجهها والشحوب، ولم يعد أنطونيو يفارقها، حتى أننا كنا نفاجئهما، وهما يتهامسان كما لو كانا صديقين منذ زمن طويل. قالت مارتا بعد الضباب، ستصفو السماء، وعما قريب ستصفو القلوب كذلك. بكت الأم طويلاً، وابتهلت إلى السماء، بكت، وابتهلت إلى السماء. سأل الصغير أنطوان إن كانت ماري سترجع إلى البيت قريبًا، فأجبنا بالإيجاب، لكن لم يكن يبدو عليه أنه يصدقنا. أخذ بالبكاء هو أيضًا، رغم تهدئة مارتا التي، على العكس، وبخت الأم. غَصَّت الأم، نشقت، وأطبقت فمها، إلا أن الطفل داوم على البكاء. فجأة، انفجرت إيزابيل بدورها، وخرجت، يتبعها أنطونيو، خفيفًا كبطة، وهو يطبطب على كتفها. لَحِقْتُهما، ورجوتُ إيزابيل أن تمسح دموعها. سألتها إن كانت تعرف أحدًا يمكن لماري أن تختبئ عنده، أو أن تهرب معه. ترددتْ بعض الشيء، ثم، مرتبكة تحت نظرتي الفاحصة، اعترفتْ أن ماري تعرف منذ بعض الوقت ابن صاحب المصنع، وأنها خرجت معه عدة مرات، لكنها لم تعد تراه منذ ذهابه إلى لندن للدراسة. وفي الحال، تذكرتُ جواز السفر الذي أخذته ماري. هل كان ذلك لتلتحق بصديقها في لندن؟ حدثتُ إيزابيل في الأمر، لكنها أبعدت الفكرة إطلاقًا. على أي حال، ليست في حاجة إلى جواز سفر للسفر إلى لندن. إضافة إلى ذلك، لقد قطعت علاقاتها بابن المعلم منذ مغادرته. لا، هي حتمًا في باريس أو في مكان ما في فرنسا. في رأيها، لم تترك البلد على التأكيد. كانت إيزابيل منزعجة لأسئلتي، ومرتبكة، فلاحظ أنطونيو ذلك: - أنت تُحْنِقُها بأسئلتك! لماذا لا تعمل كمحقق؟ - كمحقق؟ - نعم، كمحقق. - أنا آسف! لم أكن أريد التصرف كَمُ... - اتركها وشأنها! - ...حَقِّق. أَخَذَتْ نفسًا عميقًا، وأنطونيو يهمس، فمه قرب فمها، ويده على يدها، كعشيقين في الوقت الحاضر. كَفَّ الصغير أنطوان عن البكاء، ونظرت الأم إلى المسيح، في الفراغ، وبدت مارتا في صمتها قلقة. لأخفف من مصابهم، قلت بهيئة مشجعة، وبابتسامة: - لا تخشوا شيئًا، سنجد ماري. غير أني كنت أشك في إيزابيل.
الفصل الحادي عشر
أعلمنا عادل أنه أوقف كتابه عن الطبقة العاملة ليكتب قصة اختفاء ماري، ويضفي عليها قليلاً من الفلسفة، وهكذا سيكتب رائعة من الروائع. أعلمنا أيضًا أننا كنا كلنا، في كتابه السابق، الأبطال الرئيسيين، وفي كتابه الجديد، ستكون ماري البطلة. إذن سيحقق قفزته الديالكتيكية، من الأبطال العديدين إلى البطل الواحد، الذي يبلور فيه وحده كل مشاكل الطبقة العاملة، ويصبح الناطق بلسانها. ثم، ناح لعدم معرفته ماري قبل أن تختفي، ليكون بمقدوره إقامة تحليل بسيكولوجي مفصل لشخصيتها الفذة. في رأيه، اختفت ماري لسببين: الأول، لأنها مغتربة بمحيطها، الثاني، لأنها تريد تحطيم أداة الاغتراب، مما يتطلب فعلاً ثوريًا تمهيديًا: الاختفاء المفاجئ. هنا، ستشعر بحرية مطلقة بالنسبة إلى النير العائلي، لتحقق في الأخير الفعل الثوري الجوهري: تحطيم أداة الاغتراب، المتمثلة بالسلطة. عَبْرَها، إنه انتصار الجماهير المسحوقة. أما اختفاؤها المفاجئ، فسيشكل قفزة تاريخية نوعية، لأن على القفزة أن تكون مفاجِئة، وهذا ما حصل مع ماري. ستطول الخطوة الثانية، بسبب أهمية المهمة. لهذا السبب لن تعود قريبًا، على عكس توقعاتنا، إلا أنها ستعود إلزاميًا. بقي حسين فاغر الفم، فهو لم يفهم شيئًا. التفت إليّ، وسألني: - هل فهمت شيئًا؟ - لا شيء إطلاقًا. نرفز عادل: - هذا لأنكم جهلة! ثم أرغى وأزبد: - جهلة، هل تسمعون؟ جهلة! قدم حسين له كأسًا: - أنت لن تغضب إن قلت لك شيئًا؟ - قل. - أنت لن تغضب؟ - لا. - أنت متأكد من أنك لن تغضب؟ - قلت لك لا، صاح غاضبًا. - أفكر في عضوي ليل نهار، لم أضاجع منذ تسعين يومًا، لو كان حسابي صحيحًا! قهقهتُ، كذلك جان، الذي راح يصفق فجأة. أضاف حسين جافًا كقطعة الحطب: - المرة الأخيرة، كانت عاهرة اصطادتني في بيغال. يا مومس غائط العيشة! انجدني، بالله عليك! هل يتكلمون عن هذا في الفلسفة؟ عضوي يؤلمني، فهو منتصب طوال الليل: وتد مغروس في صحراء. يجب أن أجد حلاً، وبسرعة. أنا واثق من أن لديك حلاً. حل فلسفي قاطع، قفزة تاريخية حاسمة، كما ينبغي. ماري خراء أسود للجميع! خررنا من الضحك، حتى عادل الذي احمر في البداية، انفجر ضاحكًا. حسين وحده الذي بقي جادًا، ودفعة واحدة، غدا تعيسًا. لم نهضم رد فعله. مضت لحظات مثقلة بالصمت. نظرتُ إليه: كان يجتر إخفاقه التام. ما لبث أن راح يشرب كالمجنون، وينزل ما بيننا، بالتدريج. وبشراسة أدهشتنا كلنا، انفجر ضاحكًا، كالمعتوه. وزع الكؤوس بصخب، حاثًا إيانا على الشرب، لأن الحياة ما هي سوى سيجارة وكاس و، إن لم ننكحها نكحتنا! طز في الهموم، طز في السماء، طز في العالم! طز، طز، طز! المهم أن نشرب، وأن ندخن، وأن نضحك، يا خراء! وشرب، ودخن، وضحك. فتح الراديو، وراح يدبك على لحن أوروبي، ثم نفخ في الرماد: كانت هناك حديقة اسمها الأرض! لم نسمع الطرقات على الباب، مما اضطر عصام للدق على النافذة، ففتح له جان. كانت الأصباغ ترشقه كلوحة تجريدية، جذبه حسين من كتفه، وسأله سبب كل هذه القذارة. أخذا يدبكان، وعصام يكشف لنا أنه منذ اليوم يعمل كدهان، وأنه سيكسب خبزه بشرف ككل العاهرات. ترامى على السرير لاهثًا، وطلب كأسًا، وحسين يواصل الزعيق والقفز، ثم سقط على الأرض منهكًا. سألني عصام ما هي آخر أخبار ماري، فجعلته يقف على الوضع في مجمله، وهو لا يكف عن ترداد "يا مومس، يا مومس، يا مومس...". نهض، والكأس بيده، وجلس على كرسي خَرِب. كان سعيدًا من عمله، لكنه لم يعتد بعد رائحة الدهان النافذة. سأله جان كيف وجد العمل. - ذاك المهندس الغائط من وجده لي قبل مغادرته إلى تولوز، أجاب. إنه شغل جيد، لكنه مرهق. لم أُرِدِ السفر معه. مهنة الرسام معقدة بعض الشيء لي، ثم، أحب هذه المدينة المومس، أحب باريس أكثر من القدس! أنا طفران، لكني جيد في مدينة النور والبؤس المومس هذه! - أنت محظوظ، أكد جان. حظ مومس! ضربة بوكر لا تتكرر مرتين في مرحلة البطالة هذه. كما تعرفون كلكم، أنا ميكانيكي. عندما أمروني بالتوقف عن العمل في مارسيليا، وجدته في باريس! ليس لأني أفضل باريس، مارسيليا لي أجمل مدينة في العالم! لكن اسألوا العمل في صدفته وفي كيفيته! ومتى وجدته، هذا العمل المومس، في رأيكم؟ بعد انتظار وعذاب خلال شهور، مما اضطرني إلى الانفصال عن أمي فوق ذلك، أنا الابن الأوحد. لأمي أيضًا قصتها: كانت تعمل في أحد مصانع الألبان وفجأة، قررت الإدارة بيع المصنع لشركة تجارية ألمانية قررت بدورها إقفال المصنع لتحتفظ باحتكار منتجاتها التي تصدرها. النتيجة: وجدت نفسها مع عمال الحليب الآخرين على الحصيرة! وعندما قرر مفتش العمل رفض التسريح، ألغى الوزير قراره بمرسوم يعتبر احتلال المصنع من طرف العمال غير شرعي، بينما هؤلاء لا يرمون إلى شيء آخر غير الدفاع عن حقهم في العمل. نهض عصام من جديد، واتجه نحو مرآة مشروخة معلقة على الحائط. سألته إن كان صديقه المهندس مهندسًا بالفعل. - ماذا تريده أن يكون، يا مومس؟ أجاب، وهو يحك ذقنه، قَوَّادًا؟ - ليس هذا قصدي. دون أن يبقى لحظة واحدة في مكان، أتاني. - لكنه بخيل إلى حد الموت! عمل. - هل صحيح أنه يربح أحد عشر ألف فرنك في الشهر؟ - ربما أكثر، لكنه لا يقول. إنه مليونير! هذا صحيح، لكنه بخيل إلى حد الموت! لاحظ جان: - مع ذلك ودود جدًا صديقك المهندس! - كيف عرفت؟ - ألم تعرفني عليه؟ توجه عصام بالكلام إلينا: - انظروا إلى مغفل الغائط هذا الذي يدعي أن صديقي البخيل ودود بينما لم يُمض معه أكثر من خمس دقائق. حاول جان الدفاع عن نفسه: - أولاً، بقيت معه أكثر من خمس دقائق، وتحدثنا في أشياء كثيرة. ثانيًا، إنه انطباعي، وأنا لم أزل أجده لطيفًا. مهندس مثله يتفضل بالعيش معنا! - مثلي واعجباه! تدخل عادل دون أن يعيره أحد الانتباه. هز عصام رأسه عدة مرات، قال يا مووووووومس... حالمًا: - لو كنت أكسب مثله، لخرجت من هذا العفن حالاً بلا تأخير. - أي عفن؟ سارع عادل إلى السؤال. - أنتم. مخيبًا، استدرك عادل قوله: - أنا، عفن؟! الله يسامحك! - ليس أنت، لكن أنتم، أنتم... ردد، وهو يحرك إصبعه قرب وجوهنا بعصبية. لاحظت أن جان لا يشرب، سألته سبب ذلك، فأشار بإصبعه إلى حسين: - لم يقدم لي ما أشرب، فهو لا يحبني، وأنا أجهل لماذا. كان حسين منهكًا دومًا، وبدا لي أنني أسمعه، وهو يردد: حورية! حورية! كان ينادي بنتًا يحبها، كان يحبها، بينما يقول عصام لجان متهكمًا: - حسين لا يحبك، لأنه عنصري، أما صديقي البخيل، فليس عنصريًا على الإطلاق، لهذا هو ودود، ودود جدًا، يا المارسيلي الصغير الغائط! - نعم، هذا ما أعتقده. ولا تدعُني بالمارسيلي الصغير الغائط! - المارسيلي الصغير الغائط! - قلت لك ألا تدعوني بالمار... - المارسيلي الصغير الغائط! - ...سيلي الصغير الغائط! - المارسيلي الصغير الغائط! - وأنت وقدسك؟ - لا تتكلم بالسوء عن "قدسي"، يا المارسيلي الصغير الغائط! - توقفا أنتما الاثنان، تدخلت. - هو من بدأ، قذف جان. تكلمت عن حسين الذي لا يحبني، وقال لي إنه عنصري، إن صديقه المهندس لست أدري ماذا، إن... - لكنه بخيل صديقي المهندس الذي أنت معجب به، عاد عصام إلى القول، بخيل، بخيل إلى حد الموت! - بخيل يملك مرسيدس، هذا لا يوجد، علق جان. - المرسيدس لشركته. - لماذا يكذب علينا مدعيًا أنها سيارته؟ - حتى البنزين مدفوع، يا المارسيلي الصغير الغائط! نبر جان: - يا له من قذر! وعصام: هاهاها... - قال لي إنها سيارته، وعندما عرف أنني ميكانيكي، قال إنه يريد بيعها بسعر بخس، لأنها تستهلك كثيرًا، ويا حبذا لو أبعث إليه مشتريًا. أجبت إذا انتظر شهرين اثنين، دفعت له الجزء عدًا ونقدًا، والباقي على عدة دفعات. كان موافقًا تمامًا. ضج عصام بالضحك أكثر: هاهاها... - وهل تعرف لماذا تفضل هذا المهندس الغائط بإمضاء بعض الوقت معنا؟ لأن شركته التولوزية تريد أن تشتري الرَّدْب من مدام ريمون. نعم إنها حرب مومس بين المتعهدين في كل البلد! مع عمولة عشرة بالمائة، يا مومس المومس! عشرة بالمائة! صفقتان أو ثلاث هكذا، وعندك الملايين، يا مومس المومس! الملايين! لكن مدام ريمون رفضت البيع. ماذا تظن إذن؟ سأل بوقار. هل تجده ودودًا دومًا، مهندسك الغائط، يا المارسيلي الصغير الغائط؟ - بدا لي ودودًا. فجأة، قال عصام بلهجة استهزائية وقاسية في آن: - إذن أنت محشو بالنقود، أيها الميكانيكي القذر! - محشو بماذا؟ - محشو بالن... - محشو بالنقود! - ...نقود. نعم، محشو بالنقود. - أنا، محشو بالنقود! - تريد أن تشتري سيارة، وفوق هذا مرسيدس، يا مومس المومس! هل ترون هذا الجرذ؟ لديه ما يمكنه شراء "مرسيدس"، ودفع كمية البنزين "الضخمة" التي "تبلعها" هذه "المرسيدس"! ابتسم جان برضاء: - قلت لنفسي لا لزوم لاستعمالها، يكفي تركها جنب الرصيف. لكن عندما يكون لي كراجي، عندما أصير معلمًا، عندما أصبح غنيًا... كان يضحك بهدوء مما يقول، ثم بصخب، فانفجرنا كلنا ضاحكين، ما عدا حسين. سألته عما به، بينما يتسلى الآخرون. أخذ نفسًا عميقًا، وهمس: حورية، حورية... قال، بصوت أليم، إنه حزين وتعيس، وإنه يتمنى قتل أحدهم ليرتاح من هذه الحياة المومس. ثم دندن: كانت هناك حديقة اسمها الأرض! رغبت رغبة جامحة في معرفة سر الفتاة التي يدعوها حورية.
* * *
أطل أنطونيو من النافذة، فخفَفْتُ إلى فتح الباب له. طلب مني أن أغلق الباب، وأن أتبعه حالاً، لأن إيزابيل اعترفت ببعض الأشياء. - اعترفت؟ قلت مذهولاً. - نعم. تبعته بصمت. وأنا أصعد الدرج، كانت السماء فوقي ليلكية ومرصعة بالنجوم، تمامًا كسماء الصيف في الأرض المحتلة، ما عدا هنا، كان البرد شديدًا. بكت إيزابيل، وابتهلت إلينا أن نغفر لها، فهي كذبت علينا! هجرت الأم استسلامها، ونظرت إلى الفتاة بهيئة قلقة. أعادت إيزابيل ما قالته: - هربت ماري مع صاحب المصنع لتتزوج به، هي الآن في قصره، وأنا أجهل مكانه. ظننتُ أنني سمعتُ بالغلط: - صاحب المصنع أم ابنه؟ - المعلم. - ابن المعلم. - المعلم، المعلم. - ظننت أنكِ كنتِ قد كلمتني عن ابن المعلم، حاليًا في لندن. - كانت تعرف الابن لكنها ذهبت مع الأب. سبّتها الأم ناعتة إياها بالكاذبة، حتى أنها اتهمتها بتشجيع ابنتها على هذه القذارات، فتدخلت مارتا قائلة على العكس من اللازم شكرها على اعترافها، وقد احتاجها هذا الاعتراف إلى كثير من الشجاعة، لأن إيزابيل كانت تجهل خطورة الفعل. الآن، وقد فهمت، هي على استعداد لعوننا بكل كيانها. قالت إيزابيل راجفة: - كانت تُعِد لزواجها في الغد من ذهابها، وكنت على اقتناع من أنها ستجد سعادتها. انفجرت باكية، فتابع أنطونيو القول: - اهدأي! الحمد لله أن أحدًا لم يمسها بسوء. كنتُ مذهولاً، أفكر في ماري، وأزداد ذهولاً. كيف استطاعت هذه اللؤلؤة أن تفعل كل هذا؟ كان ذلك كمن يطعنني أحدهم. أعادت مارتا: - نعم، الحمد لله أن أحدًا لم يمسها بسوء. سألت الأم مضطربة: - لماذا هربت إذن، وسممت حياتنا؟ إذا كانت تُعِد لزواجها، لماذا لم تقل؟ هل كنت سأمانع؟ ترددت إيزابيل، ثم قالت: - كانت خائفة. - لماذا؟ - لأنه كبير السن. ترددت الأم بدورها: - ليس هذا سببًا كافيًا إن رغبت في هذا الزواج. تساءلتُ إذا ما كانت ترغب فيه فعلاً؟ فجأة، أضافت إيزابيل: - ولأنها حبلى. - حبلى؟ اهتزت شفتا الأم ثم انشلت تمامًا. - هل قلتِ حبلى؟ - نعم. - الأم لا تستأهل كل هذا العذاب! - أنا آسفة. تدخلتُ: - اهدأي. أكدت مارتا: - نعم، اهدأي! الآن نحن نعرف كل شيء. شكرًا لله! ليست ميتة، ولم تعمل أي حادث. ماري خجولة بطبيعتها، لهذا السبب أخفت عنكِ كل هذا. إذن، لا سوء في الأمر طالما أن الرجل سيتزوج منها. سيتزوج منها، أليس كذلك؟ ربما تزوج منها. لم يبق لنا سوى أن نتصل به أو بها، أو بالاثنين. نعم، علينا أن نتصل بهما. لا داعي لقول أي شيء للشرطة، بما أنها، حسب عرفهم، هي بالغ، ذهبت مع رجل بالغ، واختارت بإرادتها طريقها. ركعت الأم، وابتهلت إلى المسيح. شعرتُ بصداع عنيف، واجتاح الدوار عقلي، فأردت الخروج: - سأعود، قلت. غير أني لم أعد. في صباح اليوم التالي، بينما أنا أستعد للذهاب إلى العمل، قالت لي مارتا إن إيزابيل تعرف عنوان صاحب مصنع الشوكولاطة، وإنها ستذهب اليوم، بصحبة الأم، لإحضار ماري.
الفصل الثاني عشر
في البداية، لم نصدق الخبر. سيغلقون مصنع الأحاسيس! كم هذا مرعب! إغلاق مصنع تم تجديده منذ عهد قريب! شيء متعذر تصوره! لم تُقرأ على الوجوه سوى الدهشة. هل يتخيلون الكارثة؟ ورشات جديدة منذورة بأكملها للدمار، آلات فائقة الحداثة متروكة للخردوات! ونحن الآخرون عمال الشهوة، بعد عمال المتعة، ماذا سيكون مصيرنا؟ مصير المُعْوِزين حقًا، المُلْقَيين في عُرض الطريق بل وأكثر، ربما كانت النهاية لنا جميعًا؟ اتُخذ القرار المحير في اجتماع مدراء التروست الملتحِق به مصنعنا: إنها القصة ذاتها، يفضلون إقامة مصنع على أرض أكثر خصوبة وأكثر مردودية، في إسبانيا. كل شيء إذن مرتبط بالربح. إن ربحوا قليلاً، ذهبوا هناك حيث يستطيعون أن يربحوا أكثر: يد عاملة رخيصة، مواد أولية أقل غلاء، وإلى الجحيم الآلات الفائقة الحداثة وملايين الفرنكات التي استُثمرت! السبب الذي يتذرع به رب العمل والإدارة باستمرار، إلقاء المسئولية على عاتق منتجات الشرق الأقصى، فهذه المنتجات الرخيصة هي التي وضعت ليس فقط مصنعنا في مأزِق، ولكن كل مصانع النسيج الفرنسية! بينما الحقيقة هي غير ذلك طبعًا، عندما نعلم أن 75 بالمائة من الأنسجة المستوردة تأتي من السوق المشتركة، من ألمانيا الاتحادية خصوصًا. وما يختفي وراء كل هذا، المشروع العقاري الجبار: هدم كل شيء، قناة سان-مارتن أول الأشياء، لبناء ناطحات سحاب، شقق بسعر الذهب. ما العمل؟ هناك اقتراحات ثلاثة: الأول، تكليف النقابات بإجراء مفاوضات مع الإدارة لإلغاء قرار التصفية ومواصلة الإنتاج. الثاني، احتلال المصنع في الوقت الذي تكون فيه المفاوضات. الثالث، إجراء مفاوضات، ثم، في حالة الفشل، احتلال المصنع. أقر معظم عمال الشهوة هذا الاقتراح الأخير. لاحظتُ أن المارتينيكي يشارك بحماس في حِراك الأصحاب، ولم يكفّ عن ترداد "وبييرو هذا، وبييرو ذاك...". نَصَحَنا بيير أن نبقى متحدين ويقظين في وجه أزلام رب العمل، وإلا فقدنا كل شيء. لوّح "بالحُلم" قائلاً: - نحن نرفض أن يستغلونا كل الوقت، وأن يرمونا، كلما خطر ببالهم، على البلاط. البِطالة شيء مفزع! نحن وُلِدْنا لنعمل لا لنبحث عن عمل، كل الوقت، لننعم بعملنا لا لنشقى. أنتم ترون جيدًا ما نعانيه يوميًا لإقصاء شبح الجوع عنا! حالة ستيفان لن تتكرر، جعلوه مجنونًا بعد أن سلبوه قواه. أما نحن، فسنتحداهم. سنعمل كل ما في وسعنا لمواجهة تقززهم، في سبيل تحرير الأحاسيس، واسترداد حقوقنا في الشهوة، في الحب، في الإغراء، في المتعة.
* * *
عند عودتي إلى البيت، حكيت لمارتا ما جرى في المصنع، فبدت ناقمة، ورجتني أن أكون يقظًا مع عمال الشهوة الآخرين. حكت لي، بدورها، ما جرى مع أم ماري. برفقة إيزابيل، ذهبت إلى قصر صاحب المصنع، في سان-جيرمان-أُن-ليه. كان قصرًا حقيقيًا قائمًا في وسط حديقة تبدو جنة حقيقية! انتظرت إيزابيل في الخارج راجية أم ماري ألا تتكلم عنها، وإلا طردوها من العمل. دخلت الأم القصر مبهورة، مذعورة من كل ذاك الغنى. استقبلها خادم دون اهتمام، وتركها تنتظر في زاوية لم تكن أكثر ثراء مما يوجد في القصر من أشياء. مع ذلك، كان المقعد وثيرًا جدًا إلى حد لم تشعر فيه بالراحة. ثم، نهضت، نصف مشلولة، نصف مذعورة، وهي ترى ماري تنزل كأميرة في ثوبها الحريري الطويل، وتتباهى بِعِقد من اللآلئ البراقة، وحذاء مذهب يغرق كعبه في وبر السجادة الفارسية المغطية للدرج الفخم، المزوَّق بتمثال جدير بمتحف. تساءلت إذا ما كانت حقًا ابنتها ماري أم أخرى تكتشفها الآن فقط. ترددت قليلاً قبل أن تضمها ثم، تقدمت، وذرفت الدموع بغزارة على صدرها، بينما بقيت ماري جامدة كالتمثال، منتظرة بصبر أن تريق أمها عواطفها. بسبب هذا البرود، تشبثت الأم أكثر بابنتها، لترى أن كل هذا حقيقي، وإذا ما أنكرت ماري عليها حق أمومتها. تأكدت من ذلك عندما تخلصت ماري منها بدفعة من أطراف أصابعها، وابتعدت تحت ثريا تضيء في وضح النهار. في البداية، شُلَّت الأم ثم، انفجرت منتحبة بِحَنَق. مضت عدة لحظات، والدموع تُعتم النور في عينيها. أحست أن شيئًا ما قد وقع، فقطعت بكاءها، ومسحت عينيها لترى، لكنها لم تر ماري، التي أخذت الدرج الفخم من جديد، صاعدةً إلى أعاليه. والأم تقطع الممر الطويل الموصل إلى الحديقة، مرت أمامها سيارة سوداء براقة كما لم تر أبدًا من قبل. كانت ماري تجلس في المقعد الخلفي، فاقدة الحس كالمُشايع لِمِلَّة أو طائفة، ولم تلاحظ، لم تشأ ملاحظة أن السيارة لطخت أمها بالوحل. جذبت مارتا نَفَسًا طويلاً. - كانت ماري تحب أباها أكثر من أي كائن آخر في الوجود، قالت. - تحب أمها. - تحب أباها، أباها. - كانت تحب أباها. - كانت تحب أباها، بنت من نوع "بابا، بابا..."، هل تدرك ما أقول؟ - بنت من نوع... - أريد هذا، أريد ذاك، يا... - ...بابا، بابا. - ...بابا. - يا بابا. - ثم مات البابا الذي لماري بسكتة قلبية. - مات بسكتة قلبية؟ - وبددت الماما الثروة التي تركها، فصنعت من أندريه السوقي الذي نعرفه، ومن ماري إلكترا التي لم نعرفها. - إلكترا؟ - لقد كذبت عليك، يا سالم. - ماذا؟ لقد كذبتِ عليّ! - أنا ابنة قديمة لمسرح، نجمة ملعونة كنت، دمرتها الأضواء، تمامًا كأم ماري على طريقتها. نحن ملاعين الأرض، مثلكم، لا فرق بيننا، الظروف أقوى منا، أقوى من القوة نفسها، حتى وإن كانت قوة للآلهة! بابا، بابا... وبابا يلبي كل الطلبات. هل تفهم ما يعني ارتكاب محارم النقود؟ أنت تفهم ما يعني ارتكاب المحارم، ربما كانت هذه حال ماري مع أبيها، رمزًا على الأقل، لكن ارتكاب محارم النقود شيء آخر، إنه المضاجعة، مضاجعة المال للمال، إلى درجة لا يعود فيها هناك فقير أو غني، أسود أو أبيض، حُر أو عبد! بابا، بابا... وانفجرت مارتا باكية. - لم يكن لي أب أنا، قالت، ولو كان لي أب لكرهته أكثر من أي كائن آخر في الوجود!
القسم الثالث عشر
مضى شهر، والأم طريحة الفراش، إلى جانب الشموع والعذراء والصلبان. تناوبت مارتا وامرأة لحسن السهر عليها، واعتنتا بأنطوان والبيت. ضاعفت مارتا ساعاتها كخادمة مياوِمة، لتساعد الأم ماليًا. وحصل معي أيضًا أن أقدم لها ما أقتصده من عدم تناولي الطعام في الكانتين، كذلك خص أنطونيو وإيزابيل الأم بمبلغ ضئيل. كانت المفاجأة عندما أعلمنا أنطونيو أنه سيتزوج من إيزابيل! اهتاج جان على فكرة انفصاله عن أنطونيو، بعد قرض من البنك، سمح لأنطونيو بشراء شقة بحجرتين في إحدى البنايات الحديثة التي شيدوها على الرصيف المقابل. عندما لاحظ عليه جان أنه يترك الجنة إلى النار، ضحك أنطونيو في البداية، ثم أوضح أنه يحب إيزابيل، وأن الجحيم معها هو النعيم. سيعيش ككل الناس بالتقسيط، في وئام مع نفسه ومع جيبه، وسيفبرك ولدًا أو ولدين، لن يفعل أبدًا كأبيه. سيتكلم أبناؤه الفرنسية بطلاقة، وهو سيمكنه أن يعيش كل حياته في فرنسا. وشمس البرازيل؟ وشواطئها؟ وبناتها؟ بالنسبة له، ليس هناك أحد غير إيزابيل. انتقل جان ليسكن مع عصام، هكذا سيتقاسمان الإيجار، المثقل بعد زيادته. سعدت مدام ريمون للمرة الأولى، لأنها أجرت أستوديو جان وأنطونيو لعائلة فرنسية. الأب والأم في الأربعين، والابن في الرابعة. لديهم تلفزيون، الأول في الرَّدْب. لا يفارقونه أبدًا، ولا يخالطون أحدًا. حتى السلام الذي نطرحه عليهم، لا يجيبون عليه. تجاهلونا، ولم ينظروا إلينا، لم ينظروا كذلك إلى منازلنا. لا يحبوننا، رغم أننا لم نفعل لهم شيئًا. وعلى العكس، كانوا يحيون بكثير من الأدب زبائن الطبيب البيطري، عندما يلتقونهم، ويبتسمون لهم ولكلابهم. سعوا للتعاطف مع طبيب الدواب الذي كان يجيبهم بابتسامته المختصرة، ويدخل عيادته بسرعة. قضى عصام وجان معظم وقتهما الحر في لعب الورق، وجان يخسر دومًا، ويستدين من الآخرين، يستدين من عصام أحيانًا. كان يلعب كذلك في الرهان المثلوث، على أمل أن يربح الجائزة الكبرى، التي ستضع حدًا لهمومه. في إحدى نهايات الأسبوع، ذهب جان ليزور أمه، في مارسيليا، فجاءت أوديت، وأخذت ترتب الغرفة، بغضب، لأنها غرفة تأنف من سكنها الكلاب. خرج عصام ليشتري خبزًا، فنظر إليها أقرباء لحسن، وهي تنحني، ولمحوا فخذيها أو طرفًا من نهديها. عندما خرجت لتنشر الغسيل في الرَّدْب، ولتغري بفستانها القصير الجليد، تعمد أحدهم المرور من ورائها، التصق بها، ودفع يده بين ساقيها، قبل أن يبتعد كالطائر الغريب. أصابها الرعب، وهي تفغر فمها، غير قادرة على فعل شيء آخر. سارعت بالدخول، وانفجرت باكية، كأنها تقيء الشرر من عينيها. أخبرت عصام بالأمر، فتمالك نفسه، وحدّث حسين. قالا نحن اثنان، ضد أربعة. فكّرا في عادل، لكنهما قالا إنه مثقف لا فائدة منه. انتظرا إذن عودة جان، الذي بقامته يساوي رجلين. أول ما حضر، ذهبوا ليطرقوا الباب على أبناء العم. أهلكوا بعضهم ضربًا، وقذف عصام صاحب الفعلة في عُرض الطريق. هدده بالقتل إن وضع قدمه في الرَّدْب ثانية ثم، دخل حجرته، أقفل الباب بالمفتاح، وأخذ يضرب أوديت، وهي تصرخ، وهو ينعتها بكل الموبقات: "قحبة! شرموطة! قذرة! عاهرة! ابنة عاهرة!" وحسين الواقف خلف النافذة يستحلفه أن يتوقف. كل الرَّدْب كان هنا، في الخارج، خِلْط مِلْط، حتى أم ماري تحاملت على نفسها، وجاءت. ما لبثت صرخات أوديت أن توقفت، فظن البعض أنها ماتت. ثم سمع الكل آهات دَنِفة، فابتسموا، وعادوا إلى عُرُنِهِم. في المساء، جاء لحسن ليعيد الأمور إلى نصابها. - إنهم أولاد جهلة، قال لعصام، لا يعرفون مصلحتهم. يظنون أن الحياة هنا ماخور، وأن بنات العائلات بالمجان فضلاً عن ذلك. تركوا البلاد، وليس في رؤوسهم سوى هذا: النقود والنساء وأفلام البورنو. هم لا يخافون الله في كل هذا، إلى درجة أن لأحدهم عملاً جيدًا تركه ليرضي رغباته، كما كان يعتقد، ويصبح مليونير بين عشية وضحاها. ليس ذنبهم، فهم شبان، وكل الشبان هم هكذا، خاصة إذا كان الرجل، والحالة هذه الأب أو العم، يقيم في الغربة، ويقتل نفسه من أجل لقمة العيش. ماذا باستطاعتها أن تفعل، المرأة؟ إنهم لا يخشون أمًا ولا جدةً ولا أختًا أو غيرهن، حتى أنهم لا يترددون أحيانًا عن التطاول عليهن باليد أو نعتهن بكل الموبقات. اللهم استرنا من هكذا جيل! قدم لحسن اعتذاراته، قَبَّلَ جبين عصام، ورجاه أن يغفر لهم. جاء الأقارب، بدورهم، واعتذروا. في الغد، رأيناهم يلعبون الورق مع عصام، وهم يخسرون ويربحون، ويتكلمون عن ارتفاع الأسعار، وندرة الأعمال، إلا أنهم أكدوا حتى ولو ماتوا من الجوع، فلن يرجعوا أبدًا إلى بلدهم، لأنهم يحسون هنا بالفعل، بالحرية التي ليست لهم في بلدهم!
