أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ألملك لقمان . الجزء الأول. رواية .















المزيد.....



ألملك لقمان . الجزء الأول. رواية .


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4809 - 2015 / 5 / 17 - 19:14
المحور: الادب والفن
    


(1)
محاولة انتحار

حين عزم الأديب لقمان على الإنتحار – قبل أن يغدو ملكاً – لم يخبر أحداً بنيّته. ألقى نظرة عابرة على أفراد أسرته، وحيّاهم بحركة بطيئة من يده، وخرج دون أن يتفوّه بكلمة.
ظنّت ابنته أنه يحاول الخروج من العزلة التي فرضها على نفسه منذ أعوام، وظنّ ابنه أنّه يزداد إمعاناً في عزلته، وما خروجه إلا للسير وحيداً بُعيد الأصيل كي يحرّك ساقيه، وربما يستقبل غروب الشمس.
زوجته لم تفكّر في شيء، فهي لم تكن يوماً قادرة على أن تفهم ما يدور في خلده، وكُلّما ظنّت شيئاً فعل نقيضه.
يمّم وجهه شطر الصحراء حيث عاش طفولته في مكان مشابه. أحسّ بها تشدّه إليها بقوة. كانت الشمس قد أخذت تجنح إلى الغروب، وخيوط أشعتها تتكسّر على ظهره. أدرك أنها غابت حين توقفت أشعتها عن سلق ظهره بحرارتها، وحين رأى بعد قليل عتمة الغسق تحلّ شيئاً فشيئاً.
ظلّ يسير طوال الليل مجتازاً بعض الحقول والبساتين والأراضي غير المزروعة.
بُعيد الفجر، استقبلته الصحراء فاتحة ذراعيها. توقّف للحظات متنفساً بعمق، وتابع سيره المتهالك إلى أن أخذ الظّلام يتبدد من حوله. جلس على كثيب من الرّمل وفكّر لبرهة في الطريقة التي سينتحر بها. سيحفر لنفسه قبراً ويستلقي فيه، ويطلق النار على رأسه من المسدّس الصغير الذي يحمله. ولا شك أنّ الريح والعواصف ستذرو الرّمال عليه لتدفنه خلال بضعة أيام، إذا لم تنهش الوحوش جسده، وإذا حالفه الحظ ستهب ريح قوية قد تدفنه خلال بضع ساعات.
«لم تكن الفكرة حسنة، لكنها قد تكون أفضل من حالة اليأس والإحباط التي وصل إليها!»
وابتسم ساخراً من نفسه، لهذا الحرص الذي لا معنى له بعد الانتحار، فإن دُفن أو لم يدفن، إن نهشت الطيور لحمه أو افترسته الوحوش فالأمر سيّان، لاسيما وأن في مقدور الوحوش أن تخرج جثته من تحت الرمال.
أقلع عن التفكير في العواقب وشرع في حفر الرّمل بيديه. لم تكن المهمّة شاقّة. وحين باغتته أشعة الشمس وهي تطلّ من خلف الجبال الشرقية البعيدة، كان قد حفر نصف القبر.
أخذت الأرض تقسو قليلاً، فاستعان بخنجره الذي رافقه منذ أكثر من ثلاثين عاماً، منذ كان صبياً يعدو خلف القطيع في جبال القدس.
نشب الخنجر بشيء ما، شدّه بقوة وإذا بجمجمة تتدحرج بين قدميه. ارتعد جسده للحظات، تمالك أعصابه وهو يرفعها بيديه ويتأملها، «أي قدر هذا الذي ساقه إلى هذا المكان بالذات، وما الذي كان عليه صاحب هذه الجمجمة؟».
شعر أنه سيسترسل في تساؤلات كثيرة، فألقى الجمجمة على مقربة منه واستأنف الحفر. أخرج بقايا عظام. «لاشك أنها للجسد ذاته!».
أحسّ بالخنجر يصطدم بجسم صلب. حفر من حوله وأبعد التراب ليجد نفسه أمام قمقم من نحاس. رفعه برفق، كان محكم الإغلاق. عالج التراب المتحجّر حول الغطاء برأس الخنجر إلى أن حرَّره. أداره بقوة وببطء لتخوّفه من أن يندفع من القمقم جنيّ ما، لكثرة ما قرأ عن الجن السجناء والقماقم المرصودة في كتب التراث العربي. وحقاً كان تخوّفه في محلّه، فما أن رفع الغطاء حتى انبعث من القمقم دخان هائل طاول عنان السماء.
انطرح الأديب لقمان على ظهره من هول الرعب الذي انتابه. لم تمر سوى لحظات حتى انجلى الدُّخان عن جنّي عملاق، قدماه تنغرسان في الأرض ورأسه يتسامق عالياً في السماء، وراح يهتف بصوت هائل:
«ها! أمر مولاي العظيم لقمان محرر أرواح الجان! عبدك المُطيع ودرعك المنيع «شمنهور الجبّار» ملك ملوك الجن الحُمر في سائر الأكوان والأمصار!!».
ولم يكد يفرغ من كلامه إلا وأصوات هائلة تتردد من كافة أرجاء الكون، هاتفة بصوت واحد ثلاث مرات «ها.. ها.. ها..!».
تمالك الأديب لقمان نفسه وجلس. تساءل وهو ما يزال تحت وطأة الدهشة:
«ما هذه الأصوات يا ملك الملوك؟»
«هذه أصوات أتباعي وأتباع أتباعي من ملوك الجن يجددون ولاءَ هم لي، ويبتهجون بتحريري من السجن بعد أن أعلمتهم بذلك يا مولاي»
«الحمد لله على سلامتك»
«سلّم الله مولاي العظيم»
«أنا لست عظيماً أيها الملك»
«إن من يحرر ملك ملوك الجان من سجنه لن يكون إلاّ عظيماً يا مولاي»
«والله إنّي أشك في ذلك أيها الملك. لكن كيف عرفت اسمي؟»
«حين حكم عليّ الملك سليمان بالسجن أبلغني أنّه لن يُفرج عني قبل ثلاثة آلاف عام على يديّ أديب فلسطيني يُدعى لقمان!»
«ثلاثة آلاف عام وأنت تقبع في هذا القمقم؟»
«نعم يا مولاي»
«ولماذا سجنك سليمان؟»
وطأطأ ملك الملوك رأسه خجلاً وما لبث أن تكلّم:
«وقعت في غرام بعض نسائه يا مولاي!»
«لست قليلاً أيها الملك، وهل كُنّ مغرمات بك أيضاً؟»
«نعم يا مولاي»
«من منهن؟ ابنة الفرعون أم بلقيس ملكة سبأ؟»
«هاتان كانتا منهن يا مولاي. لكني أغرمت بالفلسطينية عستارت أكثر من الجميع، وهي التي كُشِفت علاقتي معها»
«عستارت؟ هذا الاسم يكاد يكون اسم آلهة فلسطينية أيها الملك»
«نعم، كان اسمها مشتقاً من اسم الآلهة يا مولاي»
«وماذا فعل بها هي؟»
«قطع رأسها أمامي يا مولاي وقال أنه سيدفنها معي، والحق إنني لا أعرف فيما إذا فعل ذلك بعد أن سجنني في القمقم»
«لقد عثرت على جمجمة وبقايا رُفات قبل أن أعثر على قمقمك، لعلّها لها؟»
«أين الجمجمة يا مولاي؟»
«ها هي أيها الملك»
رفع الأديب لقمان الجمجمة بيديه ونهض ليعطيها له. فوجئ به يتضاءل إلى أن أصبح بحجم إنسان وبهيئة ملاك. مدّ يدين مرتعشتين وأخذ الجمجمة برفق وعيناه تذرفان الدّموع.
وقف الأديب لقمان صامتاً محتاراً، فيما راح الملك شمنهور يرثي محبوبته ببضع كلمات:
«الحبيبة الغالية عستارت، سيّدة السواحل والجبال، عروس البوادي والأنهار، فاتنة مدينة السّلام، هل غدا رأسك الجميل رفاتاً وجسدك المعطاء رميماً؟!»
ورفع الملك شمنهور يده وإذا بتابوت من الذهب الخالص يتموضع إلى جانبه. ألقى نظرة نحو الأديب لقمان وهتف متوسّلاً:
«هل يأذن لي مولاي العظيم بدفن رُفات محبوبتي؟»
«أنت حر فيما تفعل أيها الملك»
وفتح الملك شمنهور التابوت وإذا به يتلألأ بالجواهر وقد فرش بالحرير الأخضر. جمع الأديب لقمان الرّفات مع الملك ووضعاه في التابوت، ثم أغلقاه بإحكام.
أشار الملك بحركة من يده وإذا بالقبر ينفتح والتابوت يرتفع برفق ليأخذ مكانه فيه. وبحركة ثانية أُهيل التراب في القبر، وبثالثة انتصب فوقه ضريح من حجر المرمر، وبرابعة شيّدت فوقه قبّة هائلة خضراء مرصّعة بالياقوت والزمرّد يعلوها هلال من الذهب تتوسطه نجمة سداسية الشكل، ويرتكز على شمعدان من الذهب بطول ثلاثة أذرع.
كان الأديب لقمان واقفاً في دهشة وذهول لما شاهده من قدرات الملك شمنهور الخارقة، ولم يعد يعرف فيما إذا كان في حُلم أم يقظة.
أخذ الملك شمنهور القمقم وأخرج منه خاتماً قدّمه للأديب لقمان.
«ما هذا أيها الملك؟»
«هذا الخاتم الذي نقشت عليه كل الطّلاسم التي تتحكّم بحريّتي، مَن ملكه امتلكني ومن فقده فقدني!»
أطرق الأديب لقمان للحظة متفكّراً.
«قل لي أيها الملك؟»
«أمر مولاي العظيم»
«هل أنت حقيقة أم خيال، وهل أنا في حُلم أم يقظة؟»
«عفواً مولاي، أنت بكامل يقظتك وأنا حقيقة كما ترى!»
«المشكلة أنني لا أقتنع بوجود الجن والشياطين وحتى الآلهة نفسها، وما جئت إلى هنا إلا لأنتحر بعد أن غدت حياتي لا تطاق!»
«ولماذا يا مولاي أصبحت حياتك لا تطاق؟»
«لأنهم أفقدوني حقي فيها أيها الملك، بل أفقدوني مبررات وجودي نفسها. حتى الفقراء الذين بددت مالي عليهم أو أدنته لهم اختفوا من وجودي، الأصدقاء منهم وغير الأصدقاء، كلّهم تبخّروا في الهواء! وحتى الصّدور الكاعبة الدافئة الحنونة التي كانت تبثُّ إكسير الحياة في روحي ذبلت وذوت أو اختفت. لم يعد ثمة شيء يشدّني إلى هذه الحياة الخاوية أيها الملك!»
«مولاي العظيم، سأحضر لك من المال ما تعجز السُّفن عن حمله، وسأضع بين يديك من النساء ما تعجز اللغة عن وصف جمالهن، وسأوجد لك من الأصدقاء من تأنس بحضوره، ويأسرك بحسن معشره، ويأخذك بشموليّة معرفته»
«آه أيها الملك، ليست المشكلة في المال والنساء، والأصدقاء فحسب، فهؤلاء لم يكونوا غايتي ذات يوم، ربّما كانوا ضرورة من ضرورات الحياة، أما الغاية فقد كانت أسمى، وكان تحقيقها صعباً إلى حد يدفع الطّموحين من أمثالي إلى الانتحار!»
«وماذا كان طموح مولاي لعلّني أقدر على تحقيقه؟»
«إنه طموح بسيط ومشروع أيها الملك: أن نحبّ بعضنا نحن معشر البشر، وأن نحب لغيرنا ما نحبّه لأنفسنا، وأن نعمل من أجل الآخرين بالقدر الذي يعمل به الآخرون من أجلنا، وأن ننبذ الشر من بيننا، ونصلح ما أفسد أرواحنا، وشوّه جمال إنسانيتنا، أن نتّحد في مواجهة الأخطار المحيقة بكوكبنا، أن نمنح الإنسان حريته، أن نسخّر العلم والمعرفة لخدمة البشرية وإطالة عمر الإنسان، لا لتدميرها وقتل الإنسان، أن نوجد نظاماً عصرياً يسمو بالبشرية من حضيضها، أن ننقذ ملايين الجوعى في العالم. لقد أخفقت في تحقيق شيء أيها الملك، حتى طموحاتي الأقل شأناً كأن أرى بلدي محرراً من المحتلّين، أخفق جميع العرب والمسلمون والقوى المحبة للسلام والحرية في تحقيقه، أو حتى أن أعيش ضمن الحد الأدنى من الحُرّيّة الذي يتيح لي نشر كتبي وأفكاري وإبداء رأيي وممارسة الحب مع من تحبّني! لم يتحقق لي أي شيء من كل هذا وذاك أيها الملك، أي شيء على الإطلاق، ولم يعد هناك أي معنى لهذه الحياة، ولو في نظري. والحق أنني أشكّ في أنك قادر على تحقيق أحلامي هذه، رغم قناعتي أنك قادر على فعل المعجزات. لذلك أرجوك أن تأخذ خاتمك هذا وتنصرف إلى حيث تريد، وتعيش حياتك بحرية خارج الأسر. وتدعني أنتحر بسلام، وكم أنا سعيد بتحريري لك،بعد ثلاثة آلاف عام من القهر. لا أظن أنني فعلت ما هو أجمل من هذا في حياتي، وإن حدث ذلك بمحض الصدفة. ولا أظن أن ثمة بطولة في المسألة»
«مولاي. مولاي العظيم!»
«أرجوك أيها الملك ألا تخاطبني مولاي، لأنني أكره أن أكون سيداً لأحد، ولا تعظمني لأنني لم أمقت في حياتي أحداً أكثر من المعظّمين دون أن يكونوا عظماء. ثم إنني وبالتأكيد،لست عظيماً ولست بطلاً ولست نابغة، إنني إنسان متنوّر بعض الشيء، حاول أن يلِمّ بثقافة البشرية بالقدر الذي أتاحه له وقته».
«مولاي!»
«أرجوك»
«لقد اعتدت تعظيم من يتحكّمون بطلسمي أيها الأديب لقمان، ومع ذلك سأحاول إن استطعت!»
«أشكرك أيها الملك، لتحاول، لن يكون الأمر صعباً كما أظن، لقد فعلت ذلك الآن»
«حسناً أيها الأديب! ما أودُّ قوله فيما يتعلّق بخيبة أملك، وتبديد طموحاتك، وسعيك إلى الانتحار، هو أن الشر أزلي فلقد خلق الله الإنسان وخلق الشيطان، خلق حوّاء وخلق الأفعى، خلق «قابيل» وخلق «هابيل» من ضمن ما خلق، إنّه سرّه وإحدى معجزاته يا مولاي، عفواً أيها الأديب لقمان!»
«أي سرٍ هذا وأية معجزة أيها الملك؟ إذا كان الله يعرف أن الشيطان سيضلل الإنسان، فلماذا خلقه؟ وإذا خلقه دون أن يعرف ما الذي سيفعله، فلماذا جعله يقوم بأفعاله البغيضة؟ لماذا لم يردعه؟ لماذا لم يقتله بعد فعلته الأولى؟ وإذا كان يعرف أن «قابيل» سيقتل «هابيل» فلماذا خلقه أيضاً، وإذا لم يكن يعرف حين خلقه، فلماذا أتاح له أن يقتل أخاه؟! قل لي أيها الملك؟»
«إنه سرّه. سرّه أيها الأديب لقمان».
