أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الأول















المزيد.....

العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الأول


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4963 - 2015 / 10 / 22 - 10:47
المحور: الادب والفن
    


هل تعرف كيفها باريس في الصيف؟ حبة مشمش أو حبة خوخ ودودة ذهبية، تقضمها رغم ذلك، ولا يهمك تهديد الشمس لك، فكل شيء عابر في باريس صيفًا، كل شيء زائل، وكل شيء مؤقت، كل شيء متوقع، المطر كالريح، الشمس كالفساتين، القصيرة، كل شيء قابل للتهديد، السلطة الزمنية عليك سلطة الفساتين القصيرة كالطويلة، تهديدها، اجتياح السيقان، واحتلال الكون، فبالتهديد يكون الجمال، وبالقمع تكون القُبَل، وبالمداعبة تكون الدموع، ويكون لدغ نهر السين بنابيه. باريس في الصيف قبلة الموت، والعناق السابق أو، اللاحق، فالموت شيء آخر غير الوفاة، الموت مَيْل، نَزعة في التطور، ودعوى على النِّية، فالأفعال ليست أفعال البشر، الأفعال أفعال التماثيل، قوس النصر (أو الهزيمة)، الأوبرا، متحف اللوفر، برج إيفل. وهذا الإحساس الدائم بتهديد أشعة الشمس الغائبة لك، والرغبة الدائمة في الدفاع عن نفسك بالغيوم، والخضوع الدائم للفساتين القصيرة كالطويلة. أن تعيش مهددًا في صيف باريس هو أن تعيش! أن تعيش مع نابليون، أن تلهث على عتبة الشعور، فترفعك أجنحة الذهب، وعندئذ تدرك لماذا أخضع نابليون العالم بمنقاره. عصافير الذهب جيوش نابليون، لهذا كانت الشموس ذهبية، والفساتين، والأقدام الصغيرة المهددة، لهذا كان إحساسك بالتهديد الدائم في صيف باريس فضيًا.