* * *
رفضت الإدارة التفاوض مع النقابات، وبدأ عمال الشهوة يغلون غضبًا. اتفقوا على أن يُمَارَس الضغط بخصوص كل عمال مصانع النسيج، وبشكل متوازٍ تحاول النقابات العمل على قبول المفاوضات، وإلغاء قرار رب العمل. أرادوا بالمناسبة ذاتها تخفيض وقت العمل، لتذوق القليل من ملذات الحياة. بقي احتلال المصنع الإمكانية الوحيدة في حالة الفشل، ولا يعني الاحتلال وقف الإنتاج. غير أن مواصلة الإنتاج يفرض منطقيًا استخدام محروقات ومواد أولية بين يدي الإدارة. وإذا لم تسمح باستخدامها؟ كل شيء يتوقف على مخرج المفاوضات. قلت لبيير أن يعيرني "الحُلم"، فسألني إن كان لدي اشتراك فيها، أجبت لا. - لماذا لا تشترك فيها؟ قال لي. - سأرى، أجبت. كان يفضل شراءها كل صباح ليقرأ أخبارًا طازجة، بدلاً من استلامها متأخرًا في المساء. جاء رونيه، وحكى لنا أنه استلم تهديدًا بالحجز على متاعه وبالطرد. لم يدفع فواتير الكهرباء، لم يستطع الدفع. اقترح بيير أن يلجأ إلى إعانات الدولة، قال هذه الأجهزة، في الواقع، هي الدولة، في المجتمع الحديث، أوجدها التطور، والتطور انوجد بها على أكتافنا، وبه يحل التفاعل محل الصراع. - نحن لا مشكل لنا مع رب العمل في وضع طبيعي للعمل، أضاف بيير، مشكلنا ليس أدوات العمل، مشكلنا العمل، فها هي أدوات العمل في ثوبها الجديد، والتي لم يزل بعضها في ورقه، يُلقى بها في مخازن الخردة. عند فقدان العمل، تصبح أدوات العمل بلا قيمة. إذن، العمل قبل أدوات العمل. خذوا أدوات العمل، يقول رب العمل، وأعطوني عملكم. عملكم أهم من أدوات العمل. أدوات العمل، لو عدنا إلى الحقيقة، مِلكية للعمال، والعمل مِلكية لرب العمل. لامتلاك العمل، يعمل رب العمل كل ما يقدر عليه: "رَوْبَتَة" أدوات العمل، الانتقال بأدوات العمل إلى أي مكان في العالم يسيطر فيه على العمل بشكل أفضل، بشكل يقتسم فيه الربح مع العمال بشكل أوفر: عن طريق البورصة، عن طريق الأسهم، عن طريق القروض، وعدم التساوي في الاقتسام، الكثير له والقليل لنا، غير مهم طالما أن هذه الطرق السابقة توفر لنا العيش أحسن من آبائنا، وبشكل أفضل، بشكل متفاعل مع زمننا لا متصارع بيننا، والتصارع، لو كان، كما هو وضعنا اليوم، التصارع حول العمل، ليكون التفاعل سمة للعصر، سمة للتطور، سمة للورود في الحدائق بعد ذوبان الجليد. بعد الكانتين، ذهبنا كعادتنا لنشرب القهوة في الحانة الصغيرة، لم يتوقف رونيه عن الشكوى، وكلنا نقول له نحن هنا، لن نتركك وحدك، اعتمد علينا، أنت أحسن واحد فينا، ورونيه عند سماعه لكلماتنا يشرق ككوكب لم يهتم أو يًعنى به أحد منذ وقت بعيد. نسي نفسه، فحل ضحكه محل عبوسه، ونسي العالم، فوجد عالمه بعد أن أضاعه. استعاد الثقة بنفسه، وبدا مغترًا بكونِهِ، بالكون الذي له، وكنا نحن بعواطفنا نحوه هذا الكون. عندما أراد كل واحد منا أن يدفع حسابه، قفز رونيه مانعًا إيانا، كان يصيح كالحيوان الشرس الذي حطم قضبان قفصه، وقال إن فاتورة الجميع عليه. أخرج من جيبه ظرفًا مليئًا بالأوراق النقدية تحت نظراتنا المتباينة كآرائنا، وألقى: - أين الثريا من يد الراغب!
الفصل الرابع عشر
عرفنا من الجريدة أن ماري انتحرت، فسقط الخبر علينا كالصاعقة. كان يوم السبت، وكنا كلنا في البيت. عادل هو من أعلمنا، بكلمات موضوعية تخلو من أي انفعال، ووصف موتها بنقض أسس المجتمع. حمنا حولنا، فمن سيقول للأم؟ وما لبث أن وصل بعض رجال الشرطة على رأسهم ضابط، وأخبروها. طلبوا منها الذهاب إلى المستشفى، لأخذ الجثمان، فسقطت المرأة فاقدة الوعي، تحت قدمي العذراء. ذكر تقرير الطبيب جروحًا في البطن وتحت القلب، فكيف انتحرت؟ بقي ذلك لغزًا غامضًا إلى الأبد. حررتُ مع لحسن تقرير الوفاة، وكنا كلنا حاضرين في الموكب، ما عدا البرتغالي الذي فضل شد نفسه ببرغي على نافذته. بكى لحسن، وشعرتُ بزفراته كطعنات خنجر في القلب. لم أعد أتحكم بنفسي، فتركت دموعي تسيل. اجتمعنا كلنا عند الأم، بصمت. سمعنا ابتهالاتها، وتأوهات مارتا وامرأة لحسن، في الغرفة الأخرى. عملت إيزابيل لنا قهوة للمرة الثالثة، فلم يشرب لا لحسن ولا حسين. نهض حسين، وذهب مبكرًا إلى عمله. أخذت أوديت فنجانًا، لكنها لم تشرب، وقدمته لابن العم الذي اعتدى عليها. قال لحسن إنه كان يريد إحضار حلويات صنعها بنفسه، لكن الوقت لم يكن لأكلها. لم تغادرني صورة ماري لحظة واحدة، تذكرتُ اليوم الذي جاءت فيه عندنا، خائفة من الموت. شدت نفسها على صدري، وشددتُ أصابعها بين أصابعي. تذكرتُ اليوم الذي استرقتُ فيه النظر إلى ساقيها الجميلتين، عندما كانت تصعد الدرج، واليوم الذي مشينا فيه معًا في شارع بيلفيل. كانت تلك أحلى لحظات حياتي. تذكرتُ أيضًا أنها كانت حبلى، وأن الطبيب ذكر جروحًا على البطن وتحت القلب. انقبض قلبي، وانفجر شيء في رأسي. رأيت أختي، الحبلى، وهي تركض في حقل سنابل، يتبعها ملاك الموت، وهو يلوح بسكينه. رأيت أختي، وهي تصرخ، وهي تجمد في مكانها فجأة. رفع الملاك سكينه إلى ما لا نهاية، وغرسه في بطنها، فتفجرت منه الأنهار. ثم، غرس سكينه في قلبها، ومن جديد في بطنها، لينبثق الطفل الوليد ميتًا، فيستبسل بطعنه حتى اللحظة التي تكف فيها أختي عن الصراخ وعن الحراك إلى الأبد. بعد ذلك، استمتع ملاك الموت بأنفاس الحياة، ومسح سكينه الدامي بالسنابل. عقدت ألسنتنا الدهشة، عندما رأينا البرتغالي يأتي لتقديم تعازيه للأم. جلس في زاوية، ونظر طويلاً إلى الأرض. ثم، رفع رأسه، ورأينا عينيه المبتلتين بالدموع. من جديد، خفض رأسه، وحدق طويلاً في الأرض دون أن ينطق بكلمة واحدة. فجأة، ناحت الأم، وسمعناها تقول، وهي تضم أندريه: - لقد عدت، يا ولدي! لقد عدت إليّ، يا ولدي الحبيب! تفجرت الدموع من عيني جان، فأخذ عصام يطبطب على ظهره للتخفيف عنه، لكنه دفع يد صديقه عنه بعيدًا، ونبر دون أن نتوقع ذلك: - لماذا لم يقتلوني أنا بدلاً من ماري؟! - ماري انتحرت لعلمك، قال عصام. - أنت تعرف جيدًا أنهم قتلوها! - أنا لا أعرف... - قتلوها، قتلوها... - ...لا جيدًا ولا سيئًا أي شيء! - ...قتلوها! المسكينة! - هل أنت تحبها أيضًا؟ - أنا لا أستأهل حبها. - أنت إذن... - أنا لا أستأهل... - ...تحبها. - ...حُبَّ أحد لأنني... - أنت تحبها، أنت تحبها. - ...قتلتُها بيد غيري. - ماذا تقول؟ - قتلتُ أمي قبلها بيد غيري. - أفصح، يا مومس المومس! - يدي البريئة هذه يد مجرمة، كم من واحد وواحدة قَتَلَتْ! - قتلتَ ماري؟ قتلتَ أمك؟ - ماري اليوم، وأمي منذ أعوام. - أنت تهلوس! - دعني إذن أهلوس، يلعن دين، لأحتمل فاجعتي بأمي أمس، وبماري اليوم، فقط... - ماذا تقول، يا... - ...لِأَحتمل. - ...مومس المومس؟! - فقط لِأَحتمل. - يا مومس المومس! يا مومس المومس!
* * * عندما عاد حسين حوالي منتصف الليل ثملاً تمامًا، كان الضوء الآتي من حجرة البرتغالي يُعَكِّرُ الظلام الدامس. انتبهَ إلى شيء يتأرجح خلف النافذة، فتردد، ونظر من حوله. كان الرَّدْب كله ينام. سعل، وبصق، وترنح. نظر مرة أخرى من حوله، وكأنه يبحث عن أحد خفيّ، وهمهم: حورية! عاد يسعل، ويبصق، وقلبه الآن على حافة شفتيه، إلا أنه لم يقئ. قرر أخيرًا الذهاب ليلقي نظرة. صعد الدرج الخشبي إلى الطابق الأول، فالثاني، وألقى نظرة على نافذة جارنا الغريب. ارتعدت فرائصه، وفكر أن الكحول هو السبب. فتح عينيه على سعتهما، ورأى أن البرتغالي قد شنق نفسه فعلاً. استغرقت بضع ثوانٍ زمنًا طويلاً، وبدافع الذعر، أطلق صرخة مختنقة.
الفصل الخامس عشر
لم ننه حزننا على ماري حتى نبدأ حزننا على البرتغالي، مات ومعه سره، هكذا أبدى التقرير. بعد دفنه، ذاب الجليد متحولاً إلى سيول جبارة تزمجر عند حواف الأرصفة. تساقطت المياه من الأسطح مباشرة على الأرض، وهي تجرف الوحول، وتسربت كالقدر إلى سفن الشمس. هاج نهر السين وماج، وهو يخفق من الغضب، وعلا كالصقر المحلق في الجو. خلال ذلك، كانت أمي في مخيم الشقاء والسناء تغطس بقدميها في الوحل، مشمرة عن ساعديها، وهي تدفع عربة الخبز الذي تبيعه لأفقر الناس في الكون. تصارعت العجلات مع الوحل، فركض بعض سكان المخيم ليدفعوا معها. قامت العربة بخطوة، لكن مستنقعات الوحل بقيت ممتدة. جاء بعض جنود الاحتلال، ودفعوا العربة خطوة أخرى. - جنود بطيبة القلب مثلكم، أنا لم أر، قالت شاكرة، لكني امرأة بسيطة لا أملك شيئًا أقدمه لكم بالمقابل غير خبزي، ناسنا يأخذونه عن طيب خاطر، فهم ناسنا، وأنتم تعرفون من هم ناسنا، أما أنتم، فلا حاجة لكم به، الخبز عندكم كثير. خذوا، يا إخوان، كتر الله خيركم! روحوا، أنا أسكن غير بعيد. وصلتُ. وأنتم، أيها الجنود الطيبو القلب تعالوا... ياسمين، يا ياسمين! ياسمين، يا صغيرتي! لدينا ضيوف، تعالي، علينا واجب إكرامهم. دخل الجنود الكوخ القذر، وجلسوا، ولم تظهر أختي. - ياسمين، أين أنت؟ نادت أمي، الضيوف علينا واجب إكرامهم. ارتدي أجمل حللك، وتزوقي، لتروقي في أعينهم. هي دومًا هكذا، ابنتي ياسمين، تستحي. قلتُ لكِ جنود طيبو القلب، سيسعدونك إن أسعدتِهم. ياسمين... لا تجيب! فلتذهبوا إليها واحدًا واحدًا، وكونوا طيبين معها كما كنتم طيبين معي، ارفقوا بكتفها، اخترقتها رصاصة، هذا ليس مهمًا، لكن كتفها لم تزل تؤلمها، المسكينة! ياسمين، سيدخلون عليك واحدًا واحدًا، وَعَدوا أن يكونوا طيبين معك، فأكرميهم، هم يستحقون كل خير، دفعوا معي عربة الخبز حتى الباب، تصرفوا كرجال، فلتسلم البطون التي ولدتهم! أمهاتهم بهم فخورات مثلي بكم... لا تصرخي هكذا، يا طفلتي! ستقولين لي هذه صرخات العناق! نعم، أريدك أن تشبعى متعة، أن تَنْفُقِي لَذة، إنهم أشداء وطيبون كما قلت لك، وهم يستحقون كل خير، والبرهان، ها أنت تصرخين كقحبة! كم أنا سعيدة، يا ابنتي! أنا سعيدة، أكثر الأمهات سعادة! أنا سعيدة لأنك أنت سعيدة! أنا سعيدة لأنك تدركين الآن ما هي السعادة! أعظم سعادة هي سعادة المواخير، يا ابنتي! لهذا أنا سعيدة لأنك سعيدة، هل تسمعين؟ لأنك سعيدة، لأنك سعيدة، آه، يا ابنتي التعيسة! يا أتعس بنت في الوجود! وقليلاً قليلاً ترك البرد باريس، رأينا شعاعًا ساخنًا يعبث مع العشب المبتل، وبرزت البراعم في أشجار قناة سان-مارتن. تمهلت القدم على حوافها، لتحث الربيع على الإزهار. عند مدخل مصنع الأحاسيس، وصلني هذا الصوت العذب: - اشتر الحُلم، يا رفيق! تقدمتُ بقدم عازمة نحو الفتاة ذات الصوت العذب، واشتريت الجريدة. كانت تبتسم دون انقطاع، فقلت لنفسي كم هذه الابتسامة نورانية، شلال ضوء! كنت سعيدًا لأنني أرى عن قرب، هذه المرة، ابتسامتها، أقرب ما يكون، ولأنني أستطيع أن أقول لبيير: اشتريت الحُلم، يا رفيق! وبينما أنا أرتع في خِصْبِ رؤيتي، شاهدت فجأة اثنين من حراس المصنع، وهما يقتربان من الفتاة، ويدقانها في صدرها. ارتفق رفيق الفتاة شجاعته، وتصدى لهما: - فاشست! صاح. غير أنهم مطرقوه. وصل حارس ثالث عاديًا، بصحبته كلب شرس، وأراد الانقضاض على الفتاة. انطلقتُ لأمنعه، فنهشني الكلب من كتفي. هوى مطرق على رأسي، وسمعت صرخات الفتاة ترن في أذنيّ: - فاشست! وهذه الأصداء: فاشست... فاشست... فاشست... قال ضابط الشين بيت لأخي: - ها نحن صنعنا منك شخصًا وطنيًا عندما حبسناك، والآن نطلق سراحك، لتنقل إلينا كل ما يفعل الوطنيون، أبناء المومس، وما لا يفعلون. - ما لا يفعلون! - لا تتشاطر عليّ، يا ماخور! - أنقل إليكم ما لا يفعلون، هذا شيء فوق طاقتي. - لا تتشاطر عليّ، لا تتشاطر عليّ، يا ماخور، قلت لك! - أنقل إليكم ما يفعلون، أما ما لا يفعلون، فهذا شيء فوق طاقتي. - لا تتشاطر عليّ، لا تتشاطر عليّ، لا تتشاطر عليّ، يا ماخور! - أنا لا أتشاطر عليك، أنا أقول لك فقط إن هذا شيء فوق طاقتي أن أنقل إليكم ما لا يفعلون. - توقف عن معاندتي، يا ماخور! - معاندتك! أنا لا... - معاندتي، معاندتي! - ...أعاندك. - معاندتي! معاندتي! معاندتي! - أنا لا أعاندك. - معاندتي! معاندتي! - أنا لا... - معاندتي! - ...أعاندك. - توقف عن معاندتي! - سأنقل إليكم إذن كل ما يفعل الوطنيون وما لا يفعلون. - هكذا. - هذا شيء لا يقدر على فعله سوى واحد ابن مومس. - هكذا. - فاشستي. - هكذا. - وطني مثلي. - هكذا، هكذا، هكذا. - وماذا ستكون مكافأتي؟ - مكافأتك! - مكافأتي. - ... - نعم، مكافأتي. - ليس هذا وقته، يا ماخور! - في كل لحظة هذا وقته. - ليس في المكتب، يا ماخور! نهض أخي، وكبس بقدمه زر الضوء الأحمر الخارجي. - سليم، هل فقدت عقلك؟ - انتظر، لا، لم أفقد عقلي... أقول لك لم أفقد عقلي. - سليم... سليم... - ... - يا إلهي! سليم... - ... - أنت جميل كإله! - ... - أنت قوي كجيش! - ... - أنت لذيذ كألف امرأة! فجأة، سقط ضابط الشين بيت على الأرض. ظن سليم أنه يريده في الحال، فاحتواه، وإذا به يطلق أنفاسًا مختنقة مرددًا: - قلبي، قلبي، قلبي... سيتوقف قلبي عن الدق! - شيمون! لا تفعلها، يا ماخور! - قلبي، قلبي... - شيمون! - قلبي... - النجدة... المساعدة... أخذ سليم ينفخ الحياة في فمه، ويصرخ: - المساعدة... العون... لا، يا شيمون! لا تفعلها، يا رجل! سيارة إسعاف، نادوا سيارة إسعاف... سيارة إسعاف، يا ماخور! بسرعة، بسرعة، بسرعة... في سيارة الإسعاف، وشيمون موصول بأجهزة الإنعاش، لم يترك سليم يده لحظة واحدة، والدموع تسيل من عينيه. بقي أمام حجرة العناية المكثفة ساعات رائحًا غاديًا حتى جاءه الطبيب، وطمأنه على سلامة المريض: لقد نجا من الموت بأعجوبة. صحوتُ في سرير أبيض، برأسٍ وكتفٍ مضمدين. كانت هنا، تبتسم إلى ما لا نهاية. نظرتُ إلى مارتا، فقالت لي بحنان: - حمدًا لله على سلامتك، يا ولدي! أدرت برأسي المثقل إلى الفتاة، فعرّفتني بنفسها: - أنا مارتين. سكتت قليلاً، ونَفَسُها يداعبني، كالنسيم: - أنت سالم، أليس كذلك؟ ابتسمتْ لي، ابتسمتُ لها، ابتسمت مارتا، ابتسمت الورود التي أحضرتها.
الفصل السادس عشر خرجتُ من المستشفى برفقة مارتين وألبير، بائع الحُلم، أعادني إلى بيتي في سيارته الدوشوفو. حزّوا لي رقائق اللحم المعجونة بأضراس الكلب، وضربوني بالإبر المضادة للكُزاز. سمحوا لي بالمغادرة، لكنهم أوضحوا أن عليّ العودة عدة مرات لتبديل الضماد. ألبير كذلك أصيب بعدة جروح خفيفة، لم تتطلب رغم ذلك دخول المستشفى، ولم يزل يحتفظ بضمادة على جبينه. أعلمتني مارتين أنها طالبة، وأنها تقوم حاليًا بتحضير ماجستير في الأدب الإنجليزي، مضافًا إليه تعلم اللغة العربية في السوربون. قالت لي بالعربية الفصحى: - كل شيء على ما يرام، يا صديقي العزيز! سَخِرَتْ بنطقها، مع أن لها نبرة جيدة. قالت لي كذلك إنها تعيش بفضل ترجمات بالإنجليزية والفرنسية، مع أمل أن تتمكن ذات يوم من الترجمة بالعربية. من ناحيته، أعلمني ألبير أنه يقوم حاليًا بتحضير دكتوراه في الفلسفة. وفي الحال، فكرت في عادل، وقلت له لي صديق يقوم أيضًا بتحضير دكتوراه في الفلسفة. تمنى ألبير التعرف عليه، فوعدته بتقديمه له في أول مناسبة. قال لي ألبير أيضًا إنه مكلف بالإعلام في فيدرالية الحزب الشيوعي للدائرة العاشرة. عندما كنت في المستشفى، أخبرني بيير وجورج الأشقر والمارتينيكي، أن من نتائج الحادث توحيد عمال الشهوة وعمال المتعة من حول النقابات، التي أدانت الطرق الفاشية للحراس، مما عجل في احتلال المصنع بعد الفشل الكلي للمفاوضات. إن الغضب إجماعي، وعميق، لكن المشكل الآن إيجاد حل إرسال المحروقات، لأن الإدارة، المدعومة من الحكومة (حكومة يمين هي هكذا، تتحالف دومًا مع أرباب العمل في مثل هذا النوع من المعارك)، ترفض إرسالها لتمارس الضغط علينا. إن توقفت الأفران عن العمل، احتاجت إعادة تشغيلها إلى مدة ستة شهور على الأقل، حتى ولو كانت المحروقات جاهزة في الحال بعد توقفها، وستكون النتيجة درامية. في هذه الحال تحديدًا، لن يكون باستطاعة مصنع الأحاسيس الصمود إلا خمسة أيام فقط، مع ما يملك من محروقات. ثم أخبرني ألبير أن فدرالية الحزب الشيوعي قد وجهت نداء إلى بلديات روح التضامن والتعاون للتعاضد مع عمال الشهوة، وذلك بتزويدهم بالمحروقات. هكذا يمكنهم تحاشي الكارثة مؤقتًا. أدان الحزب الشيوعي كذلك السلوك الداعر، العدائي، والسلبي للإدارة. بدورها، أكدت مارتين أن لحركتنا مدى وطنيًا واسعًا، بما أن كل عمال النسيج في البلد يدعموننا. سنزيل العقبات، لإشباع كل شهواتنا، لأن الإرادة استطاعة. ونحن نخترق الرَّدْب، رأينا حسين كمن فقد عقله، وأبا لحسن، بسنيه الغارسة إياه في زمن الخراب، لا يمكنه اللحاق به: - نشبت الحرب الأهلية في بيروت! صاح. والراديو يزعق بين ذراعيه: "عَقْبَ استفزاز متعمد، هاجمت عناصر من ميليشيا الكتائب سيارة كبيرة لنقل الفدائيين، كانوا في طريقهم من منطقة الطريق الجديدة إلى مخيم تل الزعتر، بعد انتهاء أحد احتفالات المقاومة. سَبَّبَ الهجوم قتل بعض الركاب، ونقل الحمى إلى مناطق أخرى." ردد حسين بطريقة غير معقولة: - لماذا لا يذبحون مومسي الغائط المتوحشين أولئك؟ لماذا لا ينهون عليهم، يا ماخور الغائط؟ أين البنادق؟ أين المدافع؟ أين الرجال؟... - الرجال هم ها هنا، صاح أبو لحسن بصوته الهالك، هم ها هنا! وهذه الكتف –قال وهو يكشف عن كتفه المندمل جرحها- التي مزقها القرش لشاهدة عليّ! - اللغم! - القرش! رميته في شبكتي، فرماني بين أسنانه، كما رمى الكلبُ سالمَ بين أسنانه! - في شبكتك! - كان من اللازم أن آكله أو يأكلني. - فأكل أحدكما الآخر! - ليس تمامًا. - تصرفتَ كرجل على كل حال! - كل القروش التي اصطدتها في كل المدن الساحلية للمغرب أكلتها إلاه، فهو قرش من طولون، ليس من عندنا. - كالكلب الذي عض سالم، كلب ليس من عندنا! - رجل هو سالم! - أرجل الرجال! رافقتني مارتين حتى حجرتي، وركض ألبير إلى موعد، وهو يرميني بقوله: الحالة في لبنان ليست في غاية الجودة، ومن اللازم الترقب باحتراز. سألني إن كان لي أقرباء هناك. أخي، قلت له. هز رأسه عدة مرات، ووعد بالعودة ليأخذ مارتين. استقبلتني مارتا، وقبلتني، وهي تشكر مارتين لعنايتها بي. - هل سمعتِ الأخبار؟ قلت لمارتا. - أية أخبار؟ طلبت مارتا، حائرة. - بيروت تشتعل! توترت ملامحها: - لا تقلق، سينتهي بهم الأمر إلى إيجاد حل. جلست مارتين مبتسمة، مشجعة. - سينتهي بهم الأمر إلى إيجاد حل، أعادت مارتين، من اللازم الآن أن يرص الفدائيون والقوى الوطنية الصفوف، لأن المخطط يهدف إلى تصفيتهم كلهم. عندئذ سمعنا الصوت الصارّ لحسين: - بلادي... بلادي... بلادي... فتح ثورة عالأعادي! فهمت مارتين ما يقوله بالعربية، وابتسمت. - أخي فدائي، قلت لها. أجابت تحت سحر كلمة "فدائي": - مهمات هامة بانتظاره، ما في شك. طلبت مني مارتا المجيء للأكل، لم أكن جائعًا، لكنها ألحت. أكلت مارتين معي، وأطرت مارتا. سألتها إذا ما كان طبقًا إفريقيًا. - طبق سنغالي، حددت مارتا. - طبق سنغالي! دَهِشَت مارتين. - نعم، طبق سنغالي، أكدت مارتا. - طبق سنغالي، أعادت مارتين، وهي تَطْعَمُ الطبق الطيب المذاق. حَزَرَت ما فيه: - ذرة، رز، بصل، ...، ما هذا الطعم الحار خفيفًا؟ - دقيق الفلفل الأحمر، هناك أيضًا قليل من الياسمين، وبعض القرنفل. لكن على الخصوص هناك لحم الغنم، أجود اللحوم. هل تعرفين لماذا؟ لأنه لحم بلا شحم. هل أعجبك؟ - كثيرًا. - هذه هي المرة الأولى التي تأكلين فيها طبقًا سنغاليًا؟ - نعم. - المرة الأولى؟ - نعم. - حتى ولا مرة واحدة من قبل؟ - لا. - والحال هذه، سأعلمك طريقة تحضيره. - نعم، علميني. - وإن أردتِ، علمتك أطباقًا سنغالية أخرى، أطباقًا... - نعم، علميني، علميني. - ...عديدة. - نعم، علميني، علميني، علميني.
القسم الثاني
الفصل الأول
باريس في الربيع حديقة: أزهار تتفتق في الشمس، وأشجار باسقة، أشجار تتوله في الشمس، وأزهار ناضرة. يجتاح الأريج كل حي، وعلى الاستسلام لإرادة العطر يرغم أرواحنا، نحن الذين لا نمنح أي معنى لباريس دون نهر السين، أو أي معنى لنهر السين دون مدينة "السوار دو باري". أنفاسه أنفاس الفقراء الذين هم نحن المنتشرون في الرُّدُوبِ والأزقة، في الصباح الباكر، كل يوم. نهر السين صبرنا، وأملنا، وأمانينا التي سنحققها يومًا. كل هذا يتحقق فجأة مع عاصفة الربيع! والربيع ها هنا: أخضر حيث نخطو، وأينما نفتح أعيننا على الأمل والعمل، الانفعال والاعتدال، الحب والهيام... أليسها حقيقتنا التي تحبل دومًا بالتضحية، تحبل دومًا بالعطاء؟ الربيع عطاء، العمل عطاء، الغد عطاء. هذه هي شهوتنا، متعتنا، عناؤنا، وكل حياتنا التي تضيق بنا لتفيض، تفيض لتضيق، وتفيض على الشاطئ الداكن الخضرة لنهر السين العظيم. باريس في الربيع عاشقة: ألوان طريئة، فساتين بسيطة، أصوات رخيمة، تنانير قصيرة. أنا عاشق في الربيع، مارتين حبي، باريس حبنا اليافع أبدًا، الرائع، الطافح بالحيوية، المتفجر بالحنو وبالجنون، المتسربل بالسحر وبالذهول، بالتأثر وبالشعور، المتدفق كالسيول، حب لا ينضب، كالمَعين. هكذا نحن نحب بعضنا، أنا ومارتين، نحب باريس: في الربيع والصيف، في الشتاء والخريف، في المطر والوحل، في المطر والدم. نحب باريس مثلما نحب شجرة زيتون تتشبث بكشح جبل عيبال المقدس العظيم، قريبة من السماء والأرض، من العقل والقلب، من الحقيقة والحُلم. شجرة زيتون تفتتن بزمن جبل عيبال المقدس القديم الذي يشرب من نهر السين المدنس الجديد لتعطي الحُلم، والحُلمَ للحُلم، لتعطي الحُلمَ والحياة. قفزتُ بطربي، وطرب مارتين، وأنا أرى الحمام في حديقة قناة سان-مارتن. كان فرحي كبيرًا، وفرح مارتين، وقلبُنا يتيمًا، عندما رأينا الحمام الأبيض، وهو يقترب من بعضه البعض، في حديقة قناة سان-مارتن، ويجمع جناحيه بكل اطمئنان، فتمتلئ الحديقة بالإبهام. متيمًا كان قلبُنا، عندما أضاء قوس الأجنحة، وطارت في الأرجاء عصافير الرجاء. في الأرض والسماء، في القلب والجسد. وعندما اصطدم الأخضر بالأزرق، صفق للربيع النهار. كانت القناة جديدة بأجنحة الحب، رغم سدودها المهدمة. أغْمَضَ الكَلَفُ الوضوح، وَنَقَرَ الذهبُ العشب.