«سرّه أن يكون خيراً وشراً في آن واحد؟ ما هي الحكمة في ذلك؟ سرّه أيضاً أن ينزل كلَّ هذا العذاب بأيوب لمجرّد أن يختبر إيمانه، وليقنع الشيطان بهذا الإيمان؟! هل أغواه الشيطان هو أيضاً حتى أتاح له أن ينزل كل هذا العذاب الفظيع بأيّوب؟ أي إله هذا الذي لا يعرف مدى إيمان إنسان خلقه إلاّ بهذه الطريقة البشعة؟! من الأفضل لك أيها الملك أن تعرف أنه سرّنا نحن معشر الإنس، وإن شئت الإنس والجن، الذين أوجدوا الله والشيطان، قابيل وهابيل، آدم والأفعى، الخير والشر!»
«مولاي أرجوك!»
«ها أنت تعود لمخاطبتي «مولاي» أيها الملك»
«إن من يجرؤ على طرح هذه التساؤلات الكبيرة والإجابات الخطيرة لا يكون إلا إلهاً أو نبياً يا مولاي!»
«ولماذا لا يكون أديباً أو عالماً أو فيلسوفاً أيها الملك؟»
«لأن هؤلاء لا يرقون إلى مرتبة الآلهة والأنبياء يا مولاي»
«ولماذا لا يرقون؟»
«هذا ما عرفته في عهد ما قبل سجني يا مولاي»
«عهد ما قبل سجنك؟ لعلّك تتحدث عن آلهة ما قبل سجنك؟ ولعلّك كنت تعبد الآلهة عشتاروت أو عِناة أو بعل أو إيل؟»
«أجل، لقد عبدت هؤلاء جميعاً وعبدت غيرهم يا مولاي»
«من عبدت أيها الملك؟»
«عبدت الشمس والقمر والزهرة يا مولاي، وعبدت الإله «آبسو» قبل أن يقتله أولاده، وعبدت «تيامه» ومردوخ وعشتار، وآنو وإنانا وإنليل، وجلجامش ورع وأوزيريس وإيزيس وحورس، وعبدت كثيرين غيرهم يا مولاي، إلى أن جاء سُليمان وجعلني أترك الجميع حتى «إيل»، وأتبع «يهوه» إلى أن ترك هو عبادته ولم يعد يسأل عن معبودي!»
«حتى يهوه عبدته أيها الملك؟»
«أجل يا مولاي»
«وهل ترك سليمان عبادة يهوه حقاً أيها الملك؟»
«أجل يا مولاي. لقد انحاز إلى عبادة البعل والعشتاروت وإيل وغيرهم من آلهة الفلسطينيين والصيدونيين والسبأيين والمصريين والبابليين»
«عجيب أمرك أنت وسليمان أيها الملك، فأنتما كأجدادنا كُلّما أتاهم أحد بإله جديد آمنوا به. ما رأيك أننا الآن في كوكب الأرض نكفر بكل هؤلاء الآلهة، الذين جاؤوا في ذلك الزمن، ولا نؤمن بأي منهم، ما عدا «يهوه» فهناك بعض من يؤمنون به!»
«هل أصبحتم جميعاً غير مؤمنين يا مولاي؟»
«بالعكس إن آلاف الملايين منا ما يزالون مؤمنين»
«بمن يا مولاي؟»
«ببعض الآلهة والأنبياء الذين جاءوا بعد زمنك أيها الملك أو ببعض الأديان والفلسفات»
«وهل جاء آلهة وديانات أخرى يا مولاي؟»
«أكثر مما تتخيل من الآلهة والأنبياء والفلاسفة الدينيون والطّوائف، وما إلى ذلك، ففي الهند مثلاً جاء الهندوس بـ «براهما» و«فشنو» و«شيفا» والبوذيون بـ «سد هارتا جوتاما الملقب بوذا» والجينيّون بـ «مهاويرا» وفي الصين جاء الطاويّون بـ «لوتس» و«كونفوشيوس» و«شوانغ تسو» وفي بلاد الفرس جاء الزرادشتيون بـ «زرادشت» وفي اليونان جاؤوا بآلهة أكثر من أعدها لك، منها «أورانوس، غايا، زيوس، كرونوس، هيرا، هادس، ديمتر، وأفروديت» والرومان كذلك والعديد من شعوب العالم، جاؤوا بآلهة كثيرة. أما عندنا، فجاء الصابئة المندائيّون واللات والعزّى وهُبل ومناة وإساف ونائلة والعشرات غيرهم، وجاء يسوع المسيح، والمانويّون والأحناف، ثم جاء النبي محمد الذي أتى بالدين الإسلامي، وتوقّف ظهور الديانات أو قلّ منذ ذلك الزمن، فقد تعددت الطوائف والمذاهب والأديان، حتى تحوّل بعضنا إلى تقديس الشيطان نفسه واعتبروه صنواً للإله، بل وادّعوا أنه هو من خلق الإنسان وليس الله!»
«ولماذا توقف أو قلَّ ظهور الآلهة والأنبياء يا مولاي؟»
«لأن محمد كان من الذكاء والعبقرية بحيث سما بالدين الإسلامي إلى مكانة يستحيل أن يرقى إليها أي دين آخر سماوي. لقد جرّد مفهوم الإله إلى أبعد حدود المطلق، حين جعله موجوداً في كل زمان ومكان.
«أنا لا أفهم في المُطلق يا مولاي! لكني أفهم معنى أن يكون هذا الإله موجوداً في كل زمان ومكان، لهذا هو عظيم. الآلهة الذين عرفتهم لم يكونوا بعظمته. لكن ماذا يعبد العالم اليوم يا مولاي؟».
«هناك ديانات كثيرة أيها الملك، لكن أشهرها وأكثرها انتشاراً، المسيحية والإسلام والبوذية والهندوسية والطاويّة والكونفوشيوسيّة. وثمة ملايين وربما عشرات أو مئات الآلاف فقط من العلمانيين أو المتنورين بعض الشيء أمثالي. لا يؤمنون بأي من هذه الديانات، إلا بقدر ما هي تصوّرات للبشر أنفسهم عن الوجود، ويعتبرون في نظر المتديّنين زنادقة وملحدين!»
«وأنا يا مولاي، ما وضعي الآن بين هذه الديانات كُلّها وبين المتنورين؟»
«سؤالك وجيه أيها الملك، لكن الشمس حميت، وأنا عطشت وجعت وشوّبت، وأريد أن أنتحر، والقبر الذي حفرته لنفسي بنيت عليه ضريحاً وقبّة لمحبوبتك، لذلك سأطلب إليك أن تحفر لي قبراً بدلاً منه»
«مولاي! سأفعل لك ما لم يفعله ملائكي أو جنيٌّ وربما إله لبشر، ولن أدعك تنتحر حتى لو اضطررت للعودة إلى سجني!»
وحرك ملك الملوك شمنهور الجبّار يده في الهواء وإذا بالمكان يتحوّل إلى روضة من الجنان، انبثقت منها مئات الأشجار المثمرة والنباتات المختلفة، والورود والزهور الجميلة. وتخللتها ينابيع، يجري فيها ماء كالسلسبيل، وعمت أرجاءها نوافير من الذّهب، ترشّ الماء رذاذاً في الاتجاهات كُلّها، وعرّشت فوقها أقواس قزح، وظللتها غيمة زرقاء نديّة، وفرشت ممراتها بالسجاد والديباج، وأفردت فيها أرائك مجللة بالحرير الموشّى بخيوط الذهب، وامتدت في منتصفها مائدة بأطيب المأكولات، في أوانٍ من الذهب الخالص، كان بينها ظباء محمّرة وفراخ بط مقمّرة وخراف مشويّة وجديان مقليّة، وفروّج محشو بالأرز والصنوبر واللوز، وطيور حجل، وفراخ حمام، وسمك وإقريدس وسلطات من كل أنواع الخضار، وفواكه لا يوجد مثلها إلا في الجنان العادنة، وخمور لذيذة معتّقة من زمن سليمان. وقد أحاطت المائدة عشر فتيات حوريّات من بنات ملوك الجان، كأنّهن ملائكيّات أو من حور العين, يرتدين ثياباً من الحرير الأحمر الشّفاف، ويتزينّ بأجمل الجواهر، وقد أطلقن شعورهن على ظهورهن، وكنّ دارعات الصّدور، ضامرات الخصور، ممتلئات الأرداف، ممتشقات القوام، منتصبات السيقان، بعيون سود وخضر وزرق مكحّلة، بأجمل الألوان مشكّلة، خدودهن مورّدة، وأنوفهن من أجمل ما أبدع الخالق منضّدة. وشفاههن حمر كشقائق النّعمان، وأعناقهن كرقاب الغزلان، ونهودهن جامحة كذكور اليمام، وأصابع أيديهن كأعواد الغيصلان أو قضبان الخيزران، وأظفارهن تُبرق كاللؤلؤ مخضّبة بالمرجان، سبحان الخالق الديّان، وقد تضوّعت منهن رائحة العطور النّفاذة بالعنبر، من عبقت في أنفه قال الله أكبر! فيا سعد من حواهن، وإلى صدره ضمّهن وألقاهن. ينسى أمه وأباه، وأيّام شقاه، والبيت الذي ربّاه، والبلد الذي حواه، وحتّى من خلقه وسوّاه!.
بدا الأديب لقمان كأنه في حلم، إذ ليس من المعقول أن تأتي الجنة إليه بهذه السهولة. كان يقف في غاية الدهشة حين خاطبه ملك الملوك:
«تفضل يا مولاي، يسرّني أن تكون ضيفاً على أوّل مائدة لي بعد ثلاثة آلاف عام من السجن. آخر مائدة لي كانت مع الغالية عستارت، وهي المائدة التي أودت بي إلى السجن وبعستارت إلى الموت، فقد كان جواسيس سُليمان لنا بالمرصاد»
«هل تحاول إغوائي كي أكفّ عن الانتحار أيها الملك؟»
«أظنّ أن محاولة إغوائك ستكون أكبر من أن تتخيّلها يا مولاي فيما لو أردت ذلك!»
«وهل ثمة ما هو مُغوٍ أكثر مما أرى؟»
«هذا لا شيء يا مولاي!»
وتقدّمت فتاتان يخلب جمالهما العقول. فقدّمهما ملك الملوك للأديب لقمان:
«الأميرة الحورية «نور السماء» أجمل جميلات الجن من بين الحوريّات، وابنة أكبر ملوك الجن من بعدي الملك «حامينار» العظيم»
وأشار إلى الفتاة الثانية وتابع:
.. والأميرة «ظل القمر» ابنة ثاني أكبر ملوك الجن، يمكن أن تعتبرهما خليلتيك وتفعل بهما ما تشاء يا مولاي، فهما في خدمتك وتحت أمرك، وإن شئت غيرهما من هؤلاء أو من غيرهن جلبت لك»
«أشكرك، تكفيني الأميرة «نور السماء» وحدها، فمن يحوز على هذا الجمال الخارق قد يستحيل عليه أن يفكر في غيره، وإن كنت أرى فيه ما يمكن أن يغويني ويثنيني عن الانتحار!»
«آمل ذلك يا مولاي»
وهتفت الأميرة نور السماء:
«شكراً لمولاي لهذا الإطراء الذي لم أسمع أجمل منه وآمل أن يتوّج بثني مولاي عن الانتحار»
«حتى لو انتحرت أيّتها الأميرة، سأنتحر سعيداً لأنني حظيت بمشاهدة جمال مثل جمالك قبل انتحاري»
فقاطعهما ملك الملوك طالباً إليهما الجلوس واستئناف الحديث.
أخذ الأديب لقمان والأميرة «نور السماء» مجلسيهما إلى المائدة، فيما جلس الملك شمنهور والأميرة «ظل القمر» في مواجهتهما.
كانت فتاتان تقفان خلف كل اثنين للخدمة فيما توزّعت باقي الفتيات على المائدة.
مالت الأميرة نور السماء برأسها نحو الأديب لقمان وهمست بصوت عذب، أحس به يدغدغ مسامات جسده:
«ماذا يرغب مولاي؟»
التفت الأديب لقمان إليها فغدا وجهه قريباً من وجهها، وشعر بالحياة تدعوه إليها بكل جبروتها، همس بصوت خفيف:
«أرغب أن تكوني مليكة قلبي، بل وملكة الأرض كُلها، وأكون أنا حارسك!»
ندّت شفتاها عن ابتسامة لم ير الأديب لقمان أجمل منها في حياته:
«شكراً للطفك يا مولاي. هل تفضل الخمر أم عصير الفواكه أم حليب الظّباء، قبل تناول الطعام؟»
«هل قلتِ حليب الظباء؟»
«أجل يا مولاي»
«أنا لم أذقه في حياتي، ومع ذلك سأجرّب، ولا مانع بكأس من عصير البرتقال أيضاً»
«أمر مولاي»
مدّت الأميرة نور السماء يدها إلى إبريق ذهبي، غير أن إحدى الفتاتين الواقفتين سارعت إلى أخذ الإبريق فيما راحت الأخرى تقدّم عصير البرتقال.
تـذوّق الأديـب لقمان الحليب بتناول رشـفة صغـيرة، وحين وجـد أنـه أطيب مـن أي خمر، رفع الكأس إلى فمه وراح يتجرعها إلى أن أنهاها.
أحسّ بحاجة ماسّة إلى سيجارة. التفت إلى نور السماء ليجد أنها تنتظر أوامره:
«نفذت سجائري منذ الصّباح، هل لي بسيجارة أيتها الأميرة؟»
«أي نوع تفضّل يا مولاي؟»
«ماذا لديك؟»
«كل أنواع السّجاير والسيجار يا مولاي»
«هل لديك سيجار «هافانا» مثلاً؟»
وقامت الأميرة بحركة من يدها لتتموضع أمامه علبة مفتوحة من السيجار لم يعرف كيف ظهرت على الطاولة! ولم يعد قادراً على تصديق ما يجري، إذ لم يبق إلا أن يطلب إحضار فيدل كاسترو نفسه ليتناول معه الفطور فيما لو أراد. وشرع يتساءل في سريرته:
«لا يُعقل أن تحدث كل هذه المعجزات في الواقع. على أية حال إذا كان كل هذا حُلماً فلا بُدّ له من نهاية، ويا ليته جاء من قبل لينتحر في هذه الصحراء! لكن لعلّ الحلم ابتدأ من البيت، وهو الآن هُناك في السّرير ويغطّ في نومٍ عميق! مستحيل أن يكون عبور الصحراء حلماً، لقد سار طوال الليل، وتورّمت قدماه. إذا كان هناك حلم ما، فلم يبدأ إلا بعد فتح القمقم!»
ألقى نظرة نحو ملك الملوك، كان يلتهم الطعام بشراهة فظيعة ويشرب الخمر من الأباريق ومعظم الفتيات يقمن بخدمته.
أحسَّ ملك الملوك به ينظر نحوه، فهتف وفمه يمتلئ بالطعام:
«عفواً يا مولاي، أنا لم آكل منذ ثلاثة آلاف عام»
«صحّة وعافية»
«لماذا لا تأكل يا مولاي؟»
«سآكل»
وأشار إلى فتاة تقف على مقربة منه أن تقدم له شريحة من لحم الغزال وبعض شرائح الخيار والبندورة والفلفل الأخضر.
لم يذق في حياته أطيب وأشهى من هذا الطعام، وعبثاً حاول أن يطرح التساؤلات الجنونية التي راحت تنهال على دماغه:
«إذا كان ما يجري ليس حلماً، فهذا يعني أن الجن حقيقة وليسوا وهماً، وأن الشيطان والملائكة والمردة حقيقة أيضاً، وأن هؤلاء يتمتّعون بقدرات خارقة ويحيون في نعيم أين منه نحن معشر الإنس، دون أي رقيب أو حسيب! وإذا كان خلف هؤلاء قوة خالقة فلماذا فضّلهم الله علينا نحن البشر؟!»
