حمودي زيارة
الحوار المتمدن-العدد: 4906 - 2015 / 8 / 24 - 01:59
المحور:
الادب والفن
سامان أحاط نفسه بأطار صورة تكعيبية، وبدا كخشبة تعهدها الموج، دونما مصير، لا تولي على الغرق، ولا تستطيع غرز نفسها في الطين. فصار من المتعذر أن يربط جأشه وغضبه، كأن تلبسته مسحة من الجنون، عقب ضياع نيركز. عكف ملياً بالبحث عنها، كان ينبري ليومه في بداياته، ولا يرجع حتى وقت متأخر. يغادر بقاربه في الصباح الباكر، يحمل في جعبته رغيف من الخبز وقليل من جبنة بقرة الملاك. لم يعثر عليها رغم ذهابه الى أماكن بعيدة لم يصلها من قبل. كان يبكي كثيراً مع زوجته شلير حزناً على نيركز، فقد كانت لهم الحياة نفسها، بيدار والعبيد أقاموا مندبة في هيكل المهبط تنعي نيركز والبقرة، وكأن الوجود، أصبح مجرد عدم من دونهما. البقرة غلبت على أحاديث المجالس، بعدما تناهت الى أسماعهم، بأنها أغرت أنفاسها الموت، لأنقاذ نيركز، هذا بعدما شعرت بأن الطوفان وهديره، أخذ يقترب بسرعة وقوة، حملتها على ظهرها، وذهبت بعيداً مع ثورة السيل، كأنها الملاك نفسه، أنقذها لتمنح نيركز الحياة. كثير من أهالي القرية، لمحوها تصارع الموج، يتناهبها بطش التيارات، بحيث بدد أخر حفنة من عزمها، لكن ظهرها التي حرصت أن يبقى كالمهد، يرسم أبتسامة على وجهها أن أهتز. أختفاء نيركز أثار بعض الشك، رغم علمهم بأنها مازالت تثير الدمع على موتها في مكان ما. نظم العبيد جولات عديدة ومضنية للبحث عنها، فأنتشروا في كل الجهات، وأشاعوا بأنهم سوف يخصصوا جائزة لمن يعثر عليها، ثلاث أواني من حليب بقرة الملاك. في اليوم الثالث من العناء الباطش، قدموا مع بغل ضخم يجرون جثة البقرة، وقد تشقق جلدها، وأنتفخ بطنها، تصدر رائحة كريهة. أخذوا يبكون بمرارة عندما وجدوا قلادة نيركز مربوطة في خصائل عرفها. القلادة كان الدليل القاطع الذي يؤكد بأنها مازالت في ملكوتها الواسع تداعب الحياة. قرر العبيد أن يتركوا الجثة الى ديدان العفن، في مدخل القرية ، تنهش جلدها من أجل إنتشال عظامها. بعد مرور فترة وجيزة، أنكب العبيد لعدة أيام يكشطون اللحم المتبقي في العظام التي جعلتها أناملهم الماهرة بيضاء ناصعة. عملوا منها مربعات صغيرة، علقوها كقلائد في رقابهم. كان الأقبال على شرائها ملفت للنظر.
*********
صادف في إحدى المرات أن ذهب طالب على غير عادته، الى موقع الآثار ليلتقي بمستر نيكول، حاول أن يبعده ببلادة، مدعياً بأنه مريض، وطلب منه أن يبقى لوحده. رغم ذلك خطى في المكان لأنه أوجس أمراً ما، نهض من مكانه كيما يمنعه من البقاء، شعر بأنه يحتفظ بنيركز كرهينة في مكان ما. تذكر للتو في أحدى المرات، عندما طلب منه أن يجلبها الى مكتبه، بغية أن تدله عن بعض الآثار، لذا شعر نوعاً ما بأنه يخبأها. أفشى له بما يدور في باله:
- بأنه يبحث عن نيركز ، وأنه يريد أن يتأكد من وجودها .
أرتبك مستر نيكول، وتفوه بكلمات يشوبها القلق:
- بأنه لا يعرفها ، لأنه لم يلتقيها أطلاقاً .
هدده:
- بأنه سوف يخبر أهل القرية .
نكر بصوت عال:
- لا توجد في المقر .
رد طالب:
- أنا ذاهب الى القرية، وعليك أن تتفاهم معهم، عندما يطوقون مقرك .
وماأن ترنح طالب بخطواته، فزع مستر نيكول من مشهد مجئ أهل القرية. زعق خلفه أن ينتظر.
- يجب أن تنقذني من هذه الورطة، وسوف أساعدك بكل شئ .
أدار وجهه وقال :
- سأدعي بانك تركتها أن تتماثل وتتعافى، لأنها كانت في حالة صعبة .
نادى طالب عليها، خرجت من مخبأها، تهرول اليه، توارت خلف ظهره. تسلقت وجهه فرحة مدهشة. أخذت تقتفي خطواته، وعلى مقربة من تخوم القرية، أدمنت خطواتها رحيق الشوق، ركضت مع دموعها. تلقاها سامان بأحضانه، عندما دخلت الدار، وشلير أمسكتها من وجهها وأخذت تبكي بحرقة. ألتف العبيد حولها بسرور آخاذ .
