أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين محمود التلاوي - أمير المستنقعات (قصة كاملة)















المزيد.....



أمير المستنقعات (قصة كاملة)


حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)


الحوار المتمدن-العدد: 4873 - 2015 / 7 / 21 - 21:27
المحور: الادب والفن
    


عندما بدأت أشعة الشمس تغزو الكون، راح الليل يلملم شتاته ويرحل عن الموجودات، فيما انطلقت الكائنات تعزف الأوبرا الصباحية منبهة من لم ينتبه.
وكانت الأميرة ممن لم ينتبهوا إلى أن الشمس بدأت تغزو — إن لم تكن قد غزت بالفعل — الكون بأشعتها الرقيقة مبددة ظلام ليل شتاء وبرده، لكنها بدأت تفتح عينيها، عندما تناهى إلى مسامعها صوت الموسيقى الرقيقة المنبعثة من عصفورها الواقف عند النافذة الكبيرة المواجهة للغابة.
راحت الأميرة تتمطى، وقد فردت ذراعها الأيسر فيما وضعت يدها اليمنى على فمها لتغطيه وهي تتثاءب، قبل أن تقول مخاطبة عصفورها وقد ملأت وجهها ابتسامة: "صباح الخير يا عصفوري الجميل".
فرد العصفور التحية بتغريدة، جعلتها تقفز من فراشها في نشاط، وتفتح نافذة غرفتها الواقعة في أعلى طابق من القصر، وأطلت منها على حديقة قصر والدها الملك، وراحت تنظر باستمتاع إلى الأشجار في الغابة وإلى الشاطئ والبحر اللذين يبدوان من بعيد خلف الأشجار العالية، وقالت في لهجة حالمة: "صباح الخير أيها العالم".
جاءها من خلفها صوت هادئ يقول في حنان: "وكأن شمسًا أخرى أشرقت على العالم".
استدارت الأميرة لتجد خلفها مربيتها العجوز، وقد راحت تدفع عربة يد صغيرة عليها صينية تحمل طعام الإفطار، فيما اكتسى وجهها بالحنان والمحبة، فاندفعت الأميرة نحو مربيتها، واحتضنتها، قائلة في حب حقيقي: "بل أنت الشمس الجميلة التي لا تغيب".
ابتسمت المربية، وقالت لها: "هيا لتتناولي طعام الإفطار؛ لأن الملك سوف يمر في جولة على المملكة ويريدك وجلالة الملكة أن ترافقاه فيها".
اكتسى وجه الأميرة بالضيق، وقالت في شيء من السخط: "لا أحب هذه الجولات".
ربتت المربية على كتف أميرتها، وقالت لها: "هذه الجولات مهمة لكي يشعر الشعب أن الملك بجواره".
جلست الأميرة على المقعد المواجه للمكان الذي أوقفت فيها المربية عربة الطعام، ونظرت إلى المربية في ضيق: "وما علاقتي أنا؟".
ابتسمت المربية وقالت في هدوء: "أنت الأميرة، وسوف تصبحين الملكة في يوم من الأيام".
هزت الأميرة كتفيها بلا اكتراث، وقالت في ضيق: "لكنني أريد التنزه في الغابة".
فقالت المربية في الهدوء نفسه: "سوف ينهي الملك جولته بسرعة، وعندها يمكنك أن تذهبي إلى الأماكن التي تريدينها"، ثم أضافت في حنان: "سوف تصبحين الملكة، وعندها سوف تعرفين أهمية هذه الجولات التي تجعلك ترتبطين بالشعب الذي تحكمينه يا بنيتي، وإلا كيف لك أن تعرفي ما يريد أفراد رعيتك؟".
هزت الأميرة رأسها في شيء من عدم التقبل، قبل أن تبتسم في رضا؛ لأن الجولة سوف تنتهي بسرعة، ثم بدأت في تناول الإفطار لكي تلحق بالملك وجولته.
******
 -;---;--
2
الشمس التي أطلت على قصر الأميرة، أطلت كذلك على المستنقعات الواقعة في الطرف القصي من الغابة بالقرب من البحر؛ فراحت أشعة الشمس تتراقص فوق برك المياه الراكدة، التي اكتست أسطحها بأوراق النباتات الكبيرة، فيما راحت الضفادع تتقافز فوق المستنقعات بين أوراق النباتات والصخور المتناثرة هنا وهناك.
كانت معزوفة مختلفة تمامًا عن تلك التي تدور حول قصر الأميرة.
كانت معزوفة المستنقعات.
راحت الضفادع تنق وتتقافز هنا وهناك في حركات ربما تبدو للناظر عشوائية إلا أنها كانت مرتبة تمامًا؛ لأنها كانت حركات البحث عن الطعام والوليف وغير ذلك من متطلبات الحياة في المستنقعات.
استمرت الضفادع الصغيرة في تقافزها، بينما راحت بعض الطيور ذات المناقير تحوم فوق المستنقعات بحثًا عن فريسة، وقد ارتسمت على وجوهها ملامح التحفز.
إنها حياة المستنقعات.
لكن الأميرة كانت تحب أن تتواجد هناك.
كانت تحب الطبيعة؛ تحبها بكل ما فيها من طيور وزهور وضفادع وعصافير. وكانت الطبيعة تبادلها الحب نفسه؛ فلم تكن الطيور أو الحيوانات الصغيرة تخافها، عندما تمد الأميرة يدها البلورية لكي تحتضنها، بل ربما كانت الزهور تطيل أعناقها قليلًا حتى ترتاح في كف الأميرة.
لذلك، لم يكن من الغريب أن نرى الأميرة تجري بعد انتهاء الجولة الملكية نحو المستنقعات، وخلفها الحرس يلهثون محاولين اللحاق بها لحمايتها من أي خطر.
وعندما وصلت الأميرة إلى حافة المستنقع الكبير، جلست على صخرة كبيرة تطل عليه، وأخذت تداعب النباتات التي نمت على الصخرة، فيما أخذت الطيور تطوف حولها، وقد زالت علامات التحفز من على وجهها؛ ولم التحفز؟! لقد جاءت الأميرة.
راحت الأميرة تداعب الطيور والنباتات، بل حتى أخذت تداعب بعض الضفادع التي جاءت لتتقافز حولها؛ فبدا المشهد وكأنه لوحة عنوانها السعادة.
ومن بعيد، وقف الحرس يرقبون المكان، وقد امتلأوا بالتحفز لدرء أي خطر عن سمو الأميرة. ومن فرط التحفز، أمر كبير الحرس أحد رجاله بالتوجه نحو الأميرة لركل ضفدع متوسط الحجم، كان قد بدأ يقفز بشكل مبالغ فيه فوق الأميرة، التي لم تشعر بذلك لفرط سعادتها وانغماسها في اللعب مع الضفادع.
اندفع الحارس نحو الضفدع، وركله بقسوة في بطنه البيضاء الملساء، فاندفع بعيدًا ليصطدم بالصخور، فارتاعت الأميرة من المشهد، وهبت واقفة وراحت تلوم الحارس على قسوته، لكنه قال: "يا سمو الأميرة، لقد كان يتقافز حولك بشكل لافت للنظر، وخشيت بالفعل أن...".
قاطعته الأميرة في سخط وثورة أفزعت الطيور والحيوانات الصغيرة فابتعدت عنها: "خشيت من ضفدع؟! سوف أشكوك لوالدي".
شحب وجه الحارس، وراح يشير إلى قائده في هلع؛ فاقترب قائد الحرس، وقال للأميرة: "سامحيه يا سمو الأميرة، ولكنه كان ينفذ أوامري أنا".
أدارت الأميرة وجهها نحو قائد الحرس، وقالت في سخط: "سوف أشكوك أنت أيضًا".
لم يبد الاكتراث على وجه قائد الحرس، ولكنه أمر رجاله بالاستعداد للرحيل، عندما لمح الأميرة تنطلق جارية نحو القصر، وقد امتلأت سخطًا مما فعله الحارس.
******
 -;---;--
3
عندما جلس الضفدع على ورقة النبات، لم يكن يشعر بالألم، بل كان يشعر بالراحة...!
الغريب حقا أنه كان يشعر بالراحة...!
بل إن إمارات من السعادة والارتياح بدت على وجهه.