* * *
جاء رونيه بعائلته ليقيم بعض الوقت عندنا بعد أن حجزوا على متاعه، وطردوه من بيته، لعجزه عن دفع الكهرباء. وعدته مدام ريمون بسكنى البرتغالي، لما يتم ترميمها، فالسقف قد هوى عندما أنزلوه، ومن المحتمل أن تأخذ الترميمات وقتًا. لم تكن أهمية لذلك ما دام أفراد العائلة يشغلون غرفتي عند مارتا، وأنا ورونيه ننام في المصنع المحتل. لم نكن نتركه قبل أن نتأكد من حراسته جيدًا و، فقط، لأمر عاجل، كنقل طفل مريض عند طبيب، معالجة أم كهلة، حماية أسرة مهددة بإلقائها في عُرض الطريق، والبحث عند الاقتضاء عن مأوى إغاثة. تناوبنا حراسة المصنع ليل نهار، لأننا كنا ننتظر، في كل لحظة، هجومًا تشنه الإدارة، وكنا مستعدين للدفاع عن مصنع الأحاسيس دفاعنا عن الوطن. لم يعد جورج الأشقر ينام، وهو يرصد البوابة الموصدة. قال لنا إنه لم يفكر أبدًا أن يجد نفسه في مثل هذه الحالة: يصغي إلى الخطوات، في الشارع، كثائر، من خلف المتاريس. وأية خطوات! وفي أي مكان! كان يشعر بالفعل أن العدو في بيته، يتربص به، ولهذا، كستيفان المجنون، كان يرغب في البقاء يقظًا. أعد المارتينيكي لنا القهوة، في المساء، وقال بنكهة من التباهي: - قهوة، يا رجال، كما لم تشربوا مثلها أبدًا! ثم: - يا مومس الغائط، يا مومس العَيْش، يا مومس الرب، يا مومس الرب، يا ماخور الماخور، الماخور، الماخور، الماخور! كان يرغي ويزبد مفكرًا إلى أية درجة أصبحت القهوة رديئة الطعم في المقاهي الصغيرة، وكم ارتفع سعرها. قلت له عندما حللت في باريس، للمرة الأولى، كان ثمن القهوة لا أكثر من فرنك واحد على المشرب، فصاح الأشقر: - اخرسوا، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم! تتكلمون عن القهوة! عن القهوة! تتكلمون عن القهوة! - ماذا جرى لك، يا مومس الغائط؟ احتج المارتينيكي. - هناك من يحوّم حول المصنع. نهضنا كلنا، متسائلين: - من يحوّم حول المصنع؟ تابع جورج، بعصبية: - من يريد مفاجأتنا. اطمأننا بسرعة، فكل شيء هادئ. - ترون جيدًا أن الأشقر لم يشعر بخوف كهذا طوال حياته! تهكم المارتينيكي. قفز جورج الأشقر: - اقفل فمك، يا المارتينيكي! تريد حقًا ألا أخاف من أن يفاجئونا؟ توقع أن يهجموا بين لحظة وأخرى، يا بطلي الهمام! إلا إذا كنت تفضل أن يذهبوا عند أمك ليتركوا لك خبرًا؟ تدخل بيير: - لن يهجموا، على الأقل، ليس الآن، لأنهم يريدون أن يتفاوضوا، والمفاوضات جارية، وطالما أنها تدور طالما أنهم لن يهاجموا. - ما أدراك أنهم لم يقبلوا بالتفاوض إلا لإلهائنا، وهوب، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم، ضربونا على مؤخراتنا! - لن يمكنهم ذلك، لأن كل العمال معنا في الوقت الحاضر، كل فرنسا، وإلا دارت الأمور في غير صالحهم. هم أخبث من ذلك بكثير. اطمئن، يا الأشقر! على أي حال، كلنا يدرك هذا، وسنكون إلى جانيك. اطمأن جورج الأشقر قليلاً، وقال: - الحديث عن القهوة في لحظة كهذه، يزعجني. كما لو... فسأل المارتينيكي: - وفيم يزعجك؟ - كما لو... - فيم يزعجك، يا رجل؟ - ...يتكلم غريق عن السمك. - فيم يزعجك، يا مومس الغائط؟! - كما لو يتكلم مشنوق عن الأكسجين. - فيم يزعجك، فيم يزعجك؟! - كما لو يتكلم مخصي عن الهوى. - فيم يزعجك، فيم يزعجك، فيم يزعجك؟!... لا يجيب، يا مومس المومس! لا يجيب. يجيب باستعارات كمثقفي الغائط! - يزعجني. - فيم يزعجك، يا رجل؟ فيم يزعجك؟ - ينغص عيشتي، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم! - فيم ينغص عيشة غائطك، يا رجل؟ - ينغص عيشتي، يقلقني. - يقلقك، يا رجل، يقلقك؟ - اخرسا، نبر بيير. - يقلقني. - يقلقك، هاه، يقلقك! - يقلقني، نعم، يقلقني! وعندما يقلقني، على الجميع الإذعان الوقت الذي فيه يمضي. - أفهم من هذا أنك أنت صاحب الكلمة الأخيرة! - ليس هذا. - هذا ماذا إذن، يا رجل؟ - أنا مصنوع هكذا، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم! - تريد أن تعلم من أي شيء أنت مصنوع، يا رجل؟ - لا أريد أن أعلم. أنا مصنوع... - أنت مصنوع من كومة غائط! - ...هكذا. - أنت مصنوع من كومة غائط! - اقفلا فمكما! عاد بيير إلى الصياح. - ليس هذا ما أعني، تلعثم جورج الأشقر. ثم، هناك ما هو أهم من الحديث عن القهوة في هذا الوقت! - أنت مصنوع من كومة غائط، من كومة غائط! - اقفلا فمكما، اقفلا فمكما! - لا تبالغ، يا الأشقر، قلت لجورج. - أنت مصنوع من كومة غائط! تردد جورج الأشقر. وقبل أن ينسحب: - أجهل لماذا أنا قلق هذا المساء. - لأنك مصنوع من كومة غائط! صاح المارتينيكي من ورائه. لم يطل جورج كثيرًا، جاء بصحبة ستيفان المجنون، وأخبرنا أن هناك من يريد اجتياز الساحة إلى الورشات. ذهب البعض ليرى، وعاد في الحال برفقة ألبير ومارتين وبعض الأصدقاء والصديقات وبعض زوجات العمال وأولادهم. ابتسمت لنا مارتين، قبلتني، وأعطتني رسالة من أخي عبد السلام، أرسلها قبل شن الحرب. قدمت لي أبراهام. قالت إن أبراهام يدرس العربية معها، في السوربون، إنه جزائري من قسنطينة، إن أهله من بين النادرين من اليهود الذين لم يزالوا يقيمون فيها. عندما كان يعيش معهم، لم يكن يرافقهم إلى الكنيس، يوم الجمعة، ربما الأيام الأخرى، لأنه كان يحب مسلمة! مما جعل أبراهام يضحك بطلاقة. طلب منا ألبير أن نأخذ حذرنا، لأن رجال الدرك يطوقون المصنع، والمفاوضات التي لم تصل إلى نتيجة، تم تأجيلها إلى الغد. سألتُ مارتين عن أخبار مارتا والأصدقاء، فقالت لي إن مارتا قلقة عليّ، وإن الأصدقاء يتابعون المعارك الدائرة في بيروت لحظة بلحظة. في رسالته، لم يتكلم عبد السلام عن برناديت، التي اختطفها مسيحيون مثلها، لأنها تحبه، لأنه يحبها، ولأنه، وهي بعيدة عنه الآن، يحبها أكثر من أي وقت مضى. أخذ بعض العمال يغنون، وأغنيتهم تتكلم عن معجزة الحب، وفي المصنع ألف نغم. عزف رونيه على الجيتار، و ضرب أبراهام على الطبلة، ونحن كلنا نغني. وضعت مارتين رأسها على كتفي، ابتسمتْ، وغنتْ. نظرتْ إلى ألبير في عينيه، ابتسمَ، وغنى. "وبييرو هذا، وبييرو ذاك"، لم يكف المارتينيكي عن الترداد بعد أن هدأ. أراد أن يكون صاحب الكلمة الأخيرة، ابتسمتُ، وغنيتُ. نظرتُ إلى بيير في عينيه، ابتسمَ، وغنى. نظرتُ إلى وجه شارل، بينما هو يغني. هذا الرجل الذي قاوم النازيين، وانتصر، ها هو يغني معجزة الحب، لأن عالم الغد، الذي تكلم بيير عنه، يوجب ذلك. غنى عالم الغد، غنى الأماني، ووصَلَنا غناء جورج الأشقر من الممر، وهو يراقب مداخل المصنع. أضاءت العيون بالأمل، أمل البسطاء، وصاحت الحناجر بالنشيد، فتصادى النشيد مع بنادق بيروت. كانت مارتين ومادلين ووردة وفرانسواز هنا معنا، والرقة والحنان والحنو والرَّحِم هنا معنا.
الفصل الثاني
عدت لأرى مارتا والأصدقاء، وذهب رونيه ليرى زوجته وأطفاله الثلاثة. كانت هناك شمس في الرَّدْب، لكن الجدران كانت رطبة. كان بعض العمال يشتغلون في سكنى البرتغالي، ولأول مرة أرى نافذته مفتوحة. أخذتني مارتا بين ذراعيها. - اشتقت إليك، يا ولدي الحبيب! قالت. - وأنا كذلك، قلت. طربتُ على سماع ضحكتها العطوفة، وغطيتُ برنينها كذبي الذي لم أعتد عليه. تبادلتُ معها كلمات بلغة الوُلّوف، ورأيتُ وجنتيها تضيئان بالليل. قفز ابن رونية الصغير على ركبتيّ، وتسلى بقرص أنفي وشد شعري، بينما تطلُبُ أمه منه الهدوء. كانت حركة صليبها الذي تحمله حول عنقها تقترن بعصبيتها، فسألتها أن تترك الصغير يلعب على راحته. رانت على الحجرة بلبلة العائلة الكبيرة، وميزتُ لدى المرأتين التفاهم والوفاق المتبادلين. راحت امراة رونيه تعتذر، وتشكر، ورونيه مثلها. قالت مارتا إن بيتها صغير، لكنه على كل حال كبير بما فيه الكفاية للأصدقاء. ما حصل لعائلة رونيه يحصل يوميًا لكثير من العائلات، وهي ليست غريبة عن هذا العالم، ولا ساذجة، لها أذنان، وهي تُقَدِّر أن هذا ظلم لا يُغتفر. تكلمت كذلك عن طفولتها في السنغال، طفولة صعبة: عندما تنضب جرار زيت فستق العبيد، كانوا لا يأكلون شيئًا، وفي الغالب هذا ما كان يقع، لأن الحقول غالبًا ما كانت تجف، قبل القَطاف، والعَصْر. حكت أيضًا عن أطفال اليوم في السنغال، واعترفت أن الحالة تبدلت بعد الاستقلال، لكنها لم تزل تخضع لكمية زيت فستق العبيد، المرتبطة، بدورها، بالطقس الماطر أو الجاف: إن الأطفال معرضون للخطر في كل مكان يحكمه الظلم. أكد رونيه أن أطفاله لن ينسوا مارتا، فابتسمت بخجل، ثم ضحكت، وهي تسألني إن كنت أرغب في أكل شيء؟ إن كنا نرغب في الأكل، أنا ورونيه؟ نرغب، أجبنا، مما أفرحها. ذهبتُ لأرى عصام، فلم أجده في حجرته. أعلمني عادل أنه يلعب الورق عند أبناء عم لحسن، واستطرد: - هل تتابع الأخبار؟ - أتابعها، قلت بلهجة متفائلة، الفدائيون صامدون. - بالأحرى من اللازم القول إن الثورة تحرز انتصارات جبارة، وأنا على اقتناع من أنها ستكون الضامن، ومن أن الوضع سيتغير كليًا. ستنفخ الثورة نفخة خفيفة، وستتساقط صروح الورق واحدًا واحدًا. - واحدًا واحدًا؟! - بما أنني أقوله لك. - بما أنك تقوله لي. - وسيكون موضوع كتابي الجديد. - كتابك الجديد! - إنها حرب تحرير تستأهل كتابًا. فكرت في حسين، فسألته عنه. - تجده ينام على هذه الساعة بعد أن داخ من الشرب، أو يشرب بعد أن داخ من النوم، قال بنبرة احتقار. وحركتكم؟ - ماشي الحال. دعاني إلى الدخول لنثرثر: - اسمع! لماذا لا تدخل لنتحدث قليلاً؟ ستُسحق حركتكم، أنا أعرف، أنا أحس بذلك. - أنت تحس بذلك؟! - بما أنني أقوله لك. كان يخريني، هذا "الفيلسوف" المدعي! - ادخل! سنتحدث في ذلك. - لا، شُكْ... خرج عصام. - ...رًا. اتجه نحوي: - هل معك مائتا فرنك؟ سأردهما لك غدًا. - هل هكذا تستقبلني؟ - أنا في الغائط، يا مومس! - وعملك؟ - تركته. لم أستطع احتمال رائحة الدهان، لكني أبحث عن عمل آخر. ثم، مغاربة الغائط هؤلاء، إنهم شياطين بالفعل! يغشون في اللعب، فيربحون دومًا. - لماذا لا توقفهم؟ سأل عادل. - لأنهم يغشون دون أن تكتشفهم. - ولا يسمحون لك بالغش أبدًا. - هذا هو! يا مومس المومس... - كيف عرفت أنهم يغشون؟ نبر عصام: - يغشون، يا مومس! جذبني من ذراعي، ودخلنا حجرته. ترامى على سريره متعبًا، ونفخ: - أنا تعبان! - ألاحظ ذلك. - كيف حال حركة غائطكم؟ - جيدة. - أنا متأكد من أنهم سيسحقونكم. - هل هو عادل الذي قال لك؟ - كيف عرفت؟ - هكذا. - لا، قل. كيف عرفت أنه عادل؟ - كف عن الاهتمام بذلك. - قل لي، يا غائط! - نحن صامدون إلى حد الآن. - قل لي، يا غائط! - نحنوووووو صامدووووون... - قل لي، يا ألف ألف غائط! - قال لي رأيه منذ قليل، وأراد التحدث في ذلك معي. يخريني هذا الشخص! ليسه فقط هو وقح، هو محشو بالادعاءات. - محشو بالغائط، تريد القول! إذن قل لي إنهم لن يسحقوكم. - نحن صامدون، قلت لك. - حتى الوقت الحاضر. - هل ترى؟ أنت تقول: حتى الوقت الحاضر! - حتى الوقت الحاضر؟ - نعم، حتى الوقت الحاضر. - تقول إنكم صامدون "حتى الوقت الحاضر". - ماذا تعني؟ - أنكم صامدون حتى الوقت الحاضر، "كإخوتنا في السلاح"... - عادل يفكر العكس تمامًا. - ...في بيروت. - عادل يفكر العكس تمامًا. - تظن أنني أتبنى كل ما يقول فيلسوف الغائط هذا أو لا أدري ماذا دون أن يكون لي رأيي الخاص الذي لي، يا مومس؟! إذا أنتم، مع حركة غائطكم، تصبون يومًا إلى الخروج مما أنتم عليه، الفدائيون، بخصوصهم، فسيتم سحقهم. هل تسمعني؟ سَحْقُهوووووم. غَضِبْتُ: - لماذا أنت هكذا! - لا، ليس هذا. - تريدهم أن يقاتلوا وعند... - إذا ما قاتلوا... - ...ما يقاتلون... - ...أريدهم أن يعرفوا... - ...تريدهم أن يتوقفوا عن القتال... - ...كيف يقاتلون. - ...أو أن يقاتلوا بشكل آخر. - إذا ما قاتلوا أريدهم أن يعرفوا كيف يقاتلون. - وكيف هذا، في رأيك؟ أطلق ضحكة مستسلمة. - وما أدراني، يا مومس؟! - هل رأيت؟! - أنا لا أتمنى سوى الخير للثورة، على أي حال. - لكن، كيف؟ صحتُ. - هل ستدينني... - قل لي كيف؟ - ...المائتي فرنك، يا غائط أم لا؟ - قل لي كيف؟ - وما يدريني، أنا، يا مومس مومس الغائط! - لا تريد أن تقول لي كيف؟ - هل ستدييييينني الماااااائتي فرنك، يا غاااااائط أم لا؟ وقعتُ بعيني على الرسالة دون الطابع، المنسية قرب قطعة خبز عفنة، وتأملت الوجه الغير الحليق أبدًا: - الأحوال لا تسير على ما يرام! قلت. يقدم عمال الشهوة ما يقدرون عليه من رواتبهم ليعيش مصنع الأحاسيس، أنت تعرف هذا جيدًا. - نعم، لكنني قلت ربما... - لا، لا يمكنني أن أقرضك المائتي فرنك. استطرد بمرارة مزيجة بالسخرية: - كان ذلك من أجل العاهرة. - من؟! - أوديت. تريد أن ترى مسرحية.
* * *
جاء رونيه، واعتذر لأنه تأخر، وجاء أنطونيو وأندريه كذلك، حييانا، وبقيا واقفين قرب الباب. سألاني عن أخبار المصنع، فقلت ممتازة. سألت أندريه كيف يجري عمله مع أنطونيو، أجاب أنه لم يزل يتعلم، وأضاف أنطونيو أنه يتعلم بسرعة، مع أن مهنة المرصص ليست سهلة إطلاقًأ. بعد لحظة، ناداني أندريه، واعتزلنا في زاوية من زوايا الرَّدْب. قال لي إنه لم يستطع إيجاد فرصة للحديث معي، منذ موت أخته: أولاً، عمله مع أنطونيو يأخذ كل وقته، ثم مشاكل مصنع الأحاسيس تُبعدني عن البيت. وأنا اسمعه، أحسست برجل في ضائقة، على حافة الهاوية، وهو يريد أن يكفى عائلته شر عذاب، لهذا يرجو عوني. وأنا أقول لنفسي هذا، خفق الاحمرار وجهه، وارتعش صوته. راح يشكرني على كل ما فعلت من أجل أسرته، خاصة أمه، وأكد، كمن يريد التخلص من عبء، أنه لو كان يعرف، لما حصل شيء مما حصل. في ذلك الوقت، كان مصابًا بالجنون. في الوقت الحاضر، هو يعي أفعاله، وهو يكفّر عن خطاياه. سيعمل لأمه ولأخيه الذي عليه أن يكبر ككل الأطفال العاديين، سيعمل كذلك لرَدْبِنا ولنا كلنا، للمودة بلا حدود. لو لم أشد على يده، لداوم على ذلك طويلاً. أوصيته خيرًا بمارتا أثناء غيابي، فقال لي ألا حاجة لي بذلك، لأنها بمثابة أمه. وتهدج صوته: - كانت تحب ماري كثيرًا. عندئذ، حط بيننا عصفور غريب الشكل، فكأنه روح ماري، وما لبث أن راح يَحُوم فوق رأس أندريه، وهو يصرخ، ويضرب جناحيه. انحنى أندريه، وذراعاه في الهواء، لا يدري ما يفعل. حاولت طرد العصفور، وأنا أشعر بالعجز. استولى على أندريه الرعب، وكالعدوى حمل الرعب إليّ. رأيت في العصفور عدوًا أزرق، لم يكن التعسف في المعنى، ولا في الكلام، كان الشيء أقوى مني، شيء في داخلي، كان ينام في أحشائي، في أعوامي، في كل تجاربي، شيء أقوى من كل شيء، أقوى من كل الحب، كان كل الحقد، وكل ما لم أقدر على تحقيقه، كل ما لم أقدر على عدم تحقيقه: قبضت على العصفور بيد الشيطان التي لي، وفسخت رأسه عن جسده. عندما رأى أندريه ما فعلت، أبدى كل عنفه الماضي، وقد عاد إليه. أشبعني ضربًا مُبَرِّحًا، وهو يسب، ويلعن، فخرج علينا الأصدقاء، وفصلوا بيننا.
الفصل الثالث
في ذلك الصباح، جاءت مارتين إلى المصنع، و "الحُلم" بيدها. كان أبراهام من يصحبها بدلاً من ألبير. وزعت علينا الجريدة في وسط الضوضاء الدائبة للآلات. عندما اقترب أبراهام مني، قلت له إنني أحلم بزيارة الجزائر، بلد المليون ونصف المليون شهيد، رمز الثورة، الجميلة كحبيبة. وعدني باستقبالي عنده، في قسنطينة، وتمنى بحمية، أن آتي لرؤيته هذا الصيف. قلت له إنني سأرى هذا مع مارتين، وإننا ربما أمكننا المجيء لقضاء شهر عسلنا. قفز من الفرح، وأعلمني أن قسنطينة مدينة الفرح، قائمة على صخرة جبارة، تحمل على كتفها مليونين من الأفئدة! وهي مكان لا أجمل منه في الصيف، ولا أشبه بآخر في العالم. حكى لي أن كل الطائفة اليهودية غادرت المدينة، عشية الاستقلال، لأن العساكر أخافوها من أولئك "البرابرة". ضحك بتهكم. بالمقابل، اختارت أسرته البقاء في البلاد، وهي عازمة على البقاء في مدينتها دائمًا، حيث تنعم بحقوق المواطنة كاملة. عندما رجعت مارتين إلى ورشتنا، أعلمتنا أن بعض عمال الشهوة "المشترين" من طرف الإدارة قد تركوا العمل. كانت حزينة، لكنها في نفس الوقت بثت فينا روح العزم على الاستمرار. ذكّرتنا أنه، عندما ترك رؤساء المعامل، أطفال رب العمل المدللون، مصنع الأحاسيس، لم يكن لهذا أي تأثير علينا. على العكس، ألقينا على عاتقنا مسئولية سد الفراغ، وأدرنا الأعمال على أحسن ما يرام. - شكرًا لتشجيعك، لكن يظل هناك فراغ من اللازم سده، قلت لمارتين. رؤساء المعامل يعدون على الأصابع، لم يكن لهذا أهمية، وفوق هذا، كانوا يقضون وقتهم في إعطاء الأوامر. مع ذهاب عشرة عمال... - عشرون، صححت مارتين. - هذا أسوأ! - نعم، هذا صحيح. - مع ذهاب عشرين عاملاً، لن يمكننا أخذ كل شيء على عاتقنا. - نعم، كما تقول. - هناك فراغ حقيقي للسد، أليس كذلك، يا بيير؟ - ماذا؟ سأل بيير، وهو يقترب منا. - نحن لا يمكننا سد الفراغ الذي تركه ذهاب العشرين عاملاً. - لا. أصبح الوضع حَرِجًا. - هذا صحيح. - ها أنتِ ترين، قلت لمارتين، الوضع أصبح حَرِجًا. - انتظروا، انتظروا، لا تتخوفوا، قال أبراهام. اقترح نفسه لسد الفراغ، كذلك مارتين وفرانسواز ووردة، اقترحن أنفسهن، أولاد شارل، وأناس جاؤوا لا أدري من أين، اقترحوا مساعيهم الحميدة. - كل هذا جيد، قال بيير، حتى جيد جدًا. والتعلم؟ لن يتعلموا بسهولة. - لا تعسّر عليهم الأمور، بييرو، تدخل المارتينيكي، طالما أن لديهم الإرادة طالما أنهم سيتعلمون بسرعة، يا رجل. وذهب مع وردة، والابتسامة تلتمع في عينيه. تبع الكل الكل، فاتسعت حركة الآلات، بالإيقاع نفسه لقوة مُكِدِّي الأهواء. في المساء، وقفتُ مع مارتين. كنا نتكلم بأصابعنا، وأحدنا يمسك يد الآخر. في الناحية الأخرى من مصنع الأحاسيس، كانت لافتة مضيئة لفندق تنطفئ وتشتعل. - منذ سنين، وأنا أعمل هنا، همهمتُ، لكنها المرة الأولى التي أعرف فيها أن هناك فندقًا. - هذا لأن لك بيتًا، همهمت مارتين. - لا، ليس هذا هو السبب. - من لا يبحث عن شيء لا يجده حتى وهو ماثل أمام عينيه... مثلنا... - مثلنا. - ...قبل أن نعرف بعضنا. - مثلنا قبل أن نعرف بعضنا. - أنتَ لست فندقًا، لكن الوضع واحد. - أفضل والحال هذه أن أكون بنكًا. ضحكت مارتين. - ليست هذه تطلعاتك البرجوازية، قالت. - أو لِمَ لا أكون ماخورًا. انزعجت مارتين: - سالم، حبيبي، ما بك؟ - لا شيء، إنه هذا الفندق الذي لم ألاحظه إلا اليوم. تعالي... - إلى أين؟ - سنأخذ غرفة. - أنت جاد؟ - أريد أن أمارس معك. - ماذا؟ - الحب، يلعن دين! - أنت غير جاد. - أنا لا أكثر مني. - ماذا؟ - جدية. - أفهم أن كل هذا، أقصد احتلال المصنع وكل هذا متعب ومؤثر على الأحاسيس. - لا علاقة بكل هذا. - إذن بماذا؟ - قلت لك هذا الفندق الذي تنطفئ لافتته وتشتعل لم أره إلا هذا المساء. - وأنتَ لهذا تريد أن تأخذ غرفة. - وأنا لهذا أريدك. - ليس لأنك متعب وليس لأنك متيم. - لا. - إذن... - ارحميني، يا مارتين، ارأفي بي، يلعن دين! تركتُها، وهي ذاهلة أمام تصرفي. وأنا أغذ السير، شممت رائحة عطر رديء، تعودت على شمها عند حلاقي. بحثت عن صالون حلاقة، فلم أجد أي صالون. وأنا أمضي بمترو بيلفيل، لاحظت لأول مرة أن دهان ستاره الحديدي زنجاري اللون. لم يكن الستار مغلقًا، فالمساء في أوله، وتعجبت من أمري، لأن الستار لم يكن مغلقًا، ولأنني رغم ذلك رأيت، ولأول مرة، أنه زنجاري اللون. أدركت عند ذلك القول المشئوم لعادل، وقلت لنفسي سيسحقون حركتنا. دفعتُ باب مقهى عازفة الأرغن، وطلبتُ كأس بيرة، والمقهى شبه فارغ. بسبب الربيع قلتُ، فالجليدُ أبو المخمورين، يجمع الأفئدة المعذبة في الدخان. أنهيت كأسي بجرعتين، وخرجت بمنتهى العجلة. حيرني غياب لاعبي القمار والمهربين، فرحت أبحث عنهم في الأزقة المجاورة، ولا أجد أحدًا منهم. أصابني الهوس، فأخذت أنادي أمي، وإذا ببائع الهيروين يخرج لي، وينذرني بخفض صوتي. مقابل كيس بمائة فرنك، سحبني من يدي إلى عمارة مهدمة تعج ببشر لا ينتمون إلى البشر، كانوا يقومون ولا يقعدون، فكأنه يوم القيامة. اقتربتُ من دائرة تحيط برجل نهشت أسنانه "الشمّة"، وهو ينقل زهر النرد من فنجان إلى آخر، بينما يحاول هذا أو ذاك أن يحزر أينه راميًا ورقة خمسة فرنكات أو عشرة يخسرها أو يربح مثلها. رميتُ ورقة مائة فرنك، لكني خسرتها، وأنا أرى الديدان تُخرج رؤوسها مقهقهة من بين الأسنان النخرة للدجال. على بعد عدة أمتار، أمسكتني مومس، وهي تعرض لي ثديها الأيسر، فالأيمن. ذهبتُ بها إلى الفندق، ولافتته لا تتوقف عن الانطفاء والاشتعال. وهي تخلع ثيابها، نشقتُ معظم كيس الهيروين، ولولا أنها اختطفتْهُ لنفسها مني لنشقتُهُ كله. بعد عدة دقائق، عجنتُ الوجود بيديّ، فناديت أختي، ورحت أضاجعها، وأنا أبكي. صفعتني أمي، وهي تنبر: يا لك من جبان، أيها الجندي! أنا لم أر في حياتي جنديًا يبكي! كان كوخنا القذر مليئًا بالجنود، وهم ينتظرون دورهم، وكانت أمي تأخذ منهم الثمن قبل أن يدخلوا. بكوا كلهم، وهم يضاجعون أختي. كانوا يقذفون، ويبكون، ولم تكن أمي راضية. كانت تشتمهم، وتشتم الساعة التي اضطرتها إلى جعل بيتها ماخورًا لخرعين، شرفها لا يستأهل كل هذا، ولغضبها من الجنود، أخذت تبكي، فبدمعهم أهانوها، وأشعروها بعارها، كانت المرة الأولى التي تشعر فيها أمي بالعار.
الفصل الرابع
أخيرًا، نجح لحسن في إقناع أخيه بالعمل معه، في المخبزة. كان عليه أن يُقنع المعلم أولاً، ونجح بعد التخلي عن عدة امتيازات: ألفا فرنك فقط في الشهر، غير مصرح بهما، وبالتالي لا تأمين صحي ولا حقوق اجتماعية أخرى، اثنتا عشرة ساعة عمل في اليوم. - ألفا فرنك! صاح أخو لحسن محتجًا. - هذا أفضل، قال لحسن لأخيه، من أن تغدو لصًا أو مقامرًا. - ألفا فرنك في الشهر لعمل اثنتي عشرة ساعة في اليوم! - اعتبر نفسك سعيدًا! أنا، بدأت بخمس عشرة ساعة في اليوم و... - ألفا فرنك! - ...ألف فرنك في الشهر. حتى أنني كنت أدفع ثمن الخبز الذي أصنعه بيديّ هاتين. - ألفا فرنك! - إما أن تقبله هكذا أو ترفضه، قال الأخ الكبير ليوقف كل احتجاج. أما أبناء عمه الثلاثة، فعمل أولهم نجارًا، ثانيهم كناسًا، ثالثهم تسلطت عليه عجوز ثرية جاءت لتعالج كلبها من الزكام عند الطبيب البيطري. رفض كل العروض من نوع حارس في الليل، منزه كلب، مرافق مجنون. قال إنه يفضل البقاء عاطلاً عن العمل طالما أنه لا يجد عملاً يعادل أو يفوق العمل الذي كان يمارسه في الرباط، وهو لا يبالي بالعمل في مؤسسة عامة، أو شركة، أو وزارة! داومت العائلة صاحبة التلفزيون على ازدرائنا، وهي تعيش كما لو لم نكن موجودين في الحي أو كما لو، هي وحدها، التي كانت تسكن الحي مع تلفزيونها وَجِيرة الطبيب البيطري. نَمَتْ علاقاتها بطبيب الدواب، الجاذب للكلاب إلى رّدْبِنا: في إحدى المرات، قام بزيارتهم، وأخذ فنجان قهوة. ادعى بالعمل في حينا لأنه لم يكن عنصريًا، ولأنه كان ديمقراطيًا. هذا ما حكته المرأة العجوز لابن عم لحسن، حتى أنها تساءلت إن لم يكن دون جوان عصرنا. في الواقع، لم يكن له أي زبون ذكر، حتى أنه غازلها عدة مرات، منتظرة الأكثر من طرفه. ومع الأسف، الأسف لأجلها، توقف عند ذلك. هذا من المحتمل لأن معظم زبوناته عجوزات، ومما لا شك فيه أنها كانت تعتبر نفسها الأجمل بينهن! ثم، أكدت أنه دون جوان العصر عن حق وحقيق، عشيقاته الشابات يعددن بالعشرات. حكى لنا المغربي كذلك أنها كانت تنفق على كلبها أكثر مما تنفقه على نفسها: لحوم خاصة، أطباق خاصة، حلويات! عشر مرات أكثر من النقود التي كانت تكرسها لأناس مثله، هو الذي يبيعها المتعة، المسكين! ومن القصص التي تحوي العجب العجاب على التأكيد أن الكناس، ابن العم الثاني للحسن، ترك مهنة المهانة التي له، وقرر الذهاب إلى بيروت. عندما سألناه السبب، أجاب: - أريد القتال كما يفعل أفضل الرجال! كان أبو لحسن الأسعد في العالم. - عندما كنتُ في مثل سِنّه، كانت لي الحمية نفسها، قال. ذهبتُ لأقاتل في الصحراء الغربية، وَجُرْحُ كَتِفي هذا لهو الميدالية التي حفرها الوطن بإزميله في لحمي. - أنت فخرنا، يا عمي! - كان علينا أن نمنع فلول البوليساريو من التسلل خلف مواقعنا، فركبنا سفن الرمال، وأبحرنا غير مبالين بالخطر المحدق بنا. لم نأبه بالعاصفة، جعلنا من أعمدة الدمار والموت أعمدتنا، وانقضضنا على الأعداء، فأبدناهم كلهم عن بكرة أبيهم. - وهذا الجرح كيف، يا عمي؟ - هذا الجرح؟ - جرح كتفك. - جرح غائر! - كيف جرحوك، يا عمي؟ - من؟ - فلول البوليساريو. - ألم يخبرك أبوك؟ - لم يخبرني. - كل الناس... - لم يحك لنا أبي أبدًا عن جرحٍ في كتفك. - ...يعرفون الحكاية. - حكاية الجرح؟ - وإلا حكاية ماذا؟ حكاية جرح كتفي لم تزل حتى اليوم تدور على ألسنة الرواة في ساحة جامع الفْنَا! لكن دومًا ما كان أبوك يغير من شجاعتي واستبسالي! أنت لم تطلع على أبيك، أنت طلعت على عمك! - رجل وَنِعْمَ الرجال، يا أبي، قال لحسن. هذا ما يعني الرجل! رجل! رجل! عن حق وحقيق! وهذه الأصداء: رجل، رجل، رجل، رجووووووول... لللللللللللللللللل!... زغردت زوجة لحسن، فكانت لمرزوق مناسبته. جاءني هاربًا من أصداء الرجولة، وطلب مني أن أكتب رسالة توصية لأخي عبد السلام. - مم أنت خائف؟ سألته. - من لا شيء، أجاب. - المقاتلون لا حاجة لهم برسائل توصية. - هل أقول لك الصدق؟ - أنت خائف. - من كل شيء. - لا أحد ضربك على يدك لتذهب. - ضربني. - من؟ - الجبان أبي. - تقول عن أبيك جبانًا! - وأنا طلعت عليه. ثم هناك... - لا أحد يطلع على أحد. - ...الجرح. - جرح عمك؟ - آه! كم أتوق إلى جرحٍ مثله. - إذا أردت جرحتك أنا، ولا حاجة لك إلى القتال. - أعرف، لكن... - بضربة صغيرة من موساي. - ...ليس الأمر واحدًا، ليست المتعة... - كما تشاء. - ...واحدة. - ماذا تريدني أن أكتب لأخي عبد السلام؟ - أن أعمل في الصفوف الخلفية. - والجرح؟ - سينتظر. الحرب في بيروت لن تتوقف غدًا. - أنا أفهم معزة هذا الجرح عندك. - جُرح يتبدل، يتلون، يتكلم، ينادي، يمشي، ينط، يصرخ، يزعق، يسب، يلعن، يراضي، يعادي، يداعب، يلاعب، يتملق، يتألق، يضاجع، يصارع، يعبر المحيطات، يقطع القارات، يختصر المدارات، ويبقى شابًا يافعًا لا يكبر، ولن يكبر! تنبثق منه الصقور والأسود والظباء، تزحف منه الثعابين والعقارب والآيات، تعوم فيه الدلافين والقروش والحيتان! تهيمن بأمره الآلهة والملوك والرؤساء! إنه أقوى من كل شيء، أقوى من الزمان، أقوى من المكان، البراكين، الزلازل، الثورات! الأخوّة، الصداقة، المساواة! آبار النفط، بحار الدم، آبار الماء! المفاعلات النووية، الصواريخ العابرة للقارات، الشركات المتعددة الجنسيات! أقوى من القوة في عصرٍ القوةُ فيه كل شيء! يكون بأمره الليل والنهار، الموت والحياة، المني والطمي! هذا الجرح تاريخنا، هزائمنا به انتصارات، انحطاطنا تقدمٌ وازدهار، جهلنا علمٌ واختراعات، إنه مستقبل الإنسانية، المستقبل كما يراه العلماء والأنبياء والزبالون الذين أنا واحد منهم والدجالون والطبالون والاقتصاديون وقامعو الكلمات والممحونون والعذراوات ومخرجو أفلام البورنو وغائطو الثقافة وقادة الأحزاب من عباقرة الحيض ومستثمرو الأديان وفروج النساء.