* * *

تقدم جورج الأشقر مني، وصاح في وسط الآلات المدوية:
- تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم!
- ماذا؟ ماذا هناك؟ صحت بدوري.
- رجعت الإدارة عن اتفاقها!
هذا يعني أنها تنوي إغلاق المصنع لتهدمه وقناة سان-مارتن، وتسلمنا إلى ضراوة البطالة.
في الحال، دوى النفير مؤكًدا الخبر.
أوقفنا الآلات، واندفعنا كالبحر الهائج نحو الساحة.
امتلأت الساحة بالغضب وبالشمس.
التهبت الشمس رغم طراوة أشعة الصباح.
احتدمت الحركة مع تصميم الخطوات.
اتخذ القرار: سنحتل المصنع، وسنرغم الإدارة على المفاوضات.
عَيَّنا بعضنا لحماية المداخل من الحراس، على رأسهم جورج الأشقر، وعاد الآخرون إلى الورشات.
لاحظتُ أن "رجال" رب العمل وبعض العمال الذين هم مع القرار التعسفي، قد انسحبوا، وكنا كلنا نعرف السبب: لأن الإدارة تدفع لهم، دون التوصل رغم ذلك إلى تقويض وحدتنا.
استصرختنا أفواه أطفالنا الجائعة من أجل الرغيف، وكانت هذه البَيِّنة وحدها سببًا كافيًا للقتال.
ألقيت نظرة نحو النافذة، فرأيت المارتينيكي يرفع لافتة، كتب عليها:
"مصنع محتل."
والصيف يتحول، والصيف يغدو نهرًا.
رأيت أيضًا أشخاصًا آخرين لحماية المداخل.
والصيف يغدو طيرًا، والصيف يرفرف رابط الجأش مع الأكتاف الفخورة لعمال كل الأحاسيس.
جاءت مارتين لتراني.
نظرتُ إلى الأخضر الناري لعينيها، ووجدته منطفئًا. هذا الأخضر الذي من العادة أن يتقد بالأنوار، وأن يلتهب بالآمال.
أرادت أن تقول لي إن المرحلة الثانية من القتال قد بدأت، لكنها ستطول أكثر هذه المرة.
مع ذلك، بقيت مارتين صامتة.
ظهر بيير، وحياها. كانت له هيئة قاتمة.
- سنقاتل ضد القرار التعسفي للإدارة حتى النهاية، قلت له.
أضاء أخضر عيني مارتين فجأة كالصباح، وتعلقت على ذراعي.
- الحزب يدعمكم، قالت له، سنتدبر أمرنا لتأمين المحروقات والمواد الأولية كالمرة الأخيرة، حتى ترضخ الإدارة، وتوافق على إجراء المفاوضات.
- حاولت النقابات إحياء المفاوضات، أجاب بيير.
- ستقبل الإدارة الحوار، أكدتُ له.
- نعم، أتمنى ذلك.
- سنرغمها على التفاوض.
- هذه المرة الوضع ليس سهلاً.
- سنرغمها على التفاوض.
- الوضع ليس...
- سنرغم الإدارة على التفاوض.
- ...سهلاً.
كان بيير راضيًا من لهجتي القاطعة، وفي اللحظة ذاتها، عادت الآلات إلى الدويّ، فأصغينا للدويّ طويلاً، دَوِيّ غطى المكان بصداه.
مع مجيء الليل، اتفقنا على أن نتعاقب في الحراسة، فهجوم الحرس أو ميليشيا أرباب المهن، إن لم يكن رجال الدرك أكثر من محتمل، وربما بدأوا بإثارتنا. أوصانا بيير وألبير الاحتفاظ ببرودة أعصابنا ما استطعنا، والبقاء مفتوحي العينين.
أخذنا مواقعنا عند المداخل، تحت مخمل الليل، والصيف المسالم يغطينا.
- أين جورج الأشقر؟ سألت.
- كان هنا منذ لحظة، أجاب أحدهم.
- صه! طلب آخر، هناك من يجوس!
- سأذهب لأرى، قلت.
- من الأفضل أن يذهب أحد معك.
- ابحث عن جورج الأشقر، واطلب منه اللحاق بي.
وأنا في قلب الزقاق المجاور، انقض عليّ شخصان. تمكنت من التغلب على أحدهما، وهرب الآخر، بعد أن التحمتُ معه في عراك لم يكن في صالحه. أحسستني محمولاً بين مخالب الصقور، فحملت حجرًا، وأردت أن أشج جمجمة الرجل الغائب عن الوعي، غير أن عصفورًا جريحًا، حلق بجناحه الكسير بيني وبينه، وحال دون ذلك. وأنا أعود أدراجي، تعثرت بجورج الأشقر، وهو يبكي، ويرتعد. اعترف لي بجبنه، ورجاني ألا أفضحه لدى الأصدقاء.
- ولكن لماذا؟ سألتُ غير مدرك ما يعانيه جورج.
- وهل للجبن من تفسير آخر غير الجبن؟ أجاب الأشقر.
- بناء على ذلك كلنا جبناء.
- ربما هناك تفسير نفسي فيما يخصني.
- تفسير...
- تفسير منطقي في آخر الأمر.
- ...نفسي.
- كنت صغيرًا...
- تفسير نفسي.
- ...في المدرسة الابتدائية، وفي كل مرة، عند نهاية الدروس، كان يضربني تلميذ يفوقني أو يقل عني عمرًا بسنة أو سنتين، كان يضربني بدون سبب، هكذا، مجرد أن يضربني.
- ولماذا لم تضربه؟ لماذا لم تدافع عن نفسك؟
- كنت كأبي.
- كنتَ...
- كان أبي يخضع...
- ...كأبيك؟
- ... في كلِّ...
- كنت كأبيك؟
- ...شيء. كانت أمي هي الرجل.
- كانت أمك هي الرجل!
- كانت أمي صاحبة الأمر والنهي: خذ هذا، لا تأخذ هذا، افعل هذا، لا تفعل هذا، ارم هذا، لا ترم هذا... جواربي اغسلها، اكو لي فستاني، افرك لي ظهري... ضاجعني، أوجعني، انحرني... الأشقر يخريني، اجعله يسكت، اجعله يسكت تَبًا للعالم! اخنقه، يا خراء! اضغط بيدك على فمه، واخنقه! اخنقه قلت، اخنقه، هل تسمعني؟ أنت لا تسمعني، أنت أطرش منذ مولدك! اخنقه، اخنقه، اخنقه! هذا الولد ابنك وليس ابني! ابنك، يا ماخور! ابنك... ابنك... ابنك...
لم يمنع ما وقع بيني وبين الشخصين المعتديين من أن يشوي البعض المرجاز في الخلاء لعمل ساندويتشات، فامتزجت الرائحة المشهية للشواء مع الأنسام. أخذ المارتينيكي يوزع، ويمازح، فانتهره جورج الأشقر:
- تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم!
- ماذا، يا مومس الغائط؟! رد المارتينيكي بعنف.
- ليس هذا وقته، وهناك من يجوس بين إليتيك!
- سالم قام باللازم.
- وأنا سأقوم باللازم، وأنا سأقوم بأكثر من اللازم، وأنا لا أحتاج إليك، وأنا لا أحتاج إلى أي واحد منكم، لكن ليس هذا وقته.
- ما هو سوى بعض المرجاز، يا مومس مومس الغائط!
- ليس هذا وقته.
- ليس هذا...
- وقته.
- ...وقته.
- وقته، وقته، وقته.