لم يلحظ أي من الضفادع ما طرأ على رفيقهم من تغيرات، ولكنه راح يتقافز هنا وهناك، فيما ارتسمت على وجهه معالم السعادة الكاملة.
بل لقد تجرأ أيضًا على الخروج من المستنقعات والسير — أقصد الجري — وراء موكب الأميرة.
وارتسمت على وجهه علامات الانبهار، عندما وصل الموكب إلى قصر الملك، ورأى الحرس يفتحون البوابة للموكب، الذي فارقته الأميرة. لكنه شعر بالحزن الشديد، عندما رأى الأميرة، وهي تجري مسرعة نحو غرفتها في أعلى طابق بالقصر، وقد تبللت وجنتاها بالدموع.
شعر الضفدع بالحزن والقلق العميقين على الأميرة؛ فقرر أن يصعد ليراها، لكنه خشي أن يراه الحراس؛ فيقضون عليه هذه المرة. لذا، وقف متحيرًا في مكانه خارج القصر، وراح يفكر فيما يمكن أن يفعله.
وبينما كان يدير عينيه في المكان مفكرًا، لمح أشجار الغابة، فراح يحدق فيها وكأنه يراها لأول مرة؛ حيث طرأت في ذهنه فكرة، وراح يضعها موضع التنفيذ على الفور، رغم أنها كانت فكرة مجنونة.
أن يتسلق الشجرة المواجهة لنافذة حجرة الأميرة...!
وبالفعل راح بأطرافه الأربعة الزلقة يحاول أن يتسلق الشجرة، وفي كل مرة كان يسقط بعد عدة سنتيمترات قليلة، ولكنه لم ييأس، وراح يواصل محاولاته إلى أن أصيب بالإرهاق؛ فأراح ظهره على جذع الشجرة، وقد أخذ يلهث بشدة. وفجأة توقف عن اللهاث، وقال في نفسه: "إنك ضفدع يا غبي".
وبالفعل، قام من مكانه وراح يفرد طرفيه الخلفيين، ثم قفز لأعلى، ولكنه لم يصل إلى قمة الشجرة، فعاد يقفز مرة أخرى، لكنه أيضًا لم يصل للقمة، إلا أنه كان قد وصل إلى مسافة أعلى.
فجلس ثانية يستريح أمام جذع الشجرة، قبل أن ينظر إلى الشجرة في تصميم كبير، يتراجع للوراء قليلا، ثم... يقفز في الهواء مجددًا.
قفزة لم يفعلها الضفدع من قبل، وكذلك ربما لم يفعلها أي ضفدع من قبله.
حلق مرتفعُا في الهواء، رأى الحشائش من أسفله تبتعد بسرعة، ورأى حوله بعض العصافير تطير، ثم لمح قمة سور قصر الملك، ورأى في صعوده السريع الخوذات التي تغطي رؤوس الحراس تلتمع في أشعة الشمس، قبل أن يشعر بأنه يبتعد عن قمة الشجرة في قفزته؛ فأسرع يمسك بأفرع الشجرة ويستقر فوق قمتها بعيدًا عن الأنظار.
ومن مكمنه، نظر الضفدع لأسفل؛ فوجد أنه ابتعد كثيرًا عن الأرض؛ فراح يلهث من فرط الإرهاق والمفاجأة، ثم نظر إلى الأمام؛ فوجد أنه أمام نافذة حجرة الأميرة تمامًا؛ فراح يختلس النظر وهو يحاذر أن تراه. وعندما وقع بصره عليها، شعر بحزن عميق يعتصر قلبه حتى إن بعض الدموع نزلت من عينيه لتبلل وجنته الخضراء المكتنزة.
كان وجهها شديد الشحوب، وكانت ملامحها تشي بالكثير من الضيق والحزن.
وازدادت الكآبة في قلبه، عندما لمح عينيها تبرقان، فعرف أنها تبكي.
كم هي رقيقة...!
راح يتأملها قليلًا، ثم قرر أن ينزل بعد أن شعر بسخونة الشمس تحرقه فوق الشجرة.
ولكن واجهته مشكلة... كيف ينزل؟!
لمح بركة ماء بعيدة قليلًا؛ فقرر أن يقفز فيها، ولكنه خشي ألا يصيب الهدف...!
وكما فعل في القفزة الصاعدة، فعل في القفزة الهابطة؛ فأغمض عينيه وقفز، وراح يحاول أن يحافظ على اتجاهه وسط الهواء الشتوي القوي، ويوجه قدماه نحو الأرض. وبمجرد أن لامست قدماه مياه البركة حتى أسرع يقفز مرة أخرى بخفة نحو أرض طينية، وراح يقفز بالخفة نفسها حتى استقر في هدوء على الأرض. بعد ذلك، أسرع من فوره إلى المستنقعات وبلل جسده بالماء، وراح يطلق النقيق تلو الآخر، وقد انتابه شعور آخر غير الحزن...
كان شعورًا بالبهجة.
وعندما حل الليل، لم يكن الضفدع يشعر بالبرد مثل كل يوم، بل كان يشعر بالدفء.
وفي السماء لمح نجمةً كانت، رغم كل السحب، تتألق.
******
 -;---;--
3
صباح اليوم التالي، استيقظت الأميرة مبكرًا، وأسرعت دون أن تتناول فطورها، ودون أن تخبر أحدًا، إلى المستنقعات، وقد ملأتها رغبة كبيرة في أن تلهو مع الضفادع، وكأنها تريد أن تعتذر للضفادع كلها عما حدث بالأمس بحق الضفدع الذي ضربه الحارس.
كانت الضفادع قد استيقظت، وبدأت في أداء معزوفة المستنقعات، عندما لمحوا الأميرة قادمة؛ فأسرعوا يختبئون منها، إلا مجموعة من الضفادع الصغيرة، بالإضافة إلى الضفدع الذي نالته ركلة الحارس بالأمس. راحت الأميرة تلهو مع الضفادع دون أن تميز أي منها هو الذي ركله الحارس بالأمس، ولكنها كانت سعيدة لأن بعض الضفادع لم تخف منها بعد ما حدث بالأمس.
كان الضفدع سعيدًا باللعب مع الأميرة، ولكنه كان يريد المزيد، فأسرع يقفز فوق يدها؛ فراحت الأميرة تمسح على رأسه في سعادة، وفجأة انتاب الأميرة شعور غريب، وهو أن الضفدع شديد السرور بتربيتها عليه؛ فراحت تنظر إليه في استغراب من شعورها هذا، ولكن نظرتها جعلت دهشتها تزداد؛ لأنها زادت من هذا الشعور؛ حيث كان الضفدع في حالة من الاستمتاع الشديد.
أمضت الأميرة فترة الظهيرة في اللعب مع الضفادع، ولدهشتها لم يأت أحد من الحرس وراءها؛ فزاد هذا من استمتاعها بوقتها، ثم تكررت زيارات الأميرة للمستنقعات، وراحت تلعب مع الطيور والضفادع، وكان الضفدع يجلس كثيرًا بين يديها.
كانت الأميرة تستمتع، وكذلك الطيور والضفادع، وبخاصة ذلك الضفدع.
وفي يوم من الأيام، بعدما عادت الأميرة من المستنقعات، وجدت والدها الملك شديد الغضب؛ لأن ابنته الأميرة خرجت من دون اذنه إلى مكان غير معلوم، وهو ما يعرضها للكثير من الأخطار، ومن بينها التعرض للاعتداء على يد أعداء الملك والراغبين في الانتقام منه، وحذرها الملك من الذهاب إلى أي مكان دون إخطاره، أو إخطار رئيس الحرس الخاص بها، وإلا حرمها من الخروج اطلاقًا.
شعرت الأميرة بالكثير من الحزن بسبب هذا التهديد، لدرجة أنها قررت أن تعود ثانية إلى المستنقعات، ولكنها خشيت من أن يراها أحد فيبلغ الملك؛ فقررت أن تذهب لتنام حتى حلول المساء وتتسلل في ظلام الليل إلى المستنقعات.
