أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل السادس















المزيد.....

العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل السادس


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4968 - 2015 / 10 / 27 - 11:01
المحور: الادب والفن
    


حكت لي مارتين أنها أمضت كل وقت خطفها، في أحد قصور ضواحي باريس المهجورة. كانت وحدها تمامًا، بعد أن فصلوها عن ألبير. حققوا معها طويلاً، وعذبوها. أرتني جراح صدرها وبطنها وفخذها، وارتمت عليّ، باكية.
- لا تبكي، يا حبيبتي، قلت لها. المجرمون! كيف تجرأوا على خطفك مني؟
شددتها بين ذراعيّ:
- لا، يا حبي! أريدك قوية، كعادتك. لا أريدك أن تبكي! المجرمون! المجرمون! لا أريدك أن تضعفي! لا أريدك أن تخفضي لهم جناحك! أرادوا حرماني منك. أرادوا حبسك في القصور، وجعلك فريستهم، لكنهم فشلوا. اقتربي مني أكثر! أرغب في عناقك، وفي جعلي واحدًا معك. لا تبكي، يا مارتين، أو ابكي، أنتِ، يا ابتسامة القلب الحزين!
لم أستطع رؤية مارتين تبكي، تذكرت ابتساماتها الماضية، عندما كانت تصيح: "اشتر الحُلم، يا رفيق!" قبل أن تصعد الشمس، تحت أضواء المصابيح، عندما كانت في المستشفى، قربي، عندما كانت عندي لأول مرة، عندما كانت في الثلج، في الرَّدْب، في الطريق، عندما كانت تتقدم على الجليد، عندما كانت تركض، تضحك، تذهب وتجيء، عندما كانت تذهب وتجيء، عندما كانت لا تذهب، لأنها كانت تجيء لتبقى... تلك الابتسامات التي تنير أحلامي. رفعتُ ذقنها، ورأيتُ عينيها الخضراوين، لأطرد منهما الليل والبرد. الارتعاب. مسحتهما بأصابعي، وضغطت شفتيّ على شفتيها: أنا هنا، يا مارتين، ستكبرين على ساعدي. لأجلك، أضربنا، لأجلك، تظاهرنا، وتحالفنا مع الحمام. نعم، زرعنا الرعب في بنوكهم، كما قال جورج الأشقر، وأرغمناهم على إطلاق سراحك.
حكت لي مارتين أن الذين اختطفوها هم أنفسهم الذين أعادوها إلى البيت قبل أن يختفوا عن الأنظار. وطوال كل ذلك الوقت، لم تكن تفكر إلا في رؤيتي.
- أحبكَ أكثر، همستْ في أذني.
كشفتُ لها عن انخراطي في الحزب الشيوعي.
- لم تعودي ضحية، قلت لها، أنا ضحيتك. تحت معنى أن الحب كالعدل جلادنا الوحيد.
رمت بنفسها على عنقي، قلقة، تعبة، لكنها رددت في أذني:
- أحبكَ أكثر، يا حبيبي!
وأنا:
- قلبي مفعمٌ بحبِّكِ أكثرَ من أي وقت مضى! لعينيك أحبك، بقلبي المُغْوِي، بأهواء الروح، ولأكون، لأُدْهِش.
حدثتها عن الحريق، عن تحرير مصنع الأحاسيس، عن نداء نادين، عن صمود عبد السلام. ومن جديد، عادت إليها ثقتها بنفسها.
- سينتهي كل شيء أحسن نهاية، أجابت.
- نعم، سينتهي كل شيء أحسن نهاية، قلتُ.
- حبيبي!
- حبيبتي!
مضت الأيام، ونحن ننتظر من لحظة إلى أخرى إطلاق سراح ألبير، فطال انتظارنا، غير أننا لم نكفّ عن استنشاق الأمل، خاصة عندما علمنا أن الإدارة تسعى إلى مشروع برتوكول للعودة إلى التفاوض. على أي حال، طلبتُ من مارتين أن تحرر محضرًا في مركز الشرطة، رغم أن خاطفيها لم يكشفوا عن هويتهم.
شيئًا فشيئًا، عادت إلى مارتين ابتسامتها، وعادت إليها استطاعتها. أخذت تساند بحمية حركتنا، المقاومة في المصنع، في لبنان.
وصلتنا أخبار الانتفاضة في الأراضي المحتلة، فقلت لنفسي لا شك أن أختي ياسمين قد نزلت إلى الشارع، بعد شفائها، وهي تصرخ بالنداء تلو النداء لإنقاذ الشهوة، لإنقاذ العصافير، لإنقاذ أخي الصغير، وكل الأسرى. تخيلتُ أمي في الوحل، وهي تدفع بإصرار إلى الأمام عربة الخبز، باسم كل ما هو أعظم، باسم كل ما هو أجمل.