الفصل الخامس
لم تبدأ الأزمة الحقيقية لمصنع الأحاسيس إلا عندما تراكمت البضائع، والسبب عدم توزيعها، وتفاقمت عندما أخذت مادة الكابرولاكتام تنفد. المحروقات، استطعنا تدبيرها، لكن الكابرولاكتام كان في يد الإدارة، وبالتالي الحكومة، التي تمنع سيلانه، منذ فشل المفاوضات. بعد الآن، الأيام محسوبٌ عددها للماكينات التي ستصمت، مما سيدفعنا إلى البطالة. كان شارل متوترًا، كما لو كان أحدهم سينحر أحد أبنائه. قال الغضب بلسانه: لو كانت سفينة تغرق ومائتا راكب على ظهرها لانقلبت أوضاع العالم، ولما ادخر أي مجهود لإنقاذها! يا له من عالم قذر يرانا نغرق دون القيام بحركة واحدة! تساءل بيير إذا ما كان العالم يدرك أننا نغرق. - من اللازم أن يعلم، قال، ليعبئ موارده، ويأتي لنجدتنا. لن يعلم شيئًا ما دمنا محاصرين، إلا إذا وَلَّدَ عمال الشهوة حركة على نطاق واسع. رأس المال، الذي لا شيء آخر غير رب العمل، يريد أن يُغرق سفينتنا بخرقها قليلاً قليلاً، لهذا لا ينشر الخبر، يستعمل كل الوسائل لإعاقة الإنقاذ، ويكتفي بتدخين السيجار هادئًا، على شاطئ البحر. أعيد عليكم أن العالم لن يتذمر إن لم يولِّد عمال الشهوة حركة على نطاق واسع! بدلاً من الغرق وحيدين، فلنتحرك، ولنعمل على زمجرة الأمواج، القروش وحدها ستكون الخاسرة. - لكن كيف نفعل، بييرو؟ سأل المارتينيكي، وهو يضغط يد وردة. كيف نفعل، يا رجل؟ - أنا أعرف كيف، قال ألبير. - أنا أيضًا، قالت مارتين. ابتسم بيير، وثلاثتهم يلوح "بالحُلم"، وثلاثتهم بصوت واحد: - الحُلم! بفضل الجريدة، عرفت كل فرنسا الصعوبات التي نواجهها. بدأت حركتنا تمتد من مصنع إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، وتجمع عمال كل الاختصاصات في ساحة الباستيل. في المساء، ومارتين تضع رأسها على صدري، قالت لي: - غدًا ستشرق الشمس. - نعم، يا حبيبتي. - وسنجد أنفسنا عرايا في الحقول الدافئة... - نعم، يا حبيبتي. - ...حيث تطير الفراشات دون خوف. - نعم، يا حبيبتي. - غدًا سأقول لك أحبك لأني أحبك اليوم لأحبك أكثر في الغد. سأقول لك أعبدك لأني أعبدك اليوم لأعبدك أكثر في الغد. سأقول لك: كن جذرًا فيّ، لأني أريد أطفالاً أصحاء وسعداء يبنون معنا غدًا بلا ازدراء. في اليوم التالي، كان العيد. رضخت الإدارة، وحصلنا على ضمان لمواصلة العمل خلال ثمانية شهور، ووعد بحل الصراع قبل أجل الاستحقاق. مصنع الأحاسيس تم إنقاذه، قناة سان-مارتن تم إنقاذها. دوى النفير عدة مرات، وصرخنا لفرط ما كنا سعيدين. رقصنا، وَقَبَّلنا بعضنا، وغنينا. بدا وقف إطلاق النار في بيروت هذه المرة حاسمًا: لا انفجارات، لا اختطافات، لا قَنَّاصة. بعد العمل، ذهبنا عند مارتا لنخبرها أننا سنتزوج، أنا ومارتين.
* * *
كان سليم وشيمون عاريين في الفراش. - هل نتكلم "شغل"، سأل سليم، أم تفضل... - نتكلم "شغل"، قاطعه شيمون. - ..."الشغل على الشغل"؟ - نتكلم شغل. - ليس عندي ما يثير جنسيًا. - قل، وسنرى. - لمسة من يدك تساوي كل ما سأقول. - قلتُ قل، يا ماخور! - هل أبدأ بما يفعله الوطنيون أم بما لا يفعلونه؟ - بما لا يفعلونه. - حض الناس على التضامن مع الثورة، وخاصة دفع الشبيبة إلى الذهاب للقتال في بيروت. - هذا أعرفه. - إذن هل أحكي لك عن صدقهم؟ - هم لا يعرفون الصدق. - عن إخلاصهم؟ - هم لا يعرفون الإخلاص. - عن اضطرامهم؟ - هم لا يعرفون الاضطرام. - عن اضطرابهم؟ - هم لا يعرفون الاضطراب. - الاتحاد إذن ما بينهم. - الاتحاد ما بينهم طبعًا لا. - الاتحاد ما بينهم وبينهم ليس في هذا الباب، هذا في باب ما يفعله الوطنيون. - ارفع لي تقريرًا عن مَنْ ضد مَنْ. - وهل يحتاج هذا إلى تقرير؟ - ارفع لي تقريرًا، يا ماخور! بعد قليل، سأل شيمون: - والسلاح؟ - بالكلام، أجاب سليم. - وفيتنام جديدة؟ - بالكلام. - ورمينا في البحر؟ - هل أنت جاد؟ - أنا أمزح. - أوف! - ومضاجعتنا كما أضاجعك؟ - كما تضاجعني أم كما أضاجعك؟ - كله واحد. - بالكلام. - أنت الأفضل! - أنت الأجمل! - أنت الأروع! - أنت الأبدع! قَبَّلا بعضهما. - الجولة الثانية ليس بعد، قال شيمون. - لأن كل هذا لا يثيرك. - لا يثيرني، يا ماخور! - سأثيرك. - قل لي إذن ما يفعله الوطنيون. - بكلمة واحدة أم بكلمتين؟ - بكلمة واحدة. - كلهم قوادون. - قلتُ بكلمة واحدة. - قوادون. - اشرح. - يقولون لا للاحتلال ويعملون كل ما في وسعهم على دوامه: التجارة معكم هم، والزراعة عندكم هم، والمستوطنات عندنا هم. - أنت تثيرني أكثر مما كنت أتصور، يا ماخور! - هل تريدني أن أواصل؟ - لا، اترك الباقي للجولة الثالثة. - كيف تريدني أن أخترقك؟ - كيف، معروف كيف. - لتعوي. - أنت لا مثيل لك في الوجود، يا سليم! - لا تقطع استثارتي، خراء! - لأعوي، لأنهق، لأزلزل هذا البلد الخراء بفضلك. - بفضل عضوي. - وأي عضو، وأي عضو، آه! يا إلهي. - لو كان كل أفراد الشين بيت مثلك، لوقَّعْتُ بعضوي معهم على السلام في جولتين. - سيرفضون. - سأذيقهم الأمرّين. - هذا ما سيسعون إليه، يا ماخور الماخور! - اترك فمك يقوم باللازم. - فمي وقلبي وعقلي وكل كياني. - نعم، هكذا... نعم، نعم، هكذا، هكذا... نعم، نعم، نعم، هكذا، هكذا، هكذا... أنت كل الوطن، أنت كل الوطنيين! أيضًا، أيضًا، أيضًا! كلما تُضيفُ أضيفُ... - أضف، يا ماخور! - سيفاجئونكم عما قريب. - بماذا، يا ماخور الماخور؟ - سيلقون بالشبيبة في جحيمكم، فتنهال عليهم الأموال، جحيمكم غالٍ، غالٍ جدًا. الوطنيون الذين هم لنا أبالسة لا مثيل لهم في الكتب المقدسة، لم يكن لهم مثيل في عصر الآلهة، ولن يكون لهم مثيل في أي عصر، فليس أنتم وحدكم أسيادًا في الجحيم، أنتم لا شيء أمام وطنيينا، يستعملونكم في قمعنا، ليزدادوا بطشًا، والبطش على طريقتهم أموال كما قلتُ، ونفوذ، وأسواق حرة، تمامًا كما يجري اليوم في بيروت، الثوار هناك ليسوا أقل ذكاء، وهم يُنَسِّقون مع "الثوار" هنا، ليضربوكم على قفاكم كما يضربون البغال!
القسم السادس
كان الأطفال من حولنا يأكلون ويضحكون، ومارتا في أبهى الحلل. سمعتُ ضحكة مارتين الناعمة، فَتَنَفَّضْتُ كعصفور يستحم في الماء البارد. ضحكتُ أنا الآخر، لأنه عرسنا، ولأن مارتين تضحك، ولأن الكل يضحك. كان حسين ثملاً، منذ البداية. جاء ليقبّلني، ويقبّل مارتين، فرأيت عينيه الدامعتين. جمع رأسينا، وأخذ يغني بصوت مشحون بالأسى: كانت هناك حديقة اسمها الأرض... ببطء شديد، وهو يحرك رأسه وأصابعه تبعًا للوزن. ذبل الفرح للحظة، على وجه مارتين، حتى انتهر لحسن حسين، وسبه. نظر حسين إليه، متوترًا، وعاد إلى الغناء، بصوت عال: كانت هناك حديقة اسمها الأرض... ثم انفجر ضاحكًا، وحده، وطالَبَ بموسيقى للرقص، فأطاع جان. أخذ حسين يرقص وحده، ثم مع مارتا. رقص رونيه مع إيزابيل، وأنطونيو مع امرأة رونيه. دعوت مارتين إلى الرقص، فقالت لي إنها عطشانة. قدمت لها عصير برتقال، ورقصنا، وبين سيقاننا يلعب أولاد رونيه، وأولاد لحسن، وآخرون في ركن. كان أنطوان يجلس قرب أمه، وهو يراقبنا، ويبتسم. اقترب أنطونيو منا، وهمس متباهيًا أن إيزابيل حامل، مضيفًا أنه بَدَّلَ رأيه بخصوص الأولاد، هو من كان يريد ولدين فقط، على عكس أبيه الذي أنجب كتيبة من البنات. سيعمل اليوم كأبيه، لكنه سيتفوق عليه في نقطة، سينجب كتيبة من الصبيان! أطلق ضحكة راعدة، ضحكت مارتين كذلك، وطلبت أن أسقيها. من جديد، قدمت لها عصير فواكه. سأل أنطونيو عن مشاريعنا، الأطفال إضمارًا. أجابت مارتين أنها تحب الأطفال كثيرًا، غير أن جوابها لم يخلب لُبَّه. قلت إنني ومارتين نريد أطفالاً كثيرين، أطفالاً ستربيهم أمي. سيكون البلد قد تحرر، تابع أنطونيو القول. - نعم، لنا بلد، و... سمعنا فجأة امرأة رونيه تصرخ منضغطة بين ذراعي أنطونيو: - على مهلك! اعتذر لها، بينا هي تقهقه، قال إنه ظنها إيزابيل. عندما سأل: - كم ولدًا نريد أن نعمل؟ أعادت مارتين ما قلته: - أولادًا كثيرين. نرفز لأنه يريد معرفة العدد، أجبت: - على أي حال، أكثر من أبيك. بدت على وجهه أمارات السعادة، فسأل من جديد: - بنات؟ - بنات وصبيان. أطربه الجواب: - هذا رجل شجاع! ثم، كأنه تذكر فجأة: - بشرط أن يكونوا سعداء. - سيكونون سعداء. أشار أنطونيو إلى أندريه، الذي يراقص أمه، قائلاً إنه يتقدم. - في الرقص؟ سألته. - لا، في الرِّصاصة، والمعلم راضٍ عنه تمامًا. سمع أندريه، وابتسم. دخلت أوديت بصخب مع ابني عم لحسن وأخيه، صبوا لأنفسهم الويسكي والريكار. جاء لحسن ليرقص مع مارتين، وجان مع امرأة رونيه. استعاد أنطونيو امرأته، وأعانت زوجة لحسن مارتا في تقديم الأطباق وغسل الجلي. تبادلت الاثنتان الحديث مع الصغار والكبار، وأنا أفكر العدل أساس العُمْران. نصحني جان بالانتباه إلى زوجتي، وإلا اختطفها مني لص لعين. أشار بإصبعه إلى لحسن، ولحسن جاد الهيئة. جلستُ قرب أبي لحسن، وهو يبدو سعيدًا. كان يأكل بأصابعه الرز السنغالي الأحمر حمرة البندورة المطهو بها، وقطعًا كبيرة من لحم الغنم. - ها هو الكُسْكُسي السنغالي، آه، ما أطيبه! من الطرف الآخر، صاحت بي امرأة لحسن قائلة إنها أعدت لنا طبقًا كبيرًا من الكُسْكُسي للعشاء، فقال الأب إنه يفضل الكُسْكُسي السنغالي، وهو يتكلم بالطبع عن طبق مارتا، ليعاند كُنَّته. كان يغرق في طبقه، فلم يرها، وهي تُخرج لسانها استهزاءً به. سألني بعد ذلك إن كانت عندي أخبار مرزوق، الذي ذهب ليقاتل إلى جانب أخي عبد السلام، فأجبت سلبًا. بدا قلقًا، في رأيه الهدوء لا يعني أن الأمور تسير على ما يرام. هذا ما تقوله تجربته، على المناضلين أن يكونوا يقظين. بدا حائرًا، لكن ملامحه انبسطت على فكرة بندقية ابن أخيه. - هذا هو الرجل! ألقى فخورًا. رجاني بحركة ساخرة النظر إلى ابنه الصغير وابني أخيه الآخريْن: الأول يرقص مع أوديت، والثاني يحتسي كأسه، وابنه يدب على يديه وقدميه مع الأطفال الذين يضجون على ظهره. أراد حسين الرقص مع أم أندريه، فرفضت، لكنه أصر. رقصت شرط ألا يزيد ذلك عن بضع ثوان، فحدثها عن الوضع في بيروت دون أن ينجح في إفهامها. حكى لها عن أحد أصدقائه، قال إنهم ذبحوه على الهوية. - مسلم أم مسيحي، العقيدة نفسها في النهاية! نبرت العجوز. لماذا، يا إلهي؟! - اسألي السياسة التي تختبئ خلف ذلك، ألقى حسين بكلمات مفرومة، تحت تأثير الكحول. ثم أخذ مارتا من خاصرتها، وهي تتمايل ضاحكة، ووجهها أملس كصباح أفريقي بعد ليل طويل. لاحظتُ أن عصام يجلس صامتًا بلحيته النابتة، وأن عادل يدندن مع الموسيقى قربه، الكأس بيده، كأنه مقطوع عن العالم. - لماذا لم تحلق ذقنك؟ قلت لعصام. - نسيت أن أشتري شفرة، يا غائط! - إذا أردت أن تحلق، أعطيتك شفرة، فتحلق هنا. - لا، لا أريد أن أحلق، يا مومس! - ألا تشرب؟ أراني كأسه الممتلئة على الطاولة. - لماذا لا ترقص؟ - لا رغبة لي، وكل ماخور مومس غائط المغاربة الذين يرقصون! نظرتُ إلى أوديت، وهي ترقص مع حميد، ابن عم لحسن الذي تضارب عصام معه مرة من أجلها، وجسداهما يلتصقان. آه! كيف تتغير الأمور! لاحظت أن أوديت لم تترك حميد لحظة واحدة منذ وصولها. كانا يداومان على الالتصاق ببعضهما حتى ولو توقفت الموسيقى، كما لو كانا وحدهما في العالم. لم أشأ الدخول مع عصام في صميم الموضوع في الحال، غير أني قررت أن أفعل ذلك في المناسبة القادمة. أشعلت له سيجارة، فطلب مني عادل واحدة، وسأل أين ألبير. نظرتُ إلى ساعتي، ولاحظتُ أنه تأخر. كان عليه أن يكون هنا منذ ساعة، لا شك أن هذا بسبب السير. لم يهتم عادل بآخر جملتي، انفجر ضاحكًا على حسين، وحسين يفقد توازنه، ويقع على الأرض عندما تركته مارتا. ثم قال: - توقفت الحرب في بيروت، فأوقفت بالتالي كتابة كتابي عن هذه الحرب القذرة الحقيرة! - تحرير، حرب تحرير، كنت تقول. - كنت أقول. الآن، حسبما أرى، هي حرب قذرة حقيرة! - إذن أثبت ذلك، انْهِ كتابك. - توقفت الحرب، يا صديقي! - أتمنى ألا تبدأ ثانية. فصرخ بي: - هذا يعني ألا أُكمل كتابي! تدخل جان: - إذا كنت تلتصق بهذه النقطة من الأحداث، فهناك مواضيع أخرى بالقدر نفسه الذي للحرب في لبنان. - مواضيع أخرى، نعم، لكن لا شيء يعنيك. - لماذا؟ - لأنك تخون طبقتك. تفاجأ جان: - أنا، أخون طبقتي! ووجّه الكلام إليّ: - هل تسمع ما يقول؟ أخون طبقتي! - لأن لك طموحات غريبة. - أنا، لي طموحات غريبة! ووجّه الكلام إليّ: - هل تسمع ما يقول؟ لي طموحات غريبة! قست نبرة عادل: - تريد أن تربح في سباق الخيل، أن تشتري سيارة لوكس، أن يكون لك كراجك لتعمل معلمًا. قرص جان شفتيه، وسأل: - وماذا في هذا من سوء؟ - لا شيء، ما عدا أنك تخون طبقتك. تركه يتكلم، وذهب ليجلس قرب عصام. سأله، لا لشيء إلا ليناوئ عادل: - هل لم يزل صديقك يريد بيع سيارته؟ - أي صديق، يا مومس؟! - صديقك، صاحب المرسيدس السوداء. - أولاً، المرسيدس السوداء لم تكن له، وأنت تعرف هذا جيدًا. ثانيًا، اطمئن، ذهب صديقي إلى السعودية. - ماذا؟! تفاجأتُ، إلى السعودية؟ - عرضوا عليه عملاً من ذهب، فأخذ أول طائرة. - وهو الذي كان يدّعي أن... قاطعني عادل: - نجح النفط في لعبته! ماذا يمكننا أن نفعل مع أناس يعبدون النقود وحياة الرخاء! أما أنا، حتى ولو دفعوا لي الملايين، فلن أتخلى أبدًا عن مواقفي ولا عن مبادئي. سمعتُ عصام يقول بلهجة واهنة: - لكن أيُّ حظٍ مومسٍ هو! تذكر عادل فجأة، أخذ كتابًا ملفوفًا بورق الهدايا. - نسيت أن أقدم لكما هديتي، فاعذراني! قال لنا، لي ولمارتين. فتحت مارتين المحتوى بأصابعها الخفيفة بينما عادل يضيف: - الإيديولوجية الألمانية، لماركس وإنجلز. شكرته، مارتين كذلك. استطرد عادل: - ابتداء من هذا الكتاب يصبح ماركس ماركسيًا! فكرت في إهدائكما رأس المال، لكن قراءته ستكون عسيرة على سالم. من اللازم أولاً قراءة هذا، وسنرى بعد ذلك. إذا أردتما تفسيرًا ما وجدتماني تحت أمركما، حتى أنه يمكننا عمل لقاء أسبوعي لنناقش معًا بعض الفصول الصعبة. - بعض الفصول الصعبة؟ طلبت مارتين، ليس بلا تهكم. - إنه خاصة سالم الذي يشغل بالي أكثر. - أُشغل بالك أكثر! قلت، ليس بلا استغراب. - أنت عنصر جيد لعامل، وأعتبر تثقيفك كواجب مفروض عليّ شخصيًا. - شكرًا، يا أستاذي، ألقيتُ، ليس بلا امتعاض. - سنلتقي... - يخريني هذا المدعي، همستُ في أذن مارتين. - ...مرة أو مرتين في الأسبوع... - أنا أيضًا، همست مارتين في أذني. - ...إن أردتما، أنا في خدمتكما، و... - هل أحطم له أنفه، في رأيك؟ - ...أنا جاهز لعونكما. - إياك أن تفعل هذا، يا سالم... - أنتما لا تسمعانني. - ...خاصة إياك أن تفعل هذا يوم زفافنا. - أنتما لم تسمعاني. - بلى، بلى. - إذن ماذا تقولان؟ - سنرى، عملت مارتين بنبرة متسامحة. دخل ألبير بصخب، برفقته مادلين ووردة وفرانسواز، كلهم يحملون الشمبانيا والبالونات وشرائط الزخرفة. قَبَّلونا، وأزالوا التغضن عن وجوهنا. تقدم عادل ليحتفي بألبير، وإذا بجورج الأشقر والمارتينيكي وبيير وشارل وأبراهام وعمال آخرين من مصنع الأحاسيس يدخلون هم أيضًا مع قناني الشمبانيا والنبيذ وعلب الحلوى. كنا قد نقلنا سريري وسرير مارتا إلى الطابق العلوي عند رونيه، الذي استأجر منذ مدة قصيرة سكنى البرتغالي بعد أن تم ترميمها، فامتد الفضاء إلى الفضاء في بيتنا. لم يعد المارتينيكي ووردة يتكلمان مع بعضهما، فساعدَتْ وردة وفرانسواز جان وعصام على تعليق شرائط الزخرفة والبالونات. كانوا يلهون، ويضحكون، وكانت الموسيقى تصدح، وتتصادى. لم يعد عصام يترك فرانسواز، وكذلك جان لم يعد يترك وردة لحظة واحدة، خاصة بعد أن عرف أنها تونسية. في الواقع، عندما كان جان طفلاً، كان قد زار تونس مع أمه. ومنذ ذلك الوقت، وهو يحلم بتونسيةٍ أسمرٌ أديمُها، وعينا كلوديا كاردينال عيناها. أخيرًا، لم أكتشف إلا الآن علاقات الصداقة بين بيير ومادلين، وأحدهما يسقط بين ذراعي الآخر. كان معظم الأصدقاء هنا، لكننا ننتظر دومًا أهل مارتين. طبعًا لم أعتمد على الأسرة صاحبة التلفزيون، حتى أن لدي انطباعًا بأنها تكرهنا بسبب الجهاز. لست أدري لماذا هذا الإحساس، وأعتبر في الوقت الحاضر هذا التلفزيون كخصم. لكن أية حماقة التفكير في هذا، وأنا أسبح، في هذه اللحظة، في السعادة مع أصدقائي. شربنا حتى لم نعد ظمأى، وضحكنا حتى لم نعد نستطيع الوقوف على أقدامنا. أحببنا مارتين أكثر من أي وقت آخر، أحببنا عينيها الخضراوين بالأمل، شعرها الطويل الكستنائي، عنقها الأغيد الذي يذكّر بالزنابق العالية على منحدرات الجبال. رأيت، عند ذلك، في صميم فرحي، كيف تنمو هذه الزنابق على هضاب بيروت، وكيف تتفتح بنادق. كم سيكون أخي سعيدًا بنقل خبر زفافي إلى أمي! تخيلتها، وهي تبتسم، بهدوء، مثل كل مرة تسمع فيها خبرًا مفرحًا: "أن أربي أولاد ولدي، سَتُفَكِّر، أغلى أمنية عندي!" رأيتُ عينيها المبتلتين، وهي تنظر نحو الشمس.
الفصل السابع
حزرت مارتين شرودي، فأخذتني بين ذراعيها، وقبّلتني. سألتني إن كنت أحبها. أجبتها أنني أحبها كثيرًا، وذهبنا سويًا إلى مارتا. قبّلناها قائلين إنها أمنا، وإننا نحبها كثيرًا. أخذت مارتا تبكي كما لو أنها تذكرت فجأة ابنها، زوجها، بلدها. ثم، استعادت ابتسامتها، ومسحت مارتين دمعها. سألت مارتا لماذا أهل مارتين لم يحضروا بعد، فأجابت مارتين أنهم سيأتون حتمًا، يأتون من بوردو. فجأة، لم أجد مارتين، اختطفوها ليرقصوا معها. رأيت شارل يهمس في أذن أبي لحسن، وهذا الأخير يهمس في أذن شارل. بدا عليهما التفاهم. كان شارل يأكل طبق مارتا بأصابعه، وأبو لحسن يشرب عصير فواكه، ويدخن سيجارة. إنها المرة الأولى التي أراه فيها يدخن. مع ذلك، أشار عادل إليهما بإصبعه، وقال في أذن جان: ها هم قدماء المقاتلين، بطل مقاومة، قفاي! وشيخ خَرِف يدعي أنه هزم الأسطول البحري الثاني في العالم! بدا جان مصدومًا. "القذر الوقح!" قال لنفسه. اعتذر عادل عما بدر منه منذ قليل، لأن كل الحاضرين هنا يخونون طبقتهم، عملة رائجة عند هذه الطبقة العمالية المتبرجزة! أراد جان أن يبصق على وجهه، إلا أنه همهم ضاغطًا أسنانه: "مثقف منافق قذر!"، وأعطاه ظهره. رأينا فجأة ألبير، وهو يقف على كرسي، ويطلب منا السكوت لحظة، لأن لديه خبرًا سعيدًا بهذه المناسبة السعيدة. احتاجه إسكاتنا إلى جهد كبير، وانتظرنا جميعًا الخبر السعيد، حتى أن مارتا والأطفال أصغوا بانتباه. كان الخبر سعيدًا حقًا: لقد انخرط جورج الأشقر وشارل والمارتينيكي في الحزب الشيوعي. فتحنا قناني الشمبانيا، في وسط التصفيق والصياح، وشربنا على صحة مناضلي الحب الجدد، والإغراء، والجمال. أتاني الأشقر، وقال لي، بهيئة مسرورة: - سيكون دورك المرة القادمة. - هذا صحيح. - لماذا تتردد، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم؟ - أنا لا أتردد. - هل تخاف الالتزام؟ - لا. - إذن لماذا؟ - أريد أولاً أن أنفخ قليلاً. سحبني من ذراعي، وجعلني أقفز على إيقاع الموسيقى. نفختُ، منفعلاً، وأنا أحاول التحكم بأنفاسي. بعد قليل، سمعنا الأطفال يصيحون أن أهل مارتين وصلوا. ارتمت مارتين في أحضان أبيها وأمها، ثم في أحضان أختها الكبيرة وزوجها. قبّلتُ أمها وأختها، بدوري، وتقبلت التهاني. قدمتُ لهم مارتا كأمي، فقبّلوها، وهنأوها كذلك. سألتْ مارتين أين أختها الصغيرة نادين، أجابتها أمها أنها لم تستطع المجيء، عملها في المستشفى يأخذ كل وقتها. - حتى يوم سبت؟ - حتى يوم سبت! لقد كتبت لكما هذه الرسالة. أعطتنا إياها لنقرأها، بينما اعتنى باقي الأصدقاء بالعائلة. غدت الشقة الآن ضيقة جدًا، مما اضطر أوديت الانفصال عن حميد. اقترح أبو لحسن فكرة عبقرية، وزايد شارل على الفكرة بفكرة، فصفق الكل، وها نحن ننتقل بكراسينا وكؤوسنا إلى الرَّدْب، الذي يفوق اتساعًا شقتنا، ومع الحجرات الجانبية اتساعًا وعرضًا. وقبل كل شيء، كان الطقس معنا، ربيعيًا ورائعًا. صار البعض في الخارج، عندما أوقفتُهم لأقول إننا سنزعج الجيران. - أي جيران؟ نحن كلنا هنا! والرصاص يثقل جناحيه، أجاب حسين: - الحقيقة، أنتم تزعجونني كثيرًا، أنتم تزعجونني أكثر من كثير! قهقه البعض، فأفهمتهم أن هناك الأسرة صاحبة التلفزيون، الطبيب البيطري، ثم مدام ريمون التي لم تأت بعد، التي من المحتمل أن لديها مانعًا. قال سعيد، ابن العم الآخر وصديق العجوز البرجوازية: - يقفل الطبيب البيطري بعد ظهر السبت. - نطلب من الأسرة صاحبة ماذا؟ سأل بيير. أجابت مادلين باسمة: - التلفزيون. ضحك البعض، وعاد بيير إلى القول بنصف ضحكة: - سنطلب كذلك الإذن من إدارة التلفزيون. صار عصام وفرانسواز تحت. - سنمر كذلك على مدام ريمون لنسأل عن أخبارها، رميا. ثملاً كما لم يثمل من قبل، رد حسين: - أنتم مؤدبون جدًا، اليوم، يا مومس الغا...ئط! - ماذا؟ - أقول أنتم مؤدبون جدًا، اليوم! هكذا، فجأة، أنتم مؤدبون جدًا، يا مومس الغا...ئط! تظنون أن أصواتكم لا تزعج الحي! حتى ولو كنتم في المريخ، أزعجتم بأصواتكم كل... الحي! ضحكنا. - يريدون أن يطلبوا موافقة الأسرة... صاحبة الغائط الأسود لل... جميع! ضحك باستهزاء و، أمام استغراب الجميع، قسا صوته، على الأقل كان هذا انطباعنا: - تظنون أن الأسرة... (تجشأ) صاحبة الجهاز لم تزل في بيتها، بانتظار طلب... إذنكم؟ تجدونها راحت منذ مدة طويلة إلى دار... التلفزيون! بالفعل، عاد عصام وفرانسواز بصحبة مدام ريمون التي أهدتنا لوحة زيتية، ولا أحد يجيب عند الأسرة صاحبة الجهاز. قهقه حسين كمخمور، لأنه حزر. جعلت قهقهاته وصرخاته الكل يقهقه ويضحك. أخيرًا، ذهبنا لنقيم في الرَّدْب: فرانسواز، عصام، وردة، جان، وآخرون، نزعوا الأشرطة الملونة والبالونات، لتعليقها على الجدران. حملوا كذلك الورود، الأطباق، الموسيقى. كل شيء! وجدنا أنفسنا في قلب الرَّدْب، ردبنا. كنا سعيدين أن نكون هناك، تحت السماء المتشحة بالغروب. لم يكن الجو ساخنًا كما كان ظهرًا، لكنه دافئ، منعش. نَصَبَ بيير والمارتينيكي وأنطونيو خيوط الكهرباء، وبييرو هذا، وبييرو ذاك. عندما انتهوا، انتهى النهار، وبدأ الليل. غمزت الأضواء في ردبنا النجوم، فأجابت النجوم. النجوم في الرَّدْب، والأضواء في السماء، تنثرها أيادي بيير والمارتينيكي وأنطوان. أضاءت ابتسامات مارتين شفاهنا، كانت تبتسم لنا دائمًا، وتبتسم للحياة: كانت تعتقد أن السعادة ممكنة، كالحب والأمل، وفكرت، كألبير، كبيير، كجورج الأشقر، كالمارتينيكي، كشارل، الذي يبدو في عمره كأبينا أو كجدنا، أن السعادة ممكنة، كالحب والأمل. لهذا السبب كانت تبتسم دائمًا للحياة، كانت تبتسم دائمًا للمستقبل. كانت تبتسم دائمًا وأبدًا، وكانت الشمس تشرق في الليل.