وبالفعل، فعلت ذلك بمجرد أن أحست أن الكل نائم؛ حيث خرجت من حجرتها على أطراف أصابعها، وتسللت إلى خارج القصر عن طريق "ممر الأرانب" الذي اكتشفته وهي صغيرة، وكانت تلهو فيه مع صديقاتها قبل أن يرحلن عن المدينة؛ فبقيت هي وبقي معها سر "ممر الأرانب" الذي يصل بين منتصف الحديقة وبين الغابة.
كان الممر ضيقًا ومتربًا، ولكنها كانت مستعدة لهذا التراب؛ حيث ارتدت عباءة طويلة غطت ثيابها وحمتها من التراب، وكانت كذلك تشعر بالضيق الشديد، وهو ما جعلها لا تلقي بالًا لكل الأتربة التي لوثت العباءة، ولا لضيق مساحة الممر، الذي لم يكن يتسع إلا لشخص نحيف؛ فلو كانت الأميرة أكثر بدانة، لما تمكنت من الخروج من الممر!!
وصلت الأميرة إلى المستنقعات، وقد احمر وجهها من الانفعال والمجهود؛ فزادها هذا جمالًا على جمال، ولكنها عندما وصلت إلى المستنقعات، لم تجد أيًّا من الطيور ولا الضفادع إلا القليل وفي أماكن بعيدة في قلب المستنقعات. جلست الأميرة عند الصخرة المفضلة لديها، وراحت تتأمل السماء وقد أنارها ضوء القمر وزينتها بعض السحب الخفيفة في تلك الليلة قليلة البرودة، فيما وقفت أشجار الغابة على مقربة منها وكأنها حرس والدها.
كانت الأميرة تجلس، وقد اكتسى وجهها بالحزن الشديد، وامتلأت نفسها بالضيق، ولما لاحظت أنها بالفعل وحيدة، ولا أحد حولها، تركت دموعها تنساب في صمت على وجنتيها، ورفعت إلى القمر وجها بللته الدموع، وراحت تنظر إليه بعينين دامعتين.
ولم تلحظ الأميرة أن هناك عينين أخريين ترقبانها من أسفل إحدى ورقات النبات الكبيرة.
تسحب الضفدع من أسفل ورقة النبات الكبيرة حتى وصل إلى أسفل قدمي الأميرة، وهناك راح يتطلع إليها في صمت، ويتمسح في قدميها.
في البداية، جفلت الأميرة من المفاجأة، لكنها شعرت باطمئنان عندما رأت أن ما لمس قدميها مجرد ضفدع، فتنهدت في ارتياح، ولكن هذا الارتياح تحول إلى الاستغراب بسرعة شديدة، عندما لمحت نظرة التعاطف في عيني الضفدع.
كانت نظرة غريبة لا يمكن أن تصدر من ضفدع، لكنها بالفعل كانت في عينيه.
وبعد ثوانٍ، اكتشفت الأميرة أن هذا الضفدع هو الذي ركله الحارس بقسوة؛ لأنه كان يقفز كثيرًا فوق يدها؛ فحملته بين يديها، ثم أمسكته بكفها الأيسر، وراحت تمسح على رأسه بكفها الأيمن، وهي تتطلع إليه في هدوء وامتنان، وكأنها تشكره على تعاطفه معها وإحساسه بها.
ثم مالت نحو وقبلته على رأسه.
ولدهشتها ارتخت عينا الضفدع في خجل مما فعلت، ولاحظت في عينيه المرتخيتين ارتياحًا وسرورًا كذلك.
لكن المفاجأة الكبرى كانت عندما قفز الضفدع من يد الأميرة إلى الصخرة المجاورة، وبدأ حجمه يكبر ويكبر...
نعم... راح حجمه يكبر ويكبر، وقد أحاطت به هالة من الضوء الأبيض الهادئ، أخفت الكثير من معالمه، التي لاحظت الأميرة رغم ذلك أنها كانت تختلف عن الشكل العام للضفدع.
وراح الظل يكبر ويكبر، فيما راح الضوء يخفت ويخفت، وظهر الشكل الذي استحال إليه الضفدع، بعدما كبر حجمه. لقد حتى تحوَّل إلى...
بشري...!
******
 -;---;--
4
نعم... الضفدع الصغير، أصبح شابًا يرتدي زيًّا يشبه زي القرويين، ولكنه كان كله باللون الأخضر مثل لون الضفادع.
انتفضت الأميرة من مكانها، وراحت تحدق فيه بفزع، وشعرت وكأنها تريد أن تجري إلى القصر لتحتمي بالحرس، ولكن شيئًا في داخلها جعلها تكتفي بالنظر في هلع وفزع إلى الشاب الذي تحول إليه الضفدع.
ولكن الشخص كان أكثر حيرة منها؛ فقد راح يتطلع إليها وإلى جسده الذي كان من ثوانٍ قليلة فقط لضفدع صغير سمين البطن مكتنز الوجنتين.
"ما هذا؟!"... صدرت هذه الجملة من الاثنين معًا؛ قالتها الأميرة بصوت امتلأ بالفزع والهلع، ولكنه لم يفقد رقته رغم ذلك، بينما قالها الشخص بصوت غريب لم تدر معه ما إذا كان غليظًا أم رفيعًا، ولكنه كان صوتًا بشريًّا في كل الأحوال، وهو ما زاد من فزعها...!
راح الشخص يتطلع إلى نفسه في حيرة، وقام من مكانه، فانتفضت الأميرة وأسرعت بالابتعاد أكثر فأـكثر لكنها لم ترحل عن المكان كله، وأخذت تتأمله.
كان بشريًّا كما يكون البشر... لولا ذلك الذيل الأخضر...!
راح الاثنان يتطلعان بعضهما إلى بعض، وكذلك راح الشاب يتطلع إلى نفسه في ذهول لا يقل عن ذهول الأميرة مما حدث.
وهنا أشارت الأميرة بسبابة يمنى مهتزة إلى الشاب، وعيناها ممتلئتان دهشة وخوف: "مـ... مـ... من أنت؟!".
فقال الشخص في ذهول وبالاهتزاز نفسه: "لـ... لـ... لست أدري!".
قالها في لهجة صادقة، لكن هذا لم يهدئ من مخاوف الأميرة، التي راحت تتطلع إليه في هلع، قبل أن تبدأ في محاولة الجري بعيدًا، لكنه لوح لها بكفه قائلًا في رجاء: "لا تذهبي... لا تذهبي يا سمو الأميرة".
ولدهشتها هي نفسها وقفت في مكانها، بل كذلك وجدت نفسها تسأله:
"ماذا تريد؟!".
بدت على وجهه علامات الحيرة والتردد، وقال في لهجة عكست مشاعره هذه:
"لا أدري".
فنظرت إليه الأميرة، وقالت متسائلة من جديد: "ولماذا تريدني أن أبقى؟! إنني خائفة منك".
هنا نظر إليها في ألم، وقال في رجاء حار ملوحًا بكفه في رفض: "لا... لا... لا تخافي مني"، ثم أضاف في لهجة متألمة: "لا يمكنني أن أؤذيك".
نظرت إليه متعجبة، وعادت تكرر سؤالها الأول: "ماذا تريد؟!"، مضيفة بعد فترة من الصمت: "من أنت؟!".
كانت قد اقتربت منه قليلًا في كلامها، فسرّه ذلك، فبدأ يقترب منها هو أيضًا، ولكنها عادت تبتعد في ذعر، فنظر إليها في ألم، ثم لوح بكفيه في الهواء بحيرة اختلطت بالألم والدهشة: "لا أدري"، وتطلع إلى القمر والسحب قبل أن يضيف في لهجة التائه:
"لا أدري... لقد كنت منذ لحظات ضفدعًا، والآن أصبحت شابًا أرتدي زي القرويين".
فسألته في لهجة مترددة: "هل كنت مسحورًا؟!".
مط شفتيه بطريقة تدل على أنه لا يعرف؛ فعادت تسأله:
"ألا تعرف لك أصلًا؟!".
قال لها في استسلام: "لا"، وبدا وكأنه سوف يكتفي بهذه الإجابة، قبل أن يتابع قائلًا: "لا أعرف. كل ما أعرفه هو أنني كنت ضفدعًا، ولم أكن أميرًا وألقى عليّ أحد السحرة الأشرار تعويذة عقابًا لي أو لوالديّ"، ثم أضاف في لهجة تأكيدية، وهو ينظر إلى عينيها السوداوين مباشرة: "أنا ضفدع"، ثم استدرك قائلًا: "أقصد كنت ضفدعًا، والآن صرت شابًا لا أعرف من أنا".