* * *

أخذت أمي تعري أختي لحمّامِها، وهي تخلع ملابسها قطعة قطعة، وهي تلمس جسدها عضوًا عضوًا:
- هذه الكتف أطرى من أعواد اللوز، قالت أمي، سأدللها لك كما لم تدلَّل من قبل، فهي أول ما تقع عليها العين... هذا الثدي أعتى من رماح الرومان، سأشحذه لك كما لم يُشحذ من قبل، فهو أول ما يُرهف الذوق... هذا البطن أحن من أُمَّات الطير، سأعطره لك كما لم يُعطر من قبل، فهو أول ما يُبرئ، أول ما يُمرض، من مرضه البراءة ومن براءته المرض، لأنه بطن الأم وبطن الزوجة، بطن كل النساء الحرام والحلال، سأغمره بالماء حتى يفيض العالم بالبحيرات، ويعجز مضاجعوك عن التفريق بين بطنك، وفرجك، وفخذك... هيا انهضي!
نهضت ياسمين بعاجها إلى طشت جلست فيه، وانتظرت أن تأتيها أمي، فما أتت، وقد أتاها الجنود، وفي أحضانهم مئات العصافير التي اصطادوها. راحت تأخذها منهم عصفورًا عصفورًا، تفصل بأصابعها رأس العصفور عن جسده، وتلقي الرأس في مكان، والجسد في مكان، حتى امتلأ كوخنا برؤوس العصافير وأجسادها الميتة. خلال ذلك، دخلت جندية على ياسمين من شَرخٍ في الجدار، وأخذت تداعبها في غير ما تهيّب: شفتاها، حلمتاها، فخذاها. جن جنونها، فخلعت كاكيها، وذابت في العراء بين ذراعيها.
- ياسمين، تعالي عارية كما ولدتُكِ، طلبت أمي، فلا أحد غريب، كل هؤلاء الجنود يعرفون كل شبر في جسدك، فلا تخجلي.
- والعصافير؟ قالت أختي، وهي تحاول إبعاد الجندية عنها.
- ما لها العصافير؟
- ستراني (وللجندية:) كفى، أمي ستأتي.
- قطعتُ رؤوسها كلها.
- وعيونها؟
- ما لها عيونها؟
- مفتوحة على سَعَتِها.
- عيونها ميتة.
- ستراني (وللجندية:) قلتُ كفى.
- عيونها ميتة، مفتوحة لكنها ميتة.
- لن تراني؟
- عيونها ميتة، ميتة، تراكِ ولا تراكِ.
- ستراني (وللجندية:) قلتُ كفى كفى (تتركها إلى أمها، والأخرى تكاد تفقد عقلها).
- رأسك عنيد كأبيك.
- لم أعرف أبي.
- أحسن لك.
- هل كان سيئًا إلى هذه الدرجة؟
- كانت عينه ميتة.
- لهذا مات؟
- مات لشيء آخر.
- ما هو؟
- قلت لك كانت عينه ميتة.
- هل قتلتِهِ؟
- لو كان الأمر بيدي لقتلته.
- عرفت، لأنه كان يحب غيرك.
- كان يحب غيري هذا صحيح، لكنه ليس السبب.
- ما السبب؟
- كان يعرف أنني سأجعل منك عاهرة.
- ليس هذا سببًا مقنعًا.
- سأقول لكِ.
- قولي.
- لأنني كنت أحب غيره.
- كنت أعرف.
- كان ضابطًا...
- يبدو أن أصحابك العساكر هم كل حياتك.
- ...في الجيش الأردني.
- كفى، أعرف الباقي.
- أنت لا تعرفين.
- لا أريد أن أعرف.
- دعيني أقول لك.
- لا أريد، لن تجعليني أكرهه.
- الضابط؟
- أبي.
- طوال عمرك لم تحبي أمك.
- لهذا عهرتِني.
- لهذا عهرتُك.
- ماذا أفعل بعصافيرك الميتة؟
- هناك شيء آخر.
- اعفيني.
- هناك...
- قلت اعفيني.
- ...أخوك الكبير.
- عبد السلام؟
- وأنت صغيرة...
- هل تظنينني لا أعرف.
- ...فَعَلَ الحرام...
- معي.
- ...معك.
- فَعَلَ الحرام معي أعرف هذا.
- وليس مرة واحدة.
- أعرف هذا، صاحت ياسمين، من السخف أن تقولي لي هذا الآن، فأنا أعرف هذا، أعرف هذا، وأنا أحب هذا...
- رحمتك، يا إلهي!
- ...أحببت هذا.
- بل لعنتك، يا إلهي!
- بعد ذلك، أنا من كانت تذهب إليه.
- أكثر من لعنتك، يا إلهي، ماذا؟
- أنا من كانت تريد.
صَفَعَتْها صفعة قوية، ألقت العصافير المقطوعة رؤوسها في حضنها، وأمرتها أن تنتف ريشها، لتكون وليمتها للجنود. غطى الريش عاج أختي، فنبت لها جناح، وبرز لها منقار.



يتبع القسم الثالث الفصل السابع والأخير



• يرجى من الناقد والقارئ اعتماد هذه النسخة المزيدة والمنقحة وباقي روايات المرحلة (مدام حرب، المسار، النقيض، الباشا، الأعشاش المهدومة، العجوز، الشوارع...) التي أعدت كتابتها منذ عدة سنوات في "الحوار المتمدن".



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الخامس
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الرابع
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الثالث
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الثاني
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الأول
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الحادي عشر وال ...
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل العاشر
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل التاسع
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الثامن
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل السابع
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل السادس
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الخامس
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الرابع
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الثالث
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الثاني
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الأول
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل السادس عشر والأ ...
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الخامس عشر
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الرابع عشر
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثالث عشر


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل السادس