* * *
ارتحنا خلال بعض اللحظات الوادعة، فقال أبراهام لنا إن قسنطينة بانتظارنا لقضاء شهر عسلنا. طلب أبو مارتين من نسيبه الذهاب لإحضار هديتنا، في السيارة، فعاد مع كرتون كبير فتحه الوالدان، لنجد فيه طناجر من كل الأحجام، ومقالي، وكؤوسًا، وطقمًا من البورسلين. قبّلت مارتين كل فرد من أفراد أسرتها شاكرة وعند ذاك، التحق أبوها بشارل وأبي لحسن، فسألاه إن كان يعمل. - كنت أعمل في مسبكة، قال، لكني الآن على التقاعد. أجاب شارل أنه هو أيضًا في سن التقاعد، بَدَّل المهنة عدة مرات في حياته، وهو يفضل العمل. أخبرهما أبو لحسن أنه فقد حق التقاعد بعد الاستقلال على الرغم من كونه "زواوي" من فيلق الدار البيضاء، ساهم في الدفاع عن فرنسا كدفاعه عن المغرب، وهو لبسالته قلده ديجول ميدالية الشرف والفخار التي ها هي: عرى كتفه، وأراهما جرحه. - لقد اندمل تمامًا، شكرًا لله! قال. فرنسا الغالية، فرنسا المهجة! لم تمهلني في حبها، فأحببتها شابًا، وأحببتها شيخًا، وكان عليّ أن أبذل الغالي والرخيص من أجلها، ولولانا نحن "الزواوية"، لما كانت فرنسا. قاتلنا لتكون، وأن نكون لم يكن شيئًا مهمًا. جاء المارتينيكي، وجاء أبراهام، وجاء بيير، وجاءت مادلين، وجاءت فرانسواز، وجاءت وردة، أحاطوا به، وكذلك عصام، لأنه سمع قصة أخرى، وهذه أروعها. - لكنك تفعل كل ما في وسعك لتبقى، هذا هو سر كل حب عظيم. حبي العظيم كان فرنسا، وفرنسا كانت جانين، امرأة لا وكل النساء! كنت في إجازة، فجاءتني، وسألتني عن زي الزواوي الغريب الذي أرتديه. قلت لها ما هو، ومن أنا، فوقعت في غرامي. كان ذلك من سحر الحرب عليها، فللحرب سحرها وهولها، سحرها من هولها، وهولها من سحرها. عزمنا على الزواج قبل انتهاء الحرب، كانت خائفة من أن تأخذني الحرب منها، وكانت تريد مني طفلاً يذكرها بي، ولم تكن تعلم أن الحرب قد قررت كل شيء. في إحدى إجازاتي، ذهبت لأراها، كما هي عادتي، فأخبرني الجيران أنها ماتت في غارة جوية. تأثرنا كلنا، فطلبت فرانسواز من المتيم القديم، الالتقاء بأعضاء خليتها، فعلمتُ أنها عضو في أحد أحزاب أهواء الروح، الحزب الاشتراكي. إضافة إلى ذلك، علمتُ أنها ابنة لمحامٍ كبير، حاليًا هو في عداد قياديي هذا الحزب. كان ألبير يحب فرانسواز، قال لي إنه حاول معها عدة مرات، لكن بلا نجاح. كان يريدها رغم كل شيء، وكان مقتنعًا أنه الوحيد الذي بإمكانه إنقاذها. إنقاذها ممن، مم، لم يقل لي. مع ذلك، لم يبدُ غيورًا من عصام. أما المارتينيكي، فقد حاول عبثًا إخفاء خيبة حبه بالشرب. - وردة عذراء، يا رجل، قال لي. رفضت أن تضاجع معي رفضًا قاطعًا، وركلتني في قفاي، يا ماخور الماخور! - كنت أعتقد أن لك معشوقة تساوي عشر مومسات! - لا تذكرني بكذباتي الصغيرة... - كذباتك الصغيرة! - ...وبتعاساتي الصغيرة، من فضلك، يوم عرسك، يا لمومس عيشة الغائط! عدلت عن سؤال عصام حول خلافه مع أوديت، الآن وقد استعاض عنها بفرانسواز. كان هذا إحساسي. اختفت أوديت وحميد، وعلق أخو لحسن، كمال، أنهما اختفيا، دون شك، في إحدى الحجرات. ما لبث كمال وزوجة لحسن أن بدءا يغنيان أغنية عربية، أبراهام ينقر على الطبلة، ووردة تهز ردفيها. شكلنا حلقة حولهم، ونحن نصفق. بدوره، دخل الحلقة سعيد، ابن العم الثاني. أخذ يهز ردفيه وبطنه في مباراة حامية الوطيس مع وردة، فأوقف كمال الغناء، ودخل في الحلقة تاركًا امرأة لحسن تواصل وحدها، إلا أن أبناءها ما لبثوا أن راحوا يغنون معها. كان كل الأطفال هنا، حتى أنطوان شارك، بفضول وحبور. رأينا أبا لحسن الشيخ ينهض، بغيرة وحمية، ويدخل في الحلقة. أخذ يهتز على إيقاع الطبلة، كشاب في العشرين. كان من الخفة والرشاقة إلى درجة جعلتنا نشعر أنه يركض داخل جسده. تحمس لحسن على مرأى أبيه، فأخذ يصفق له، وهو يقفز، ويصرخ. تناول يد أبيه، وجعل أباه يدور حول أبيه، والشيخ يهتز كغصن تفاح يانع بين يدي ولد عابث. سكت المغنون مبهورين، ونحن نصرخ بدورنا، ونقفز، ونصفق، مسحورين ومفتتنين على رؤية الشيخ الذي بقي وحده في الحلقة. كان يهتز إلى حد لم نعد نميز فيه لا شكلاً ولا لونًا. فجأة، توقف، ومعه كل حركة. أمسكناه من ذراعه، وأجسادنا تقطر نشوة. أجلسناه، وقدمنا له عصير فواكه، فرفضه. بعد عدة لحظات، أخذ رونيه يعزف على الجيتار، فرقص البعض، وأحاط به البعض. رأيت بين الراقصين أبا مارتين وأمها، ابنة لحسن وابن رونيه. أمسكت مارتين يدي، فأحطتُ كتفيها بذراعي. قلت لها إني أحبها، فقبّلتني، وقالت لي إنها تحبني أيضًا. بقينا هكذا، مغتبطين منتشين. وَصَلَنا صوت رونيه، وَصَلَنا ثريًا حريريًا. جاء أناس لا نعرفهم يشاركوننا فرحنا. شربوا، وضحكوا، وغنوا. بعد كل هذا، جعنا. كانت امرأة لحسن قد أعدت طبقها، فأتت بتل من الكُسْكُسي في صينية كبيرة من النحاس، وبجاطات من الخشب مليئة بلحم الخروف والحساء. أكلنا وشربنا، أكلنا وشربنا، أكلنا وشربنا الكأس حتى الثمالة. ثم جاء دور الكعكة التي صنعها لحسن خصيصًا لنا، وأنا ومارتين سعيدان، سعيدان جدًا. أخذتُها في أحضاني، ورقصنا. عاد رونيه يعزف على الجيتار، وبعد عدة لحظات، همست مارتين في أذني: - لماذا لا نفتح الرَّدْب؟ لم أفهم في البداية، فأشارت إلى الجدار الذي يغلق الرَّدْب سادًا إياه من وسطه. - سنفتحه يومًا، قلت لها. شدتني إليها، مقتنعة من أننا سنفتحه يومًا. لم يزل رونيه يعزف... وراح يغني.
الفصل الثامن
في عرسنا، لاحظنا أن قصة حب ارتسمت خطوطها الأولى بين عصام وفرانسواز، وفكرنا أنها ستبرئ عصام من أوديت، الهائمة بحميد. أسعدنا أن نرى عصام قد وجد أخرى تخفف عليه، حتى أننا فكرنا أن فرانسواز ستستطيع تبديله لكن، قبل أن تحاول، تركته على حاله، لتخرج مع جان، بعد فشل جان مع وردة، المعتصمة بعذريتها. باختصار، بينما كانت فرانسواز تتردد على عصام، عمقت علاقاتها بجان، فكاد عصام يصعق. تعارك مع جان، وسال الدم، وفرانسواز تشاهد النزال بلا اعتراض، غير أن الحال أدت بها إلى الإجهاش. نعتها عصام بعاهرة، ابنة عاهرة! أخذ أغراضه، وذهب ليسكن مع حسين. في ذلك المساء، شرب عصام حتى تختخ. جأر مع حسين: كانت هناك حديقة اسمها الأرض... سمعنا عصام يسب حسين، وحسين يسب عصام. ثم، خرج عصام، طرق الباب على جان، وهدد بقتله. تدخلنا لتهدئته، وبقيتُ قربه بعدما نام حسين. لم يتمالك عصام نفسه عن البكاء أمامي، واتهم العاهرة بكونها أصل كل شيء! فكرت أولاً أنه يتكلم عن فرانسواز، لكنه أفهمني أن المعنية أوديت. فرانسواز لم تفعل ما يسيء إليه، إن لم تحبه، أوديت كانت تحبه، وهي لو ادعت العكس، هو كان يحبها على أي حال، كان مجنونًا بها. كان يحبها على طريقته، لكنه كان يحبها مع ذلك. لا يمكنه أن يتخيلها عارية بين ذراعي واحد آخر، أيًا كان، حميد أو واحد آخر و، أقوى الأسباب، إن كان حميد. لم يكن بإمكانه أن يتخيل لحظة واحدة أن هذا الرجل الذي يأخذ أوديت بين ذراعيه هو حميد على التحديد! حكى لي أنها تنام معه خفية، منذ مدة، من المحتمل منذ شجارهما. كانت تخفي عنه ذلك خوفًا من أن يقتلها، حتى اليوم الذي اكتشف فيه كل شيء بالصدفة، اليوم الذي ذهب فيه عندها، بعد منتصف الليل. في البداية، لم تشأ أن تفتح له الباب، ثم فتحت له الباب، ووقف على الحقيقة. كان عليه أن يحطم أنفها، غير أنه لم يفعل شيئًا. بقي مشلولاً، حتى أنه لم يبصق على وجهها، ولم يتبادل مع حميد كلمة واحدة. عاد إلى الرَّدْب، وأخذ يدخن، ويشرب، حتى أنهك كل حواسه. حكى لي أنه فوق كل هذا لم يجد حتى اليوم العمل الذي يرغب فيه، وحتى العمل الذي لا يرغب فيه، ولو كان معه من النقود أقلها لاشترى تذكرة طائرة، ولسافر. لكن أين؟ ليس له أين يذهب. القدس خائنة! لم يعد له بيت. حتى ولو قرر العودة تحت الاحتلال، فلن يجد من النقود ما فيه الكفاية لشراء غائط تذكرة مومس الطائرة هذه، هو المَدين حتى العنق. ذهب عصام رأسًا عند أوديت، طرق الباب، فلم تفتح، ولم يغادر العمارة إلا بعد خروج بعض الجيران. تسكع طويلاً من شارع إلى شارع، فاقدًا صبره، لا يعي كيف، وهو يتنقل من مكان إلى مكان، كدمية موجهة مسافيًا. وصل إلى قنطرة، فأراد أن يستريح. نزل إلى حافة السين، وتأمل النهر طويلاً، بأمواجه، وعبوره الأبدي. غفا ليصحو على صوت رجال الشرطة، وهم يضربونه بأقدامهم، قبل أن يأخذوه إلى المركز، حيث تواصل الضرب، حتى غاب عن الوعي. عندما عاد عصام إلى الرَّدْب شهرًا فيما بعد، كانت جروحه على الجبين والرأس لم تزل ظاهرة. كان ينظر إلينا، وشفته السفلى الملتوية تترك اللعاب يسيل منها على ذقنه النابتة، فصدره، فالأرض. كان يحاول الابتسام، لكن أبدًا الكلام، رأسه يهتز ثقيلاً، من كل الجهات، كبالون ملآن بالماء. كان يحاول الابتسام على الدوام، بينما لعابه يسيل على ذقنه، فصدره، فالأرض... وبقيت رسالته بلا طابع.
* * *
وجد حميد عمل خراط في مصنع لتصفيد الحديد، كانت هذه مهنته في المغرب، لكن شروط العمل هناك أكثر صعوبة، بسبب أدوات من عصر آخر يعملون عليها، ولكثرة الأشغال التي يقوم بها العامل. أعطاني ألبير تفسيرًا آخر لهذه الصعوبة، هناك، فالعرض لا يتساوى أبدًا مع الطلب، لأن الحكومة حددت الاستهلاك بشكل تعسفي، خاصة ما يتعلق بالسلع ذات الضرورة الأولية. عندما بدأ حميد العمل، كانت هناك أزمة في المصنع. الآن تفاقمت، وامتدت على كل المستويات. بدأت الأزمة عندما أراد تروست أمريكي شراء المصنع، وعمل ذوبان بينه وبين باقي شركاته، عن طريق ابتلاع مباشر، واحتكار السوق، فكل عملية ترمي إلى امتلاك الأسواق. وإن لم تكن الحركة العمالية ودعم النقابات، في كل مكان في فرنسا، لتمت تصفية المصنع منذ زمن طويل. حاصرت الإدارة المصنع بطريقة أخرى لخنق كل نشاط بالتدريج: بشكل أساسي بالإبقاء على أدوات العمل القديمة، وبتأخير إصلاح الماكينات المعطلة، ليبطئ الإنتاج بنفسه، ويموت. تعطلت المخرطة التي يعمل عليها حميد منذ وقت طويل، ولم تصلحها الإدارة، فاضطر إلى العمل في ورشة أخرى، إنتاجها مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالورشة السابقة، مما أدى إلى انقطاع التوازن بين الورشتين، وفي كل إنتاج المصنع، بشكل عام. حاول العمال إصلاح الماكينة بلا جدوى، اتصلوا بفنيين، لكن حراس الإدارة منعوا دخولهم. تواصل تطور الأمور على تلك الحال، دون التوصل إلى حل، حتى اليوم الذي قررت فيه الإدارة، أمام دهشة الجميع، تصليح الآلة. جاءت بأمهر الفنيين، كما قالت، من بينهم أمريكيون. بعد يومين، عملت الماكينة، وعاد المصنع إلى نشاطه، غير أن خطر نقص المواد الخام لم يزل قائمًا. ما حصل لم يكن أبدًا في الحسبان، انحرفت شفرة الآلة فجأة، وانغرست في ذراع حميد، لتنزعها، وتقذفها أرضًا. صرخ الدم من فوهات الشرايين، ولو لم يسارعوا لنجدته، لسقط على الشفرة، ولكان تقطيعه إربًا. كانت ذراعه المنتزعة على الأرض هامدة، بعد أن سرى البرق فيها، فكأنها ذراع من عجين، معجونة بالدم والألم. لم تفارقه أوديت لحظة واحدة في المستشفى، حتى في البيت بقيت قربه. بدلت له الضماد بنفسها، وهي تلف بقايا ذراعه، وغمرته بكل عواطفها. كانت تخرج أحيانًا لتبكي في الرَّدْب، فلا يراها أحد سوى عصام، بوجهه المشوه، وابتسامته البائسة.
* * *
أما كمال، فلم يطأ بقدمه أرض حينا أبدًا منذ اللحظة التي صار فيها نجمًا من نجوم الشوبيز! اكتشفوا أن له صوتًا جميلاً، واقترحوا عليه الغناء. أخذ يغني أغنيات مبتكرة، على حد زعم شركة الأسطوانات، خليط من الدارجة المغربية والفرنسية، خليط كذلك اللحن "شرقي-غربي". كانت أغانيه موجهة في البداية إلى المهاجرين من عمال شمال أفريقيا، إلا أنها تجاوزت أهدافهم، وأخذت بألباب الجمهور الفرنسي! إحدى أغانيه تقول:
عليش تشقى آه مون آمور في القلب حرقه آمور آمور آمور
بوركوا تشقى بوركوا الحرقه بركه ميل فرقه آمور آمور آمور
أَرْوَحْ لعندي وانت شومير شومير خير لي من مليونير ابق قربي وانا قربك بركه ميل فرقه آمور آمور آمور
أغنية أخرى تقول:
في الميزير انت حبيبي في الميزير
في الميزير انت قليبي في الميزير
في الميزير حبي التريزور ديالك في الميزير
في الميزير توجور عريانه في خيالك في الميزير بيش تخلص ميل ميزير
لم يكن المذيع يقدم أغانيه إلا بعد أن يسبغ عليه عبارات الإطراء والمديح، غدا نجمًا لامعًا! حتى أن زوج لحسن أوجبت جهاز تلفزيون لتراه، فرفض لحسن رفضًا قاطعًا، تحت ذريعة أنه لا يعرف أخًا له باسم كمال. سكتت الزوجة على مضض، ولم تجرؤ على الذهاب عند الأسرة صاحبة التلفزيون. أخذ الشيخ يقارن بين شباب اليوم وشباب الأمس، شباب الرقص وشباب الثورة! بدا الشيخ حزينًا لأنه كان يعلق على كمال آمالاً كبيرة منها أن يبني دارًا في الرباط يسكنون فيها جميعًا.
* * *
عجبنا للتقارب المفاجئ بين الطبيب البيطري وجان وفرانسواز، كنا نجهل مَنْ كان في البدء، الطبيب البيطري، جان، أم فرانسواز؟ كانوا يلتقون كل يوم تقريبًا، ثلاثتهم معًا أو اثنان اثنان. ادعت مدام ريمون أن هناك حكاية ماجنة بين فرانسواز والطبيب البيطري، حب سري ربما، يتحول إلى فجور وفِسق، في علب الليل والصالونات. كان جان يعرف كل هذا، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا، لأن الطبيب البيطري هو الأقوى. يكفي أن نعلم أن معظم زبوناته زوجات وأمهات وحتى جدات لكبار موظفي الدولة، ولم تتردد مدام ريمون عن القول بأنه هو نفسه الدولة! لفت انتباهنا ما أن تلتقي فرانسواز الطبيب البيطري حتى يمتلئ الرَّدْب بعواء الكلاب التي تقف في الصف أو بالمواء العصبي أو بأصوات حيوانات لا تمييز بينها. ويحصل الشيء نفسه، عندما يلتقي جان والطبيب البيطري. فما السر الكامن خلف كل هذا؟ اكتشفنا السر عن طريق سعيد، بائع اللَّذة للعجوز الثرية. كانت العجوز من بين المدعوين الذين انتقاهم الطبيب البيطري بعناية لحضور الحفل الكبير في قصره الريفي، فرانسواز وجان كانا حاضرين كذلك. كان كمال من بين المطربين الذين كُلفوا بإحياء السهرة، وهو يضع باروكته الشقراء، ويغني أغانيه الإباحية الخاصة بهذا النوع من السهرات. كان يتحدى أخلاق المشاهدين، وعلى الخصوص تهييجهم لَمّا يلعب الكحول بالرؤوس، ويكون له أثره تحت الأضواء الزرقاء والبيضاء والحمراء، ولم يعد هناك من يميز إذا ما كانت المداعبات مداعبات امرأة أو رجل. بعد منتصف الليل، وبعد أن لعبت الشمبانيا بالرؤوس، وأتخمت البطون، بدأ التعاطي بالمخدرات، والموسيقى تتواصل، فوقف الطبيب البيطري، في كامل الغبطة، ليرحب بمدعويه، في بيتهم الصغير، المفتوح لهم حسب طلبهم، لأنه ديمقراطي، ولأنه يحب الديمقراطيين. وضع ذراعًا على كتف فرانسواز، وأخرى على كتف جان، وحذر مدعويه من ثورة محتملة للفقراء، من اللازم سحقها في مهدها، وذلك بتنويع الاستغلال والابتسام في آن. - يجب، قال، الحيلولة دون مجيء شي جيفارا فرنسي جديد، فماذا فعل جيفارا الكوبي للفقراء الذين يكسبون عشر بيزيتات في الشهر غير إعطائهم عشرين في اليوم قائلاً لهم اقتلوا، فقتلوا؟ ماذا فعل ثوار جنوب اليمن غير إعطاء السلاح للشباب بدل أن يفتحوا لهم المدارس، فصنعوا منهم جلادين قائلين لهم اقتلوا، فقتلوا؟ أما الروس (لم يقل أما السوفيات)، أما الروس، فلا داعي لذكرهم، استعبدوا شعوبهم! نحن صانعو الحرية! الديمقراطيون يتقبلون النقد بصدر رحب، ويَثْبتون في مواقعهم! هذه هي، الحرية الحق. هل توجد عند الروس؟ عند الروس؟ لا أحد يسمح لنفسه بنقد أحد، لأن لا أحد يستطيع أن يكون حرًا هناك والديمقراطية غائبة... اطْلَعوا في عربات مترو الدرجة الأولى عندنا، وشاهدوا الأوساخ! شباب بلحى وشعور طويلة ثقيلو الجفون لإفراط في الإدمان على المخدرات، يسبون المفتش لأن معهم تذكرة الدرجة الثانية أو لا تذكرة معهم، ويفرون في المحطة التالية. مَنْ غير "الشيوعيين" قادر على مثل هذا الفعل! والخطأ عائد على ضعف الحكومة التي يؤبد تساهلها هذه الظواهر الفوضوية. يجب على الحكومة الضرب بيد من حديد، استعمال كل أذرعنا، لإنقاذ الديمقراطية والحرية. صفقوا مقرين ومقرورين، وعادت الاوركسترا تعزف، وكمال يغني:
ديمقراطيتنا البيضاء ترقى أعناق المدائن يا فتياتنا الشقراوات اخلعن كلاسينكن وارتقين أعناق الحمائم!
ولا تُسمع هنا وهناك غير الضحكات الفاحشة. أخذ الطبيب البيطري وجان يجردان فرانسواز من ملابسها على غرار عشرات المدعوين، فاستسلمت تحت نفوذ المخدرات والموسيقى وضغط أصابع الحرير. عرياها في قلب حمى من السكر والعربدة، وقاداها إلى حجرة تركاها فيها لشخص آخر، بينما كلاهما، ارتمى أحدهما في أحضان الآخر. في الصباح، عندما رأت فرانسواز جان بين ذراعي الطبيب البيطري، كجسد واحد بين أجساد تنتشر عنها روائح العطر والعفن، نهضت فريسة للذعر والفزع، وغادرت القصر راكضة بأقصى سرعة، لتجد ألبير، وتلجأ إلى ذراعيه، فلم تجده، ولم تلجأ إلى ذراعيه.
* * *
لكنهم رموا سعيد في السجن، ومنعونا من رؤيته، لأنه اغتصب حفيدة العجوز البرجوازية، قاصرًا في الخامسة عشرة، جاءت لقضاء عدة أيام عند جدتها. في المساء، كانت تخرج مع سعيد من أجل نزهة الكلب، وفي كل مرة، كان يحتضنها في الحديقة العامة. في أحد الأيام، لم تكن العجوز في الدار، فجرد الصغيرة من ملابسها، واغتصبها. لم ينقطع نزيف البنت، رغم هدوئها المذهل، ولم يستطع سعيد إخفاء الحقيقة عن العجوز، فالنزيف يهدد بقتلها. طلبت الجدة سيارة إسعاف، وأبلغت الشرطة. عند عودتنا من السجن، أخبَرَنا أندريه أن أمه في الفراش، ضحية سكتة قلبية مفاجئة. أحضر لها طبيبًا، ولكن بلا جدوى. الأزمة حادة، وهي تموت.
الفصل التاسع
لم تفارق مارتا فراش الأم الغائبة عن الوعي بين الصلبان والشموع، إلا ما قل وندر، فما قدمته من مد وعطاء كان يفوق طاقتها. التضحية بالنفس كالتضحية بالمال وحتى فكرة التضحية لم تكن مطروحة لديها بالشكل المتعارف عليه، كان ذلك أقرب إلى دورها على مسرح الحياة، بعد أن لم يعد لها دورها على مسرح الخيال. رافقت أنطوان إلى المدرسة، خلال اعتناء امرأة لحسن بالبيت، وسترافق كل ذي حاجة، ولن تضرب بذقنها الأرض. عندما عادت مارتين من الجامعة، وجدت أندريه منهك القوى، فطلبت منه الذهاب إلى غرفتنا ليرتاح، لكنه رفض. كان لا يرفع عينيه عن أمه، وأمه تغمض عينيها، دون حراك. عند عودتي من المصنع، كنت أنتظر أن يوافيني الجميع بالخبر التعيس، غير أنهم قالوا لي إنها فتحت عينيها، وشربت قليلاً. ضغطتْ أصابعُهَا الضعيفة على يد مارتا، لكنها لم تتأخر عن الغرق في بحرها. بقينا قربها حتى ساعة متأخرة، مكتوفي اليدين، ثم غادرنا لنغرق في بحرنا. ونحن في الفراش، سألتني مارتين إذا ما بعنا "الحُلم" جيدًا، أجبتها أن وردة تدبرت أمرها على أكمل وجه، حتى أنها بقيت على باب مصنع الأحاسيس حتى دخول آخر عامل. - قالت لي كذلك إنك تستطيعين البقاء ما تريدين من الوقت قرب المريضة، وإن هذا لا يزعجها إطلاقًا. وردة تحلم بالذهاب إلى بيروت... عند ذاك، أخبرتني مارتين أن أختها نادين أشعرتها في رسالة بوصولها عند نهاية الأسبوع، لترانا، قبل سفرها كمتطوعة إلى بيروت، التي عادت تشتعل. قَبّلتني، ووضعت رأسها على صدري، قائلة لي: - أحبك! كانت خائفة على الأم المسكينة، وتمنت من كل قلبها ألا تموت، من أجل الطفل. قبلتني مرة ثانية، وطلبت مني النوم لأني تعب. تناولتُ الإيديولوجية الألمانية، وأخذت أقرأ. راجعت مارتين نصًا بالعربية، وهي تسألني توضيح هذه الجملة أو تلك من وقت إلى آخر، ثم لم تتأخر عن النوم. بقيتُ أقرأ ساعة أو ساعتين، وأحيانًا كنت أعيد قراءة بعض الجمل، لأفهم جيدًا. رغم صعوبة الكتاب وقراءتي البطيئة، كنت سعيدًا، لأنني أقرأ، وأفهم ما أراد الكاتبان قوله. في اليوم التالي، تحسنت صحة الأم بشكل ملحوظ، أخذت كوبًا كبيرًا من القهوة بالحليب، وأخذ أندريه يسب الطبيب الذي ادعى أن لا أمل في شفائها. كاد يطير من الفرح، وسقى أمه كريمها بنفسه، وهو يمسح لها فمها بعد كل جرعة. أمسك رأسها بتحنان، وهو يبتسم لها، وهو يبتسم لنا. وهكذا قررنا إحضار طبيب آخر، تكلفت مارتين بالأمر، وكانت نتيجة الفحص مناقضة للأولى: قلبها في حالة جيدة، لكنها تعاني من ضعف في الدم، يمكن معالجته بالرقابة والأدوية. مع ذلك، نصحنا الطبيب بإدخالها المستشفى. نقلناها إلى مستشفى "لابيتييه"، والمرأة تثرثر معنا. ثم صلت، وغابت طويلاً مع ابتهالاتها.