شعرت بالحزن من أجله؛ فقالت له في أسف:
"هل يمكنني أن أساعدك؟!".
برقت عيناه من الفرح وقال في سرعة:
"نعم".
فسألته متعجبة من هذا التغير المفاجئ في مشاعره:
"كيف؟!".
عادت الحيرة والحزن يكسوان وجهه قبل أن يهز كتفيه في استسلام وهو يقول: "لا أعرف".
فعادت تنظر إليه في أسف، ولفهما الصمت، قبل أن يقطعه هو بقوله:
"ألا زلت خائفة مني؟!".
قالت في سرعة:
"لا".
عادت عيناه تبرقان من جديد، لكنها استدركت قائلة:
"لم أعد خائفة مثل السابق، ولكنني لا زلت خائفة".
قالتها وعيناها تشع بالرهبة، مما جعله يبتسم، ويقول:
"لا تخافي مني".
قالها في لهجة بسيطة مست قلبها بشكل أثار دهشتها.
وهنا تعالى صوت بومة في الظلام؛ فقالت في هدوء أدهشه هو:
"يجب أن أذهب".
فقال لها:
"سوف أوصلك".
ابتسمت وقالت:
"سيقتلك حراس أبي، إذا رأوك بذيلك هذا".
هز رأسه في أسف وحزن؛ فأسرعت تقول معتذرة:
"آسفة".
ابتسم من فوره، وقال:
"لا تعتذري؛ فأنا لي ذيل بالفعل".
فلوحت له، وهي تبتعد قائلة: "مع السلامة".
فلوح لها بدوره وقال: "تصبحك السلامة".
والتمعت المزيد من النجمات في السماء.
******
 -;---;--
5
عندما عادت الأميرة إلى القصر، أسرعت بغسل نفسها وعباءتها من تراب ممر الأرانب، ثم ألقت نفسها في الفراش، قبل أن تحضر مربيتها لتقدم لها طعام العشاء، وتكتشف أنها ليست في حجرتها. ولدهشتها، اكتشفت أنها كانت تفكر في الشاب الذي أصبح ضفدعًا.
كيف ذلك؟!
لقد حدث الأمر أمام عينيها... فهل كانت تحلم بالفعل؟!
لكن... البلل في شعرها يؤكد أنها بالفعل اغتسلت لتتخلص من تراب ممر الأرانب. ولكن... أليس من الممكن أن تكون قد ذهبت إلى المستنقعات، وهناك جلست تلهو مع الطيور والضفادع بعيدًا عن التحول والمتحولين؟! ولكن... لقد رأته بعينيها...
أفاقت من أفكارها على صوت طرقات على باب حجرتها؛ فأدركت عندها أن مربيتها جاءت بالعشاء؛ وبالفعل، لما أعطت الإذن للطارق بالدخول، انفتح الباب عن وجه المربية البشوش، وهي تدفع عربة الطعام، وكان أول سؤال وجهته الأميرة لمربيتها، عندما جلست إلى المائدة لتتناول الطعام:
"هل يمكن أن يتحول الإنسان؟!".
سألتها المربية في دهشة واستغراب من السؤال:
"لا أفهم! ماذا تعنين؟!".
قالت الأميرة وهي تزدرد طعامها بصوت مسموع من فرط الارتباك:
"هل يمكن أن يتحول الـ... الأسد إلى... إلى سمكة؟!".
لم تشأ أن تذكر الضفدع والإنسان خشية أن تفهم المربية، التي لم تكن على علم أصلًا بما جرى، ولكن... من يدري؟!
أجابتها المربية مبتسمة:
"السحر يفعل الكثير يا أميرتنا".
شعرت الأميرة ببعض الخوف، عندما قالت المربية كلمة "السحر"، لكنها عادت بعد ذلك لهدوئها، لما تذكرت الطريقة التي تعامل بها ذلك الشـ... الضفـ... لم تدر كيف تصفه؛ فهل هو شاب؟! أم ضفدع؟! لم تدر ما تقول، ولكنها تناولت إفطارها على أية حال.
فكرت في أن تذهب إلى المستنقعات، ولكنها خشيت من أن يتبعها الحراس، ويأتي الشاب لكي يتكلم معها؛ فيراه الحراس؛ فقررت أن تبقي زيارتها للمستنقعات إلى المساء على أن تمكث في حديقة القصر في الصباح. وبالفعل، أمضت الصباح في القصر، ونامت طيلة فترة العصر. وعندما بدأ المساء يأتي، أسرعت إلى "ممر الأرانب"، وخرجت من خلاله إلى الغابة، وانطلقت من فورها إلى المستنقعات.
لم تكن تدري ماذا تريد من الذهاب إلى المستنقعات؛ هل تريد أن تمضي الوقت وسط الطبيعة في ظلام الليل وأسفل ضوء النجوم والقمر؟! أم أنها تريد أن يأتي الضفدع الشاب — أو لعله الشاب الضفدع؟! — فيكلمها؟! لم تكن تدري في الواقع، ولكنها ذهبت.
كعادتها، جلست على طرف الصخرة، وراحت تنصت إلى صوت حفيف الأشجار في الغابة، وقد راحت أوراقها تهتز مع هواء الشتاء، فيما تعالى صوت بعض الطيور الليلية والضفادع من أماكن مختلفة من المستنقعات التي امتدت أمامها سوداء لا ينيرها إلا ضوء النجوم المتسلل من وراء السحب التي تناثرت في السماء. وكان بمقدورها أن ترى بين فينة وأخرى ضفدعًا يقفز هنا أو هناك. ولاحظت أنه مع كل قفزة للضفدع، تشعر بأن قلبها يقفز، ثم تتذكر أنه لم يعد ضفدعًا؛ فتبتسم لنفسها في خجل.
ولكن فجأة شعرت بصوت من خلفها ينادي قائلا: "سمو الأميرة".
انتفضت في هلع، وكادت تسقط من فوق الصخرة، لولا أنها تمالكت نفسها، قبل أن تنظر إلى مصدر الصوت لتجد أنه الضفدع الشاب ينظر إليها باسمًا في ترحاب، وهو يضيف: "مرحبًا بك. مجيئك يسعد كل المستنقعات، وكل كائنات المستنقعات".
اندفعت حمرة الخجل إلى وجنيتها، عندما لمحت في عينيه نظرة الوله تلك، بالإضافة إلى اللهجة الحالمة التي أضاف بها آخر جزء من عبارته.
لكنها تمالكت نفسها، وقالت له في ترفع ملكي: "شكرا لك أيها الشاب الطيب".
التمعت عيناه بالفرحة، عندما سمعها تقول: "الشاب الطيب"، ولكنه تجاوز ذلك الشعور، وقال لها: "أتمانعين في أن أجلس بجوارك على الصخرة؟!".
قالت له في هدوء: "اجلس، إن أردت".
فجلسا متجاورين، وراحا ينظران إلى السماء والنجوم، قبل أن يقول هو: "جميلة السماء".
كانت غاية في الانفعال، وهو ما بدا في احمرار وجهها؛ فلم تستطع أن تتكلم، واكتفت بأن هزت رأسها؛ فنظر إليها وقال في إشفاق:
"إن كنت لا ترغبين في أن تجلسي مع ضفدع، فيمكنني أن أغادر".
وبالفعل نهض من مكانه في إحراج وهو ينظر بعينيه في الأرض ألم، ويقول في حزن:
"لا يمكن بالطبع للأميرة أن تغادر مكانها".
كادت أن تسارع بالقول:
"لا... ابق ولا ترحل"، إلا أنها أمسكت لسانها في اللحظة الأخيرة، وقالت في الترفع الملكي ذاته:
"يمكنك أن تبقى إن شئت، وكذلك يمكنك أن ترحل إن شئت".
فهم بمواصلة المسير، وهو يقول: "شكرا يا سمو الأميرة لكرمك".
لكنه عاد، وقفز بجوارها في مرونة تليق بضفدع حقيقي، وأضاف:
"شكرا لكرمك. قررت أن أبقى".
كادت تنفجر ضاحكة من أسلوبه، ولكنها كتمت ضحكتها، التي أبت إلا أن تعبر عن نفسها بابتسامة خفيفة، وقالت:
"لا مانع لديّ من أن تبقى".