قطع تساؤلاته ملك الملوك حين سأل:
«ألن تجيبني عن سؤالي حول وضعي الآن يا مولاي؟»
«سأجيبك أيها الملك:
أنت في نظر المسلمين كافر ما لم تسلم. وفي نظر المسيحيين جاهل ومُضلّل ما لم تؤمن بالأب والابن والروح القدس، وفي نظر البوذيين روح يتنازعها الشر وتسعى إلى ملذاتها ولا سبيل إلى هدايتك ما لم تنبذ مسراتك وعالم ملذّاتك وتدخل عالم الزهد والتقشف إلى حد مغرق في الفقر وقتل الغرائز، كأن تتخلى حتى عن ملابسك وتنام على الأرصفة وتحت الأشجار ولا تمارس الجنس، وتتوحّد بروحك وجسدك مع بوذا!»
«أرجوك يا مولاي أفضّل العودة إلى قمقمي أو أبقى كما أنا على أن أتبع هذا الدين»
«الأمر لا يختلف كثيراً في الأديان الثلاث الأخرى، أقصد الهندوسيّة والطاوية والكونفوشيوسيّة، إذ عليك أن تتخلى عن الكثير من مكتسباتك الدنيوية أو عن بعضها في أحسن الأحوال»
«أنا لن أتخلّى عن شيء يا مولاي، فكل مكتسباتي وإمكانياتي حق لي!»
«هذا غير ممكن ولا في أي دين أيها الملك، ربمـا يقبل بـك عبدة الـشيطان!»
«أعبد الشيطان يا مولاي؟ مستحيل! أنا لا أكره أحداً أكثر مما أكرهه!»
«إذن ابق كما أنت الآن بلا دين، أو عُد لعبادة يهوه وإيل وعشتاروت وغيرهم، طالما أنّك كنت تعبدهم»
«يا مولاي، أنتم معشر البشر تخلّيتم عنهم، وتريدني أنا وأتباعي أن نعود إلى عبادتهم بعد ثلاثة آلاف عام؟‍‍! هذه ليست عدالة يا مولاي! ماذا عنكم أنتم، أقصد المتنوّرين ألا تضمّني إليكم إذا أردت؟»
وراح الأديب لقمان يضحك.
«لماذا تضحك يا مولاي؟»
«لأنك في نظرنا مجرد وهم أيها الملك!»
«وهم يا مولاي؟ ألا تراني أمامك؟»
«لكن الآخرين لم يروك، وحتى لو كنت حقيقة، فنحن لا نشكّل طائفة أو ديناً أو حزباً، يمكن أن تطلق علينا جزافاً «تياراً» وإذا شئت الانضمام إلى هذا التيار، يتوجب عليك قراءة ألف كتاب على الأقل من الكتب المختارة في الفلسفة والدّيانات والأساطير وعلم الاجتماع وعلم النفس والأدب والتاريخ وغير ذلك»
«ألف كتاب يا مولاي، هذه لن أقرأها في قرن»
«إذن تنضم إلينا بعد قرن، وإن كان في تأخير انضمامك إلينا خسارة كبيرة لنا لا يمكن تعويضها، فإذا ما تبيّن أنك حقيقة، فقد تساعدنا بقواك الخارقة وعقلك الذي ستصير عليه على تغيير مجرى الحياة على كوكب الأرض»
«بماذا تنصحني يا مولاي؟»
«أي دين تختار؟»
«أجل يا مولاي»
«لماذا تصر على أن تتبع ديناً ما؟»
«لأنني اعتدت على أن أتبع ديناً ما يا مولاي!»
«حسناً، إن شئت رأيي فأنا شخصياً ورغم إلحادي، أحب يسوع المسيح ومريم العذراء، وأجلُّ محمداً وأفتخر به، وأحترم بوذا ومهاويرا وبراهما ولوتس وكونفوشيوس وشوانغ تسو وزرادشت!»
أطرق ملك الملوك لبرهة ثم هتف:
«سأدخل الإسلام يا مولاي»
«لِمَ اخترت الإسلام دون غيره أيها الملك؟»
«لإحساسي أنه دين حق. ولأنني وجدت في كلامك ما يدفعني إليه أكثر مما يدفعني إلى الديانات الأخرى!»
«حقاً هل بدا كلامي كذلك؟»
«هذا ما بدا لي يا مولاي»
«حسناً أيها الملك، إذا رأيت ذلك فليكن»
«ماذا يتوجب علي أن أفعل يا مولاي؟»
«عليك أن تفعل الكثير أيها الملك، لكن الآن وعلى الفور يتوجّب عليك أن تنهض وترفع سُبّابتيك وتردد بعدي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله»
ونهض ملك الملوك، وفوجئ الأديب لقمان بالأميرة نور السماء والأميرة ظل القمر والفتيات الأخريات يقفن في خشوع ويهتفن مع ملك الملوك وهن يرفعن سُبّاباتهن:
«أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله»
وحين انتهوا كان ثمة أصوات هائلة تتردد في الصحراء والسماء والأرض ومن كافة الأرجاء:
«أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله»
تساءل الأديب لقمان بدهشة:
«ما هذه الأصوات التي يضجّ بها الكون أيها الملك مُعلنة إسلامها؟»
«إنها أصوات أتباعي وأتباع أتباعي من الجن وقد دخلوا الإسلام معي يا مولاي»
«وهل جميع الجن أتباعك؟»
«لا يا مولاي فأتباعي من الجان الحُمر فقط»
«وهل هناك جان غير حمر؟»
«هناك جان سود، وجان صُفر، وجان خضر، وجان زرق يا مولاي»
«ما شاء الله! وكم عدد أتباعك أيها الملك شمنهور؟»
«أنا يا مولاي أحكم على مائة ألف ملك جبّار، وكل ملك منهم يحكم مائة ألف جنّي مغوار، وكل مغوار من هؤلاء جميعاً تتبعه حاشية كبيرة من الرجال والنساء والبنين والبنات والأحفاد والأقارب والخدم والأعوان والجواري والغلمان!»
«يا للهول! كل هذا الجمع الهائل من أتباعك أيها الملك؟»
«نعم يا مولاي»
«يبدو أنني أدخلت إلى الإسلام هذا اليوم أكثر مما أدخل المسلمون إليه في ألف وأربعمائة عام»
«هذا سيكسبك رضا الله يا مولاي العظيم»
«العظيم أيضاً، ألا يكفيك أن تخاطبني مولاي، في الإسلام ليس ثمة عظيم ومولىً إلا الله، وإن غدا كل ضباط الجيش والشرطة في عصرنا مهما صغروا أسياداً، وكل الزُّعماء - والمسلمين منهم بشكل خاص – مهما جهلوا عُظماء. ماعدا ملكاً واحداً أطلق على نفسه «خادم الحرمين!» ثم كفاك شرب خمر، فهو في نظر المسلمين «رجس من عمل الشيطان»
«رجس يا مولاي»
«أجل رجس أيها الملك!»
«وماذا عن أرجاسي التي اقترفتها قبل الإسلام يا مولاي؟»
«الإسلام يجبُّ ما قبله» حسب قول رسول الله، أما ما بعده فعليك أن تلتزم بأركانه الخمسة، وثمة سنن وشرائع ينبغي عليك التقيّد بها وإلا لن تكون مسلماً حقاً!»
«ومتى ستطلعني على كل ذلك يا مولاي؟»
«إذا لم أنتحر، أو إذا أجّلت انتحاري أو تخليت عنه، سأطلعك»
«هل هذا يعني أنك بدأت التفكير في العدول عن الانتحار يا مولاي؟»
«وما زلت أفكر فيه أيضاً أيها الملك»
وقطعت حوارهما الأميرة نور السماء:
«أنت لم تأكل يا مولاي»
«بل أكلت كثيراً، أنا في العادة لا آكل في الصباح، لكني سرت طول الليل، لذلك شعرت بالجوع»
«ما رأيك بتفاحة؟»
«طالما أنها من يدك ممكن، ثم إنني أريد شراباً ساخناً. شاي إذا وجد»
«أمر مولاي»
«لم أخبرك أن اسمك جميل حقاً»
«هذا من جمال لطف مولاي!»
«أين تسكنين أيتها الأميرة؟»
«في العالم السُّفلي يا مولاي!»
«السّفلي؟ مع الموتى؟»
«بل مع الجن يا مولاي»
«لكن أين، تحت الأرض، وعلينا أن نجتاز بوابات ضخمة، ونتلو تعاويذ وكلمات سحرية كي تفتح لنا هذه الأبواب، إذا ما أردنا زيارتكم؟!»
«لا يـا مولاي، سـتجد نفـسك وكأنـك عـلى كـوكـب آخر والأرض تعلـوك!»
«وهل جميع الجن يقيمون في العالم الأسفل؟»
«لا يا مولاي، ثمة من يعيشون في السموات وفي الكواكب الأخرى وعوالمها السُّفلى، إنهم موجودون في كل مكان تقريباً، لكنهم لا يظهرون على معشر الإنس إلا بإرادتهم، أو باستحضار الطّلاسم والأرواح!»
سكر ملك الملوك، ولم ينتبه له الأديب لقمان إلا وهو يُجلس الأميرة «ظل القمر» في حُضنه ويُعرّي فخذيها وصدرها، هتف له:
«مهلك، ربما هذا حرام في الإسلام يا ملك الملوك»
ويبدو أن الأمر لم يرق له، فقد هتف منفعلاً:
«أُف ما هذا، هل كل شيء في الإسلام رجس وحرام، كان عند سيّدي سليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سريّة!»
«ذاك قبل الإسلام، أما اليوم وحسب الشريعة الإسلامية لا يحق لك من الزوجات إلاّ مثنى وثلاث ورباع، على أن تعدل فيما بينهن!»
«أربع؟ أربع فقط يا مولاي، لعلّك تقصد في اليوم؟»
«في اليوم أيها الملك؟! في العمر كُلّه. ويمكنك أن تستبدلهن إذا شئت، لكن يجب أن يتم الأمر حسب سنّة الله ورسوله! ويُقال أن النبي «محمد» أحلَّ متعتين، هما متعة الحج وزواج المتعة، غير أن الخليفة عمر بن الخطاب منعهما فيما بعد، والحج هو أحد أركان الإسلام الخمسة، سأعلّمك إيّاه فيما بعد، إذا لم أنتحر طبعاً!»
«وما المقصود بهما يا مولاي؟»
«أن تتزوج امرأة لتتمتع بجمالها لبعض الوقت، وثمة بعض الطّوائف الإسلامية التي تبيح هذا الزواج، أما عن متعة الحج، فهي وكما أعرف، أن تمارس الجنس خلال موسم الحج، ويقال أن النبي في حجة الوداع قد قال: «ابدأوا بما بدأ الله عز وجل به»، فأتى الصفا فبدأ به، ثم طاف بين الصفا والمروة سبعاً، فلما قضى طوافه عند المروة، قـام فخطب في أصحابه وأمرهـم أن يحلّوا ويجعلوها عمرة، وليتمتّعوا بالحج.
الحديث في هذه المسائل يطول أيها الملك، وآمل أن يُتاح لي أن أُحدّثك عن ذلك ذات يوم إذا لم أنتحر!»
«أرجو ألا تنتحر يا مولاي قبل أن تعلّمني الإسلام»
«آمل ذلك أيها الملك»
«وماذا عن السّراري يا مولاي، ألا يحقُّ لي أن أقتني من السّراري ما أريد وأفعل بهنّ ما أشاء؟»
«إن شئت الحق، ثمة ما يُشير في كتاب الله إلى ما تملكه أيمان المسلمين، وقد فسّر بعضهم ذلك حسب أهوائهم وطبّقوه، فالخليفة هارون الرشيد كان لديه أجمل السّراري وبعدد أيام السنة»
«هذا ما أبحث عنه يا مولاي فهؤلاء الحوريات من الجواري!»
«إذن يمكنك أن تفعل ما بدا لك أيها الملك!»
«آه يا مولاي، ثلاثة آلاف عام وأنا محروم من متعة النساء»
«الحق معك، يجب أن تعوّض!»
ونهض ملك الملوك حاملاً الأميرة «ظل القمر» يبن يديه وهو يعضوضها، طرحها فوق فراش وثير من الديباج على مقربة من الأديب لقمان، فصرخ الآخر به:
«ليس هُنا يا ملك الملوك»
«أين إذن يا مولاي، كُنا نفعل ذلك معاً بالآلاف في معبد الشمس في سبأ وفي معبد عشتار في بابل وأمام هيكل البعل وعشتروت حتّى أمام خيمة تابوب يهوه»
«أنت الآن في محراب الإسلام ولست في أي من معابد الجنس المقدس هذه، ينبغي أن تستتر عن أعين الآخرين!»
«أستتر يـا مـولاي، هـل اسـتتر النبي وأصحابه حين تمتّعوا بـالحج عـند المـروة؟ والله إني لا أعرف كيف تفهم الإسلام، ثمّ كيف تكون مُلحداً يا مولاي وتحرص على تعاليم الإسلام كلَّ هذا الحرص؟!»
«إن شئت الحق، لا أعرف فيما إذا استتر النّبي ورفاقه حين تمتّعوا بالحج، لكني أعرف أن طقوس الحج هي أقرب إلى العُري الجماعي منها إلى التستّر، ثم أيها الملك أنت من اختار الإسلام وأرى أن من واجبي تجاهك أن أعلّمك إياه على أُصوله وأطلب إليك التقيد بتعاليمه ولو قدر الإمكان!»
«ليكن يا مولاي، سآخذ الفتيات وأبتعد عنك إلى تحت شجرة، أدعوك لأن تتمتع بجمال الأميرة نور السماء يا مولاي، وتنسى أمر الانتحار ولو لبعض الوقت»
«سأحاول لكن لا تتأخر أريد أن أحسم المسألة، إذ لا يُعقل أن أظلّ معلقاً بين هاجسي الحياة والموت»
ولم يعره الملك شمنهور آذاناً صاغية، حمل الفتاة وأشار إلى الأخريات أن يتبعنه، شرع في تعريتهن تحت شجرة على مرأى منهما.
مدّت الأميرة نور السماء يدها وضمّت الأديب لقمان. قبّلها قبلتين خفيفتين على خدّها وعنقها وألقى رأسه على صدرها، همس:
«لم أكن أعرف أن ثمة حوريات بين الجن، هل كلكن بهذا الجمال؟»
«لا يا مولاي، فثمة من هُنّ قبيحات»
«يبدو أنك ما تزالين صغيرة، كم عمرك؟»
«ستة آلاف عام يا مولاي!»
لم يصدّق الأديب لقمان ما سمعه، رفع رأسه عن صدر الأميرة وتساءل بدهشة:
«هل تقولين الصدق أيتها الأميرة؟»
«نحن لا نعرف الكذب يا مولاي!»
«سـتة آلاف عـام! هل يُعقـل هذا؟ يبـدو أنـك بجيل شـمنهور ملك الملـوك»
«نعم أنا بجيله وكنّا نتداعب معاً في الصِّغر»
«ولم تتزوجي؟»
«لا، لقد اخترت مسامرة الملوك يا مولاي، مع أن كثيرين طلبوني للزواج ولم أقبل»
«أنا لست ملكاً.. لماذا أحضروك لي؟»
«أُحضرت إليك من قبل ملك الملوك نفسه يا مولاي»
أطرق الأديب لقمان للحظات وهو يعيد رأسه إلى صدر الأميرة لينعم بلذّة الدفء، فقد ضمّته برفق وراحت تملس على صلعته وكأنّه طفل!
«كم من السِّنين تحيون أيتها الأميرة؟»
«نحن لا نموت يا مولاي ولا نشيخ، إلا بعد آلاف آلاف الأعوام!»