أخذ أحد عمال الشهوة بالغناء:

في الليلِ أغني لكِ
عن ظبيٍ وقع في الشبكة
يصيح بكِ أن تأتي
فالحرية غالية!

في الليلِ أغني لكِ
عن ظبيٍ مزق الشبكة
يصيح بكِ أن تأتي
فالحرية غالية!

بعد عدة لحظات، سمعنا صوت رونيه الشجي، وهو يتعلق بذراع جيتاره:

في المصنعِ عاملٌ يسهر
من أجلكَ يا ظبي الغابة
كيلا تقعَ في الشبكة
فالحرية غالية!

طلبتُ من مارتين العودة إلى البيت، لئلا تقلق مارتا، وتكلف ألبير بمرافقتها. قبل أن يتركانا، أكدا لنا من جديد دعم الحزب وكل بلديات أحاسيس الروح، التي ستتكفل –قدر الإمكان- بتأمين المحروقات، ثم دعوانا إلى الاتحاد والصمود. جاءت فرانسواز وحميد وأبراهام ووردة ومادلين التي ركضت نحو بيير لترشف قطرات العرق عن جبينه. رأيتُ فرانسواز، وهي تتعلق بذراع حميد المقطوعة، ولم نعد نرى أوديت، بعد مولد غرام بينهما. قالوا لنا ليس هناك أقل أثر للحراس، ولا حتى قط واحد حول مصنع الأحاسيس. رغم ذلك، اختطفوا مارتين وألبير في المساء نفسه.



يتبع القسم الثالث الفصل الثاني


* يرجى من الناقد والقارئ اعتماد هذه النسخة المزيدة والمنقحة وباقي روايات المرحلة (مدام حرب، المسار، النقيض، الباشا، الأعشاش المهدومة، العجوز، الشوارع...) التي أعدت كتابتها منذ عدة سنوات في "الحوار المتمدن".



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الحادي عشر وال ...
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل العاشر
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل التاسع
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الثامن
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل السابع
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل السادس
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الخامس
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الرابع
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الثالث
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الثاني
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الأول
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل السادس عشر والأ ...
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الخامس عشر
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الرابع عشر
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثالث عشر
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثاني عشر
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الحادي عشر
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل العاشر
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل التاسع
- العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثامن


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الأول