قالتها، وأدارت رأسها بعيدًا، وكأنما تتحاشاه.
فعاد هو يقول: "شعور المرء وهو ضفدع يختلف كثيرًا عن شعوره كبشري؟!".
هنا لم تستطع أن تتمالك نفسها، فسألته في شغف:
"كيف تعيش الآن؟! وكيف كنت تعيش وأنت ضفدع؟! وهل يمكنك أن تعود ضفدعا كما كنت؟!".
نظر إليها في دهشة من تلاحق أسئلتها، فحمر وجهها في خجل شديد، زاده الضحكة العالية التي أطلقها؛ فنظرت له في غيظ، وقالت في حنق شديد:
"لم تضحك؟!".
ماتت الضحكة على شفتيه، ونظر إليها في هلع، قبل أن يقول في اعتذار مرتبك:
"آسف... آسف يا سمو الأميرة... صدقيني لم أكن أقـ...".
شعرت بالإشفاق عليه من فرط هلعه؛ فقالت في هدوء:
"لا عليك"، قبل أن تضيف في شغف:
"أخبرني الآن".
اكتفى هذه المرة بالابتسام مغالبًا رغبته في الضحك، وهو يقول:
"أعيش مع الحكيمة إمتارا في كهفها القريب. تعرفينها؟! إنه كهف داخل جذع الشجرة الكبيرة. أؤدي الأعمال المنزلية، وتطعمني مما يأتي به الناس لها، ولكنني أحاذر أن يراني أحد".
سألته في اهتمام: "ولمَ؟!".
أجابها في حزن: "سوف يطردونني من المملكة؛ لأنهم سوف يحسبونني غريبًا، والناس هنا لا يحبون الغرباء".
فقالت له: "أخبرهم بحقيقتك".
فقال في ألم ومرارة وهو يخفض رأسه أرضًا: "أقول لهم إنني كنت ضفدعًا وصرت بشريًّا؟!"، وأضاف وهو يهز رأسه في ألم قائلًا:
"لن يصدقني أحد".
ثم رفع بصره إليها وسألها في الألم نفسه:
"هل كنت لتصدقيني إن لم تكوني قد رأيتِ بعينيك؟!".
هزت رأسها نفيًا في صمت وألم، قبل أن تنظر إليه قائلة في إشفاق:
"كما تحب، ولكنني أشعر أنه يجب أن تواجه الجميع بحقيقتك".
وصمتت قليلًا قبل أن تضيف:
"أنا لا مشكلة لديّ في أن يكون لديك ذيل".
ابتسم في مرارة، وقال: "أنت رأيتني أتحول. هم لم يروني، وبالتالي لن يصدقوني. وإن صدقوني، سيتعبرونني ساحرًا أو مسحورًا، وربما قتلوني".
اتسعت عيناها في ارتياع للفكرة قبل أن تقول في هدوء:
"حسنًا. أنت بحال جيدة الآن يا..."، وتوقفت قليلًا قبل أن تسأله في فضول:
"ما اسمك؟!".
فابتسم وقال:
"اسمي تشيك... إنه اسم أطلقته عليّ الحكيمة؛ فلم يكن لي اسم حقيقي في عالم الضفادع"، وصمت متأملًا قبل أن يضيف:
"فعلًا، أنت محقة... أنا الآن في حالة جيدة"، وأضاف وهو ينظر إلى السماء:
"أجلس وأنظر إلى السماء والنجوم في الهواء الجميل"، وأضاف بلهجة خاصة وهو ينظر إليها:
"وبجواري أميرة الأميرات".
ابتسمت في خجل، ثم قالت محاوِلة الفرار من نظراته:
"سوف أرحل الآن".
اكتسى وجهه بالحزن؛ فقالت:
"وسوف آتي غدًا. في الموعد نفسه".
فعادت البهجة إلى ملامحه، ونظر إليها مودعًا، ولم يلبث أن اكتسى وجهه بالحزن ثانية، وهو يراها تختفي قفي الظلام وبين أفرع أشجار الغابة عائدة إلى القصر.
راح يرقبها حتى استحالت خيطًا في الظلام قبل أن تختفي تماما عن ناظريه، فعاد ينظر إلى النجوم والسحب في انتظار الغد.
******
 -;---;--
6
في الليلة التالية، جاءت الأميرة في الموعد نفسه، وكان "تشيك" في انتظارها؛ فجلسا معًا على الصخرة وراحا يتأملان في النجوم والسحب، وهنا قال لها:
"أريد أن أقدم لك هدية".
فاحمر وجه الأميرة، وقالت في اندهاش من المفاجأة:
"هدية؟!".
قال لها في انفعال وحماس:
"نعم، هدية"، وأضاف في لهجة مغرية:
"سوف أريك شيئًا جديدًا".
فقالت له في تساؤل وفضول حقيقيين:
"وما هو؟!".
فقال لها في الحماس نفسه:
"أعطني يدك".
فنظرت إليه في حذر وارتياب، لكنه طمأنها قائلًا:
"لن أؤذيك"، ثم تابع متسائلًا: "من يستطيع أن يؤذي الأميرة؟!".
ابتسمت في رضا واطمئنان، ومدت له يدها، ولكنها عادت فسحبتها مرة ثانية قبل أن تقول في ارتباك:
"لا... يمكنك أن تقدم الهدية بطريقة أخرى".
اكتست ملامحه بخيبة الأمل، قبل أن ينحني أرضًا، ويلتقط غصن شجرة جافًا كان ملقى، وهو يقول في شيء من الإحباط:
"حسنًا، يمكنك أن تمسكي بهذا، ولكن تشبثي به جيدًا".
أمسكت الأميرة غصن الشجرة، وقالت في توجس: "ماذا ستفعل؟!".
أجابها "تشيك" قائلًا:
"لا تسألي تشيك عما يفعل... فهو..."، وصمت قليلًا قبل أن يصيح وهو يقفز لأعلى ممسكًا الغصن:
"جرييييييييييييييييييييييييء".
صرخت في هلع، من المفاجأة، وهي ترى نفسها ترتفع لأعلى وأعلى وأعلى، وترى كل شيء يصغر أسفلها قبل أن تجد نفسها وقد استقرت فوق إحدى الأشجار، وبجوارها "تشيك" يبتسم.
كانت تنوي أن تصرخ فيه غاضبة، ولكن المشهد المحيط بها أنساها كل شيء.
كانت ترى قمم الأشجار الأخرى وقصر والدها من الأعلى، وكانت ترى الطيور تحلق من أسفلها، بل إنها رأت قطعًا من السحاب حولها؛ فقد كانت الشجرة التي استقرا فوقها شديدة الارتفاع، وكانت ترى المملكة كلها من أسفلها؛ فنظرت إليه في انبهار قبل أن تقول في انفعال شديد:
"تشيك... كم أنت رائع!!".
كانت سعادته بلا حدود...
شعر أنه يطير ولا يقف فقط فوق أفرع الشجرة.
وهنا نظر إليها في هيام، قبل أن يقول في همس:
"سمو الأميرة...".
نظرت إليه في استفهام؛ فقال في همس:
"أتعلمين!؟ عندما كنت تمسكين بي في المستنقعات وأنا ضفدع، كنت أشعر بالدفء الشديد... كنت..."، وارتبكت الكلمات على لسانه؛ فراح يلوح بيده في الهواء، قبل أن يضيف في تلعثم: "كنت أحب أن أجلس بين يديك... كان الدفء شديدًا لدرجة أنني لم أكن أشعر ببرودة الماء، عندما أعود إلى المستنقعات".
كانت تنظر إليه في ذهول، ولكنه لم يلتفت إليها، بل ربما لم يرها من الأصل، وهو ينظر للنجوم قائلًا في اللهجة المتلعثمة نفسها:
"كنت... كنت أشعر أنني أطير... نـ... نعم...".
كانت لا تزال تنظر إليه في الذهول والانبهار نفسيهما، وكادت أنفاسها تحتبس وهو يضيف:
"عندما ركلني الحارس ورأيت الألم في عينيك، لم أشعر بالألم؛ فقد أطارت هذه النظرة كل مشاعر الألم من نفسي"، ثم أخذ نفسًا عميقا، وهو يضيف: "وقتها... وقتها..."، وصمت لبرهة، ونظر إلى عينيها السوداوين اللتين اتسعتا من المفاجأة والذهول قبل أن يضيف:
"وقتها شعرت أنني إنسان".