صُعق الأديب لقمان للمرة الثانية:
«لا تموتون ولا تشيخون، وتنعمون بكُل ملذّات الحياة وطيّباتها، وتحوزون قدرات خارقة، ونحن معشر الإنس نشقى منذ آلاف السّنين كي نُطيل متوسط عمر الإنسان بضعة أعوام، ونؤجّل شيخوخته بضعة أعوام دون جدوى. أي أسرار هذه التي تكتنف الوجود من حولنا. لقد قيل لنا «كُلُّ من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام»
«أظن أنّ المقصود بمن عليها يا مولاي من هُم على وجه الأرض وليس من تحتها أو أسفلها، وليس من هم في السموات أيضاً، ثم إن ذلك لن يحدث إلا يوم القيامة»
«وهل تفقهين في الإسلام يا نور السماء؟»
«قليلاً يا مولاي، فقد زرت مكّة ورأيت محمّداً، وحضرت «بدراً» و«أُحُداً» وشهدت فيما بعد حروب الرّدة وحرب الجمل بين علي وعائشة وغير ذلك!»
«ولم تُسلمي؟»
«ارتـأى ملوكنا أن ننتظر فك أسـر ملكهم كـي يقرروا أمرهـم، رغـم أن بعض الطّوائف الأخرى من الجن قد أسلمت منذ صدر الإسلام وحاربت مع محمّد. على أية حال أنتم معشر البشر تظلّون متفوّقين علينا بالعقل والروح والخلُق والجمال»
«كيف أيتها الأميرة، أنا لم أرَ بين بني البشر من هي أجمل منك، ويبدو أنك تفهمين مثلنا، أمّا أرواحنا وأخلاقنا فقد فسدت وتعفّنت منذ زمن طويل، ولا أظنّ أن ثمّة أملاً في إصلاحها»
«يا مولاي، لا يغرّنك جمالي، فثمّة بين الإنس من هُنّ أجمل منّي، ثمّ إنّ عقلي صغير ومعرفتي سطحيةّ، ولا أملك القدرة على المحاكمة الخلاّقة. أنا أكاد أكون مجرّد مشاهِدة ومتلقية لكل ما يجري حولي، ومنفّذة لإرادة من يتحكّمون بي»
«أيتها الأميرة نور السّماء، ثمة أمم تعيش بيننا نحن البشر لم تفكّر منذ آلاف السّنين، بعضها توقّف عقلها عند أفكار مرّ عليها أكثر من ثلاثة آلاف عام، وبعضها منذ ألف وأربعمائة عام ونيّف!»
«لعلّهم من الجن يا مولاي وهم لا يعرفون!»
«بل من الإنس، فهم لا يملكون أية قدرات خارقة»
انبعثت آهات وصرخات الفتيات من تحت الشجرة التي لجأ إليها ملك الملوك. نظر الأديب لقمان والأميرة نور السّماء، وإذا به يكوّم الفتيات التسع تحته في أوضاع عجيبة وقد أخذ شكله شكل مارد صغير، وانقض عليهن كوحش وراح ينهش أجسادهن ويطعن هذه ثم تلك بقضيب كهراوة الفأس، وهو يزأر كأسد.
صرخ به الأديب لقمان:
«لا تفتك بالفتيات يا ملك الملوك»
قطع الملك زئيره ليهتف بصوت هائل دون أن يلتفت أو يتوقّف عن الطعن:
«لا تخف يا مولاي، إنهّن يحببن ذلك مهما عنف، فهن جنيّات!»
ضحك الأديب لقمان لأول مرة دون أن يفارق الحزن محياه، وأمعن في الضحك حين تخيّل للحظات ملك الملوك يأخذ شكله الجنّي الأكبر ويشهِرُ عضواً كالصاروخ ويشرع في طعن الفُروج.. تساءَلت الأميرة عمّا يضحكه فتساءل بدوره:
«هل تمارسون الحب وأنتم في أشكالكم الجنّية الضخمة؟»
ضحكت الأميرة وهي تهتف:
«بل إنّ مُعظمنا لا يمارسونه إلاّ كذلك يا مولاي!»
أطبق الأديب لقمان راحتي يديه على جبينه وهو يتساءل ضاحكاً:
«غير ممكن! إنّ خيالي بالكاد يقارب الشكل الذي تبدون عليه حينئذ»
«لن تحتاج إلى الخيال يا مولاي، سترى ذلك كثيراً إذا بقيت على قيد الحياة!»
«أظن أنني لن أُسر لمشاهدة كائنات بحجم الجبال تطبق على بعضها!»
«لا تستطيع أن تحكم قبل أن ترى يا مولاي»
«وهل أنت تمارسين الحب أيضاً وأنتِ بهذا الحجم الهائل؟»
«أحياناً يا مولاي»
«وما الحجم الذي تبدين فيه حينئذ؟»
«أستطيع أن أبدو بأحجام مختلفة، صغيرة جداً وكبيرة جداً، فأنا قادرة أن أبدو أصغر مما أنا عليه الآن، كأن أكون طفلة في العاشرة مثلاً وبحجم إنسيّة، أو آخذ شكلي الجنّي الأكبر وسأكون حينئذ بحجم جبل كبير!»
«وكم يكون حجم نهدك حينئذ؟»
«حجم حلمة نهدي تكون حينئذ بحجم قُبّة يا مولاي!!»
«وهل في مقدوري حينئذ أن أجلس على تلك الحلمة لأداعب نهدك ثم أتدحرج وأتقلّب عليه»
«بالتأكيد يا مولاي»
وأغرق الأديب لقمان في الضحك، ولم يقدر على التوقف ليكمل الحوار مع الأميرة، فخرج الكلام من فمه كلمة كلمة وقد تخلله ضحك لم يضحك مثله في حياته وهو يتمثّل تلك الصورة الخُرافيّة:
«أتوسّل..إليك..ألاّ..تظهري.. أمامي.. بهذا.. الحجم.. كي.. لا.. أضطر.. إلى استخدام.. مصعد.. للتنقّل من.. عضو.. في جسدك.. إلى عضو آخر!!»
«سأنقّلك بيدي يا مولاي!»
«وأية متعة ستجدينها معي وأنا لن أكون بالنسبة إلى حجمك أكبر من فأر أو بعوضة؟!»
«ما أدراك، قد نجد في ذلك متعة فريدة؟!»
«أية متعة هذه؟ لكن، ألا تستطيعين تكبيري لأبدو بحجمك؟»
«لا أعرف يا مولاي، فأنا لم أختبر قواي من قبل في هذه المسألة»
«خسارة، إذا لم نتمكن من تكبير نفسي بأي شكل من أجلك!»
«قد نجد حلاً إذا ما رغبنا في ذلك ذات يوم يا مولاي»
«آمل ذلك أيتها الأميرة»
وهتفت الأميرة نور السماء وهي تضمّه إليها من جديد:
«ماذا في ميسوري الآن أن أفعل لأسعد مولاي وأراه يضحك ويبتسم دائماً»
«لا أظن أنّ في مقدورك أن تبلغي بي السعادة التي أنشدها، ومع ذلك فإنّ وجودك معي يريحني ويتيح لمسحة من السعادة أن تتسلل إلى نفسي، الآن أشعر أنني متعب جداً وأتمنى لو أنام قليلاً إلى أن يفرغ الملك من مضاجعاته، ربّما ستكون هذه رغبتي الأخيرة قبل أن أودّع هذه الدّنيا»
«أمر مولاي»
وحرّكت الأميرة نور السّماء يدها في الهواء، وإذا بسرير واسع مكلل بالحرير والديباج وتظلّله أزهار القرنفل والياسمين والجوري، ينتصب تحت شـجرة زيزفون وارفة الظلال.. ولم يتنبّه الأديـب لقمان لـذلك إلا والأميرة تحملـه بين يديها وتضجعه عليه وتقبّله على جبينه وتضطجع إلى جانبه وتهمس في أذنه:
«ألا تشعر يا مولاي برغبة في مواقعتي، هذا يساعدك على أن تنام براحة وهدوء»
أحسَّ بأنفاسها العطرة تسري كالخدّر في جسده:
«إن ذلك ليسعدني أيتها الأميرة، لكني متعب جداً، والمواقعة عندي تتم عادة في ظل قدسيّة خاصّة، لا يتاح لي الآن توفيرها، وأعدك إذا ما عدلت عن الانتحار أن نفعل ذلك، لكن ابقِ إلى جانبي إلى أن أنهض من النوم، فوجودك يدخل الطمأنينة إلى نفسي»
«أمر مولاي»
وبادلته قبلات خفيفة ساحرة، وراحت تملس على ما تبقّى من شعر حول صلعته إلى أن غفا.

* * *
)
رؤيا شيطانية!

أقبل ملك ملوك الجان الحُمر «شمنهور الجبّار» يتعتعه السُّكر والإنهاك من جرّاء المعركة الجنسيّة التي خاضها مع الفتيات التّسع اللواتي بَدَون منهكات بدورهن، وحين رأى الأديب لقمان نائماً والأميرة «نور السماء» تضطجع إلى جانبه ظنّ أنه واقعها، فأشار إليها أن تنهض ليواقعها بدوره، فتأبّت عليه ورجته أن يسكت كي لا يزعج مولاها ومولاه.
امتعض الملك شمنهور وتفوّه ببضع كلمات نابية جرحت شعور الأميرة نور السماء، فنهضت عن السرير بهدوء واقتادت الملك شمنهور من يده لتبعده عن مرقد الأديب لقمان، وخاطبته بصوت خفيض:
«لماذا أيها الملك تودُّ أن تخون الرجل العظيم الذي خرجتَ على يديه من سجنك الطّويل، ألا يكفيك ما ضاجعت من حوريّات الجن هذا اليوم، والآلاف غيرهن قبل سجنك؟ ألا يكفيك أنك ضاجعت «بلقيس» وابنة فرعون و«عستارت» ومئات السيّدات والسّراري من نسوة سليمان، والمئات غيرهن من بنات الإنس؟! وإذا كنت تظن أنّك تنتقم من سليمان لقسوته معك وتجبّره عليك، فبماذا قسا عليك هذا الرجل الطيّب الذي لم يعرض عليك إلا أن تكون حُرّاً طليقاً دون أن يُسخّرك أحد من الإنس أو حتى الملائكة أو الشياطين أو الجن لخدمته؟!»
ويبدو أن الملك شمنهور أدرك أن ثمة سوء تفاهم في المسألة:
«عفواً أيتها الأميرة، هل اتخذك مولاي زوجة له أو جارية أو خليلة؟!»
«حتى لو لم يتخذني إلا مجرّد خادمة له، ألم يكن من الأحرى أن تعرف رأيه في الأمر قبل أن تطلب مواقعتي؟»
أطرق الملك شمنهور للحظات ويبدو أنّه ندم:
«أعتذر أيّتها الأميرة نور السماء، أعدك أن هذا لن يتكرر ثانية دون موافقة مولاي وموافقتك!»
«أعرف مدى طيبتك أيّها الملك، لكنك في بعض الأحيان تخرج عن طورك»
وتناهى صوت الأديب لقمان صارخاً منادياً نور السّماء، فأحاطت الجنيّات سريره وهرعت الأميرة وهي تهتف «أمر مولاي»
كان الأديب لقمان يلهث والعرق يتصبب من وجهه. شرعت الجنيّات يهوّين عليه بمنشّات من ريش النّعام فيما نور السماء تجفف عرقه بمنديل من الحرير الناعم الخفيف.
طلب ماء فأسقته بنفسها، ثم أمسك يدها ووضعها على صدره. حرّك عينيه في محجريهما باحثاً عن الملك شمنهور فشاهده يقف خلف الفتيات المتحلّقات حول سريره.
تساءَلت الأميرة نور السماء والملك شمنهور عمّا إذا يُعاني من شيء، فتنهّد وهتف بصوت خفيض:
«رأيت حُلماً رهيباً، شاهدت نفسي في حضرة الله والنّبي محمد ويسوع المسيح ومريم العذراء، وعشتاروت وإيل ورع وآبسو ومردوخ وزيوس ومئات الآلهة والأنبياء، تجوّلت في العوالم السُّفليّة والعلويّة، قابلت آلاف العظماء والمفكّرين من الفلاسفة والأدباء والعلماء، شاهدت الجنّة والنار، شاهدت أكواناً غير كوننا وفيها بشرٌ متقدّمون علينا بآلاف السّنين، ويعيشون في رفاه عظيم، وشاهدت أكواناً عجيبة متخلّفة عنّا، ويحكمها آلهة لا يرحمون، خضت معهم حُروبـاً مهـولة. شاهـدت ملايين الأسماك الطائرة فـي فضاء ما، وشـاهدت خيـولاً طائرة بأجنحة يركبها الملائكة، وشاهدت ظباء يركبها الشياطين. التقيت الشيطان إبليس فقادني إلى أكوان وعوالم ساحرة. شاهدت فيها مخلوقات لم أعرف ما هي، إلى أن قادني إلى روضٍ كالجنّة في كوكب مجهول. شاهدت فيه مئات الفتيات العاريات اللواتي لم أرَ أجمل منهن، ولم أسمع يوماً عن جمال بهذا القدر من الرّوعة والكمال حتى لدى حواري الجنّة، وما أن ألقاني بين حشد منهن حتى انقضّت عليّ إحداهن وطرحتني فوقها، وفيما كنت أغرق في جمال جسدها راحت تتحوّل إلى أفعى مرعبة تلتف حول جسدي وعنقي، فصرخت لأنهض من نومي وأجد نفسي هُنا على السَّرير‍!»
هتفت الأميرة نور السماء:
«ربّما تكون أضغاث أحلام يا مولاي»
فهتف ملك الملوك:
«بل إنها بعض العوالم التي سأقلّك إليها يا مولاي»
ونهض الأديب لقمان ليجلس في السرير ويهتف:
«ويحك أيّها الملك، حقاً لقد خلدت إلى النوم وأنا أفكّر عمّا إذا في مقدورك أن تنقلني إلى بعض هذه العوالم، إذا ما عدلت عن الانتحار»
«سأفعل كل ما بوسعي يا مولاي»
«هل في مقدورك أن تقلّني إلى هذه العوالم أيّها الملك؟»
«إن لم يكن جميعها فمعظمها يا مولاي»
«ماذا تقصد بمعظمها؟»
«لا أجزم فيما إذا سنتمكّن من الوصول إلى العرش الإلهي والسماء السابعة، أو حتّى الجنّة والنار»
«أمر مؤسف إذا لم نتمكّن أيها الملك»
«سأحاول بكل طاقتي يا مولاي»
«وما هي العوالم التي تجزم بمقدرتك على الوصول إليها أيها الملك؟»
«جميع العوالم السُّفلى ومعظم العوالم العُليا، لكن لماذا ستجشّم نفسك كل هذا العناء يا مولاي»
«يمكنك القول أنني أسعى لإضافة شيء إلى الحقيقة أيها الملك»
«أي حقيقة يا مولاي؟»
«الحقيقة المطلقة التي أمضى الإنسان دهوراً من عمره في البحث عنها»
«لم أفهم يا مولاي»
«الحقيقة التي ما بعدها حقيقة أيّها الملك، حقيقتي، حقيقتك، حقيقتنا، حقيقة الأنبياء، الآلهة، حقيقة الوجود برمّته!»
«وهل يجدي الوصول إلى الحقيقة أو شيء منها نفعاً يا مولاي؟»
«كيف لا يجدي أيّها الملك؟ ألا يجدي أن نعرف أنفسنا ونعرف العالم من حولنا بشكل أفضل؟ ألا يجدي أن نعرف الغاية التي وجدنا نحن من أجلها؟ ألا يجدي أن نعرف سرَّ هذا الوجود؟!»