* * *
ذهبت مارتين إلى اجتماع خليتها، فعدتُ إلى البيت وحدي، ورأيت كعادتي، عند خروجي من المترو، مجموعات المهربين من كل نوع، ولاعبي أوراق العشرين فرنك، التي يضعونها على مربعات مرقمة فوق صندوق من الكرتون، فيخفق أحدهم زهر النرد في فنجان، ويلقيه ليربح صاحب الرقم. تسلق الوحل الأرصفة، بينما هم يغطسون في هذه المستنقعات، ولا يعون ذلك. ازدحم المكان أكثر مما اعتدتُ عليه عند نهاية النهار، والأضواء الكشافة المسلطة على ألواح الدعاية العملاقة تبهر العين. عديدة هذه الألواح، تراها في كل مكان، فتصفع ناظريك امرأة شبه عارية تصرخ من اللَّذة، في أوضاع مختلفة، مثيرة، لعرض آخر موديل جوارب، من صنع عمال الشهوة. صرخت هذه الصور العملاقة في الأضواء والعراء، فوق رؤوس مثقلة بالكحول والعناء، فارتفعت الرؤوس نحوها، وتساقطت بعناء أكثر، ثم لهثت خيالات هؤلاء البؤساء. وأنا أمضي بمقهى عازفة الأرغن، برز حسين أمامي، نصف ثمل، وأغنية كمال "في الميزير، انت حبيبي، في الميزير..." تدوي. أشار إلى المرأة العارية، وابتسم أو بكى. شرب مفاتنها بشراهة، إلى حد عتمت فيه ملامحه. غدا حزينًا، وسمعته يهمهم: - من أين يأتون بهذه الحوريات؟ من أين؟ وحوريته هو؟ لم أستطع أبدًا الكشف عن سرها. صعد معي شارع بيلفيل، مضغوطًا، مغمومًا. اخترقنا العيد السوقي، ومنصات الألعاب على طول الشارع، ألعاب اليانصيب، منصات ضرب البالونات بالبنادق أو الرجال الميكانيكيين أو أعناق القناني، مقابل دمية للأطفال من البلاستيك أو من القش، ساعة حائط لا تمشي مشي الوقت أو قنينة خمر رديء. عرفت الآن لماذا المكان مزدحم بالناس. هناك من يبيع الفطائر، وشعر البنات، والملبس، والبطاطا المقلية، والنقانق، والساندويتشات، والجمهور في كل مكان. وهناك فيلم قديم لفريد الأطرش وسامية جمال في سينما الشارع الوحيدة، بعد أن دام عرض فيلم كاراتيه عدة شهور. سامية جمال ترقص في الثوب التقليدي الكاشف عن مفاتنها بشكل خليع، بشكل بديع، بشكل مكرب، بشكل مرعب، بشكل مذهل، بشكل مفزع، وَصَفٌ طويلٌ من العمال المغتربين يطول بانتظار الحفلة التالية. أراد حسين أن يجرب حظه في الرماية، فقلت له إنني تعب، وإنني أرغب في العودة إلى البيت، لكنه أمسكني قائلاً: - تعال، يا مومس الغائط! تعال لترى كيف سيَسْقُط أحسن الرجال تحت طلقاتي! أخذتْ بندقيته تفرقع وتسعل دون أن تصيب أبدًا هدفها، فبدأ ينرفز، ومع الطلقة الأخيرة، أصاب الرجل الميكانيكي في فمه، لينحني لحظة نحو الأمام، كاشفًا عن ابتسامة وقحة، ثم يعتدل. أخذ حسين يرغي ويزبد، فهذه بنادق "مصطنعة"، وهؤلاء رجال "ميكانيكيون"! ضحك وحده، كما لو وجد تبريرًا، وواصل زحفه من ورائي. - إنه-الغائط-الأسود-للجميع... تلعثم. أضاءت الأنوار الملونة الشارع بألف ضوء، فبدت صناديق القمامة والأوحال لوحات تجريدية، كتلك التي كلمنا عنها عادل، ذات يوم، والتي لم نفهم شيئًا منها. سمعنا كذلك موسيقى قادمة من الساحة الجديدة، المقابلة للعمارات الشاهقة كعلب السردين المركبة حتى السماء. هناك يسكن أنطونيو وإيزابيل، في قلب موجة من الصينيين الجدد، والكمبوديين، أو الفيتناميين. حَرِدَ الباريسيون على هذه الأبراج الجهنمية، فملأوها "بالعِرق الأصفر". أقيمت خيمة سيرك تؤوي سيارات متصادمة، فسألني حسين أن نمر فقط لنتفرج. - أنت لن تقفل عليك الباب منذ الآن في مومس الرَّدْب هذا! صاح. التهم بعينيه مراهقة تلبس قصيرًا جدًا، وتتأبط ذراع صبي شاب يرتدي سترة من الجلد. همهم "تكافؤ الفرص"، لا أدري لماذا. ظل يسير من وراء المراهقة، فلم نذهب إلى خيمة السيرك. همهم من جديد "مقابل فتاة كهذه..."، ولهث قبل أن يضيف "تفريطك بالقضية القومية". عند باب الرَّدْب، توقفت سيارة فخمة، تفاجأنا بجان ينزل منها، وهو يغلق بابها بعنف. سبقنا دون أن يحيينا، فبصق حسين بقرف، وقال: - لقد حذرتكم من هذا الفرنسي القذر، لكنكم لم تسمعوا لي، وها هي النتيجة: ها هو يحتقرنا كلنا. نعته بالعنصري وبالتافه. عندما وصلنا سكناه، أراد حسين أن أدخل، ففتح أحد معارفه الباب، ووقف في الضوء: - هذا جاك، قال، هل تعرفه؟ - رأينا بعضنا، قلت. - يعمل عندي. ظننت أنه لم يعبر جيدًا تحت تأثير الكحول: - يعمل معك؟ - لا، عننننننندييييييييي، يا مومس! يطبخ، يجلي، ينظف. أعطيه راتبًا، كمصروف جيب. لاحظ، ينام عندي كذلك. نأكل بقايا الطعام التي أحضرها من المطعم. أنت لا تعرف، لم يتفاهم مع المعلمة الإسبانية، فأخرج لها قضيبه، وخرج! أشفقت عليه، واقترحت عليه هذا العمل عندي. يا لها من فكرة مومسية، أليس كذلك؟ لم أفهم منطقه، أقلقني عصام. - وعصام؟ - أنت لا تعرف؟ لم يعد منذ بعض الوقت. - لم يعد! - تجده ضائعًا في الشوارع. وبنبرة آمرة، رمى في وجه جاك: - كل شيء جاهز، يا مومس الغائط؟! - كل شيء جاهز. - كل شيء جاهز، موسيو، أيها الأب... له! - كل شيء جاهز، موسيو. أدار بوجهه إليّ، وقال بنصف ضحكة: - يعد العشاء أفضل مما تعده امرأة شرموطة، رغم أنها بقايا أمس. أجهل كيف ينفحها طعمًا رائعًا! ثم رفع صوته: - ما رأيك، يا جاك، لو دعوناه هذا المساء؟ اعتذرت من جديد، وقبل أن أتركه، وصل لحسن، وقال لي إنه استلم رسالة من ابن عمه مرزوق. دربوه على القتال في فترة قصيرة جدًا، وهو يقاتل حاليًا في مخيم تل الزعتر، مع عودة الأعمال الحربية. صاح حسين من الحماس: - هؤلاء هم الرجال! الرجال الحقيقيون! حقيقيو الحقيقيين! قال لحسن فخورًا وواثقًا: - سنحرر الأراضي المحتلة، إن شاء الله. رأيت حسين يقفز، ويعانق لحسن. مضت بعض لحظات نادرة بلا خصام بينهما ولا عراك. صحح حسين: - ليس فقط الأراضي المحتلة ولكن أيضًا كل فلسطين، ولن نضحي بأي شبر. إذا كان هناك تحرير، فعليه أن يكون كاملاً. هل تسمع؟ يا مومس مومس الغائط! كل شبابنا الذي ضحوا أو الذين سيضحون بحياتهم لن يقبلوا إلا هذا الشرط، تحرير كل فلسطين، وبحرب شعبية طويلة النفَس، على كل الجبهات. كل فلسطين، وإلا فلا! ولا كلام إلا للبنادق، يا مومس مومس الغائط! - لا بديل آخر لذلك، أضاف جاك. - قل لا بديل آخر لذلك، يا مومس مومس الغائط! - لا بديل آخر لذلك، يا مومس مومس الغائط! ابتسمتُ، لأنهم يرددون كلامًا لا يكلفهم شيئًا. قلت لهم إنني تعب، وإنني ذاهب. أمسك حسين لحسن من كتفيه بحرارة، وجعله يدخل. لمحتُ عادل من خلف نافذته، وهو يعود إلى كتابة كتابه عن الحرب في لبنان. سمعتُ أحد أبناء رونيه يبكي، وصوت كمال في التلفزيون: في الميزير، انت حبيبي، في الميزير... لم يكن أحد في بيتنا. وأنا أصعد الدرج، امتلأ الرَّدْب بالخطوات. التفتُ، فرأيت مارتا، وأندريه، وزوجة لحسن، وهم يرجعون من المستشفى. عندما عادت مارتين من اجتماعها، قالت لي إنهم قرروا متابعة الاتصال مع العمال المهاجرين لمساعدتهم على تحقيق مطالبهم. وكذلك، قرروا القيام بهجوم مضاد عن طريق تعليق ملصقات ضد النداءات التي تدعو إلى ترحيل مليون ونصف عامل، وتبديلهم بمليون ونصف عاطل عن العمل، مما يحل مشكلة البطالة! لن تستطيع مارتين مع الأسف الإسهام في هذا النشاط، بسبب عدة التزامات. كان عليها إنجاز تحرير بحثها، وترجمة بعض الوثائق التي تأتيها ببعض النقود، وكان عليها الذهاب إلى الجامعة، والاعتناء بالبيت مع مارتا، دون الحديث عن عملها كمناضلة. ضممتها قائلاً: - لا تقلقي من أجل الملصق، سأذهب لإلصاقه بدلاً عنك. قفزت، وزرعت عنقي قُبُلاً. - كنت أعرف أنك ستذهب، كنت أعرف. بعد يومين، والليل يزحف في أزقتنا، أديت مهمتي بخصوص الحزب الشيوعي، بكثير من الحماسة.
الفصل العاشر
وصلت نادين: فتاة حلوة، كستنائية الشعر، هي ومارتين أشبه من الماء بالماء. جاءت لترانا، وتودعنا. كان عليها الذهاب إلى بيروت لتمنع الموت عن الأطفال، وكان لدي انطباع أنني أعرفها منذ وقت طويل، هذه الممرضة التي تحب الأطفال بقلب طفلة. أعدت لنا مارتا للعشاء طبقًا أفريقيًا. كان ألبير وفرانسواز وعادل معنا وكذلك بيير ومادلين. جاءت وردة كذلك. حاول عادل إيجاد تقارب مع نادين، وحاولت وردة إيجاد تقارب مع عادل. خلال السهرة كلها، لم يتبادل ألبير وفرانسواز سوى بعض الكلمات، بدا أن هناك سوء تفاهم بينهما. أسقتنا مارتين بسخاء، حتى أن مارتا شربت معنا كأسًا كبيرة، وسمعنا موسيقى فرنسية وعربية وإفريقية. قال عادل لمارتا إنه يعرف السنغال عَبر أفلام وكتب سمبين عثمان، وسأل ألبير إذا ما شاهد فيلم "خالا". - لا، أجاب ألبير، شاهدت بالأحرى "الحوالة". أخذ يحكى لنا حكايتها: يرسل عامل سنغالي حوالة إلى عائلته، تتأخر عن استلامها لأن العم لا يملك بطاقة تعريف. بانتظار صرفها، الأهل، لكن أيضًا كل الحي، يبنون قصورًا في إسبانيا. يركض الجيران بحلل الأكل، التجار بالبضائع، يضاعف حمال الماء عدد جراره. يدين بعضهم، ويستدين بعضهم. طبعًا، يَعِدون بقروض حتى يستلم العم الحوالة. وبدورهم، يبنون قصورًا في إسبانيا. يدينون، ويستدينون، وهكذا حتى اللحظة التي يستلم فيها العم الحوالة، ويسلبها منه موظف بطرقه الماكرة. قال عادل إنه يود كتابة كتاب عن سمبين عثمان، وهو لا بد فاعل، لأنه يعتبره أحسن كاتب أفريقي، زيادة على كونه سينمائيًا عملاقًا. - هل ترين ما ينتجه السنغال من رجال؟ قالت مارتين لمارتا. ضحكت مارتا. - السنغال عظيم بعظمة فرنسا! أجابت. - أما سنغور، رد عادل، فلم يكن يومًا سنغور! غير أن مارتا أعادت: - السنغال عظيم بعظمة فرنسا! تابع عادل فكرته: - يصدّق فعلاً ما اختلقته السلطة هنا في فرنسا بخصوصه: أنه أحد عقلاء أفريقيا. طبعًا عندما يصف الغرب أحدًا بالعاقل، هذا يتضمن أشياء كثيرة. - إنه مسحور بالنظام الليبرالي، رد ألبير، ولا تنس أنه إنتاج هذا النظام. - أما شعره، فهو يترجم بعض "الأَنْسِيَّة"، نزعة إنسانية يتصرف حسبها تصرف المفهوم الليبرالي الذي يحاول تفسير السلبي بالسلبي، دون المساس بأسبابه الحقيقية. طبعًا، الحجة هي طبيعة الشعر ومتطلباته الفنية! - لأن الليبرالية هي هذا: تأخذ المظاهر كحقائق، وتتجاهل الأسباب، التي من وراء عذابات البشر. لماذا؟ لأن الليبرالية كنظام، هي خالقة هذه الأسباب. - لهذه الأسباب سبب. - سبب مفتعل، ثانوي. - أساسي. - العالم يتحرك لا العالم يتغير. - العالم يتحرك. - العالم يتغير. - العالم لا يتغير. - العالم لا يتحرك. - العالم يتحرك بالنسبة لهم. - لليبراليين، فيطلبون منا أن نتكيف. فتحت مارتين الباب لرونيه، كنا قد انتهينا من الأكل، فسألته مارتا إن كان يريد العشاء. أجاب أنه أكل شيئًا. أردنا أن نقدم له نبيذًا، لكنه رفض حتى شرب العصير. قال إنه لا يريد أن يشرب شيئًا هذا المساء. قدمنا له نادين، فحياها بأدب، وأثنى على جمالها. أكد عادل كلامه، ونادين تتورد. قررنا أن نعمل ملصقًا بمناسبة الاجتماعات الشعبية، والحملة الإعلامية الواسعة. استعد الكل للإسهام في هذه المبادرة ما عدا عادل الذي يرغب في إنهاء تحرير كتابه عن الحرب في لبنان، وفرانسواز التي طلبت استشارة حزبها والعمل حسب تعليماته. في اليوم التالي، علمنا أن المظاهرات اجتاحت الأرض المحتلة احتجاجًا على المحتل، وأن الجنود فتحوا النار على المتظاهرين. كان هناك قتلى وجرحى، وهاجم الجنود بعد ذلك المضربين عن الطعام من الأسرى. في المساء، قلت لمارتين: - سيقتلون أخي الصغير، السجين دومًا. - لن يقتلوه، أكدت مارتين. - بلى. - لن يقتلوه، يا حبيبي. - سيقتلونه. - عناصر تعشق السلام والعدل توجد عندهم. - سيقتلون أخي الصغير، أعدتُ، سيقتلونه. أخذتني بين ذراعيها. - لا تخف، يا حبيبي! همست في أذني. كل البشر العاشقين للسلام والعدل سيسهرون على أن يبقى أخوك على قيد الحياة. نظرتُ في عينيها، فطمأنتني من جديد: - لا تخف، يا حبي! لن يقدروا على قتله. ومست عنقي بشفتيها مسًا خفيفًا.
* * *
استلقى سليم وشيمون على الشاطئ تحت الشمس الدافئة لربيع حيفا، وهما ينعمان بلحظات يعجز حق الشعوب في تقرير مصيرها عن الإتيان بها. - الوطن في الجسد، يا شيمون! قال سليم. - الوطن... أعاد شيمون مفكرًا. - في الجسد، أكد سليم. - ...في الجسد. - والحرية وهم. - تريد القول، ماذا تريد... - عِشْ وهم الحرية تصبح حرًا. - ...القول؟ - ربيع حيفا غير حقيقي، وهم، لهذا شمسه دافئة. - كل شيء وهم. - البحر وهم. - حتى البحر؟ - حتى البحر، حتى الرمل، هذا الرمل الذي أنثره بيدي، حتى الناس الذين هم حولنا، كلهم، وعلى الخصوص، تلك الحورية التي تتحدى الحيتان بجسدها. - حتى الحيتان. - حتى الحيتان، مع كل ثقلها وعلى الرغم من حجمهما، وربما بسبب هذا الثقل وهذا الحجم الحيتان وهم. هكذا كانت الحيتان، وهكذا ستبقى، فالأوهام تتجاوز الأزمان. - الأوضاع ستبقى هكذا إلى الأبد. - الوضع، في حالتنا. - وضعنا. - وضع التسلسل في الدرجات، فهناك الحيتان، وهناك غير الحيتان من شتى أنواع الأسماك. - وفي الأفعال. - وعلى كل المستويات، المالية أعلاها، مالية الحيتان، أفظعها، أجرمها، الإنسانية نعلها. - ومن الطبيعي في مجتمع "درجاتي" كهذا أن يدفع أحدهم الثمن، هنا أو هناك، هناك أو هنا. - دون بكاء. - كل أنهار الدموع هذه تباكٍ لا ينفع في شيء. - يضر. - نعم يضر. - هل تعرف لماذا يضر؟ - لماذا؟ - لأنه يُظهر بشكل مذهل الحيتان كشخصيات السينما، الوهم، دومًا الوهم، شخصيات لها الكثير من السلطة، شخصيات كاملة، كشوكولاطة "لِندت" في الصفحات الدعائية، شوكولاطة كاملة، ليغروا بحبها، ولا يعلمون أنهم "يغرون بكرهها"، فيقضون على الوهم من حيث لا يشاؤون، ويجعلون الناس يعيشون لحظات من الخلل العقلي، لحظات تبعدهم عن إنسانيتهم الوهم، ليرتكبوا الحماقات، فهذه الحماقات التي يرتكبونها هي شرط العودة إلى الحرية الوهم، الحرية كما يجب عليها أن تكون، وَهْم بِوَهْم بِوَهْم. وصلتهما قطعة موسيقية يعزفها موسيقي على كمان، وأمواج البحر ترتفع حتى خاصرتيه، من أروع الألحان. - هل تعرف ما تثيره هذه الألحان الرائعة في نفسي؟ سأل سليم. - ما تثيره شوكولاطة لِندت، همهم شيمون. - أكثر مما تثيره شوكولاطة لِندت. - ماذا؟ - الرغبة في قتله. - قتل الموسيقي، يا ماخور؟ - ومن يكون غيره في ظنك؟ هذا هو أثر ثقافة "الروائع" في عصرنا، عصر الوهم، ثقافة تهيننا بجمالها، فنفعل كل شيء لتدمير كل شيء، هذا هو جوهر الإرهاب، اليوم، تحت كافة أشكاله، هذا هو سره. فجأة صاح سليم بشيمون، وهو يحميه بجسده: - حذار! فغرس شاب بعينين يائستين مجنونتين، نصل سكينه في كتف سليم، بينما سحب شيمون مسدسه من سترته الملقاة إلى جانبه، وأطلق على المعتدي الرصاص. - ارحمني من عينيه، ابتهل سليم. عاد شيمون يطلق على المعتدي الرصاص، وهو يجمجم "يا ماخور الماخور!"، وهذه المرة أرداه قتيلاً. - نادِ سيارة إسعاف، يا ماخور الماخور، أنا أتألم! هل صدقت ما أقول؟ - قلتُ لنفسي... - كل أوهام الحياة لا تعادل ألمًا كهذا! - ...ما هذه الفلسفة التي سقطت على رأسه؟ - سيارة إسعاف، يلعن دين! - حالاً. - بسرعة. - حالاً، حالاً. - بسرعة، بسرعة. - حالاً، حالاً، حالاً. - بسرعة، بسرعة، يا ماخور الماخور، بسرعة!
الفصل الحادي عشر
خرجت نادين مع عادل، قالت لنا بدورها، إنهما تنزها في أزقة الحي اللاتيني، وإنهما أخذا قهوة في شارع سان-ميشيل. كانت عاصفة الربيع في الشارع الجميل تتفجر اخضرارًا، كالقلب الذي يصرخ دون عنف. سيارات مضيئة في النهار وعابرون. خطوات مسرعة في الزحام ومتسكعون. مصابيح قديمة وأكشاك عديدة. بائعات فطائر وسجائر. رأت نادين النافورة والتنينين اللذين يبصقان الماء، السياح المحتشدين حولها والحمَام. اعترف عادل لها أنه يحب الحي اللاتيني أكثر من أي مكان آخر في باريس، الحي اللاتيني هو باريس بالنسبة له! كان سعيدًا بوجوده فيه، ثم طَوَّرَ أفكاره عن السعادة. أجابته نادين أن السعادة بالنسبة لها هي أن تختار مهنتك، وأن تشعر بكونك حرًا بالفعل. وافقها لكنه أضاف أن السعادة هي أن يلتقي كائنان، وأن يشقا طريقهما نحو المستقبل، حتى في عهد تكون فيه الفاشية في الأوج. - بشرط أن يقاتلا ضد الفاشية. وافقها مرة أخرى وما لبث أن قال: - التغلب على الفاشية أو عدمه، عليه ألا يمنع سعادة فردين يتحابان. السعادة ممكنة حتى في أفجع مراحل تاريخ الإنسانية، وفي أضيق الأمكنة، كعش الزوجية مثلاً. لم تشاطره نادين رأيه، ووصفت هذا بالأنانية المطلقة، بالانطواء، بِقِصَر البصر، مُقَدِّرة أن السعادة غير ممكنة إلا خلال المراحل الأكثر مآلاً للتاريخ الإنساني. في هذا الطور، السعادة يمكن تحقيقها، على نطاق واسع. كان عادل يقصد شيئًا آخر: - صحيح، لأكون صادقًا، أريد أن أحب لأجل كل هذا، لكن الرغبة لا تكفي، وكل بداية صعبة. زيادة على ذلك، كيف أجد من اصطفاها قلبي؟ وكيف تجدني؟ ثم هناك شروط: جميلة؟ متوسطة؟ ثورية أم نصف ثورية؟ ثرية؟ فقيرة؟ أنا لا أطرح هذه الأسئلة بالنسبة لي، وإنما بالنسبة للآخرين. حكى لها قصة الحب التي عاشها في مدينة ليل، لو عمل منها كتابًا –على كل حال هو عامل حسابه على كتابتها يومًا- لتجاوزت قصته روميو وجولييت، رغم أن الحبيبة كانت أمًا لطفلين. إنها الشروط التي نتجرد أمامها: نحن لا ندري كيف نقبلها وفي الوقت ذاته نقبلها، لأننا قبل كل شيء كائنات من لحم ودم. حكت لنا نادين كذلك أن عادل قد اعترف لها، في المترو، بإعجابه بها. في البداية، ظنت أنها سمعته خطأ، بسبب الضجيج. امتقع وجهه، وارتعشت شفتاه، فاكتفت نادين بالابتسام، دون أن تبدي أية ملاحظة. - ستعيشين تجربة صعبة في بيروت، قال لها. كانت المرة الأولى التي يتكلم فيها عن مهمتها، وأضاف متصنعًا الابتسام، أنه سيدعو من كل قلبه أن يكرهها الموت، وأن يحبها الكل. - حاذري فقط من المثقفين، قال بنبرة أقرب إلى التهديد من الوعيد، المثقف، ثوري ما ثوري، كاتب ما كاتب، مثقف سلطة، لأنه يعرف، الكاتب خاصة، أن لا أحد يوجد ليقرأه، وعلى هذا الأساس، يُجري حساباته، ويُغري رهاناته. الكاتب العظيم إذن عظيم بعلاقاته لا بكتاباته، تغدو كتاباته عظيمة لأنه غدا عظيمًا، وهو أعظم من عظيم لشلته، وبالتالي ليشعر كل فرد من أفراد الشلة بأنه عظيم، وهلم جرا. لهذا واحد مجنون عندنا بقيمة سارتر لا يوجد، وإن وجد عوقب على جنونه بخنقه أدبيًا والتعتيم عليه إعلاميًا. أن تكون كاتبًا هامًا يعني أن تراهن على الخسارة، وهذا ما أفعل، فالشهرة ليست الحياة، النقود ليست الكون، أنا لي رؤيتي، وهذا يكفي. حتى أن الذين لهم رؤيتي سيخذلونني، على اعتبار أنهم أجياف الإيديولوجيا، وهم أجياف الإيديولوجيا لاغترابهم عن الواقع، أنا أعيش في كوكب، وهم يعيشون في كوكب آخر، فأجدني على الرغم مني وحدي. عندما سألناها رأيها في عادل، لم تتردد عن الجواب أنها إلى حد الآن لم تجد رجلها، وأنها ستجده يومًا. عند الساعة العاشرة مساء، رافقناها، أنا ومارتين، إلى المحطة، لتأخذ القطار إلى مارسيليا، ومن هناك، ستأخذ الباخرة إلى العاصمة اللبنانية. أعطيتها رسالة لأخي، وقبلتها. قبلتها مارتين، وابتسمت لها. لم يتأخر القطار عن حملها، وهي تلوح بيدها، حتى اختفت، ولبيروت بدت، منذ اللحظة التي اختفت فيها، بداءة القادم من الزمن السحيق. أضاءت المصابيح مثل ألف نجم تقاوم الليل، ورفعت رايات الحرب على أرصفة الرحيل.
* * *
قال لنا والد لحسن: - المحظوظون هم المثخنون بالجراح! لم نفهم، فأوضح: - بأنامل نادين تبرأ الجراح، وبتحنانها تلتئم! ضحكنا، وقلنا: - في هذا العمر يصبو المرء كما يصبو في ذاك العمر! ضحك، وقال: - في ذاك العمر يصبو المرء كما لم يصبُ في أي عمر! - ماذا تعني، يا جدنا؟ - لم تعرف الجراح الصبابة إلا تحت أنامل الألمانيات! - الألمانيات! كيف؟ - عرف النازيون كيف يجعلون العالم أجمع غيورًا من نسائهم، أجمل النساء في العالم الألمانيات كنَّ، وكنَّ من الجمال إلى حد الإرهاب، فاقتحمن علينا الوجود، وحولن أحلامنا إلى كوابيس. كانت الشقراوات لهم آلهاتٍ لنا، ونحن عندما كنا نقاتل الألمان لم يكن ذلك لتحرير فرنسا، كان ذلك لاحتلال ألمانيا، وخاصة احتلال فراش الألمانيات. لما لم نقدر على تحقيق ما نصبو إليه، أسقطنا أنفسنا في بؤس خيالاتنا، بل وأكثر، فعلنا ما لا يفعله حتى الذين زين لهم الشيطان، فأطلقنا الرصاص على أكتافنا، وفي ظننا أننا بأنامل الألمانيات سنُبْرِئها. لمس جرح كتفه، ودمعة حارة تسيل على خده. قلت لمارتين: - لأناملك نفس السحر عليّ. - أنتَ أيضًا مستعد لتطلق الرصاص على كتفك؟ - من أجل أناملك. - لكل واحد جنونه. - تعتبرين هذا جنونًا؟ - لكل واحد طريقته في الجنون. - لكل واحد. - هواه المضاد للعقل. - هل تعرفين ماذا كانت تفعل أمي عندما يأتي الجنود إلى دارنا؟ - ماذا كانت تفعل؟ - كانت تطبخ لهم. - الأكل لا علاقة له بالسياسة. - ليستردوا قواهم. - كانت تعاملهم كأبنائها. - ليقدروا على الصمود. - الجنود؟ - ليصيروا القدوة. - لم تكن تحبهم. - لم تكن تحبهم، كانت تطعمهم، وكانوا يحبون أكلها، الفائح برائحة القرفة، ولا يتركون حبة رز واحدة في أطباقهم، وكانوا ينسون أنفسهم، فيدعونها أحيانًا ماما أو أمي، فتبتسم لهم. - لا بد أنه لذيذ طبيخ أمك. - وأحيانًا كانت تناديهم باسمي، فتقول أنت يا سالم، أو باسم أخي، فتقول أنت يا سليم، أو أنت يا عبد السلام، إنه... - الهوى المضاد للعقل. - ...لَجُنون. - لكل واحد جنونه. - إنها رائحة القرفة، رائحة الدم والمني والأم، رائحة تخترق مخنا منذ لحظة الولادة، ولا تتركنا حتى لحظة الموت. رائحة القرفة، رائحة الأساطير، رائحة الكتب المقدسة، رائحة الأنبياء، رائحة الملوك، رائحة العصافير، رائحة العظمة، رائحة الغزو، رائحة القهر، رائحة الغيرة والحسد والتنافس، رائحة المستحيل، رائحة العناكب. كانت لأمي رائحة العناكب، كانت تجذب الجنود برائحتها إلى حضنها، وتجعلهم يقذفون بين ثدييها، كانت لذتها أن يقذف الجنود بين ثدييها، أن يلوثوا حلمتيها، أن يغمضوا أعينهم بخجل، وهم يرون أنهم أخطأوا المكان. رائحة القرفة، رائحة الاغتصاب والاقتحاب والالتهاب، فتطلب منهم أن يغسلوا أيديهم بالنار، أن يُسَكِّنوا شهواتهم بالنار، أن يشعلوا ماءهم بالنار. وبعد ذلك، كانت تعد لهم القهوة، فيشربونها، ويشكرونها، يتمدد بعضهم على الأرض، ويغفو قليلاً، وبعضهم يدخن سيجارة، يعرضون على أمي، فتقول إنها لا تدخن، لكنها تأخذ سيجارة، يشعلونها لها، وهي لا تدري ما تفعل، فيستعيد أحدهم السيجارة من فمها، ويشعلها لها، ثم يضعها في فمها، ويقول له: اسحبي! فتسحب، بينما تنفجر بالسعال، وهم ينفجرون بالضحك...
القسم الثالث
الفصل الأول
هل تعرف كيفها باريس في الصيف؟ حبة مشمش أو حبة خوخ ودودة ذهبية، تقضمها رغم ذلك، ولا يهمك تهديد الشمس لك، فكل شيء عابر في باريس صيفًا، كل شيء زائل، وكل شيء مؤقت، كل شيء متوقع، المطر كالريح، الشمس كالفساتين، القصيرة، كل شيء قابل للتهديد، السلطة الزمنية عليك سلطة الفساتين القصيرة كالطويلة، تهديدها، اجتياح السيقان، واحتلال الكون، فبالتهديد يكون الجمال، وبالقمع تكون القُبَل، وبالمداعبة تكون الدموع، ويكون لدغ نهر السين بنابيه. باريس في الصيف قبلة الموت، والعناق السابق أو، اللاحق، فالموت شيء آخر غير الوفاة، الموت مَيْل، نَزعة في التطور، ودعوى على النِّية، فالأفعال ليست أفعال البشر، الأفعال أفعال التماثيل، قوس النصر (أو الهزيمة)، الأوبرا، متحف اللوفر، برج إيفل. وهذا الإحساس الدائم بتهديد أشعة الشمس الغائبة لك، والرغبة الدائمة في الدفاع عن نفسك بالغيوم، والخضوع الدائم للفساتين القصيرة كالطويلة. أن تعيش مهددًا في صيف باريس هو أن تعيش! أن تعيش مع نابليون، أن تلهث على عتبة الشعور، فترفعك أجنحة الذهب، وعندئذ تدرك لماذا أخضع نابليون العالم بمنقاره. عصافير الذهب جيوش نابليون، لهذا كانت الشموس ذهبية، والفساتين، والأقدام الصغيرة المهددة، لهذا كان إحساسك بالتهديد الدائم في صيف باريس فضيًا.