ارتفع حاجباها من فرط الذهول، حتى كادا يصطدمان بشعرها الأسود الذي تناثر مع هواء الليل فوق الشجرة المرتفعة، ولكنها لم تستطع أن تقول شيئًا، وتركته يتابع قائلًا، وهو يفرك كفيه ويدور حولها:
"كان شعورًا غريبًا"، ثم توقف فجأة، وراح ينظر إليها في قوة أخافتها، وهو يقول:
"لقد شعرت... شعرت أنني... أنني أعرفك منذ زمن...". وتوقف قليلًا وهو يمسك صدره وكأن قلبه يوشك أن يثب من صدره من فرط الانفعال، قبل أن يتمالك أنفاسه ويتابع قائلًا، وهو يلقي ذراعيه بجواره في إنهاك:
"شعرت أنني منك".
ساد الصمت بعد هذه العبارة لفترة طويلة لم تستطع هي فيها أن تقول شيئًا، ثم قطع هو الصمت مكررًا العبارة الأخيرة في شرود غريب:
"شعرت أنني منك".
ثم تجمدت ملامحه بطريقة أخافتها أكثر فأكثر، ثم قال بصوت قوي وهو ينظر في عينيها مباشرة:
"أميرتي...".
نظرت إليه في استفهام مرعوب، فأكمل وقد انخفض صوته حتى بات همسًا:
"إنني أحبك...".
والتمعت النجوم في السماء.
******
 -;---;--
7
لم تخبر الأميرة أحدًا بأي شيء مما جرى في تلك الليلة.
كانت ليلة عجيبة بالفعل؛ فرغم مرور أسبوع عليها، لا يزال جسم الأميرة ينتفض، كلما تذكرت نظرة "تشيك" الولهة، وهو يسألها قائلًا:
"هل تتزوجينني؟!".
لم تدر كيف نزلت من على الشجرة: هل أنزلها هو بواحدة من قفزاته الخرافية؟! هل أمسك يدها؟! هل أمسكت بالغصن الجاف؟!
لا تدري بالفعل، ولكن كل ما تدريه هو أنها عادت مذهولة وكادت تنسى، وتدخل من البوابة الرئيسية، لولا أن انتبهت في اللحظة الأخيرة؛ فدخلت من "ممر الأرانب".
كانت في حالة يرثى لها طيلة هذا الأسبوع إلى درجة أن الجميع ظنوا أنها مريضة، وقرر الملك أن يستدعي لها أكبر الأطباء في المملكة، ولكنها قالت إنها بخير، ولكنها فقط تعاني القليل من البرد. وتعهدتها المربية بالعناية الفائقة طيلة هذا الأسبوع الذي لم تلمح فيه تشيك.
لا ريب أنه يتسقط أخبارها من مكان ما.
هكذا فكرت.
كانت تشعر بالسعادة الفائقة؛ لقد قدم لها عرضًا بالزواج، وهذا كفيل بإثارة سعادتها، ولم تدر لماذا رغم أن هناك الكثيرين الذين كانوا يودون خطبتها، ولكنها لم تكن ترضى وتتعلل بصغر السن.
ولكنها كانت تشعر بشيء من تأنيب الضمير.
لما سألته في تلك الليلة، قال لها إنه صار إنسانًا على يديها، وإن ذيله لا أحد يراه.
وعندما سألته عن سر وجود ذيل له رغم أن الضفادع لا ذيول لها، طمأنها بأن الأمر كله غريب، وبالتالي لا مشكلة في مسألة الذيل.
راح يطمئن من مخاوفها، ويطالبها بأن تصدقه بأنه لم يعد ضفدعًا بالفعل، بل صار إنسانًا...
على يديها.
وراح في كل ليلة يطمئنها أكثر فأكثر.
وكانا ينطلقان في الظلام بقفزات "تشيك" الخرافية إلى أعلى الأماكن.
وراحا يتكلمان؛ فأخبرها عن سعادته وهو معها، وأخبرته عن مكنونات نفسها، وعن مخاوفها من البشر الذين يقتلون بعضهم البعض من أجل الوصول إلى كرسي الحكم، وعن القتال الذي يخوضه عمها ضد والدها في سبيل الجلوس على كرسي المملكة؛ فقال لها إنه بعيد عن هذا العالم.
وذات ليلة، قال لها وهما يجلسان فوق واحدة من السحب المتناثرة حول الشجرة:
"أود فعلًا أن أتزوجك يا سمو الأميرة".
نظرت إليه في خشية، وعندما أوصلها إلى مدخل "ممر الأرانب"، التفتت إليه وقالت:
"سوف أخبر والدتي الليلة".
وتألقت كل الأنجم في السماء هذه المرة.
وعندما وصلت إلى فراشها، شعرت بالهلع من فكرة أن تقول لوالدتها، ولكنها شعرت بتأنيب الضمير، عندما فكرت في أنها تفعل شيئًا دون علم والدتها...
لذلك، لا بد أن تخبر والدتها...
ولكن...
ولكن ماذا ستقول لها؟!
هو نفسه أقر أن الناس سوف يعتبرونه ساحرًا أو مسحورًا، وربما يقتلونه جراء ذلك...
كيف ستخبر والدتها بأنه يريد أن يتزوجها؟!
ماذا تفعل؟!
هنا قررت أن تخبر مربيتها...
نعم...
هذا هو الحل الوحيد...
سوف تخبر المربية، وتطلب منها المشورة، وعندها ليكن ما يكون.
وبالفعل، عندما جاءت المربية بعربة الطعام في صباح أحد الأيام، قالت لها الأميرة:
"أخبريني يا مربيتي المخلصة، هل يمكن أن يتحول الإنسان إلى ضفدع؟!".
ابتسمت المربية، وقالت لها:
"هذه ثاني مرة تسأليني فيها عن التحول... هل رأيت إنسانًا يتحول إلى ضفدع؟!".
هنا شعرت الأميرة بالارتباك، وكادت أن تتراجع عن قرارها، لولا أن انتابتها شجاعة فائقة، فقالت في سرعة خشية التراجع ثانية:
"كلا... لقد رأيت ضفدعًا يتحول إلى إنسان".
وقبل أن تتسع عينا المربية في دهشة، كانت الأميرة تضيف في السرعة ذاتها:
"ويريد أن يتزوجني".
كادت المربية أن تسقط مغشيًّا عليها؛ فانتفضت الأميرة من مقعدها في انزعاج، وهي تقول:
"ماذا بك يا مربيتي؟!".
تمالكت المربية نفسها، قبل أن تقول في صوت متقطع الأنفاس:
"كرري عليّ ماذا قلت يا حبيبتي".
هنا، سردت الأميرة كل شيء... كل حرف نطق به "تشيك"...
كل موقف حدث...
وراحت المربية تستمع في إنصات، ولما انتهت الأميرة سألتها المربية:
"هل أنت جادة فيما تقولين؟!".
أومأت الأميرة برأسها إيجابًا في صمت، فعادت المربية تسألها:
"ألم يجعلك تأكلين شيئًا؟!".
هزت الأميرة رأسها ببطء نافية، فسألتها المربية من جديد:
"ولا تشربين؟!".
ومرة أخرى كان الرد بالنفي.
هنا قالت لها المربية:
"ألم يقل لك شيئًا آخر عندما قلتِ له إن الأمر صعب؟!".
أجابتها الأميرة في استكانة مشوبة بالحيرة:
"قال لي إنه يحبني جدًا، وإنه صار إنسانًا بسبب قبلتي له، ولما سألته عن ذيله، قال لي إن لا أحد يرى الذيل".
فعادت المربية تسألها:
"وماذا ترين يا بنيتي؟!".
مطت الأميرة شفتيها، وقالت:
"إنه طيب جدًا، و...".
قاطعتها المربية في هدوء وإشفاق:
"ولكنه ضفدع يا صغيرتي... إنه ضفدع".
راحت الكلمة تتردد في ذهن الأميرة الصغيرة طوال اليوم، وقد وعدتها المربية بأن تتدبر الأمر في هدوء بعيدًا عن الملك والملكة.