«وهل هذا بعض ما دفع مولاي إلى الانتحار؟»
«لا أيّها الملك، إن منعي من السَّعي إلى الحقيقة، وإضافة شيء إليها هو أهم الأسباب التي دفعتني إلى الانتحار، فأنا كأديب أدركت أنّ غايتي في هذا العالم هي البحث عن هذه الحقيقة، وهذا لا يتأتى لي إلاّ عبر الدّراسة والبحث والتفكير، ومن ثمّ كتابة ما فكّرت فيه وما توصَّلت إليه، المؤسف أيّها الملك أن بلادنا تمنع الكتابة التي من هذا النوع، انطلاقاً من أنّ الناس توصّلوا بوساطة الأنبياء والمرسلين إلى حقيقة الله وحقيقة الوجود كمخلوق من قبل هذا الإله، وينبغي علينا أن نؤمن بذلك، شئنا أم أبينا، وينبغي علينا أن نؤمن بالسّلاطين الذين يؤمنون بذلك شئنا أم أبينا، مما أدى إلى أن يفقد وجودنا غايته، ولنغدو مجرّد ببغاوات، نردد الكلام ذاته الذي يرددونه منذ آلاف السنين، ونهتف بالتَّعابير ذاتها التي ما تزال سارية المفعول، ونتضاجع حسب الشّرائع ذاتها، ونـأكل ونـشرب وننجب حـسب ما تجيزه هـذه الشرائع، لقـد وصلت الأمور إلى حد غدا فيه الواحد منّا مثل الآخر، نسخة طبق الأصل عنه، يفكّر بطريقته، ويتكلّم بطريقته، حتّى غدونا نتكلّم معاً في آن واحد، ونضرط معاً، ونتبول معاً، ونتبرّز معاً، ونتضاجع معاً، والنسّوة منا يحملن ويلدن معاً، إلى آخر ما هنالك من هذا التناسخ الفظيع!! أنا شخصياً بتّ مقتنعاً أنه لم يعد هُناك أية قيمة لوجودي، حتى لو أُسكنت القصور، وأُضجعت ضامرات الخصور، وأُسقيت أطيب الخمور، لذلك قررت الانتحار، ولولا الصُّدف الغريبة التي شاءَت أن أعثر عليك وأحررك أيّها الملك، لكنت الآن في عالم الأموات، مع أنني مازلت أشكّ أيها الملك، أنّ كلَّ ما يجري ليس أكثر من حلم عجيب»
«ولِمَ وصلت الأمور بكم إلى هذا الحد يا مولاي، ولم ألغيتم عقولكم التي فضّلكم الله عنّا بها؟»
«فهمنا القاصر للديانات أيّها الملك، وافتقارنا إلى حُرّية العقل والزّعماء العظماء، منذ رحيل النّبي محمّد!»
«ألف وأربعمائة عام، ولم يظهر بينكم عظيم واحد بعد محمّد يا مولاي؟»
«للأسف لم يظهر، حتى في الكرة الأرضية كُلّها لم يظهر، لقد فسد الإنسان أيها الملك، وبلغ أرذل مستويات الانحطاط!»
«اعتبرني يا مولاي ومنذ هذه اللحظة طوع يديك، إن شئت أُملّكك الأرض بما عليها، وإن شئت أنقلك إلى العوالم الأُخرى»
«قُلتَ إن شئت تملّكني الأرض أيها الملك؟»
«أجل يا مولاي»
«كيف؟»
«نزحف عليها بألف ألف جنّي مغوار!»
«هل ستعيدنا إلى البطش أيّها الملك؟ أنا هارب من البطش والقمع!»
«ألم تقل إنّ الإنسان فسد يا مولاي؟»
«لكن إصلاحه لن يتمّ بالبطش أيها الملك»
«ولماذا تصلحه يا مولاي طالما أنه فسد، اقتله وأرح نفسك منه! ألم تخبرني أنه أفقدك مبررات وجودك؟ ألم تخبرني أنّه غدر بك وسلب أرضك ومالك ولم يعد يتعرّف عليك؟!»
«ومع ذلك لن أبطش به أيّها الملك، ولن أبطش حتى بالسّلاطين الذين أذاقونا المهانة والذلّ ألواناً»
«إذن لن تفعل شيئاً بكوكب الأرض يا مولاي؟»
«بل سأفعل الكثير، لكن ليس من هُنا، من الكوكب الذي سأقيم عليه في الفضاء الخارجي. الآن أريد أن أعرف شيئاً عن مدى قوّتك، لأن في نيّتي أن أفعل شيئاً لأبناء الأرض قبل أن تقلّني إلى الفضاء الخارجي»
«أمر مولاي»
أخرج الأديب لقمان مسدّسه:
«هل تعرف ما هذا أيّها الملك؟»
«لا يا مولاي»
وهتفت الأميرة نور السمّاء:
«أنا أعرف يا مولاي. إنه سلاح قاتل رأيته مع معشر الإنس»
«هل تجيدين استخدامه؟»
«أجل يا مولاي»
ومدّ يده بالمسدّس طالباً إليها أن تطلق منه طلقة.
صوّبت الأميرة نحو كاس زجاجيّة على المائدة وأطلقت النار، تناثرت الكأس واندلق الخمر.
هتف الملك شمنهور بدهشة:
«أنا لم أرَ هذا السّلاح في عهد سليمان يا مولاي»
«لم ترَ شيئاً بعد من الأسلحة الفتّاكة، التي في مقدورها أن تدمّر كوكب الأرض بكامله عشرين مرّة!»
«ألم تقل أنّ عقل الإنسان توقّف يا مولاي؟»
«لم أقصد أنّه توقف في كل مكان أيها الملك، كما لم أقصد أنه توقّف عن التفكير في المجالات كُلّها، المهم الآن أنني أريدك أن تعطّل هذا السلاح دون أن تمسّه»
«هذا شيء أكبر من طاقتي حتّى لو أخذته بيدي يا مولاي، مُرني أن أزلزل الجبال، أن أهدم المدن، أن أنقلك إلى السماء أن..»
وقاطعه الأديب لقمان:
«غريب أمرك أيها الملك، تستطيع أن تفعل كل هذه المعجزات، ولا تستطيع أن تسكت مسدّساً؟»
«للأسف يا مولاي»
هتفت الأميرة نور السماء وقد أدركت ما ينوي الأديب لقمان أن يفعله:
«لدي فكرة يا مولاي»
«ما هي؟»
«خذ المسدّس يا مولاي»
ولم يكد الأديب لقمان يأخذ المسدّس من يدها حتّى اختفت عن الأنظار واختطفت المسدّس من يده وراحت تحلّق في الهواء، فبدا المسدس للأديب لقمان وكأنه طائر. تابعه وهو يبتعد في الفضاء، ولم يعرف كيف ظهرت الأميرة نور السماء في اللحظة ذاتها ووقفت أمامه ملوّحة بالمُسدّس لتعيده إليه.
«أنتِ عظيمة أيّتها الأميرة، لو لم تفعلي هذا لعدت إلى حالة اليأس والتفكير في الانتحار. لكن، أخبريني، هل يجرحكم الرّصاص أو يقتلكم فيما لو أُطلق عليكم؟»
«أجل يا مولاي، ولذلك اختفيت»
«مسألة الاختفاء هذه تروق لي، فلن يتمكن أحد من إطلاق النار عليكم»
«والآن، هل عدل مولاي عن الانتحار فعلاً؟»
ودون تردد هتف:
«أجل أيّتها الأميرة، يمكنك أن تقولي للانتحار وداعاً، ومرحباً بالحياة من جديد»
وألقت نفسها عليه وراحت تعانقه، ثم عانقه ملك الملوك بدوره، ورفعه بين يديه كطفل. فيما كان الكون يضجُّ بزغاريد هائلة ترددت من كل الأرجاء.
«أشكركم أيّها الملك، لم أشعر بالرّغبة في الحياة كما أشعر بها الآن، ويا ليتنا نكون أصدقاء، فأنا لا أريدكم خدماً أو عبيداً أو أعواناً، لعلكم تساعدوني في أمور قد أعجز عن إيجاد حلول لها، ولعلّكم تعوّضونني عمّا أصابني من غدر الأصدقاء وقهر الحُكّام، وكبت الحُريّات وكتم الأنفاس، وخبث بعض الناس وأطماع وأحقاد ونفاق الآخرين»
«إن عقولنا لصغيرة يا مولاي، لكن يشرّفنا ويسعدنا أن تجعلنا أصدقاء لك»
«ما أدراك أن عقلي أكبر من عقلك أيها الملك، أظن لو أنّك قرأت الكتب التي قرأتها لاستوعبتها أكثر منّي، ولكان عقلك على الأغلب أكبر من عقلي؟»
«قد أعارضك حينئذ يا مولاي، وقد اختلف معك»
«ستكون حينئذ الصديق الذي أطمح أن يكون، فالمعارضة والإختلاف من أهم عوامل تطوّر البشر، وقد كان النبي محمد من أكبر المعارضين والمختلفين»
هتفت الأميرة نور السّماء وكأنّها لا تُصدّق:
«هل حقاً ستجعلني صديقتك يا مولاي؟»
«لن تكوني صديقتي فحسب، بل مليكة قلبي أيضاً أيّتها الأميرة، إن كان ذلك يُسرّك»
«لن يسعدني شيء أكثر من البقاء إلى جانب مولاي»
ونهض الأديب لقمان عن السّرير ومدّ يده اليُمنى إلى نبته من الورد الجوري فاصطدمت أصابعه بشوكها فانبجس الدّم منها:
«سنتعاهد بالدّم على الصّداقة والوفاء الأبديين أيّها العزيزان»
مدّ ملك الملوك والأميرة نور السماء يديهما ليفعلا كما فعل، وتصافح الثلاثة لتمتزج دماؤهم معاً، فيما فتيات الجن الأخريات واقفات يتفرّجن، ويشهدن على ما جرى.
قدّمت الأميرة نور السّماء خاتمها السحري إلى الأديب لقمان فشكرها وهو يلبسه في بنصره اليُسرى، بينما لبس خاتم الملك شمنهور في بنصره اليُمنى، وبدت الأميرة نور السّماء قلقة بعض الشيء، وكذلك الملك شمنهور، فتساءل الأديب لقمان عمّا بهما، فأجاب الملك شمنهور متوجّساً:
«أخاف يا مولاي أن يبطل العهد الذي قطعناه بيننا!»
«كيف سيبطل أيّها الملك؟»
«إذا ما استولى أحد من الإنس على خاتمي وخاتم الأميرة سنصبح طوع يديه!»
بدأ القلق يراود نفس الأديب لقمان، فتساءل:
«ألا يمكنكما رفض أوامره، أو عدم الإذعان له؟»
«يستحيل يا مولاي، إلا إذا أُبطل مفعول الطّلاسم التي على الخاتمين»
«ومن يقدر على ذلك؟»
«الله يا مولاي، إنه الوحيد القادر على ذلك، بعد موت الملك سليمان»
«وهل سليمان هو من وضع طلاسم خاتم الأميرة نور السّماء أيضاً؟»
«نعم يا مولاي، فمعظم الجن المطلسمين، وضعت طلاسمهم من قبل سليمان وبعون الله، حسبما قيل لنا»
«أنا حقاً فـي حُلم، بـل كابوس، أو ربّما في حالة جنون، ولـم أعـد أعرف أي إله هذا الذي تتحدثان عنه، أهو الشمس أم القمر أم يهوه أم مردوخ أم عشتار أم يسوع أم إله محمد أم حتى زيوس؟!»
وأخرجته الأميرة نور السماء من حيرته حين هتفت:
«ليس هناك فرق من يكون يا مولاي، المهم أنّه إله وأنّه يتحكّم بأسرار طلاسمنا»
«لكن أليس بوسعكما أن تعصيا أمره كما فعل إبليس؟»
«ممكن يا مولاي، لكننا لا نعرف ماذا ستكون عاقبة الأمر»
«ماذا ستكون؟ ليأتِ بطوفان جديد يغرق العالم، أو ليغضب عليكما كما غضب على إبليس، ولتذهبا معي ومع إبليس إلى الجحيم، لماذا أنتما حريصان على أن تدخلا الجنّة، ثم هل نسيتما أنّكما تتحالفان مع ملحد ولو في نظر المؤمنين، وربّما في نظر إلهكم أيضاً، وربما يكون قد حكم عليكما بالهلاك منذ الآن»
كان الأديب لقمان قد أخذ ينفعل وكأنّه يدرك أنّه سيفقد الخاتمين ذات يوم، فبادرت الأميرة نور السماء إلى مسح العَرَق عن جبينه وتهدئته:
«لو نجزم أنه لن يقوم بتجريدنا من قوانا الخارقة لفعلنا يا مولاي، فلماذا نستبق الأمور منذ الآن، إذ ليس من السّهل أن يسلب أحد الخاتمين منك، ثم إننا قد نتوصل إلى فك طلاسمهما، طالما أننا سنقوم برحلات إلى العوالم الأخرى، وإذا فشل كل شيء وحدث ما أبدينا تخوّفنا منه، ما أدراك فقد نتمرّد إذا كان لابدّ من التمرّد»
«حسناً أيتها الأميرة، أريد أن أعرف شيئاً واحداً فقط»
«ما هو يا مولاي؟»
«ماذا لو أننا دفنّا الخاتمين هُنا في الصحراء أو أبقيتهما معكما؟»
«لن نسمعك إذا كُنّا بعيدين عنك يا مولاي، أي أنّ قدرتك على التحكّم بنا ستكون محدودة»
«مشكلة، حقاً مشكلة، لننسَ الأمر إذن، ولنشرع في الخطوة الأولى على كوكب الأرض»
فهتف ملك الملوك:
«ما هي يا مولاي؟»
«أريد أن تبثّ جيوشك الجبّارة في كافة أرجاء الأرض لتنزع كافة أنواع الأسلحة التي بين أيدي الجيوش والبشر. سارع إلى المناطق التي يدور الآن فيها قتال في العالم، إيّاك أن تبقي قطعة سلاح مهما كانت وفي أي مكان»
وقاطعه الملك شمنهور:
«حتّى سلاح أبناء قومك يا مولاي، هل أنزعه؟»
«طبعاً أيها الملك، انزعه. وليسرِ عليهم ما يسري على الجميع، هل تريد الناس إذا ما عرفوا أن يقولوا أنّ الأديب لقمان فضّل أبناء قومه على الآخرين، ثمّ لا تخف عليهم إنهم يجيدون استخدام الحجارة إذا ما اضطروا إلى الدّفاع عن أنفسهم، على أية حال تصالحت فئة منهم مع اليهود ويبدو أنهم سيتصالحون جميعاً معهم، كما تصالحوا من قبل في عهد سليمان»
«لقد حضرت الصُّلح حينذاك، يا مولاي. وذبح الفلسطينيون خمسين جملاً للإله إيل وخمسين عجلاً لعشتاروت، وخمسين كبشاً لبعل، أمّا اليهود فقد ذبحوا مائة عجل ومائة جمل للإله يهوه! لكن هل عادوا وتحاربوا يا مولاي؟ ما أعرفه أنّ الملك سليمان أحبَّ نساءهم وتزوّج منهم قرابة مائة، ومن محبته لنسائهم تخلّى عن عبادة يهوه وعبد آلهتهم، وتبعه مئات الآلاف من اليهود»
«أجل أيها الملك عادوا إلى الحروب الطاحنة التي أودت بحياة مئات الآلاف»
«هل أبدأ يا مولاي؟»
«مهلاً، ماذا ستفعل بالقواعد الضخمة وحاملات الطائرات والمفاعلات النوويّة والصواريخ بعيدة المدى والعابرة للقارات، والبوارج والسّفن الحربية الكبيرة ومصانع الأسلحة؟!»