ركن مستر نيكول نفسه الى الأرتياح، يواري وجيف قلبه في تهدل هندامه، بعد أن أبتعد سيف الموت من حنجرته. وقبل أن تتلاشى العلامة التي وضعها. قصد في اليوم التالي، المكان التي أطالت نيركز الوقوف فيه، أخذ يحفر بدقة وتأني لمدة يومين، وعلى تفصد عرقه، أشرأبت لوحة باللغة السومرية، تحمل تعاليم مهمة حول حروبهم، رقص وشرب كثيراً في ليلته. أراد في اليوم التالي، أن يُهرّب اللوحة، لم يرسل طالب هذه المرة بل ذهب بنفسه الى الحدود، ليعطيها الى نفس الشخص الذي يتعامل معه طالب. أخبر طالب عندما ألتقاه عن اللوحة، وأسداها له. غضب وتوعد أن يقتص منه. ألقى عليه كلمات الوداع وهو يغلي من الغيظ. ربط أمتعاضه بخيط الصبر على مدى المسافة التي توصله الى مقره. ذهب اليه، وأخبره بما أفشى له بائع الأثار، رد عليه بخوف بأن اللوحة لا تسوي شئ فأنها لا تاريخ لها. صرخ عليه:
- أن ما تقوم به يثير الريبة، فاذا فعلت ما فعلت، سوف تدفع الثمن غالياً، أو ربما أرتكب حماقة تجعلك تندم الى الأبد .
أدار مستر نيكول ظهره اليه، ذاهباً الى مكتبه. قرر مع بيمان بعد مرور إسبوع، أن يقتلوه. دس طالب مسدسه الماكاروف في حقوه، يسايره بيمان على يمينه. وجدوه يحتضن كتاباً يفرشه على صدره، عندما دلفا الى مكتبه. أيقظه طالب، وأشار عليه:
- أن يكتب بأنه أنتحر، لأنه يشعر بالندم لقتله مستر جان .
أطلق طالب ثلاثة أطلاقات أخترقت رأسه. تلاشى الأزيز في الفضاء. في اليوم الثاني، شاهدت القرية عساكر تطوق مسارب القرية للبحث عن طالب، لأنهم وجدوا ورقة ، كتبت بدقائق قليلة من قتله، بخط قلم تهزه أصابع الخوف، تشي بأمر مريب. أعتقل وأرسل الى المحاكم العليا في العاصمة. أختفت أخباره، وقيل بأنه أعدم. بيدار كان السبب مرة أخرى لألقاء القبض عليه، لكن طالب كان على صلة وثيقة مع سجان يعرف أبيه، أيام كان أبوه يعيش في منفاه الجنوبي. ساعده بالهروب مع مركبة اسطوانات الغاز، عندما وافق، أن يعمل بضع ساعات أوقات الصباح.
*********
في اليوم الأول من رجوع نيركز الى القرية، ذهبت الى أفق الغروب، عند قبر أمها، وبقيت هناك حتى هبوط الليل. بكت بحرقة ولوعة، كانت تهمس للبقرة في دواخلها:
- من المفروض أن أذهب معك لا أن تمنحيني الحياة بموتك .
العبيد كانوا يتحلقون حولها، يغالبون الدمع. نيركز أمست كيان مقدس. الناس يترددون عليها من أجل الشفاء أو المباركة، بيت سامان كان يغص بالناس في معظم الأوقات، حتى سواد الليل. وهذا الحال أستمر، حتى بعد زواجها من طالب الذي كان يعاملهم بفظاظة. نشأ العبيد يسألون نيركز عن الوادي، بعدما عرفوا بأن الطوفان أصبح حقيقة، لم ينل العبيد اي شئ يشير الى حقيقة الوادي. بقيت نيركز ساهمة، لا تعرف عن الوادي شئ سوى هواجس تخادعها توهمات تمر في ذهنها كموجة كهربائية. نيركز أعتادت أن تهيم ما بين سنابل الحقول، ورحابة الأرض التي حرصت أن تحتضن بيوت القرى بوداعة وحبور، ضمن بركات القمر الذي ذلل أرضه لهم. الطيور التي تأوي الى أعشاشها بهمة وفرح، وأصوات الذئاب التي تمزق سواد الليل. كثيراً ما كانت تجالس الأفق من جهة النهر تستمع الى هديل الحمام، وتشاهد هبوط قرص الشمس في حبالة الأفق. لكن العبيد لا يبارحون أثرها، بدأت تتضايق من أقتفاء مشاويرها وتأملاتها. لكن تطفل العبيد على أوقاتها، أخذ يقل مع زواجها من طالب. في اللحظات الأولى من أوقات الصباح تتهادى في مسارب القرية، كأنها تمنحهم الهدوء والآمان. ترمي نظرات حانية الى عفوية جريان الماء في النهر. في طيات بيوت الطين ثابرت من دون أن تتنصل عن أعراف جنونها، وقدسية تطوحاتها، من غير أن تلتفت الى شزرات عيونهم أو كلماتهم الساخرة. أعتادت عندما تستيقظ أن تهب ساعاتها الأولى الى الذهول، ومرافقة كلاب القرية اللائي يمسدن طلاوة أنوفهن بأقدامها، ويستافن رائحتها الصباحية. أدرجت عند ذهابها الى كوة الأفق مع الكلاب، تبقى في شرودها. لا تهتم بما يدور حولها من ضجيج في دهاليز القرية، أو مديات ذهنها الناشبة في غمرة تعاويذ تأملاتها. أغلب الأحيان تجد نفسها ترسف في لوثة جنونها العفوي منصاعة الى صوفية أعرافها، متأبطة ظل هيامها في أغراء صمتها. كم تتلذذ بالمناداة على الكلاب. كانت تشعر بأن عوالمها تسحرها كنغمة قروية شائقة تفتنها وتداعب ذهنها، فتشعر في مشاوير أوقات الظهيرة، ورهافة القرى.
#حمودي_زيارة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