"ولكنه ضفدع...".
ومن فرط الحيرة في التفكير، نامت الأميرة.
******
 -;---;--
8
وفجأة، استيقظت الأميرة على صوت فتح باب حجرتها، ولما فتحت عينيها، رأت المربية تدخل الحجرة، وهي تدفع عربة الطعام أمامها وتتركها دون كلمة واحدة؛ فقامت الأميرة من الفراش، وراحت تأكل، ولكن بينما كانت تأكل، ابتسمت الملعقة، وقالت لها في هدوء:
"سمو الأميرة، سوف تتزوجين من الرجل الضفدع؟!".
اتسعت عينا الأميرة في ذهول، وهي تسمع الملعقة تتكلم، ولكن لدهشتها ردت هي على الملعقة وسألتها:
"ومن أخبرك؟!".
قالت لها الملعقة:
"الجميع يعرف"، ثم اكتست ملامح الملعقة بالسخرية، وقالت في استنكار:
"الأميرة تتزوج من ضفدع؟!"، ثم أضافت في سخرية حادة:
"سوف يأخذك معه إلى المستنقعات"، وأتمت جملتها بضحكة هازئة طويلة.
احمر وجه الأميرة في غيظ، وهمت بأن ترد عليها، لولا أن سمعت صوتا غليظا يقول في هدوء:
"وماذا في هذا إن كان رجلًا طيبًا؟!".
كان إبريق الشاي هو المتكلم؛ فنظرت إليه الأميرة في ذهول، ولكنه تابع قائلًا وهو ينظر إليه بعينيه الواسعتين اللتين ظللهما حاجبان كثيفان:
"إذا كان إنسانًا طيبًا، فلا مشكلة في الاقتران به"، ثم مط شفتيه اللتين كاد شاربه الغليظ أن يغطيهما:
"صدقيني لا مشكلة!".
تعالى صوت الملعقة الحاد الرفيع، وهي تقول في سخط وقد عقدت حاجبيها الرفيعين:
"اصمت أيها الأبله"، ثم التفتت إلى الأميرة، وقالت لها في استنكار:
"لا تستمعي إلى هذا الأحمق"، وأضافت في تحذير:
"سوف يعيدك إلى المستنقعات".
راحت الأميرة تنقل بصرها بين الاثنين، وقد انعقد لسانها، قبل أن تقول أخيرًا:
"من أخبركما؟!".
فقالت الملعقة في حنق:
"كل المملكة تعرف بأمر الضفدع الذي يريد أن يتزوج من الأميرة، والأميرة التي لا تمانع"، وصمتت قليلًا قبل أن تتابع في استنكار، وهي تحدق في وجه الأميرة بتحدٍ:
"الأميرة البلهاء".
انعقد حاجبا الأميرة في سخط، وهمت بأن ترد عليها، ولكن إبريق الشاي أسرع قائلًا:
"كيف تكلمين الأميرة بهذا الأسلوب؟!".
لم تتراجع الملعقة عن حدتها، وراحت تنظر في مزيد من التحدي إلى عيني الأميرة، وهي تقول في لهجة تقريرية:
"من توافق على الزواج من ضفدع تكون بلهاء...!".
وقبل أن ترد الأميرة، راحت الملاعق تردد في اللهجة التقريرية ذاتها:
"نعم... من توافق على الزواج من ضفدع تكون بلهاء".
وراح الصوت يتصاعد ويتصاعد حتى وضعت الأميرة يديها على أذنيها لتحول دون اختراق الصوت لأذنيها، قبل أن...
تستيقظ لتجد نفسها نائمة في فراشها.
راحت تلهث بشدة من فرط الانفعال، قبل أن تقوم من الفراش، وترتدي ثيابها، وتخرج إلى الحديقة التي سادها الظلام، وتدخل إلى "ممر الأرانب".
في تلك الأثناء، كان "تشيك" يجلس مع الحكيمة "إمتارا" في كهفها... كان يسألها:
"هل تعتقدين أن الملك من الممكن أن يوافق؟!".
لم ترد الحكيمة "إمتارا"، ولكنها نظرت في عينيه مباشرة، وسألته بدورها:
"هل تريدها؟!".
أجابها من فوره:
"نعم"، ثم اكتسى صوته بالحيرة، وهو يسألها:
"ولكنني أتساءل...".
قاطعته بنبرة صارمة:
"الذيل؟ أليس كذلك؟"، وتابعت — ولكن في هدوء هذه المرة – دون أن تترك له مجالًا للرد:
"حقًا لك ذيلك، ولكنك بذيل ظاهر... هناك من هم بذيل خفي...".
وخرج من عند الحكيمة، وقد راح يحلم باليوم الذي يشهد عرسهما.
كان يحلم.
كان يرى نفسه لا يزال ضفدعًا، ولكن ضفدع صغير بين يديها تدفئه بكفيها.
وراح يحلم ويحلم...
وراحت الزهور تتقافز من حوله فرحة بحلمه، فيما ازداد القمر التماعًا، وكأنه ينير لـ"تشيك" طريق الزفاف.
ظل يسير وهو يتخيل يوم عرسهما حتى وصل إلى الصخرة وجلس هناك على أن تأتيه بعد فترة الانقطاع الطويلة، التي علم فيها من الحكيمة "إمتارا" أنها كانت مريضة.
كان في كل يوم يجلس فوق الصخرة في انتظار أن تأتي، ولكنها لم تكن تأتي، إلا أنه لم يفقد الأمل.
وفي ذلك اليوم عندما وصلت إلى الصخرة، وجدته يجلس وكأنه كان ينتظرها، ولما رآها، تهلل وجهه في البداية بالسرور، قبل أن يتحول إلى القلق، عندما رأى شحوب وجهها، فسألها في هلع:
"ماذا بك يا سمو الأميرة؟! هل لا زلت مريضة".
لم ترد، واستمر شحوب وجهها، وفجأة، انتفضت واقفة من جلستها فوق الصخرة، وقالت له:
"سوف أعود للقصر".
لم يرد، وتركها ترحل دون أن يسألها.
وانطلقت عواصف القلق في نفسه، وراح يمشي وسط المستنقعات غير آبه بتلوث ثيابه بمياه المستنقعات، ولما تعب من السير، ذهب إلى الكهف وحكى للحكيمة كل شيء؛ فهزت رأسها في تفهم، وقالت:
"لا ريب أن هناك من يصدها عن الأمر".
أما هي، فقد عادت إلى قصرها عن طريق "ممر الأرانب".
وهناك استلقت على فراشها، ونامت.
ولكن...
فجأة استيقظت على صوت حاد رفيع...
كانت الملعقة تنظر إليها من فوق عربة الطعام، وتقول لها في سخرية وازدراء:
"سوف تتزوجين الضفدع... يا لك من حمقاء...!".
ومرة أخرى، وقبل أن ترد عليها، كان إبريق الشاي يقول بصوته الغليظ:
"الأحمق هو أنت أيتها الملعقة"؛ فنظرت إليه الملعقة في حنق، ولكن قبل أن ترد، كان هو يتابع قائلًا في ضيق موجها كلامه للأميرة:
"يا بنيتي... لكل منّا ذيله".
"اسكت أيها الأحمق"... قالتها الملعقة في حنق، وراحت تقول للأميرة في ضيق:
"سوف يتزوجك، ثم يأخذك إلى المستنقعات"، وصمتت قليلًا قبل أن تتابع في استنكار:
"وربما يتركك ويذهب بمفرده".
اتسعت عينا الأميرة في هلع من الاحتمال، ولكنها تمالكت نفسها، وسألتها:
"كيف عرفت بالأمر؟! من أخبرك؟!".
نظرت إليها الملعقة في تحد وقالت:
"المملكة كلها تعرف..."، وأضافت في تشفٍ:
"لقد أخبرهم تشيك".
وفجأة تناهى إلى مسامعها ضجيج مرتفع يصدر من الحديقة، فنظرت من النافذة لترى كل أفراد الأسرة المالكة، وقد احتشدوا في الحديقة، وعلى وجوههم إمارات الضيق والسخط الذهول وعدم التصديق.