«لا يوجد شيء يعجز أعواني عن معالجته إذا لم يقدروا على حمله يا مولاي، يمكن أن نضع حُرّاساً دائمين على ما هو ثقيل جداً وكبير»
«هذه فكرة حسنة أيها الملك، لكن ماذا ستفعل بما هو تحت مياه البحار والمحيطات كالغوّاصات؟»
«ستغوص جيوشي إليها يا مولاي وتنزعها من أعماق المياه»
«عظيمة جيوشك هذه أيها الملك. لكن اسمع، إيّاك وسفك الدّماء، لا أريد الجيوش أن تؤذي أحداً، ولا أريد أية دماء على الإطلاق، حتى نقطة دم واحدة لا أريد، وليكن جنودك لطفاء في نزع السلاح، أظن أن البشر شاهدوا من الدّماء خلال هذا القرن ما يكفي لألف عام قادمة، يمكنك أن تباشر أيها الملك»
«هل يرغب مولاي العظيم في رؤية الجيوش قبل انطلاقتها؟»
«سأكون سعيداً أيها الملك»
وأخذ ملك الملوك شمنهور الجبّار شكله الأعظم خلال طرفة عين، فبدا للأديب لقمان كطود هائل.
هتفت الأميرة نور السماء:
«لنصعد ونقف على كتفه يامولاي، لنتمكّن من رؤية الجيوش بشكل أفضل»
ولم يكد الأديب لقمان يوافق إلاّ والأميرة تأخذ بيده وتطير به، ليقفا على كتف ملك الملوك. هتف متسائلاً:
«هل حقاً نحن الآن نقف على كتف ملك الملوك أم أننا نقف على هضبة؟»
ضحكت الأميرة وطلبت إليه أن يضع يده على أُذنيه لأن الملك شمنهور سيصرخ صوتاً يستدعي به جيوش الجن.
أطبق الأديب لقمان بيديه على أذنيه، وكذلك فعلت الأميرة نور السماء.
أرعد صوت ملك الملوك هاتفاً «ها» فارتجت الأرض من كافة الأرجاء لهول الصوت.
أخذت الجيوش العملاقة تكتسح الصحراء من كل الاتجاهات كظلال حلّت خلال لحظة غروب أخيرة. كانت أحجام الجنود أكبر من أحجام البشر ويرتدون زيّاً أحمر، وقد امتطوا خيولاً حمراً مجنّحة، ووقفوا في صفوف فائقة الانتظام، وقد تسلّحوا بالرماح والسّيوف ولبسوا الدروع.
رفع الجميع رماحهم إلى أعلى وهتفوا بصوت واحد ضجّت له الصحراء «ها. ها. ها.»
هتف الأديب لقمان في سرّه «مستحيل أن يكون هذا حقيقة، حتّى في الإسراء والمعراج لم يحدث مثل هذا الذي أراه، إنه حلم بالتأكيد»
هتف ملك الملوك مرة ثانية «ها» وإذا بالفضاء يعج بمئات آلاف الجان المجنّحين الذين حجبوا ضوء الشمس، وقد توقّفوا في الفضاء في صفوف كبيرة مُربّعة. هتفوا وهم يفردون أجنحتهم «ها. ها. ها.»
هتف ملك الملوك العبارة بدوره وراح يخاطب الجيوش بلغة الجن، فيما بادرت الأميرة نور السماء إلى الترجمة للأديب لقمان:
«أشكر من أعماق قلبي، الملوك الحُمر، والطّوائف الحمر، والجيوش الحُمر، الذين ظلّوا مخلصين لي، وحافظين للعهد وأوفياء له، رغم غيابي الطّويل، في غياهب سجون الملك سليمان الجبّار..
يا أبناء الجن العِظام، إنني إذ أدين اليوم بحرّيتي لابن الإنس البار الأديب لقمان العظيم، الذي فكّ أسري، وأتاح لي تلمّس طريق الحرية، بعد ثلاثة آلاف عام من الحشر الفظيع، لأعلن تتويجه ملكاً أعلى على جميع الجن الحمر، وأطلب إليهم، أن يكونوا في خدمته، ويطيعوا أمره، ويقدّموا له كُلّ ما يستطيعون والله على ما نقول شهيد!
عاش ملك ملوك الملوك الأديب لقمان العظيم!»
ترددت في مخيّلة الأديب لقمان بعض الكلمات واصفاً بها ملك الملوك:
«لـو لـم يكـن جنّياً ويخاطـب جنّاً لقلت أنّـه قـادم مـن قصر دكتاتور مـا عـلى الأرض»
دوّت الصحراء والسماء بالهتاف الذي أطلقه ملك الملوك وأُنكِسَت الرّماح والسّيوف وأُسبلت الأجنحة تحيّة للأديب لقمان الذي مدّ يده اليمنى وراح يحيي الجيوش الجرّارة. كان الملوك يصطفون أفواجاً أفواجاً أمام جيوشهم وقد وقف خلفهم قادة الجيوش ونوّابهم ثم آلاف آلاف الجنود.
صرخ ملك الملوك صرخة أُخرى بالجيوش وإذا بها تتهيّأ في حركة استعداد.
أصدر الملك شمنهور أوامره بنزع السلاح من أيدي بني البشر ووضعه تحت حراسة مشددة، متقيّداً بالتعليمات التي أشار إليها الأديب لقمان. وما أن أنهى إصدار أوامره، حتى أومأ بحركة من يده وهو يهتف «ها» فشرعت الجيوش في الاختفاء من السماء وعن وجه الأرض، بنفس الطريقة التي اكتسحتها بها، لتختفي خلال لحظات وكأنها لم تكن.
وأطرف ما حدث بعد ذلك أن الأديب لقمان أحسّ بيد وكأنها تصافح يده وتطلقها، ثمّ بمسدّسه ينتزع من تحت حزامه ويبتعد عنه في الفضاء، غير أن الأميرة نور السماء والملك شمنهور تحدّثا بلغة الجن فتوقّف المسدس في الفضاء.
أدرك الأديب لقمان أن أحد جنود الجن قد أخذ مسدّسه فاندهش أشد الاندهاش لهذه الدّقة الفائقة التي يتمتّع بها جنود الجن في تطبيق الأوامر. إذ لم يدر في خلده حين أبدى رغبته إلى ملك الملوك بنزع السّلاح، أنّ أوّل قطعة سلاح ستنتزع من أيدي البشر ستكون مسدّسه الذي نسي أنّه يحمله.
هتف ملك الملوك:
«هل يسمح مولاي للجندي بأخذ سلاحه؟»
«إنّه ليس في حاجة لطلب السّماح أيها الملك، لقد قام بواجبه خير قيام، وأرجو أن تكافِئه على حسن صنيعه»
وأشار ملك الملوك بحركة من يده وإذا بالجندي يظهر في الفضاء والمسدّس في يـده. خاطبه بلغة الجن. أدّى الجندي التّحية بحركة مـن يـده وانصـرف محلّقاً دون أن يختفي إلى أن توارى عن الأنظار.
«عيّنته قائداً على ألف جندي ووهبته إحدى بنات الملوك يا مولاي»
«حسناً فعلت أيّها الملك»
كان الصوت يأتي من فم ملك الملوك وكأنّه جعجعة قادمة من سفح جبل. نظراً لطول عنقه وعلوّ رأسه وضخامته، وابتعاد فمه عن الأديب لقمان.
«لو أنّك تعود إلى الشكل الإنساني أيها الملك، إن شكلك الحالي يُرعبني!»
قهقه ملك الملوك وهو يتضاءل فيما الأميرة نور السماء تأخذ بيد الأديب لقمان وتنزل به إلى الأرض.
وقف ملك الملوك في هيئة إنسي أضفت عليه جمالاً فائقاً، مما حدا بالأديب لقمان أن يطلب إليه أن يبقى دائماً في هذه الهيئة.
«أمر مولاي ملك ملوك ملوك الجن الحمر العظيم!»
«ألا يكفي أيها الملك ما فعلته وما ستفعله من أجلي حتى تكافئني وتجعلني ملكاً عليك وعلى ملوك الجن؟»
«لو أمرني مولاي أن أطوّع الإنس وطوائف الجن جميعاً لخدمته لفعلت»
«أنا لم أفعل شيئاً أيها الملك أستحقُّ عليه كل هذا الإكرام، الذي يبدو أمامه حتى إكرام الله للأنبياء ضئيلاً، ويبدو لي لو أنّك عرفت بعض بني البشر الذين عرفتهم لفكّرت ألف مرّة قبل أن تقدّم لي أيّة مكافأة!»
«هل أجحفوك حقّك وغدورا بك وقابلوك بالسوء إلى هذا الحد يا مولاي؟»
«أجل أيّها الملك، لم يؤلمني شيء في حياتي أكثر مما آلمني غدر الأصدقاء، بعد شقائي من أجلهم وعطفي عليهم ومحبّتي لهم! إنّ عسف الأنظمة كان يبدو لي أمام ذلك أمراً مقبولاً»
«هل أُحضر لك هؤلاء الخسيسين وأمثالهم لتقتصّ منهم يا مولاي؟»
«لا أيها الملك، إنّي لا أسعى إلى القصاص والانتقام، بل إلى إصلاح ما فسد في البشر، وزرع المحبّة والخير فـي نفوسهم بدلاً من الشّرور والآثام. وإنّي لآمل أن أتمكن أنا بدوري من قتل الشّر وشهوة الانتقام في نفسي أيضاً»
«وهل يوجد بين بني البشر من هم بهذه الوضاعة والخسّة والنّذالة يا مولاي؟»
«أجل أيها الملك وربّما أكثر مما نتصوّر أنا وأنت، فحاذر، حاذر من أن أغدر بك أيّها الملك وأعيدك إلى القمقم!»
«أنا واثق من أنّك لن تفعلها يا مولاي»
«كنت طيباً وعلى نيّتي مثلك، لكني كنت أتخوزق دائماً أيّها الملك، مشكلتي معك أني لا أعرف بماذا سأكافئك الآن أو في المستقبل»
«مكافأتك لي أن تظلّ طيّباً معي ومع الأميرة نور السّماء كما أنت يا مولاي»
«هل تريان أنني طيب حقاً أيها الملك، أنا في نظر كثيرين شرّير لأنني ملحد وزان»
«أجل يا مولاي، إنني لا أرى فيك إلا الطيبة مهما ألحدت وزنيت»
وهتفت الأميرة نور السماء:
«وأنا لم أرَ من هو أطيب منك بين الإنس والجن يا مولاي، إني أرى نور المحبّة يشعّ من عينيك ويلوح على جبينك!»
«أشكركما أيّها العزيزان، لقد أعدتماني إلى الحياة بكل أبّهتها وجمالها، وآمل أن أظلّ طيّباً وعند حسن ظنّكما. ماذا سنفعل الآن أيها الملك؟»
«ما يأمر به مولاي»
«هل شرعت الجيوش في نزع الأسلحة؟»
«انظر إلى السماء لترى يا مولاي»
نظر الأديب لقمان نحو السماء فشاهد آلاف الدّبابات والمجنزرات والمصفّحات والآليات والطائرات والمدافع والزوارق والصّواريخ والطوربيدات والغوّاصات والبنادق، وغير ذلك، من كافة أنواع الأسلحة، تقذف في الفضاء بـشكل عـشوائي، وكأن ريحاً عاتية تعصف بـها. فـقـد كانـت مـحمـولـة عـلى ظهور الجن أو على أكتافهم أو بأيديهم.
أحسّ الأديب لقمان بفرح غامر وهو يهتف في سريرته:
«اليوم ستودّع البشرية القتل والحروب وسفك الدّماء إلى غير رجعة» ونظر نحو ملك الملوك:
«أين أمرت الجيوش أن تقذف بكل هذه الأسلحة أيّها الملك، أراها توغل بعيداً في الفضاء»
«أمرتهم أن يقذفوها على القمر يا مولاي»
«حسناً فعلت. حضّر لي نفسك للخطوة الثانية أيها الملك»
«أنا جاهز يا مولاي»
«سننطلق إلى الفضاء ونبحث عن كوكب ذي حياة نقيم عليه، لكن خارج المجموعة الشمسيّة إذا أمكن. هناك سننظم شؤوننا وننظر في أمور البشر ونشرع في رحلاتنا إلى الأكوان والعوالم المجهولة»
«هل يسمح لي مولاي باصطحاب الأميرة ظل القمر والحوريّات الأخريات؟»
«هذا حقك أيها الملك، لكن ألسن كثيرات عليك؟»
وراح ملك الملوك يضحك:
«كثيرات يا مولاي؟! إني أشعر بشهوة تدفعني لمواقعة آلاف النّساء من الجن والإنس!»
«أي حرمان هذا الذي تعاني منه أيها الملك؟ لكن، هل هُنّ راضيات أم أنّك ترغمهن على مرافقتك؟»
«لا يا مولاي، إنهنّ راضيات قانعات، وكنّ يحلمن بوصالي والتقرّب إليّ، ألا ترى السّعادة تطلّ من عيونهن. سأكتفي بهن الآن، لكني سأحضر إحدى وتسعين أميرة وحورية فيما بعد لأكملهنّ على المائة!»
«مائة؟ تريد مائة حوريّة وأميرة أيها الملك؟»
«سُليمان كـان إنـسياً يـا مولاي وكـان لديـه ألف، فهل تـستكثر مائـة عـلى ملك الملوك شمنهور الجبار؟»
«أنت محق أيها الملك، ليكنّ عشرة آلاف إن شئت»
«أشكر مولاي»
«هيا أرني كيف ستقلّنا إلى الفضاء السّحيق!»
«هل لي بسؤال يا مولاي؟»
«تفضّل»
«لماذا تودُّ الابتعاد عن كوكب الأرض مع أن أهلك وذويك ومعارفك يقيمون عليه؟»
«لقد أتعبني أبناء هذا الكوكب أيها الملك، حتى أهلي وأقاربي أتعبوني، ولم أعد قادراً على التواصل مع الناس، طالما هم على هذه الحال، سأعود إليهم إذا ما استطعت إصلاحهم وقتل الشر في نفوسهم وإغناء المحبّة والخير، وإذا ما احتجت إلى رؤية أحدهم أو بعضهم، سأحضرهم إلى كوكبنا، وقد نقوم ببعض الزيارات، المهم أن تدعنا ننصرف الآن»
انصرف ملك الملوك إلى التجوال في الرّوضة المسحورة وهو يتفوّه بكلمات من لغة الجن ويحرّك يديه أعلى وأسفل، وفجأة انفعل وراح يصرخ معنّفاً، ثمّ أسرع في خطوه إلى أن بلغ جانب الرّوض ووقف في مواجهة الصحراء. توقّف عن الكلام وأخذ يرقب الفضاء بقلق وتوجّس.
ظهرت في السّماء مركبة فضائية بحجم فندق ضخم، لم يكن لها أي صوت، ولم تكن تخلّف وراءها أي لهب، وقد رافقها آلاف الجن المحلّقين عن جانبيها ومن خلفها.
حطّت في الصحراء على مقربة منهم، فيما ظلّ الجن يحلّقون في الفضاء. بدت المركبة للأديب لقمان كنسرٍ هائل يضمّ جناحيه للانقضاض على فريسته، وقد ارتكزت على قاعدتين كبيرتين بدتا كقدمي إنسان دون أصابع، وانتصب باقي الجسم فـي الفضاء لينتهي إلى رأسٍ كالمنقار الطّويل.