* * *
تقدم جورج الأشقر مني، وصاح في وسط الآلات المدوية: - تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم! - ماذا؟ ماذا هناك؟ صحت بدوري. - رجعت الإدارة عن اتفاقها! هذا يعني أنها تنوي إغلاق المصنع لتهدمه وقناة سان-مارتن، وتسلمنا إلى ضراوة البطالة. في الحال، دوى النفير مؤكًدا الخبر. أوقفنا الآلات، واندفعنا كالبحر الهائج نحو الساحة. امتلأت الساحة بالغضب وبالشمس. التهبت الشمس رغم طراوة أشعة الصباح. احتدمت الحركة مع تصميم الخطوات. اتخذ القرار: سنحتل المصنع، وسنرغم الإدارة على المفاوضات. عَيَّنا بعضنا لحماية المداخل من الحراس، على رأسهم جورج الأشقر، وعاد الآخرون إلى الورشات. لاحظتُ أن "رجال" رب العمل وبعض العمال الذين هم مع القرار التعسفي، قد انسحبوا، وكنا كلنا نعرف السبب: لأن الإدارة تدفع لهم، دون التوصل رغم ذلك إلى تقويض وحدتنا. استصرختنا أفواه أطفالنا الجائعة من أجل الرغيف، وكانت هذه البَيِّنة وحدها سببًا كافيًا للقتال. ألقيت نظرة نحو النافذة، فرأيت المارتينيكي يرفع لافتة، كتب عليها: "مصنع محتل." والصيف يتحول، والصيف يغدو نهرًا. رأيت أيضًا أشخاصًا آخرين لحماية المداخل. والصيف يغدو طيرًا، والصيف يرفرف رابط الجأش مع الأكتاف الفخورة لعمال كل الأحاسيس. جاءت مارتين لتراني. نظرتُ إلى الأخضر الناري لعينيها، ووجدته منطفئًا. هذا الأخضر الذي من العادة أن يتقد بالأنوار، وأن يلتهب بالآمال. أرادت أن تقول لي إن المرحلة الثانية من القتال قد بدأت، لكنها ستطول أكثر هذه المرة. مع ذلك، بقيت مارتين صامتة. ظهر بيير، وحياها. كانت له هيئة قاتمة. - سنقاتل ضد القرار التعسفي للإدارة حتى النهاية، قلت له. أضاء أخضر عيني مارتين فجأة كالصباح، وتعلقت بذراعي. - الحزب يدعمكم، قالت له، سنتدبر أمرنا لتأمين المحروقات والمواد الأولية كالمرة الأخيرة، حتى ترضخ الإدارة، وتوافق على إجراء المفاوضات. - حاولت النقابات إحياء المفاوضات، أجاب بيير. - ستقبل الإدارة الحوار، أكدتُ له. - نعم، أتمنى ذلك. - سنرغمها على التفاوض. - هذه المرة الوضع ليس سهلاً. - سنرغمها على التفاوض. - الوضع ليس... - سنرغم الإدارة على التفاوض. - ...سهلاً. كان بيير راضيًا من لهجتي القاطعة، وفي اللحظة ذاتها، عادت الآلات إلى الدويّ، فأصغينا للدويّ طويلاً، دَوِيّ غطى المكان بصداه. مع مجيء الليل، اتفقنا على أن نتعاقب في الحراسة، فهجوم الحرس أو ميليشيا أرباب المهن، إن لم يكن رجال الدرك أكثر من محتمل، وربما بدأوا بإثارتنا. أوصانا بيير وألبير الاحتفاظ ببرودة أعصابنا ما استطعنا، والبقاء مفتوحي العينين. أخذنا مواقعنا عند المداخل، تحت مخمل الليل، والصيف المسالم يغطينا. - أين جورج الأشقر؟ سألت. - كان هنا منذ لحظة، أجاب أحدهم. - صه! طلب آخر، هناك من يجوس! - سأذهب لأرى، قلت. - من الأفضل أن يذهب أحد معك. - ابحث عن جورج الأشقر، واطلب منه اللحاق بي. وأنا في قلب الزقاق المجاور، انقض عليّ شخصان. تمكنت من التغلب على أحدهما، وهرب الآخر، بعد أن التحمتُ معه في عراك لم يكن في صالحه. أحسستني محمولاً بين مخالب الصقور، فحملت حجرًا، وأردت أن أشج جمجمة الرجل الغائب عن الوعي، غير أن عصفورًا جريحًا، حلق بجناحه الكسير بيني وبينه، وحال دون ذلك. وأنا أعود أدراجي، تعثرت بجورج الأشقر، وهو يبكي، ويرتعد. اعترف لي بجبنه، ورجاني ألا أفضحه لدى الأصدقاء. - ولكن لماذا؟ سألتُ غير مدرك ما يعانيه جورج. - وهل للجبن من تفسير آخر غير الجبن؟ أجاب الأشقر. - بناء على ذلك كلنا جبناء. - ربما هناك تفسير نفسي فيما يخصني. - تفسير... - تفسير منطقي في آخر الأمر. - ...نفسي. - كنت صغيرًا... - تفسير نفسي. - ...في المدرسة الابتدائية، وفي كل مرة، عند نهاية الدروس، كان يضربني تلميذ يفوقني أو يقل عني عمرًا بسنة أو سنتين، كان يضربني بدون سبب، هكذا، مجرد أن يضربني. - ولماذا لم تضربه؟ لماذا لم تدافع عن نفسك؟ - كنت كأبي. - كنتَ... - كان أبي يخضع... - ...كأبيك؟ - ... في كلِّ... - كنت كأبيك؟ - ...شيء. كانت أمي هي الرجل. - كانت أمك هي الرجل! - كانت أمي صاحبة الأمر والنهي: خذ هذا، لا تأخذ هذا، افعل هذا، لا تفعل هذا، ارم هذا، لا ترم هذا... جواربي اغسلها، اكو لي فستاني، افرك لي ظهري... ضاجعني، أوجعني، انحرني... الأشقر يخريني، اجعله يسكت، اجعله يسكت تَبًا للعالم! اخنقه، يا خراء! اضغط بيدك على فمه، واخنقه! اخنقه قلت، اخنقه، هل تسمعني؟ أنت لا تسمعني، أنت أطرش منذ مولدك! اخنقه، اخنقه، اخنقه! هذا الولد ابنك وليس ابني! ابنك، يا ماخور! ابنك... ابنك... ابنك... لم يمنع ما وقع بيني وبين الشخصين المعتديين من أن يشوي البعض المرجاز في الخلاء لعمل ساندويتشات، فامتزجت الرائحة المشهية للشواء بالأنسام. أخذ المارتينيكي يوزع، ويمازح، فانتهره جورج الأشقر: - تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم! - ماذا، يا مومس الغائط؟! رد المارتينيكي بعنف. - ليس هذا وقته، وهناك من يجوس بين إليتيك! - سالم قام باللازم. - وأنا سأقوم باللازم، وأنا سأقوم بأكثر من اللازم، وأنا لا أحتاج إليك، وأنا لا أحتاج إلى أي واحد منكم، لكن ليس هذا وقته. - ما هو سوى بعض المرجاز، يا مومس مومس الغائط! - ليس هذا وقته. - ليس هذا... - وقته. - ...وقته. - وقته، وقته، وقته.
أخذ أحد عمال الشهوة بالغناء:
في الليلِ أغني لكِ عن ظبيٍ وقع في الشبكة يصيح بكِ أن تأتي فالحرية غالية!
في الليلِ أغني لكِ عن ظبيٍ مزق الشبكة يصيح بكِ أن تأتي فالحرية غالية!
بعد عدة لحظات، سمعنا صوت رونيه الشجي، وهو يتعلق بذراع جيتاره:
في المصنعِ عاملٌ يسهر من أجلكَ يا ظبي الغابة كيلا تقعَ في الشبكة فالحرية غالية!
طلبتُ من مارتين العودة إلى البيت، لئلا تقلق مارتا، وتكلف ألبير بمرافقتها. قبل أن يتركانا، أكدا لنا من جديد دعم الحزب وكل بلديات أحاسيس الروح، التي ستتكفل –قدر الإمكان- بتأمين المحروقات، ثم دعوانا إلى الاتحاد والصمود. جاءت فرانسواز وحميد وأبراهام ووردة ومادلين التي ركضت نحو بيير لترشف قطرات العرق عن جبينه. رأيتُ فرانسواز، وهي تتعلق بذراع حميد المقطوعة، ولم نعد نرى أوديت، بعد مولد غرام بينهما. قالوا لنا ليس هناك أقل أثر للحراس، ولا حتى قط واحد حول مصنع الأحاسيس. رغم ذلك، اختطفوا مارتين وألبير في المساء نفسه.
الفصل الثاني
لم أعلم بخبر الخطف إلا في اليوم التالي عندما أنبأني جورج الأشقر مع بالغ دهشتي أن مارتا ترغب في محادثتي. وجدتها برفقة عادل، الذي تركها أول ما رآني أتقدم منهما، وأنا لا أفهم سبب سلوكه. هل أخافته لافتاتنا أم ماذا؟ سألتني مارتا لماذا أنا ومارتين لم نعد إلى البيت أمس مساء. - مارتين لم تعد إلى البيت مساء أمس؟ سألتُ مذهولاً. اضطربت المرأة العجوز: - لا تقل لي إن مار... تحجرت في حلقها الكلمات. - لم تعد إلى البيت مساء أمس! - ...تين... في تلك اللحظة، وصل المارتينيكي راكضًا، وصاح: - لقد اختفى ألبير! أوضح لاهثًا: - اتصلت عائلته بنا لتعرف إذا ما كان معنا، لأنه لم يعد إلى البيت الليلة الماضية. - كان مع مارتين. - يا مومس الرب! لا تقل لي، يا رجل، مارتين كذلك! انفجرت مارتا باكية. - اهدأي، قلت لها. - أين راحت؟ رددت مارتا، أين مارتين؟ رافقتها إلى الداخل، وأنا أطلب منها أن تهدأ، فمن اللازم التأكد مما وقع لمارتين. ذهب الأشقر يهاتف الشرطة، وأحاط بي المارتينيكي وشارل وأبراهام وبيير. لم يكن لدى الشرطة أي خبر عن المختفيين، فقال الأشقر إن هذا الاختفاء المفاجئ، إن لم يكن نتيجة لحادث سيارة –شيء لا تؤكده الشرطة- فهو نتيجة لخطف. - سينتهي بنا الحال إلى إيجاد مارتين، قلت لمارتا، سأعود بها إلى البيت بنفسي، هذا المساء. طلبتُ منها الرجوع إلى الدار، وعدم القلق، فلا بد أن مارتين مرت على صديقة أو صديق، لسبب أو لآخر. اتصلتُ بكل الأصدقاء بلا جدوى. حل المساء، ولم أعد إلى البيت مع مارتين، كما وعدتُ مارتا. - لم نجد مارتين، قلت لها. كانت على وشك الانهيار، تماسكت، وسألتْ إذا ما كانت الشرطة تعمل ما يلزم لإيجادها. ليس على ما يبدو، فمن هي مارتين؟ من هو ألبير؟ ومن نحن؟ لو كان رب العمل الذي اختفى، لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها. - إذن، لماذا هاجموا مارتين؟ - لكسر حركتنا. - أوه! أيتها السماء! - لكننا سنجدها، سنجد لكِ مارتين. دق الجيران الباب، ودخلوا: حسين، لحسن، أنطونيو، إيزابيل، أندريه، أم أندريه، مدام ريمون، أنطوان. سألوني عن أخبار مارتين، فأجبت لا خبر. خبلت حسين الخمر، فراح يسب ويشتم، يرغي ويزبد. - لماذا لا تبحثون عنها بوسائلكم الخاصة بكم، يا ماخور الرب؟! قال لي. رجال الأمن لا يفعلون شيئًا للأمن! العالم كله متواطئ: ينظر إلى مذابح بيروت بلا تأثر! دخل عادل، واعتذر لمغادرته المصنع بسرعة هذا الصباح، في الواقع كان لديه موعد هام. - يجب على عمال الشهوة وكل الأحاسيس النزول إلى الشوارع لتحرير ألبير ومارتين، زايَدَ عادل. يجب أن يكون الضغط على هذا المستوى: الشارع ضد النظام. هكذا فقط سيطلقون سراحهما. لو أني هنا لكنت على رأس كل المظاهرات. مع الأسف، سأغادر البلد (لم يسعد هذا الخبر مدام ريمون)، هذا ما أكده لي موعدي. قلت لك، كان لدي موعد هام هذا الصباح. هذه هي الحياة، ما العمل؟ لم أقل لك، لا منحة لي السنة القادمة، وعليّ أن أستغل الفرصة، وأستفيد من عطلة الصيف لأكسب نقودًا. أنت تعرف جيدًا أن الحياة صعبة في باريس! قست نظرة حسين: - وإلى أين أنت ذاهب؟ - إلى الكونغو. - إلى الكونغو! صفّر حسين. لم نمنع أنفسنا عن الابتسام. - نعم، إلى الكونغو. يحاسبوننا بالدولار هناك، وأجورنا جيدة. - ماذا ستفعل في الكونغو، يا مومس الغائط؟! ستصطاد الأسود؟ - سأعمل كأستاذ في كلية الفلسفة. انفجر حسين ضاحكًا: - في الكلية، خلال عطلة الصيف! أنت تستغبينا، خراء، أم ماذا! - لا يوجد فصل صيف الآن في الكونغو، لأنه بلد استوائي، الأمطار بالأحرى التي ستستقبلني. - وأطروحتك، ومومس كتابك عن الحرب في لبنان، و... و...؟ - سأكتب كتابًا عن مارتين، عندما أصل هناك. أدار بوجهه إليّ. - سأرسل إليك نسخة مطبوعة على الآلة الكاتبة، على أن تزودني بأخبارها أولاً بأول. - لا تقل لنا إنك مسافر هذا المساء؟ قال لحسن. سلم عليّ، وقال: - سترجع حتمًا إلى المصنع، وربما لن أراك. وخرج دون أن ينظر إلى أحد. جاء والد لحسن وزوجة لحسن وكذلك حميد وفرانسواز، ونزلت امرأة رونيه وأولادها. قلت لهم إن رونيه يسهر في المصنع، ولا شيء يُخشى عليه. بدت الزوجة مرتبكة. - من اللازم الصمود، قالت مارتا، لكن جِدوا لي مارتين. ابتهلت أم أندريه، وتوسلت، ابتهلت إلى الله من جديد، وتوسلت. أخرج حسين راديو ترانزستور من جيبه، وسمع آخر أخبار القتال في بيروت. لم تكن الأخبار مطمئنة، فأخذ يسب ويشتم، يرغي ويزبد، معيدًا أن العالم كله متواطئ. أعلمنا أن هناك إشاعة تقول إن الطبيب البيطري يلعب دور الوسيط في بيع الأسلحة للأعداء، وذلك بعد الزيارة التي قام بها الكتائب له، ثم طلب بيرة. - لماذا لا نطرده من الرَّدْب لنتخلص منه؟ أو لماذا لا نحرق عيادته؟ تابع. في النهاية نهض، وغادر. في وسط الرَّدْب، سمعناه يغني: كانت هناك حديقة اسمها الأرض! وما لبث الجميع أن عادوا إلى بيوتهم. - سأعود إلى المصنع، قلت لمارتا. - لماذا لا تنام هنا، هذا المساء؟ - ربما حصلت على أخبار مارتين. تركتُ الرَّدْب إلى الشارع، فلفني الليل الساكن. امتد على جسد الصيف ليل العرايا، وباريس في الصيف مرايا. لحنُها أرغن الحب، ومهدُها وَرِكُ النار. بدا لي أن هذه الباريس التي تومض من بعيد، لا تبالي بغياب مارتين. فجأة، سمعتُ صوتًا يختنق بشهقاته. كان أحد السكارى، كان يبكي، ويقيء، وفي قيئه يسعل بحدة، وكأن حنجرته تتمزق. وأنا أمر أمام مقهى عازفة الأرغن، سمعتُ نفس الأصوات البشعة تغني: "بلدي، ليس بلدًا... إنه الشتاء!" رفعتُ رأسي إلى السماء، غير قادر على عد النجوم، والسماء تبدو كسلة من اللآلئ. نشف حلقي قليلاً أكثر، ونزلتُ إلى المترو. تذكرتُ، والهواء الملوث يصفع الأبواب، آخر نبأ سمعته من ترانزستور حسين، بخصوص المعارك. منذ مدة طويلة لم يكتب لي أخي عبد السلام، وتساءلت إذا ما كان حيًا دومًا. قبل وصولي إلى مصنع الأحاسيس، سمعت نفير عربة إسعاف، كانت تخترق البوابة الكبيرة، وعمال أهواء الروح أشباح تقفز من بعيد. أخذت أركض بكل قواي، فرأيت بيير يغرق في الدم، ويتخبط على الأرض، بين ذراعي المجنون ستيفان. وغير بعيد، كان ثلاثة آخرون من الجرحى. نقلناهم إلى داخل سيارة الإسعاف التي ما لبثت أن انطلقت ممزقة صمت الليل. أوضح لي الأصدقاء: - تحرش أفراد من ميليشيا أرباب المهن عن عمد بنا، مدعين أن إضرابنا لا جدوى منه، وأن احتلال المصنع ضد المصلحة العامة. وهذه الأصداء: مصلحة أرباب العمل، مصلحة أرباب العمل، مصلحة أرباب العمل! - عند ذاك، انقض أحدهم على لافتة، ومزقها، فلوحنا بمكانسنا، وفجأة، "لاجرانج"، الذي نعرفه كلنا، استل مسدسه، وفتح النار. في نفس اللحظة، هرعت سيارة فورد، انفتحت أبوابها، وانقذف أفراد الميليشيا في جوفها، لكننا تمكنا من تحطيم أجنحتها بعصينا، وسجلنا رقمها. - وبييرو، بييرو...؟ وبييرو؟ فكرتُ في مادلين: ماذا ستفعل، المسكينة، لو عرفت؟ سيجن جنونها. - اندفع ليقف على ما يجري، لكنهم أطلقوا عليه، قال المارتينيكي لي، والدموع في عينيه، أطلقوا عليه، يا رجل. وهو يقاوم الموت، أوصانا التحكم في عجلة القيادة، يا ماخور الرب! عدم التفكير في الانتقام، لأنها مكيدتهم. كنت أفكر طوال الوقت في مادلين، وأنا أقول لنفسي إنهم اليوم يتبسّلون لبيير، وأمس خطفوا مادلين وألبير! أحسست بي مُصَمًا، كأن حجر طاحون يسحقني. انتشرنا في مدينة الليل الدموي، لنبلغ كل عامل. جاءت النقابات، الحزب كذلك، واجتمعنا كلنا على الساعة الثالثة صباحًا. قررنا أن نعمل مؤتمرًا صحفيًا في بورصة العمل على الساعة التاسعة، يليه اجتماع عام في الورشات. لم يتوقف الليل الدموي للصيف عن الخفق، معلنًا ساعة الحسم.
* * *
قال المارتينيكي لرب العمل: - نحن لم نتفق على هذا، يا معلم! سأل رب العمل: - لم نتفق على ماذا، يا المارتينيكي؟ - مع ما فعله المجرم لاجرانج ازداد الأمر تعقيدًا. - هذا ما نريد، أن يزداد الأمر تعقيدًا، كلما تعقدت الأمور كلما سهل حلها. - وبوجهه المكشوف فوق هذا! - هذا المغفل لا ينفذ تعليماتي كما أقول له. - سيلقون القبض عليه... - لا تقلق من أجل لاجرانج، هو الآن في مكان آمن. - ...وسيعترف بكل شيء. - لن يمسك أي سوء. - سيفتضح أمري. - لن يفتضح أمرك. - أنا على كل حال سأختفي من الوجود. - ليس بعد أن نجني الثمار. - تقصد خطف مارتين وألبير؟ أنا نفذت، والباقي عليك، يا معلم! الباقي لن يكون من المنافع ما تجنيه الكثير، بعد فعلة لاجرانج! - لا تتعجل حُكْمًا، يا المارتينيكي! - سأظل في خدمتك دومًا، أنا الوفيّ، يا معلم! - أنا أعرف فيك الوفيّ الأكثر من بينهم كلهم، يا المارتينيكي! نهض المارتينيكي، وقبّل يد رب العمل، ثم أعطاه ظهره، وغادر المكان.
الفصل الثالث
أجمعت كل الصحف على إدانة الحدث، ادعت بعضها أنه مخطط له، وبعضها لا. اختلفت الأولى حول الفاعل: رأت بعضها فيه إيماءة من الإدارة، وبعضها تصفية حسابات بين الضحية والجلاد. رمت الثانية بالأسباب على كاهل عمال الشهوة، على نقاباتهم المشجعة إياهم على احتلال المصنع، وإلحاق الضرر بالقانون (أيه؟)، وإعاقة الإنتاج! إضافة إلى ذلك، لو لم يتدخل العمال، لما وقع ما وقع! أما السلطة، فقد أيدت فكرة "تصفية الحسابات"، مكتفية بوصف الأمر "بالشوفينية"، بينما قررت ألا تبقى مكتوفة اليدين، وأن تعاقب بقسوة، غير أن لاجرانج وباقي القتلة بقوا طليقين من أي قيد. لا كلمة واحدة عن قضيتنا الأساسية. لا كلمة واحدة عن بيير الذي يحتضر في المستشفى ولا عن دموع مادلين. لا كلمة واحدة عن مارتين وألبير، لا كلمة واحدة عنا. قررنا النزول إلى الشارع. امتلأت باريس بأصحاب الملابس الزرقاء المزيتة والقبضات الخشنة، ونهر السين دائب الموج، يواصل عبوره صوب مصبه. ارتفعت لافتات عديدة، على مدى الموكب، ولم يعد هناك مكان نضع فيه القدم على الأرصفة. من العادة أن تكون هذه الأرصفة خالية في الصيف، باستثناء بعض السياح والعاطلين عن العمل. من العادة أن تكون باريس في أغسطس صحراء تذكر بالعرق والقرف والأشعة الحارقة. من العادة أن تكون سيقان الملكات العاريات في قصر فيرساي، ولا تغادر تماثيلها إلى فصلنا. هناك شيء غير عادي اليوم: هذا الموكب السلمي! لتغدو العادة غير العادة وغير العادة العادة. ليغدو ملح العرق حلوًا، وتتخلى الحرارة عن شدتها! كانت المرة الأولى التي أبيع فيها "الحُلم" للمتظاهرين، وبعد أن أعاد الأشقر "تَبًا للعالم" عدة مرات، همس في أذني: - سترى، ستعود مارتين وألبير وبيير، ستنتصر المقاومة في بيروت! بعد الظهر، رجعنا إلى ورشاتنا وعملنا، رغم نفاد المحروقات، وعجز البلديات الصديقة عن مدنا بالكابرولاكتام، أيضًا في طريق النفاد. في الساحة، تكلف البعض بالأمن، حملوا البالات الضخمة لرفع الحواجز، ودعم المداخل. عندما سألنا عن أسباب هذه الاحتياطات، أجابونا أن بعض أسر عمال الشهوة استلموا رسائل تهديد، وأن رجال الدرك يستعدون للهجوم. في المساء، خلال حراستنا لمصنعنا، اقتربتُ أكثر من المارتينيكي وشارل وجورج الأشقر، وأعلمتهم أنني عقدت النية على الانضواء تحت لواء الحزب الشيوعي. لم يكن ذلك على التأكيد لحبي للنضال، أنا لا أحب النضال. كان ذلك لشيء آخر. بِلا مارتين، أنا أشعر بالضياع. كان ذلك على الخصوص لأجد نفسي، لأجد آخر أمل لي.
* * *
بينما كانت مارتين وألبير عاريين في الفراش... - لماذا لم تعترف لي بحبك خلال ثلاث سنين قضيناها نناضل معًا؟ سألت مارتين. - سأقول لكِ، فَكَّرَ ألبير. - بلا سلطة غير سلطة قلبك عليك. - لماذا لم أعترف بحبي لك؟ - نعم، لماذا؟ - لأن الإيديولوجيا استطاعت تدجين الذئب الذي فيّ. - ذئب! أنت؟ - كل عاشق ذئب على طريقته. - لهذا مزقتَ لي جسدي بأنيابك! انظر، كل هذه الجراح على صدري وعلى بطني وعلى فخذي! - كنت أرغب في التأكد من كوني استرددت وحشيتي على أكمل وجه، وغدوت عاشقًا كما يجب عليّ أن أكون، إنسانًا. - الشيوعية إنسانية. - الإنسانية شيوعية. - بل وحشية، أيها الذئب! هجمتْ عليه، وقبلته بعنف. - أنتِ أيضًا ذئبة. - ليس لأني أحبك، أنا أحب سالم. - لماذا إذن؟ - لأني لا أحبك. - كيف إذن؟ - نحن نعيش شرط خطفنا، هذا كل ما هنالك. - شرط... - نحن نعيش ظرفنا الاستثنائي. - ...خطفنا. - نحن نعيش ظرفنا العابر. - ظرفنا العابر. - لأنه ظرفنا الاستثنائي. - ظرفنا الاستثنائي. - ليس خطفنا كل السبب وكل هذا الترف الذي جَعَلَنا خاطفونا ننعم به، لا ليس كل السبب، هناك الكامن فينا، شيء فردي جدًا، شخصي جدًا، جحيمي جدًا. صُبْ لي كوب شمبانيا (صَبَّ لها)، أَلْقِمْني بعض الكافيار (أَلْقَمَها)، داعِبْ لي ثديي الأيسر (داعَبَها). - لماذا الأيسر؟ - لأنه مثلنا يساري. - ظننته الأكثر امتاعًا. - لا تعد إلى قفص شيوعيتك بمحض اختيارك. - أنا أم الذئب الذي فيّ؟ - أنت، الذئب... لم يكتمل بعد شرط حريتك. عضه! آه، يا إلهي! أكثر، أكثر، أكثر... يا أمم المغول! يا قوى الرعود والبروق! يا ميتافيزيقيا العناقات الجحيمية منذ آدم وحواء مرورًا بمضاجع ملوك فرنسا وانتهاء بكل قضبان العرب! - لماذا العرب؟ - لأنهم يقتحمون خيال الأنثى كما اقتحمت خيولهم التاريخ وأخضعوه، ثم تنازلوا له عن كل انتصاراتهم، وخضعوا له إلى يوم الدين. - لهذا وقعتِ في غرام سالم؟ - لهذا. - كان عليّ ألا أخضع للإيديولوجيا لتقعي في غرامي. - الخضوع... آه! الخضوع... صرخت مارتين. - الخضوع... همهم ألبير. - إنه القوة الدينامية للفلسفة المادية للتاريخ التي لم يفهمها أحد غير العرب. - ...آه! الخضوع. - الخضوع! الخضوع لثديي الأيسر! - وثديك الأيمن؟ - لا تعضه، اتركه وشأنه! - لماذا؟ - ليبقى الخضوع. - لن يبقى الخضوع إلى الأبد طالما أن للنعوظ نهاية. - سيبقى. - بقدرة الإيديولوجيا؟ - بقدرة الدم. - أفهمُ الآن لماذا إهراق الدماء. قبض ألبير على ثدي مارتين الأيمن بأظافره، وراح يلوح به، مرددًا: - اشتر الحُلم، يا رفيق! اشتر الحُلم، يا رفيق! - هذا الحُلم ليس للبيع! خلصته ثديها، وقبضت بأظافرها على عضوه، فانتصب: - هذا الحُلم للبيع! انقض عليها، وجسداهما طبقتان تتصارعان، بِلَذة التصارع، ومتعة الأخذ والعطاء، حتى غدوا طبقة واحدة مستسلمة مسالمة.
الفصل الرابع
جاءت فرانسواز مع حميد، وهي تصيح: - النار تجتاح الرَّدْب! وثبنا أنا ورونيه نحوها، وأخذتنا في سيارتها. جأر نهر السين، وولولت طيور الليل، والأمواج تنهك قاربًا لا يريد الغرق، بلا شراع. لم ينفك رونيه، وهو ينحني على ظهر المقعد الأمامي، يردد: - أسرعي! أسرعي! وصلنا أخيرًا إلى الرَّدْب في اللظى، تمزقت أشرعة النار، والعالم بلونه النزق لا يقلقه ذلك. رأيت مارتا شبه عارية، ورأيت أم أندريه، امرأة رونيه، امرأة لحسن، الأولاد، أشباهًا للأجنحة. كان سكان الرَّدْب قد ألقوا في الشارع ما استطاعوا إنقاذه من متاع، وقد قذفوا كذلك دلاء الماء، لكن بلا جدوى، فالنار تتقدم، تتقدم، ترقى، ترقى في الليل، تخرم الليل، وتتقدم. - أين رجال الإطفاء، يلعن دين؟ صحتُ. - منذ ساعة ونحن في انتظارهم، قالت مارتا. وانفجرت باكية. - يا إلهي! تأوهَتْ. نادت أم أندريه، وهي تشد الصليب في يدها: - ماري! ماري! تعالي إليّ، حبيبتي ماري! فتكت النار خاصة بالقسم الذي نسكنه، أنا ورونيه وأندريه. عوت امرأة رونيه، فزعًا من قوة النار، التي عجزنا عن إخمادها. أخيرًا، سمعنا نفير رجال الإطفاء، الذين وصلوا حَيَّنا. تجمعنا خارج الرَّدْب، وعددنا أطفالنا لنكتشف أن العدد ينقص عما كان عليه. جُنَّت زوج رونيه، اندفعت داخل اللهب، وهي تريد إنقاذ ابنها بأي ثمن، لكن النار الأقوى قهقهت ساخرة، ودفعتها نحونا، فأمْسَكَتْها أذرعنا. أُغمي عليها، كَسِرْبٍ من الطير، على شفا جُرفٍ هاوٍ، كبضاعة مطروحة في الأسواق. قادتها فرانسواز إلى المستشفى، وأشرعة النار تنطوي كالبرق في الغيم، تحت تأثير خراطيم الماء. وكما لو كان ذلك بسحر ساحر، تحولت إلى دخان أشبه بالشجر العملاق، في السماء. تساقطت أوراقها، وعلت أظافرها السوداء مشيرة إلى الاتجاه الذي علينا أن نسلكه. صحونا من غفلتنا، لنكتشف ما آل إليه مأوانا: ركام أحمق، رماد أخرق، لهب أزرق. لأول مرة، رأيت حسين مذهولاً، لكنه سَيِّدٌ لكل حواسه، كَيِّسٌ بكل حقده. رأيت كذلك، الأسرة صاحبة التلفزيون، كيف تجذب جهازها في حضنها. - نار كهذه لم أر في حياتي مثلها! ارتعد والد لحسن، لحسن، وأولاد لحسن يحدقون بعين فزعة في الرغوة البيضاء التي تبصقها الأفواه الميكانيكية على حَيِّنا. رأيت أصغرهم سنًا، وهو يمص إبهامه، جالسًا على المتاع الملقى هناك. عَبِثَت إصبعه بترانزيستور، فغنى كمال: في الميزير، انت حبيبي، في الميزير! احتد لحسن على سماعه، واتجه نحو الترانزيستور ليحطمه. لم أدر لماذا بحثت عن مدام ريمون، التي كانت تقف خلفي. انحنت على أذني، وهمست: - أراد المتعهدون أن أبيع بأي ثمن، وها هي النتيجة. - هل تعتقدين أنهم هم... - لم أخضع لتهديداتهم. - ...الذين فعلوا هذا؟ - ومن غيرهم، في رأيك؟ أضافت: - المحظوظ بيننا، هو الطبيب البيطري، عيادته لم يمسها الشيطان! التفتنا إلى شخص تخنقه الدموع، فرأينا رونيه، وهو يشد طفليه إلى صدره. - المجرمون! دمدمَ. قتلوا أخاكما الصغير! مضى إطفائي قربه، وقال لنا: - إنه الغاز دون أدنى شك! نهض رونيه، بهيئة شرسة، وأبدى اعتراضاته للجميع، وهو يشهر التهديد الذي استلمه منذ يومين. - خذوا، اقرأوا، لتعرفوا من هو المجرم الحقيقي.