كانوا يتصايحون بشأن الأمر، وقال أحدهم في سخط بالغٍ، وقد ارتدى قبعة سوداء طويلة ورفع أنفه في كبرياء:
"أميرتنا سوف تتزوج من الضفدع"، ومط شفتيه في ازدراء مبالغ فيه قبل أن يضيف:
"يا للعار...!".
وصاحت أخرى، ترتدي ثوبًا ملكيًّا، في حنق:
"أميرتنا سوف تتزوج من شخص بذيل...!".
ومن خلفها تصاعدت أصوات لأهل المملكة يصيحون في استنكار وسخرية:
"بذيل؟! يا للعار...!".
"سوف يرث مملكتنا ضفدع...!".
"هيهيهيههييييييييه... سوف يحكمنا ضفدع"...!
ولكن تعالى صوت الإبريق يقول:
"يا بنيتي... لكل منا ذيله"
"أحمق...!"، هكذا صاحت الملعقة.
"سوف يتركها ويذهب للمستنقعات".
"لكل منا ذيله".
"سوف تتزوج من شخص بذيل...!".
"إنه ضفدع..."!.
وراحت الأصوات تتصارع، حتى...
حتى انتفضت من فوق فراشها، وقد امتلأت بالذعر والهلع، ولم تتمالك نفسها هذه المرة؛ فراحت تصرخ بشدة؛ حتى إن المربية دفعت الباب بعنف، ودخلت الحجرة وخلفها بعض الحراس، وراح الجميع يستفسر عن سبب الصراخ؛ فقالت لهم إنها حلمت بكابوس.
ولما خرج الحراس، احتضنتها المربية في حنان، وقالت لها في إشفاق: "يا سمو الأميرة...".
راحت دموع الأميرة تنساب في حزن فوق الوسادة؛ فقالت لها المربية في هدوء حازم:
"سوف أذهب لأخبره ألا يناقش معك هذا الأمر مرة أخرى"، وأضافت في برود:
"سوف أخبره أن الأميرات لا يتزوجن الضفادع".
اتسعت عينا الأميرة في جزع، لكنها لم تقو على أن ترفض، وتركت المربية تنطلق لتخبر "تشيك" بقرار الأميرة.
******
 -;---;--
9
كان "تشيك" يجلس أمام كهف الحكيمة، في انتظار حلول المساء ليذهب إلى الصخرة حيث يلتقي بالأميرة ويعرف منها آخر التطورات. ولكنه بينما كان ينتظر، راح في غفوة طفيفة، ولكنه رأى خلالها حلمًا.
أو ربما كابوسًا.
رأى أنه يسير بجوار الأميرة وكلاهما يرتدي ثوب الزفاف، ولكنه لم يكن على صورته البشرية.
كان ضفدعًا.
ثم رأى الأميرة تنظر إليه في امتعاض قبل أن تنطلق هاربة منه، وكل الحشد المجتمع يتصايحون ويشيرون إليه قائلين: "الأميرات لا يتزوجن الضفادع يا أبله"، فيما تعالت منهم الضحكات.
انتفض "تشيك" مذعورًا من نومه ليجد أمامه المربية.
لم يكن قد رآها من قبل، فسألها في استغراب وهو ينهض من مكانه متثاقلًا:
"من أنت؟!".
فأجابته في حزم:
"أنا مربية الأميرة. إنها تقول لك إن الأمر قد انتهى، وإنها لا يمكن أن تتزوج من ضفدع مثلك".
وقبل أن يرد عليها، كانت قد أعطته لها ظهرها، وهي تضيف في برود:
"الأميرات لا يتزوجن الضفادع... وإذا عرف الملك بالأمر، سوف يقطع رقبتك".
امتقع وجهه... ليس من التهديد، ولكن من الخبر...
الأميرات لا يتزوجن الضفادع.
قفز إلى الكهف، ونظر إلى الحكيمة التي كانت جالسة في مكانها أمام الفراش؛ فقالت له:
"سمعت كل شيء... لا سبيل... صدقني لا سبيل... لقد حكموا أن الأميرات لا يتزوجن الضفادع".
نظر إليها في ذهول، وهو يقول:
"انتهى الأمر؟!".
لم تجبه، فقال في استسلام:
"انتهى الأمر".
راح يسير في ذهول نحو المستنقعات غير مصدق لما قالته المربية.
"الأميرات لا يتزوجن الضفادع"...
"الأميرات لا يتزوجن الضفادع"...
"الأميرات لا يتزوجن الضفادع"...
أما الأميرة فقد جلست أمام مرآتها وهمت بالتقاط أدوات شعرها كي تعيد له رونقه وجماله، ولكن قبل أن تمسك الفرشاة سمعتها تقول:
"أيتها الأميرة... سمعت أنك سوف تتزوجين من الرجل الضفدع... هل هذا صحيح؟!".
ألقتها الأميرة فوق المنضدة، وصرخت: "كلا... لن أتزوج من الرجل الضفدع".
وراحت تردد العبارة في ثورة، وهي تندفع نحو فراشها، قبل أن تلقي نفسها فوقه وتضع رأسها بين كفيها، وهي تقول في ألم هامس:
"لن أتزوج من الرجل الضفدع".
وفي تلك الأثناء، كان "تشيك" يسير نحو المستنقعات، فأسرعت خلفه الحكيمة "إمتارا" تقول له:
"تشيك... إلى أين أنت ذاهب؟!".
ولكنه لم يرد عليها...
"الأميرات لا يتزوجن الضفادع"...
إنه ضفدع بالفعل... سواءً خبأ ذيله أم أظهره...
هو ضفدع...
وفي كل هدوء، اتجه نحو المستنقعات، وانطلق يجري فوق مياهها وأوراق نباتاتها حتى اختفى في قلب المستنقعات.
لم يدر أحد بما جرى للضفدع من تحوله إلى شاب...
لكن القرويين بدأوا يتحاكون عن ضفدع كبير الحجم يعيش في الطرف القصي المظلم من المستنقعات...
بدأوا يتكلمون عن صوت نقيق بشري يصدر في الليالي المقمرة...
وراحوا يروون القصص والحكايات عن الضفدع البشري الكبير الذي يعيش في الكهف السحيق أسفل مياه البحار...
تغير الشتاء فأصبح ربيعًا ثم صيفًا فخريفًا ثم شتاءً مرة أخرى...
وتساقطت أوراق الأشجار وعادت لتنبت مجددًا...
وسنة بعد أخرى نسيت الأميرة الضفدع "تشيك"...
وكبرت...
وجاء يوم زفافها...
وكان فارسًا وسيمًا يليق بالأميرة...
واحتفلت المملكة بزواج الأميرة من الفارس الوسيم ابن حاكم المملكة المجاورة...
ولكن القرويين يقسمون أنهم في ذلك اليوم شاهدوا على ضوء القمر عند أطراف المستنقع شبح ضفدع بشري... يتقافز فوق إحدى الصخور...
وهو يبكي...
******



#حسين_محمود_التلاوي (هاشتاغ)       Hussein_Mahmoud_Talawy#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أزمة الفيفا... السبب فلسطين؟!
- روسيا والثورة الشيوعية... سرد تأملي مختصر... ما قبل الثورة ( ...
- 15 مايو... عيد الاستقلال... من سمع بالنكبة؟!
- روسيا والثورة الشيوعية... سرد تأملي مختصر... ما قبل الثورة ( ...
- نوادر جحا... انتصار ل-العادي-؟! أم حيلة دفاعية؟!
- داعش باليرموك... لا أمل...
- عاصفة الحزم... الكثير من الأمور والغبار...
- آتشيبي وأشياؤه... طبول أفريقيا تقرع مجددًا...
- عن الأشياء الصغيرة التي تتوه في الزحام...
- في الإلحاد...
- انتحار
- المصري وحيرة الجن... أشر أريد بأهل مصر؟!
- أصداء
- كلمات
- من أورويل إلى أبو زيد... حرب تبوير العقول...
- إلى أين قادتني القطة؟؟!! (3)
- إلى أين قادتني القطة؟؟!! (2)
- إلى أين قادتني القطة؟؟!! (1)
- ليرحل الطاغية... حملة -تطهير- لإسقاط الفساد من حكم مصر...
- شيكاجو الأسواني... -أنا فقط-...


المزيد.....




- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين محمود التلاوي - أمير المستنقعات (قصة كاملة)