«من أين أتيت بهذه المركبة الهائلة أيها الملك؟»
«إنها مركبة مسحورة يا مولاي»
«مسحورة وتفعل كل هذه المعجزات العلميّة؟»
«أجل يا مولاي»
«وهل فيها رائد أم أنها تطير وحدها؟»
«أجل يا مولاي، فيها رائد ومساعدون وفيها خدم وغرف نوم، وفيها كل أجهزة الاتصالات والرؤية والالتقاط والبث والتصوير والاستشعار والتشويش، وفيها مسبح وحديقة وصالة رياضة، ومطابخ وصالات طعام وأروقة وقاعات ومتنزّهات، وكل ما يخطر على البال، ومعظم هذه الكلمات لم أسمع بها إلا قبل لحظات ولا أعرف ماذا تعني يا مولاي!!»
«وتقولون أنّ عقولكم صغيرة؟! لكن لماذا بدوت منفعلاً قبل قدوم المركبة؟»
«لأني لم أرد أن تقطع هذه المسافات البعيدة محمولاً على كتف أحد الجن يا مولاي، فطلبت إلى كل الملوك أن يبحثوا عن أحدث مركبات الكون ويأتوني بواحدة مثلها»
«هل هذا يعني أنّ هذه المركبة مسحورة عن أحدث مركبة في الكون؟»
«نعم يا مولاي»
«وهل مثيلاتها من صنع بشر أم من صنع جن؟»
«بل من صنع بشر يا مولاي، فنحن معشر الجن لا نستطيع أن نفعل مثل هذه الاختراعات، أو أننا لا نحاول ذلك لأننا نطير ونستطيع الذهاب إلى أي مكان»
«وأين يقيم هؤلاء البشر أيها الملك؟»
«قالوا لي أنّهم يقيمون على كوكب في الفضاء البعيد يا مولاي!»
«لابدّ لي من زيارة هؤلاء، ولابدّ لي من معرفة أسراركم أيّها الجن، فأنتم تفعلون المعجزات ومع ذلك تعجزون عـن بعـض الاختراعـات، وتعجـزون عن إبطال مفعول الأسلحة، وبالتأكيد تعجزون عن إحياء الموتى، أم لعلّكم تستطيعون؟»
«لا يا مولاي، هذا ما لا يقدر عليه إلا الله»
«وهل تستطيعون أن تميتوا الأحياء؟»
«بالقتل فقط يا مولاي، إذ ليس بإمكاننا أن نقول لكائن ما «مُت» فيموت، أو «عِشْ» فيعيش»
«لكنك تستطيع أن تمسخ كائناً ما إلى آخر، كأن تحوّل إنسياً إلى سحلية مثلاً»
«بالتأكيد يا مولاي، لأنني أعرفهما وشاهدتهما بعيني!»
«وماذا عن الحياة والموت، فأنت ترى الحياة أمام عينيك، وبالتأكيد شاهدت الموت؟»
«لكني لا أعرف سِرّ الحياة ولا أعرف سرّ الموت يا مولاي»
«حقاً إنّك تحيّرني أيها الملك أنت ومعشر الجنّ، لابدّ لي من معرفة طاقاتكم كي أعرف ما هي حدود القوّة التي بين يدي»
«سأخبر مولاي بذلك متى أراد، لكن لا يوجد بين الجن الحمر من هو بمقدرتي. فأنا القادر الأقوى بين هؤلاء، ولهذا كنت ملك ملوكهم»
«هذا ما يُسعدني أيها الملك، هل ننطلق الآن؟»
«تفضّل يا مولاي»
اقترب الأديب لقمان وملك الملوك والأميرة نور السّماء من المركبة فانفتح باب جانبي نزل منه سلّم قصير وأطلّت منه فتاة ذات جمال أخّاذ.
أحنت الفتاة رأسها احتراماً وأشارت بيدها إلى داخل المركبة أن تفضّلوا.
صعد الأديب لقمان ودخل المركبة ليجد نفسه في ما بدا له مقصورة إمبراطورية. تبعه ملك الملوك والأميرة نور السماء فالجنّيات التسع.
«لا بأس بهذه المقصورة يا مولاي، آمل أن تكون الرّحلة مريحة»
«آمل ذلك أيها الملك، لكن أين قائد المركبة؟»
«إنه يقف معنا يا مولاي!»
«ألن نرى شكله؟»
«لن تتسع المركبة لحجمه الحقيقي يا مولاي!»
«ليظهر في شكل إنسي كما أنتم أيّها الملك»
ولم يكد الأديب لقمان ينهي كلامه، إلا وقائد المركبة يقف أمامه ويمد يده مصافحاً ومرحّباً ومعرّفاً بنفسه:
«قائد مركبة النّجوم الرائد عزيزون يا مولاي!»
تأمّله الأديب لقمان للحظة وهو يدرك أن هذا ليس شكله الحقيقي.
«قل لي أيها الرائد»
«أمر مولاي»
«ما هي سرعة مركبتك؟»
«ما هي أقصى سرعة تعرفونها أنتم معشر البشر من سكّان الأرض يا مولاي؟»
«سرعة الضوء أيها الرائد، لكن إيّاك أن تقول لي أن مركبتك ستنطلق بسرعة الضوء، لأن هذا سيكون أكبر من أن يحتمله العقل!»
وشرع رائد المركبة في الضّحك، وظل يضحك إلى أن زجره ملك الملوك وطلب إليه ألاّ يضحك في حضرة مولاه.
«سأنطلق بسرعة خيالية يا مولاي إذا كان الفضاء أمامي خالياً!»
دهش الأديب لقمان الذي لم يسمع تعبيراً كهذا في حياته.
«كيف تكون السّرعة الخيالية أيها الرائد؟»
«السُّرعة التي لا يمكن أن يدركها إلا العقل الخارق يا مولاي!»
«اضرب لي مثالاً عن مدى هذه السرعة»
«يمكنك أن تضع يا مولاي رقماً تقريبياً يزيد ألف ضعف على الأقل عن سرعة الضوء، وهذه الـسُّرعة قابلـة للزيـادة أو النقصان حسب حال الفضاء الذي أجتازه، وحسب السّرعة التي أقرر أنا الانطلاق بها»
همد الأديب لقمان على مقعد خلفه واحتضن رأسه بيديه وراح يجزم لنفسه أنه حقاً في كابوس، وشرع يلعن في نفسه الساعة التي فكّر فيها في الانتحار، والتي لم تأتِ به إلا إلى هذا المكان بالذات، ليجد نفسه في هذه الورطة الخيالية العجيبة، التي ربّما لم يكن في حاجة إليها.
رفع رأسه وألقى نظرات مصحوبة بدهشة شديدة نحو قائد المركبة:
«هل تعرف أيها الرائد أن سرعة الضوء مائة وستة وثمانون ألف ميل في الثانية، وأننا إذا انطلقنا بهذه السرعة سنبلغ القمر الذي يبعد عنّا قرابة مائتين وأربعين ألف ميل خلال ثانية وربع فقط، وسنبلغ الشمس التي تبعد عنّا قرابة ثلاثة وتسعين مليون ميل خلال ثماني دقائق وربع؟!»
وقاطعه رائد المركبة بتواضعٍ جم ينمُّ عن معرفة علميّة عالية، وثقة عالية بالنفس:
«وسنحتاج يا مولاي إلى أربع سنوات ونصف لنصل إلى أقرب نجم إليكم بعد الشمس!»
«تقول أربع سنوات ونصف؟»
«إذا انطلقنا بسرعة الضوء يا مولاي!»
وأطرق الأديب لقمان للحظات يفكّر، أدرك أنّ الجنيّ على حق. كيف غابت هذه المسألة عن باله؟ لابدّ من الانطلاق بسرعة خيالية كما أشار القائد، خاصة وأنه فضّل أن ينقل إلى كوكب خارج المجموعة الشمسيّة التي يتبعها كوكب الأرض، وهذا يحتاج إلى سرعات تفوق التصوّر، ربما كسرعة البُراق الذي أصعد النبي «محمد» إلى السماء.
«هل قلت لي أنه في مقدورك أن تبطئ سرعة مركبتك إذا ما شئت ذلك أيها الرائد؟»
«إن في مقدوري كل شيء يامولاي، حتى أن أجعلها تنطلق بسرعة الطائر»
«هذا عظيم أيها الرائد، لأنني أريد أن ألقي نظرة أخيرة على هذا الكوكب البائس الذي أنتمي إليه، يا ليت لو تجعلنا نتغدّى على كوكب الزهرة ونتعشّى على المرّيخ ونفطر على المشتري، أو قد نودّع هذه المجموعة من المرّيخ وننطلق إلى ما نريد دون أن نقترب من المشتري وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتون، فهي وحسب ما اكتشف علماؤنا ليست صالحة للحياة، ولا رغبة لدي الآن لمشاهدتها عن قرب»
«إني خائف عليك من علمائكم يا مولاي، وآمل أن يطرح مولاي علمهم جانباً وأن يطلق العنان لخياله، ويحلم بما يريد وما يرغب في تحقيقه، دون الخضوع إلى سلطان العلم وغائية المنطق، فهو بهذا يقترب منّا معشر الجن، ويفكّر بعقليتنا القادرة على تحقيق الأحلام وصنع المعجزات، وتقبّل حدوثها، والأهم من ذلك إمكانية حدوثها!»
«شكراً للنصيحة أيها الرائد، هل ننطلق؟»
«ليكن يا مولاي»
«ماذا يتوجّب علينا أن نفعل؟»
«افعل ماتريد يامولاي، اجلس أوانهض، اذهب إلى الحديقة، أو إلى المسبح. لن تشعر بما هو غير عادي يا مولاي، وكأنّك جالس على الأرض!»
«لا تنسَ أن تنطلق ببطء لأنني أريد أن أودّع كوكب الأرض»
«سأنطلق ببطء يا مولاي، يمكنكم النّظر من النافذة إلى ما تريدون، وثمّة منظار يمكنكم الاستعانة به»
أقفلت الفتاة التي استقبلتهم باب المركبة، جلس الأديب لقمان والأميرة نور السماء على أريكتين متقابلتين بجوار نافذة، فيما تحلّق ملك الملوك مع جواريه والأميرة «ظل القمر» حول مائدة مستديرة وأشار إلى فتاة في المركبة أن تحضر لهم خمراً.
ألـقى الأديـب لقمان نظرة عـبـر النافـذة فـشاهد آلاف الجـن يحلّقـون حـول المركبة، فخاطب ملك الملوك متسائلاً:
«لم أحضرت هؤلاء الجن لمرافقتنا أيها الملك؟»
«للحراسة والدّفاع يا مولاي، فقد نتعرّض لهجوم من الإنس أو الجن!»
«وهل سيظلّون ظاهرين؟»
«يفضّل يا مولاي كي يرعبوا أيّة قوى معادية قد تفكّر في مهاجمتنا»
«يبدو أنّك خططت لكل شيء أيها الملك»
«بل أعواني هم من خططوا ولست أنا يا مولاي»
«لكن لا تنسَ، لا أريد سفك دماء»
«حتّى الكائنات الفضائية لا تريد أن نسفك دماءها إذا ما هاجمتنا يا مولاي؟!»
«الآن نحن بمثابة غزاة للفضاء أيها الملك، فبأي حق تريدنا أن نسفك دماء أبنائه؟!»
«لا أعرف أين ستودي بنا طيبتك يا مولاي؟ آمل ألا تقودنا إلى الهلاك!»
«لست متشائماً يا مولاي لكني لا أعرف ماذا سنفعل إذا ما هوجمنا»
«لكلِّ حادث حديث أيها الملك، قد نحلّ أكبر الإشكالات بكلمة طيّبة»
«بكلمة طيّبة يا مولاي؟»
«نعم أيها الملك، فللكلمة في بعض الأحيان قوة سحريّة لا تضاهيها أية قوّة»
«أعذرني يا مولاي، أنا لم أعد أفهم شيئاً مما تقوله»
«بل تفهم أيها الملك وتعرف أن ما يكمن خلف طلسمك وطلاسم الجن جميعاً ليس إلا بضع كلمات!»
أدرك ملك الملوك أنّ الأديب لقمان على حق، ثمة سحر ما للكلمة كان يجهله لو لم يلفت انتباهه إليه.
«أنت محق يا مولاي، وإن كنت أشك أن الكلمة ستكون مجدية في كل الأوقات.. أظن أن المركبة انطلقت وأن رحلتنا قد بدأت، لنشرب نخب انطلاقتنا!»

(3)
صعود إلى الفضاء

انطلقت المركبة في اتجاه شبه عمودي إلى أعلى. تساءل الأديب لقمان عمّا إذا كانت المركبة مرئية أيضاً من قبل البشر، فأجابته الأميرة نور السماء أنها مرئية وأنه ليس في مقدورهم حجبها عن الأنظار، فتخوّف من أن تطلق دولة ما صاروخاً عليها مما لم يتم نزعه بعد، فسأل ملك الملوك:
«هل فرغت الجيوش من نزع الأسلحة ووضع الأخرى تحت السيطرة أيها الملك؟»
«أجل يا مولاي، وعادت معظم الجيوش إلى قواعدها»
«ألم تُرق أيّة دماء أيها الملك؟»
«ولا نقطة يا مولاي»
«أحسنت، وأحسنت جيوشك العظيمة أيّها الملك»
ارتفعت المركبة عالياً، كان واضحاً أن الرائد ينطلق ببطء. أخذ الأديب لقمان ينظر عبر النافذة ويرقب الأرض، فوجئ بمنظار ينتصب أمام عينيه. بدت له القدس وكأنه يرقبها من أعلى قمم جبل الزيتون، مرّت في مخيّلته لمحات سريعة من ذكريات طفولته وصباه في شوارعها. شعر أنّه سيبكي فهرب مارّاً بجبل المنطار حيث أيّام الرّعي والفداء فيما بعد! استقر قليلاً يرقب عمّان، وما لبث أن أشاح نظراته إلى دمشق. قفزت صورة ابنته وابنه وزوجته إلى مخيّلته، تبعتها صور بعض الأصدقاء والذكريات، ولم يتنبّه لنفسه إلا والدموع تغرورق في عينيه، وحين هتفت الأميرة نور السّماء قائلة: «أنت تبكي يا مولاي؟» أجهش بالبكاء، ولم يعد ينظر عبر النافذة.
أخرجت الأميرة نور السماء منديلها وراحت تمسح دموعه، فيما ملك الملوك يهتف متسائلاً:
«ألم تقل أنّهم أذاقوك الأمرّين وأنّهم أفسِدوا يا مولاي، فلِمَ تذرف الدمع عليهم؟!»
«لا أعرف أيها الملك، نادرة هي الأيام التي لم أذرف فيها الدّموع، ولأبسط المسائل، فما بالك وأنا أغادر مَن سيظلّون أهلي وأقاربي وأصدقائي وأبناء موطني وكوكبي مهما فعلوا، ويبدو أنني عاجز عن كرههم، بل لا سبيل إلى نزع محبتهم من قلبي، ثمّ كيف أنسى الأرض التي ولدت وترعرعت بين أحضانها، في سهولها ووديانها، في جبالها وهضابها، وفي تلالها وروابيها؟!! أَوعِزا إلى رائد المركبة أن يسرع، يبدو أنني لا أستطيع النظر إلى الأرض دون أن أبكي»
انتقلت الأميرة نور السماء إلى جانبه وضمّته إلى حُضنها كطفل، فأخذ يديها وقبّلهما.
اندفعت المركبة بسرعة هائلة ثمّ أبطأت لينطلق صوت الرائد يرطن بالعربيّة المشوبة بالجنيّة:
«إذا شئت أن تلقي نظرة على القمر يا مولاي فنحن الآن في مداره»
«هل بلغنا القمر أيتها الأميرة؟»
«نعم يا مولاي، ولو لم يبطئ الرائد لكنّا الآن في مدار الزهرة!»