* * *
تركهم المارتينيكي في حوار حاد يدور حول من أضرم النار في حي بيلفيل، وما كان يرمي إليه إضرام الفتنة بينهم، على الأقل الوقت الذي ينجز فيه مأموريته. ستكون الأخيرة، قال لنفسه، وسأختفي بعد ذلك عن الأنظار، عند الظهر تمامًا. سأعود إلى المارتينيك، جزيرتي التي أكرهها أكثر من أي مكان آخر في الكون، أكره بحرها، أكره شمسها، أكره أهلها. لا تكره أحدًا، يا ولد! كانت تنهره أمه، أبوك يحب الكل، فكن كأبيك! لهذا انتحر أبي، يا ماخور، لأنه يحب الكل! انتحر، هل تفهمين؟ انتحر! ربط قدميه بالسلاسل، ورمى بنفسه في البحر. يحب السمك بالأحرى! يحب الكل، يحب الكل! بل يحب السمك، يحب السمك! وإلا لماذا ألقى بنفسه في البحر، يا مومس غائط العيشة؟! يحب الكل، يحب الكل! فليحب الكل ما شاء له، هذا الأب الطيب القلب! هذا الأب الغائط! يا مومس غائط العيشة! لهذا أَحَبَّ الكل، هذا الأب الغائط، ولم يحبك! يا أمي، أَحَبَّ الكل، هذا الأب الغائط، ولم يحبك! يا أمي، أنتِ كذلك لم تحبيه يومًا، هذا الأب الغائط، يا مومس غائط العيشة! يا أمي، أنتِ لم تحبي أحدًا يومًا، مثلي، مثلي أنا، يا ماخور الماخور! لم تحبي أحدًا، لأن أبي لم يكره أحدًا! كان عليه واجب حبهم كلهم، خاصة أولئك الذين كانوا يجيئون لرملنا وبحرنا وشمسنا، المليئة رؤوسهم بالأفكار السافلة، أولئك الذين كانوا يحلمون كيف يأخذونك في كل الأوضاع، من ظهرك خاصة، من ظهرك، أبناء المومس، من ظهرك، بينما أنظر إليهم، وهم لا يبالون بعين الطفل التي لي، عين بريئة، كانوا يقولون لأنفسهم، فهم يثمّنون الأعين البريئة للأطفال، البراءة، يحمونها، يدللونها، يشخون عليها، من ظهرك، يا مومس غائط العيشة! الوضع الضد الحضاري على أكمل وجه، الوحشي بوداعة، العادي في العين البريئة، فكم من مرة كان يتكرر هذا في اليوم بعيدًا عن العين البربرية لأبي الذي كان يحب الكل، أكثر من السمك، كنتِ تعتقدين، لكنه لم يكن يأخذ قاربه للصيد، كان يأخذ القارب ليبتعد أكثر ما يكون عن الوضع الضد الحضاري، ليحب السمك أكثر من أي شيء آخر، يا مومس غائط العيشة! ليقول لأفكارهم السافلة، أنا أحب السمك أكثر من أي شيء آخر، فليس للسمك ما لكم من أفكار سافلة، ليست المارتينيك للسمك ماخورًا، يا ماخور الماخور! ليست القُبلة الفاحشة، ليست العضة الباغية، ليست الشيء الإلهي بين الإليتين! إلهي هو هذا الشيء عندما لا يتحول إلى فائض قيمة، عندما يكون ملكية خاصة، عندما نتعامل معه كحق فردي لا كحق جماعي، نعم الشيء الإلهي حق فردي، كل ما هو إلهي حق فردي، حق شخصي، حق جحيمي، يا مومس عيشة الغائط! وأول الحقوق الفردية هو هذا الشيء الإلهي الذي بين الإليتين، هكذا يكون الحق الفردي حقًا طبيعيًا! الحق الطبيعي، الحق الجسدي، الحق الإنساني، يا مومس عيشة الغائط! لكنهم جاؤوك، يا أمي من بعيد، من بعيد جدًا، آلاف الكيلومترات، من بعيد جدًا جدًا، يا ماخور الماخور! لم يجدوا الوضع الضد الحضاري عندهم، في قلب حضارتهم، وهم إن وجدوه ملّوه، لأنهم يريدون شيئًا وحشيًا، شيئًا بربريًا، شيئًا لا يُقَدَّر بثمن، لا يُقّدَّر بفائدة، لا يُقَدَّر بمسافة، من بعيد جدًا، آلاف الكيلومترات، من بعيد جدًا جدًا، ولم يهمهم أن يجرموا، لم يهمهم أن يدفعوا أبي إلى الانتحار، لم يهمهم أن أُشعل عود ثقابي (أَشعل المارتينيكي عود ثقابه)، وأن أُحرق العالم (أَحرق المواد الأولية).
الفصل الخامس
لم نُقِمْ في فندق على حساب البلدية، كما وعدونا، وقضينا نهارنا بين أنقاض بيوتنا المحترقة. في المساء، انعطفنا على أنفسنا، في الأسود الدامس، كل واحد في زاوية. ومن وقت إلى آخر، كانت تصلنا الأصداء المختنقة لتضرعات أم أندريه، أصداء يقطعها السعال الحاد لأنطوان. في اليوم التالي، ذهبنا إلى البلدية، وحصلنا على نفس الجواب: فنادق الحي مليئة بالنزلاء الصينيين الذين يأتون لا ندري من أين! وفي أماكن أخرى؟ أجابونا أنهم من المستحيل إرسالنا إلى الهيلتون! حين عودتنا، قررنا ترميم ما يمكننا ترميمه بأنفسنا، دون انتظار شركة التأمين، المتواطئة مع متعهدي بناء ناطحات "للعِرق الأصفر" محل سُكنانا. هم لديهم الأموال، ونحن لدينا الآمال. شمرنا عن سواعدنا، بعد أن تشاركنا في شراء الأدوات والمواد اللازمة. بعد عدة أيام، أعدنا أبوابنا ونوافذنا، وجلونا جدراننا. خلال كل هذا الوقت، كان حسين يسكر بين جدرانه الأربعة شبه المهدمة. وبينما كنا نعمل، كان يأتي، بوجهه الباهت، ويرفع نحونا إصبعًا مهددة: لو سمعناه، وأحرقنا عيادة مومس الطبيب البيطري هذا لما حصل شيء! في رأيه، البيطري هو من دبَّر كل شيء، لأن حسين لديه البرهان القاطع على أنه يرسل أسلحة إلى الكتائب. ثم أنهى بتهكم: - لو كان عادل هنا، لأضاف إلى الكتب التي ينوي كتابتها كتابًا آخر مفيدًا، يا مومس الفيلسوف! وأطلق ضحكة مختنقة. أخبرني أن أخاه قد هرب مرة أخرى من سجون الأراضي المحتلة، فأمسكه "إخوتنا العرب" على الحدود، وأعادوه من حيث أتى. - الأحوال صعبة! تابع، خؤونة! مومس غائط! الطوق يضيق حولنا، في بيلفيل، في بيروت، في الأراضي المحتلة. إنه-الخراء-الأسود-للجميع! بدا حسين دميمًا ومغتربًا، كان يرى عالمًا ينسجم مع تعاساتنا، نحن، أطفال الشهوة. فجأة، صاح: - لكن انتظر، يا مومس المومس! انتظر قليلاً، وسترى. ما دامت البنادق تتكلم، النصر أكيد. جرع كأسه، وحكى لي أنه لا يمكنه التفاهم مع جاك، الذي سرقه، بينما هو، سعى لإنقاذه من قدره الرديء. اكتشف أنه لوطي، وانتهى به الأمر إلى طرده. لا ينقصه سوى هذا، أن يعاشر المماحين! - حتى ولو أيد جاك قضيتنا، قال، يومًا ما أصوله البرجوازية هي التي ستغلب، وسيبقى مومسَ غائطٍ قذر! منحطًا! رجعيًا! كنت أعرف أنه يخلط كل شيء، فلم أعبر عن احترامي للاختيار الجنسي لجاك. بعد أن أغمض عينيه مرتين بقوة، سألني عن أخبار مارتين. - لا خبر، قلت. أوسعني شتمًا، وضرب بقدمه الأرض: - يجب ألا تنتظر المعجزات، يا مومس المومس! يجب أن تشتري سلاحًا، وأن تجدها بنفسك، بقوتك، دون أن تعتمد على أحد، مع احتمال أن تقتل الذين يعارضونك. يجب ألا تعمل مثل هذا الغائط رونيه، قتلوا ابنه، ولم يفعل شيئًا. أردت أن أقول له إننا نعد لشن إضراب عام في كل فرنسا، لأجل ابن رونيه، لأجل ألبير وبيير ومارتين، ولأجله! فضلت السكوت، وأنا أراه يشرب كالمرحاض، دون أن يستطيع الارتواء أبدًا. بدا لي أن الجدار الذي يسد الرَّدْب من وسطه يتحدانا هذه المرة أكثر من أي وقت. تذكرت مارتين التي اقترحت عليّ ذات يوم أن نفتحه. كان ذلك في يوم عرسنا. قلت لنفسي: نعم، لِمَ لا نفتحه؟ نزلتُ، ووقفتُ طويلاً أمام الجدار. ذهبتُ بعد ذلك إلى المستشفى، وعلمت أن بيير، طائر الحرية ذاك، قد مات. كانت الحيلة التي قتلته لا الإغراء. خلال اجتماع الخلية، صوتنا على الإضراب بالإجماع، ووجدتني عند سقوط الليل، جنبًا إلى جنب جورج الأشقر وشارل والمارتينيكي، ونحن نلصق على الجدران نداء الحزب من أجل الإضراب. كان الأشقر قربي، وهو يغطس الفرشاة في الصمغ، ويسحبها إليه. - سنصيب مصالحهم في الصميم، قال بشجاعة، سنزرع في بنوكهم الرعب، ليرجعوا عن إغلاق المصنع، عن هدمه،... - عن حرقه كما حرقوا المواد الأولية، قاطعه المارتينيكي. - ...عن هدم قناة سان-مارتن، وليعيدوا لنا ألبير ومارتين. واجتر لنفسه: "تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم..." بلا نهاية. كرست الصحف صفحتها الأولى لنجاح إضرابنا، ونداء نادين. اتجهت الأنظار نحونا، ونحو تل الزعتر. بعد عناء الظمأ، أسقى الأمل قلوبنا. عند المساء، لم يكن دوري لحراسة المصنع، فعدت إلى البيت، وتعشيت مع مارتا. تحدثنا طويلاً عن نجاح حركتنا، ونداء منظمات السلام، لإرسال الصليب الأحمر كما طلبت نادين، لإنقاذ الجرحى، طيور الحرية الآخرين. رجت مارتا: - عسى الحرب أن تتوقف، عسى مارتين أن تؤوب. عند منتصف الليل، سمعتُ طرقات على الباب، فسارعتُ بفتحه، وفي الضوء، رأيت مارتين.
* * *
شيمون وسليم وهما في طريقهما إلى علبة ليل للمثليين... - هذا الكعب العالي، لم أعتد عليه، قال شيمون. - ولن تعتاد عليه، قال سليم. - ليس هذا لأني لست امرأة. - بل لأنك لست امرأة. - مساء الخير، يا بنات! قال لهما أحد العابرين. - هل سمعت؟! عَبَّر شيمون عن دهشته. - طبعًا بالباروكة والتنورة الضيقة والماكياج، قال سليم، لكنك أنت، لن تكون سوى أنت. - خنشور مستهتر. - أنت، فقط أنت، فكل هذا تنكر لا غير. - خنشور مستهتر، يا ماخور! - إن كنت ترى الأمور هكذا. - خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور! - مساء الخير، يا بنات! قال لهما عابر آخر أراد مرافقتهما. - تابع طريقك، وإلا قَطَّعتك إرْبًا بقضيبي، نبر شيمون بصوته الخشن. - لقد أرعبته، المسكين! قهقه سليم. - خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور! - وممن أنت غضبان؟ - من لا أحد. - إذن لا تُخْفِ عواطفك. - خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور! - أنت بالفعل لا تخفيها. - عنكَ. - هل نسيت العابر الذي أرعبته؟ - سليم، أنا لا أقدر على التخفي، أنت تقول التنكر. - هذا لا يبدل شيئًا من ميولك الجنسية. - خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور! - إذن العب اللعبة، تنكر وكن ذاتك. - هذا أنت. - هذا أنا، وأنت تعرف السبب. - السبب، السبب، أنا أعرف السبب، لهذا لا يمكنني أن أتنكر وأكون ذاتي مثلك، أن أتنكر شيء، وأن أكون ذاتي شيء آخر، خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور! - لأنك تعتقد أن كل هذا لك، أنني أنا لك كذلك. - ماذا تريدني أن أعتقد غير ذلك؟ - لو كنتُ مكانك، لاعتقدت مثلك. - أرأيت؟ - لكني لن أكون مكانك. - لا توهمني أنك تخليت لي عن كل شيء. - أنا لا أوهمك. - خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور! - هل ترى أينها سنغافورة؟ - لا أريد أن أرى، أريد أن أقضي أمسية مستهترة خنشورية معك. - لا، بجد. - أرى أينها سنغافورة. - لا توجد أرض هناك. - عرفت إلى أين تريد أن تصل، يا ماخور! - انتظر قليلاً. - خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور! - اتركني أقول كلمتين فقط. - قل، يا ماخور! - الأرض عندهم مستنبتات زجاجية بعدة طوابق، يزرعون فيها كل الخضروات، وكل الفواكه، وكل الزُّروع. - لا مفهوم للأرض عندهم كما هو عندنا. - لا للأرض كمفهوم بالأحرى. - والناس، أين تضعهم؟ في المستنبتات كذلك؟ - في ناطحات سحاب، ولكل واحد شقته ببلاش. - والماء؟ ستأتي به من أين؟ من التوراة؟ من القرآن؟ - من تحلية ماء البحر. - خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور! - لما نشطب على الأرض كمفهوم، نشطب على كل الصراعات ليس فقط بيننا وبينكم بل وعلى كل الصراعات في العالم. انظر كيف يتصارعون كالبرابرة في بيروت! انظر كيف يتصارعون كالبرابرة في باريس! انظر كيف نتصارع كالبرابرة في القدس! - سنغافورة. - سنغافورة، نعم، سنغافورة، لا شيء هناك سوى الماء. وما أن اجتازا عتبة علبة الليل الضاجة بالليل والموسيقى حتى اختطفتهما الأيدي، وفصلتهما عن بعضهما. - هل فكرت في هذا، يا ماخور الماخور؟ صاح شيمون بسليم. - فكرت، صاح سليم بشيمون. - ماذا فكرت؟ - أن تفكر. - ماذا، يا ماخور... - أنني لست فقط لك، أن كل هذا ليس فقط لك. - ...الماخور؟ - خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور! قلده سليم.
الفصل السادس
حكت لي مارتين أنها أمضت كل وقت خطفها، في أحد قصور ضواحي باريس المهجورة. كانت وحدها تمامًا، بعد أن فصلوها عن ألبير. حققوا معها طويلاً، وعذبوها. أرتني جراح صدرها وبطنها وفخذها، وارتمت عليّ، باكية. - لا تبكي، يا حبيبتي، قلت لها. المجرمون! كيف تجرأوا على خطفك مني؟ شددتها بين ذراعيّ: - لا، يا حبي! أريدك قوية، كعادتك. لا أريدك أن تبكي! المجرمون! المجرمون! لا أريدك أن تضعفي! لا أريدك أن تخفضي لهم جناحك! أرادوا حرماني منك. أرادوا حبسك في القصور، وجعلك فريستهم، لكنهم فشلوا. اقتربي مني أكثر! أرغب في عناقك، وفي جعلي واحدًا معك. لا تبكي، يا مارتين، أو ابكي، أنتِ، يا ابتسامة القلب الحزين! لم أستطع رؤية مارتين تبكي، تذكرت ابتساماتها الماضية، عندما كانت تصيح: "اشتر الحُلم، يا رفيق!" قبل أن تصعد الشمس، تحت أضواء المصابيح، عندما كانت في المستشفى، قربي، عندما كانت عندي لأول مرة، عندما كانت في الثلج، في الرَّدْب، في الطريق، عندما كانت تتقدم على الجليد، عندما كانت تركض، تضحك، تذهب وتجيء، عندما كانت تذهب وتجيء، عندما كانت لا تذهب، لأنها كانت تجيء لتبقى... تلك الابتسامات التي تنير أحلامي. رفعتُ ذقنها، ورأيتُ عينيها الخضراوين، لأطرد منهما الليل والبرد. الارتعاب. مسحتهما بأصابعي، وضغطت شفتيّ على شفتيها: أنا هنا، يا مارتين، ستكبرين على ساعدي. لأجلك، أضربنا، لأجلك، تظاهرنا، وتحالفنا مع الحمام. نعم، زرعنا الرعب في بنوكهم، كما قال جورج الأشقر، وأرغمناهم على إطلاق سراحك. حكت لي مارتين أن الذين اختطفوها هم أنفسهم الذين أعادوها إلى البيت قبل أن يختفوا عن الأنظار. وطوال كل ذلك الوقت، لم تكن تفكر إلا في رؤيتي. - أحبكَ أكثر، همستْ في أذني. كشفتُ لها عن انخراطي في الحزب الشيوعي. - لم تعودي ضحية، قلت لها، أنا ضحيتك. تحت معنى أن الحب كالعدل جلادنا الوحيد. رمت بنفسها على عنقي، قلقة، تعبة، لكنها رددت في أذني: - أحبكَ أكثر، يا حبيبي! وأنا: - قلبي مفعمٌ بحبِّكِ أكثرَ من أي وقت مضى! لعينيك أحبك، بقلبي المُغْوِي، بأهواء الروح، ولأكون، لأُدْهِش. حدثتها عن الحريق، عن تحرير مصنع الأحاسيس، عن نداء نادين، عن صمود عبد السلام. ومن جديد، عادت إليها ثقتها بنفسها. - سينتهي كل شيء أحسن نهاية، أجابت. - نعم، سينتهي كل شيء أحسن نهاية، قلتُ. - حبيبي! - حبيبتي! مضت الأيام، ونحن ننتظر بين لحظة وأخرى إطلاق سراح ألبير، فطال انتظارنا، غير أننا لم نكفّ عن استنشاق الأمل، خاصة عندما علمنا أن الإدارة تسعى إلى مشروع برتوكول للعودة إلى التفاوض. على أي حال، طلبتُ من مارتين أن تحرر محضرًا في مركز الشرطة، رغم أن خاطفيها لم يكشفوا عن هويتهم. شيئًا فشيئًا، عادت إلى مارتين ابتسامتها، وعادت إليها استطاعتها. أخذت تساند بحمية حركتنا، المقاومة في المصنع، في لبنان. وصلتنا أخبار الانتفاضة في الأراضي المحتلة، فقلت لنفسي لا شك أن أختي ياسمين قد نزلت إلى الشارع، بعد شفائها، وهي تصرخ بالنداء تلو النداء لإنقاذ الشهوة، لإنقاذ العصافير، لإنقاذ أخي الصغير، وكل الأسرى. تخيلتُ أمي في الوحل، وهي تدفع بإصرار إلى الأمام عربة الخبز، باسم كل ما هو أعظم، باسم كل ما هو أجمل.
* * *
أخذت أمي تعري أختي لحمّامِها، وهي تخلع ملابسها قطعة قطعة، وهي تلمس جسدها عضوًا عضوًا: - هذه الكتف أطرى من أعواد اللوز، قالت أمي، سأدللها لك كما لم تدلَّل من قبل، فهي أول ما تقع عليها العين... هذا الثدي أعتى من رماح الرومان، سأشحذه لك كما لم يُشحذ من قبل، فهو أول ما يُرهف الذوق... هذا البطن أحن من أُمَّات الطير، سأعطره لك كما لم يُعطر من قبل، فهو أول ما يُبرئ، أول ما يُمرض، من مرضه البراءة ومن براءته المرض، لأنه بطن الأم وبطن الزوجة، بطن كل النساء الحرام والحلال، سأغمره بالماء حتى يفيض العالم بالبحيرات، ويعجز مضاجعوك عن التفريق بين بطنك، وفرجك، وفخذك... هيا انهضي! نهضت ياسمين بعاجها إلى طشت جلست فيه، وانتظرت أن تأتيها أمي، فما أتت، وقد أتاها الجنود، وفي أحضانهم مئات العصافير التي اصطادوها. راحت تأخذها منهم عصفورًا عصفورًا، تفصل بأصابعها رأس العصفور عن جسده، وتلقي الرأس في مكان، والجسد في مكان، حتى امتلأ كوخنا برؤوس العصافير وأجسادها الميتة. خلال ذلك، دخلت جندية على ياسمين من شَرخٍ في الجدار، وأخذت تداعبها في غير ما تهيّب: شفتاها، حلمتاها، فخذاها. جن جنونها، فخلعت كاكيها، وذابت في العراء بين ذراعيها. - ياسمين، تعالي عارية كما ولدتُكِ، طلبت أمي، فلا أحد غريب، كل هؤلاء الجنود يعرفون كل شبر في جسدك، فلا تخجلي. - والعصافير؟ قالت أختي، وهي تحاول إبعاد الجندية عنها. - ما لها العصافير؟ - ستراني (وللجندية:) كفى، أمي ستأتي. - قطعتُ رؤوسها كلها. - وعيونها؟ - ما لها عيونها؟ - مفتوحة على سَعَتِها. - عيونها ميتة. - ستراني (وللجندية:) قلتُ كفى. - عيونها ميتة، مفتوحة لكنها ميتة. - لن تراني؟ - عيونها ميتة، ميتة، تراكِ ولا تراكِ. - ستراني (وللجندية:) قلتُ كفى كفى (تتركها إلى أمها، والأخرى تكاد تفقد عقلها). - رأسك عنيد كأبيك. - لم أعرف أبي. - أحسن لك. - هل كان سيئًا إلى هذه الدرجة؟ - كانت عينه ميتة. - لهذا مات؟ - مات لشيء آخر. - ما هو؟ - قلت لك كانت عينه ميتة. - هل قتلتِهِ؟ - لو كان الأمر بيدي لقتلته. - عرفت، لأنه كان يحب غيرك. - كان يحب غيري هذا صحيح، لكنه ليس السبب. - ما السبب؟ - كان يعرف أنني سأجعل منك عاهرة. - ليس هذا سببًا مقنعًا. - سأقول لكِ. - قولي. - لأنني كنت أحب غيره. - كنت أعرف. - كان ضابطًا... - يبدو أن أصحابك العساكر هم كل حياتك. - ...في الجيش الأردني. - كفى، أعرف الباقي. - أنت لا تعرفين. - لا أريد أن أعرف. - دعيني أقول لك. - لا أريد، لن تجعليني أكرهه. - الضابط؟ - أبي. - طوال عمرك لم تحبي أمك. - لهذا عهرتِني. - لهذا عهرتُك. - ماذا أفعل بعصافيرك الميتة؟ - هناك شيء آخر. - اعفيني. - هناك... - قلت اعفيني. - ...أخوك الكبير. - عبد السلام؟ - وأنت صغيرة... - هل تظنينني لا أعرف؟ - ...فَعَلَ الحرام... - معي. - ...معك. - فَعَلَ الحرام معي أعرف هذا. - وليس مرة واحدة. - أعرف هذا، صاحت ياسمين، من السخف أن تقولي لي هذا الآن، فأنا أعرف هذا، أعرف هذا، وأنا أحب هذا... - رحمتك، يا إلهي! - ...أحببت هذا. - بل لعنتك، يا إلهي! - بعد ذلك، أنا من كانت تذهب إليه. - أكثر من لعنتك، يا إلهي، ماذا؟ - أنا من كانت تريد. صَفَعَتْها صفعة قوية، ألقت العصافير المقطوعة رؤوسها في حضنها، وأمرتها أن تنتف ريشها، لتكون وليمتها للجنود. غطى الريش عاج أختي، فنبت لها جناح، وبرز لها منقار.
الفصل السابع
ومن جديد، ارتدت باريس غلالة الشتاء الضبابية، أنشب الجليد مخالبه في الأرصفة، سميكًا، لكنه أقل سطوة من السنة الماضية، فالنساء لم يلبسن ما يغطي سيقانهن، والرجال لم يرتدوا معاطفهم. كانت باريس على صواب، لتضيعنا الصواب، كما كان وضعنا في كل الفصول، فلم يستطع العابر لشارع بيلفيل حتى الساعة التقدم إلا ببطء وحذر، وإلا تعرض للسقوط والانكسار. كنا طاقتها الإنتاجية، وطاقتها الحركية، وطاقتها الكامنة، ونحن لهذا، كتماثيلها، طوقناها بذراعينا، وانطوينا على أحاسيس سرية ليست مفبركة في مصنع الأحاسيس. ومع ذلك، كنا لباريس الذي هي أعرف به، كشعر الغادة الذي تمشطه، كأظافر العاشقة التي تلونها، كفستان عارضة الأزياء الذي تشلحه. وكانت باريس لنا الذي نحن أعرف به، كصندوق البنك الذي نملأه، كشركات التأمين التي ننشرها، كبردعة الذهب التي نرفعها. كانت باريس نقطة انصهار الجليد في بوتقة فرنسا، كما كانت نيويورك نقطة انصهار الجليد في بوتقة العالم، وكان التنافس بينهما، وبينهما وبين غيرهما من أسياد زمن النعيم في مناطق الجحيم الأزرق والأخرق والأحمق، مناطق يحط عليها ليل رأس المال بقمره الفضيّ. لهذا نظرنا إلى باريس كالمختل العقل، نرى الدنيا نهارًا، والدنيا ليل، ويبدو حي بيلفيل خاليًا، فلا لاعبو قمار، ولا مهربون من كل صنف، ولا عصافير تصيح تعجبًا. كالمختل العقل، رأينا الحي بحضوره الخاوي مفعمًا. وبينما أنا أصعد الشارع ببطء وحذر، وأحاول بإصرار ألا أزلق، انفتح باب مقهى مطلع الفجر، ليقذفوا أحد السكارى، فعرفت حسين، الذي يضرب بيديه وقدميه صفحة الجليد بلا جدوى، لينهض. رأيت وجهه الناقم، وسمعت كلامه المتنافر. ثم مع محاولة قصوى للنهوض، رأيته يخر تحت وطأة وجوده. رفع قبضته في الفضاء، وصاح: - كلاب الغائط! ثم هز قبضته مهددًا: - سأقتلكم جميعًا! تذمر: - يا مومس الغائط! ثم صاح: - بلد بلا رجال، بلا رجاااااااااال! بلد بلا ثوريين! بلد رجعيين، رجعييييييييييييين! صفعه البرد، وها هو يهبط الشارع مترنحًا، ويسقط في القمامة. وهو على الأرض، غرق حسين في الأقذار. فتح عينيه، وهمهم: كانت هناك حديقة اسمها الأرض... أغمض عينيه، وهذى: - لا حل إلا بالحرب! لا كلام إلا بالرصاص... بالرصااااااااااص، يا مومس! لا كلام إلا بالرصاص، يا مومس الغااااااااااااائط! لا كلام إلا بالرصاص، يا مومس العييييييييييييش! امحت معالمه، وضاع بين الجرذان. من وراء النافذة، كانت مارتين تراقب قدومي. في اللحظة التي اخترقتُ فيها الرَّدْب، نَزَلَتْ للقائي. كانت تحمل فأسًا نحاسية، قروسطوية، جميلة، بديعة، لامعة، بارعة، جامحة، صالحة، تقية، سرية، خيالية، خيلية، جهنمية. تصادى الرَّدْب مع إيقاع خطوات مارتين، وقبل أن تصلني، قالت لي: - أرجو أن يكون هذا ما تريد. رفعتِ الفأسَ عاليًا، وأعطتني إياها. أخذتُها، وداعبتها. - هذا ما أريد، قلتُ. - حسنًا. - أنتِ جاهزة؟ - أنا جاهزة. - سَنُسَوِّي المشكلة. - تسوية ودية. - ليست ودية إلى هذا الحد. - ليست مؤقتة. - كل شيء سوى أن تكون مؤقتة. - كسيولة الهواء. - كسيولة رؤوس الأموال. - هل تعرف من هي المرأة التي تُشتهى؟ - جدارٌ كهذا. - تفاحة. - سوق. - فرجٌ حليق. - منطقة نفوذ. - مائعٌ أصفر. - مادة أولية. - شعبٌ أناثي. - الشعوب خراءات أناثية أم ذكورية على الرائحة العطنة للواحد والآخر أن تبقى أزكى ما يكون، وكجائزة كل العذابات الموجودة على وجه الأرض. - تصرف إذن على هواك. - بكل حرية. - بتبصر ورَوية. - كسيد. - كرجل شريف. - أو لا شريف... أحيانًا. - كفأس نحاسية. - معجبة بنفسها. - تأتي بالعجب. - في العصر الجليدي. - في عصرنا هذا. - العصر الحجري الحديث. - العصر الذهبي. - تَعِلَّة... - تعليل... - ...تتعللين بها عن خيبتك. - ...بالأباطيل. - ما الذي تعنينه بقولِكِ هذا؟ - لا شيء سوى إغرائكَ بالقتال. - بالهرب. - بالقتال... - كما يغري الطبيب البيطري الكلاب على المارة. - ...بالإقدام. - إغراء المتعة. - إغراء الشهوة. - الخسارة. - الربح. - الخسارة، الخسارة. - الربح، الربح. - الخسارة، يلعن دين، الخسارة، الخسارة. - الربح، الربح، الربح. - أي ربح؟ ربح السفلة الذين يحكمون العالم؟ - ربح الوجود. اتجهنا نحو الجدار الذي يسد الرَّدْب من خاصرته، بينما تتعلق مارتين بذراعي، وتبتسم بكرم، كما كانت تبتسم يوم زفافنا. رأينا الجليد يتشبث بالجدار من كل النواحي، أشبه بقرش أبيض آكل للبشر ضخم يفغر فمه على سعته كاشفًا عن أسنانه المشحوذة، قصد التهامنا. - ضربة واحدة، قلت لها، وتحققين أمنيتك. لم تتردد: - فلتفعل. رفعتُ الفأس عاليًا، أعلى ما أقدر عليه، وتركتُها تهوي على الجدار بقوة، أقوى ما أقدر عليه. في نفس اللحظة، طارت العصافير، وحلقت بعيدًا، عاليًا، اختفت، ثم كالشمس من أعماق الليل بزغت، راجعة، وعلى أجنحتها النقع والنوء، وبمخالبها العاصفة.
خاتمة
أخيرًا، رضخت مدام ريمون لابتزاز متعهدي البناء، الذين أشعلوا النار في مساكننا للمرة الثانية. باعت الرَّدْب، كمعظم مالكي شارع بيلفيل. اقتلعته الجرافات كالشجرة من جذورها، وفي مكانه رفعوا برجًا، واحدًا من تلك الأبراج الجحيمية التي قاطعها الباريسيون، ولم يزالوا، والتي امتلكها "البوت-بيبُل" مقابل قدر كبير من الآلام، ومعهم، كل "العِرق الأصفر" المهاجر، لئلا يختلطوا بالعِرق الآخر، المسمى أبيض. هكذا بدأ عصر تشاينا تاون مع ميلاد العنصرية.
الكتابة الأولى باريس 1978
الكتابة الثانية باريس الأحد 2015.10.25
هذه الرواية
أحبها آراغون كثيرًا، وحال موته المفاجئ دون نشرها بالفرنسية، فانتظرت حتى العام 2003.
إنها قصة حي شعبي من أحياء باريس اسمه "بيلفيل"، قبل أن تهدمه الجرافات، ويتحول إلى ناطحات سحاب، وتُزرع فيه ما يدعى اليوم "بالتشاينا تاون".
الرواية إذن تصف حيًا لم يعد له وجود في باريس، من خلال شخصيات بسيطة، عربية وفرنسية وغير فرنسية، تسكن كلها في رَدْب مفتوح على بعضه، ربط حياة ساكنيه بعضهم ببعض، وجعل المأساة تجمعهم، كالملهاة التي كانت تعبر الزقاق أحيانًا.
وكل ذلك مع خلفية سياسية داخلية تتمثل بكفاح العمال في سنوات السبعين من القرن الماضي، وخارجية تتركز حول انفجار الحرب اللبنانية.
حذف الكاتب الفصول الخاصة بهذه الحرب لينشرها في كتاب مستقل تحت عنوان "بيروت تل أبيب"، لتجنب الخلط السردي بين عالمين متعارضين أساء إلى الرواية عند صدورها عام 1979، بلا تصحيح من طرف دار الفارابي ولا من طرف أفنان القاسم. هذا ويجدر الإشارة إلى أن "العصافير لا تموت من الجليد" قد حولها المغاربة إلى مسرحية تم تمثيلها في مراكش عام 1984، كما وتم تقديم حولها عدة أطروحات جامعية.
* يرجى من الناقد والقارئ اعتماد هذه النسخة المزيدة والمنقحة وباقي روايات المرحلة (مدام حرب، المسار، النقيض، الباشا، الأعشاش المهدومة، العجوز، الشوارع...) التي أعدت كتابتها منذ عدة سنوات في "الحوار المتمدن".
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل السابع والأخير
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل السادس
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الخامس
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الرابع
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الثالث
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الثاني
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الأول
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الحادي عشر وال
...
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل العاشر
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل التاسع
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الثامن
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل السابع
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل السادس
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الخامس
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الرابع
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الثالث
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الثاني
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الأول
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل السادس عشر والأ
...
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الخامس عشر
المزيد.....
-
توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف
...
-
كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟
...
-
شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي
...
-
رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس
...
-
أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما
...
-
فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن
...
-
بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل
...
-
“حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال
...
-
جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
-
التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!
المزيد.....
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
المزيد.....
|