ألقى الأديب لقمان نظرة على القمر، كانت الأسلحة تنتظم في صفوف هائلة الطول والعرض. وكادت أن تغطّي سطح القمر، وقد وضع كلّ نوع على حدة.
تساءل ملك الملوك وهو ينظر من نافذة أيضاً:
«لم أكن أتصوّر أن لديكم كل هذه الأسلحة يا مولاي، سلاحنا كان بسيطاً في عهد سليمان»
«أين أنت وأين سليمان أيّها الملك، فنحن الآن في عهد زنّيم»
وأشار إليهم لمتابعة الانطلاق نحو الزُّهرة.
ندّت حركة ما في المركبة، فاندفعت بسرعة هائلة. وبدلاً من الإحساس بهذه السرعة، شعر الأديب لقمان بعد لحظات وكأن المركبة توقفت، حاول طرد بعض التساؤلات من مخيّلته فلم يُفلح، فراح يستجمع معلوماته البسيطة عن الكون والسرعة وقوانين الجاذبيّة وما إلى ذلك، ليجد نفسه يغرق في متاهة لن يخرج منها عاقلاً. فقرر تناسي كل شيء والاستسلام للأقدار الجنيّة! بل إنه أقسم في نفسه ألا يتساءل حتى لو رأى نفسه يتناول طعام الغداء في أتون الشمس دون أن يحترق، أو يرى نفسه يسير بخطىً ثابتة على كوكب ما، مع أنّه غدا بوزن الريشة.
ألقى يده فوق يد الأميرة نور السماء وحاول أن يغفو بعض الوقت. لم يكد يغفو حتّى هاجمته الأحلام الفظيعة. رأى سكّان الأرض يُغزون من قبل قوة كونية جبّارة مسلّحة بأسلحة فتاكة ولا يجدون السلاح للدفاع عن أنفسهم. صواريخ عملاقة تدكّ عواصم العالم لتحيلها إلى ركام.
استيقظ مذعوراً حين كانت باريس تدمرّ على مرأى منه. نظر إلى جانبه، يده ما تزال مُلقاة على يد الأميرة نور السماء، والملك شمنهور يجلس على مائدته يداعب بعض الجنيّات فيما أخريات يُدللنه ويتراقصن من حوله.
«ما بك يا مولاي؟»
«يبدو أنّه لا سبيل إلى النوم أيّتها الأميرة، ويبدو أنني اتخذت قراراً أحمق بنزع أسلحة دول الأرض ووضع القواعد تحت سلطة الجن. أليس في ميسوري الاتصال بالأرض أو مشاهدتها لمعرفة ما يجري؟»
«سأنقل رغبتكم إلى قائد المركبة يا مولاي»
وأخذت جهازاً صغيراً راحت تخاطب عبره قائد المركبة.
«إنه يحاول يا مولاي»
أخذت بعض السّتائر المعلقة على جدارن المقصورة تنفتح يُمنة ويسرة أو إلى أعلى، لتبدو عشرات الأجهزة والكاميرات المبثوثة في الجدران، وشاشة شبه تلفزيونية في مواجهته. ظهرت بعض الصّور المختلفة لكوكب الأرض على الشاشة.
انطلق صوت قائد المركبة:
«استطعنا السيطرة على كافة محطّات البث التلفزيوني في كوكب الأرض، ليأمُر مولاي، ماذا يُريد أن يرى؟»
«أرني موسكو أيها القائد»
«هاهي موسكو يا مولاي!»
ظهرت موسكو على الشاشة ببعض شوارعها وأحيائها: هاهي الساحة الحمراء، الكرملين، البولشوي، المتحف، جامعة موسكو، شارع جوركي، الناس يتجوّلون وليس ثمة ما يشير إلى وجود حرب. مرّت في مخيّلة الأديب لقمان بعض صور ذكرياته الجميلة في المدينة.
«حسناً فعلت أيها الرائد، أرني باريس ولندن وبكّين وواشنطن ونيويورك ودلهي ودمشق وبيروت وبغداد وطهران والقدس!»
راحت صور العواصم تظهر على التوالي، لم يبدُ هُناك ما يعكّر صفوها، اطمأن الأديب لقمان وهو يحاول إقناع نفسه أنه حمَّل حُلمه ما لم يكن وارداً أن يحدث، وأنه مجرّد حلم عابر لا غير.
كانت صور المدن والعواصم ما تزال تتوالى بمرافقة عزف أجش على الناي! أبدى الأديب لقمان رغبته إلى الأميرة نور السماء في أن تقوم ببث رسالة إلى أبناء كوكب الأرض، فأبدت حماسها وسرورها، غير أن الأديب لقمان طلب أن تبث الكلمة إلى الشّعوب عبر أجهزة التلفاز والراديو حسب لغة كل شعب وفي آن واحد، ولم يكن قادراً على تنفيذ هذه المهمة المعقدة إلا ملك الملوك، الذي كان قد حمل نساءَ ه ودخل بهن إلى مقصورة فـي المركبة كي يبتعد عـن أعين الأديب لقمان والأميرة نور السماء. خاطبته الأميرة بالتخاطر الجنيّ طالبة إليه الحضور، فقدم على الفور شبه عارٍ:
«اعذرني يا مولاي، ثلاثة آلاف عام، لا أراك الله عذابات سجني، الحياة دون نساء الجن والإنس لا تطاق، أليس كذلك يا مولاي؟»
«لا أعرف أيها الملك، فأنا لم أعرف نساء الجن بعد، أما نساء الإنس فكنت أمضي أعواماً في بعض سنيّ عُمري دون أن أتمكّن من مواصلة إحداهن، ومع ذلك كنت أحتمل الحياة، وإن شعرت أنه يتاح للحيوانات أن تمارس حقّها الكامل فيها بشكل استحال عليّ أن أرقى إليه، ثمّ إنني الآن في أمر البشريّة ولست في أمر النساء»
«مُرني يا مولاي»
«سخّر لي طاقاتك الجبّارة لنقل كلمة إلى البشرية بكل لغات العالم في آن واحد»
صمت ملك الملوك لحظة هو يفرك عينيه ويهرش رأسه وما لبث أن هتف:
«لا أعرف كيف يمكن أن يتم هذا، ولا أعرف كيف يخطر على بال مولاي مثل هذه الطلبات المعقدة، ولا أعرف أيضاً لماذا يقلقه مصير البشرية بهذا القدر. نفّذت أمرك يا مولاي يمكنك مخاطبة بشريّتك بكل لغاتها الحيّة، هل أستطيع العودة إلى فتياتي يا مولاي، تركتهن كما خلقهن الله، إنها المرة الأولى في الفضاء الخارجي وبعد..»
«وبعد ثلاثة آلاف عام، لقد عرفت ذلك أيّها الملك»
«وقد لا تتكرر يا مولاي!»
راح الأديب لقمان يضحك من طرافة ملك الملوك ولا مبالاته العجيبة، والبساطة الشديدة التي يحقق بها المعجزات التي يطلبها منه، حتى ليبدو عليه وكأنه لم يفعل شيئاً، أو لم يطلب شيئاً من أحد.
هتفت الأميرة نور السماء:
«لقد دخلنا مدار الزهرة يا مولاي، هل نهبط على الكوكب أم ندور حوله؟»
« لنبق في الفضاء إلى أن نوجّه الرسالة، ليخفف السرعة»
«أشرت إليه يا مولاي»
«حسناً أيتها الأميرة، ستظهرين وحدك على شاشة التلفاز وتوجهين الرسالة التي سأنقلها لك»
«ليكن يا مولاي»
وراح ينقّلها ما ستقوله، ليجد أنها حفظت كل جملة بمجرّد انتهائه منها، وحفظت الرسالة كُلّها قبل الظهور على الشاشة.
سُلطَت إحدى الكاميرات عليها. اختفت صور مدن الأرض عن الشاشة لتظهر صورتها، ابتسمت بمودّة، وظلّت صامتة للحظة فيما ابتسامتها تحلّق عبر الشاشة لتضفي عليها روعة أخّاذة. نطقت بصوت عذب:
«أعزاؤنا أبناء كوكب الأرض. بالسلام نحييكم وبالمحبّة نلقاكم، وبالأمل المشرق نطلُّ عليكم ونمدُّ أيدينا بالورود لكم. نحن رسل الخلاص البشري. رسل المحبّة والسلام. رسل المعذّبين واليائسين، رسل البائسين والمشرّدين والفقراء والجوعى. رسل الثكلى والحزانى والأيتام والمرضى، رسل الحق والحرية والعدالة، رسل الطامحين إلى المحبّة والسلام بين بني البشر، رسل الباحثين عن الخلود الإنساني، رسل رافعي ناموس العلم والمعرفة، رسل محبّي الحياة، رسل الساعين إلى الجمال الأسمى، رسل الطامحين إلى الكمال، رسل الهادفين إلى وحدة البشر على كوكب الأرض، رسل المكدّين للرقي بمكانة الإنسان.
أيها الأعزاء.. نحن لسنا آلهة ولسنا أنبياء، نحن بشر مثلكم، شاءَت الظروف أن نفوقكم علماً ومعرفة، ومعذرة إذا ما اضطررنا مرغمين إلى السيطرة على أجهزة بثّكم الإذاعية والتلفزيونيـة لبضع دقائق كي نبلّغ رسـالتنا لكم.
ويسرّنا أيها الأحبة أن نعلن لكم بدء عصر جديد هذا اليوم، بعد أن قامت قوّاتنا الخفيّة بنزع سلاح دول الأرض كافة ونقلته إلى القمر. ووضعت محطّات وقواعد أسلحة الدَّمار الشامل وجميع مصانع السلاح تحت سيطرتها، دون أن تريق نقطة دمٍ واحدة من دماء أبناء الأرض الأعزاء.
لقد ولّى عهد الرّصاصة أيها الأحبّة وجاء عهد الكلمة، فتحاوروا وتناقشوا، وتشاجروا بالكلمة إن شئتم، وليكن شعاركم المحبة، ونبذ الكره ووأد الفساد وإصلاح النّفس، ولتكن غايتكم الرّقي بالعدالة الإنسانية ونشدان المعرفة وتطوير العلوم.
استمعوا إلى العُظماء من الأدباء فيكم، والعلماء بينكم، والفلاسفة منكم، ولا تأخذوا كثيراً برأي الحكام والكهنة والطّوائف والأحزاب، وأصحاب رؤوس الأموال، فهم في الغالب ليسوا على حق.
إننا إذ نودّعكم أيّها الأحبة على أمل اللقاء بكم، لن ندعوكم إلا إلى ما دعاكم إليه العظماء من آلهتكم ورسلكم وأنبيائكم وقادتكم ومصلحيكم من قبل، فأحبّوا بعضكم، أحبّوا بعضكم، ومعذرة مرّة أخرى لاضطرارنا إلى استغلال أجهزتكم ومحطّاتكم.
بالمحبّة لاقيناكم.. وبالمحبّة نودّعكم.. »
أحبّتكم: رسل الخلاص!
وأشار الأديب لقمان بيده، فاختفت صورة الأميرة نور السماء من على الشاشة وألغيت السيطرة ليعود البثّ الأرضي العادي.
عانق الأميرة مهنئاً إيّاها لنجاحها الفائق في تقديم الرّسالة.
ظهرت على الشاشة صورة مذيع عربي. اعتذر من المشاهدين معتبراً ما جرى مجرّد خلل فنّي، غير أن الحيرة التي كانـت مرتـسمة عـلـى وجهه فضحت زيفه، خاصة حين أعلن أنّه سيترك المشاهدين مع آيات من الذكر الحكيم!
أشار الأديب لقمان إلى الأميرة نور السماء أن تبحث عن محطّة أخرى. توالت بعض الصور، ظهر الرئيس كلينتون وإلى جانبه وزير الدفاع الأمريكي على الشاشة، أشار إليها بالتوقف.
أكد الرئيس كلينتون للعالم أن ما جرى ليس خيالاً بل حقيقة، وأن كوكب الأرض واقع الآن تحت هيمنة قوى كونية متفوّقة مجهولة وغير ديمقراطية! وليس أمام العالم إلا الاتحاد لمواجهتها، وحين سُئل عمّا يقصد بمواجهتها وعدم ديمقراطيتها، وكيف يمكن أن يتم اتّحاد دول الأرض، أجاب بأنه لابُدّ من فعل شيء كإعلان موقف موحّد لدول العالم، وأنها ليست ديمقراطية لأنها تريد أن تفرض إرادتها على سكّان الأرض دون أخذ رأيهم، أما عن الاتحاد فيمكن أن يتم بتوحيد الدّول كافة وانتخاب زعيم للعالم!
وانسحب الرّئيس كلينتون تاركاً الحديث لوزير الدّفاع الذي أعلن أسفه لنزع السّلاح بالقوة، حتى وإن كانت قوّة سلميّة وأكّد أن المعلومات التي وصلت من الشرق الأوسط عن هبوط وإقلاع مركبة فضائية عملاقة يرافقها آلاف الجنود الطائرين، هي معلومات مؤكدة، إذ أن أجهزة الرّصد الأمريكية شاهدت ذلك بالفعل، ولم تقدر على فعل شيء، لأن السلاح كان قد وضع تحت السيطرة أو نزع من القوّات، وأعلن الوزير عن اعتقاده أن هذه المركبة لابدّ وأن تكون قد اصطحبت معها بشراً، وأن البيان الذي بُثّ للعالم قد يكون من فعلهم! وأبدى دهشته لهذه المعجزة التي جعلت البشر يسمعون الفتاة كُلّ بلغته، وأكّد أن هذه المسألة يستحيل أن تحدث علميّاً، مما يشير إلى قوى خارقة، قد تكون إلهيّة، وهي التي قامت بنزع الأسلحة بطريقة لا يتصوّرها العقل البشري.
ولم يجب وزير الدّفاع سوى عن سؤال واحد يتعلّق بالكيفية التي تسيطر بها هـذه الـقـوى على المصانع وأسـلحة الـدّمار الـشـامل، إذ قال: ثمـة قـوّة خفيّة تصد المرء عن أي شيء حربي يحاول مدَّ يده إليه، حتّى لو كان زرّاً في جهاز إلكتروني، ولم يعد أمام العاملين سوى مغادرة مواقع عملهم، وانسحب الوزير معتذراً عن الإجابة على أية أسئلة أخرى.
ظهرت على الشاشة مقابلة مع شُرطي أمريكي يتحدّث كيف سُلِبَ منه مسدّسه، قال:
«أحسست بحركة ماتصطدم بقراب المسدّس، وحين نظرت رأيت القراب يٌفتّح والمسدّس يخرج، اعتقدت أنّها يدٌ شيطانية، مددت يدي لأقبض عليها، لكني لم أقبض غير الهواء، وتابعت المسدّس وهو يبتعد، ولم تمر سوى لحظة حين شاهدت آلاف المسدّسات والبنادق الطائرة في سماء نيويورك»
همست الأميرة نور السماء معلنة أن رائد المركبة هبط على كوكب الزهرة. أشار الأديب لقمان إليها أن تمهله قليلاً ليتابع ما يراه على الشاشة، وطلب كأس بيرة.
ظهر ضابط أمريكي وراح يتحدّث كيف سلبت دبّابته:
«كنت أجلس في دبّابتي أدخّن سيجارة حشيش، أحسست بيد خفيّة تدغدغ خدّي ثم تحملني بلطف وتضعني إلى جانب الدّبابة، وخلال لحظة شاهدت الدّبابة تطير وهي تنقلب رأساً على عقب.
اعتقدت أنّ ما يجري هو محض خيال بتأثير سيجارة الحشيش، فرُحت أضحك، وحين شاهدت كل دبّابات القاعدة وآلياتها ومدافعها تطير في السّماء وكأنّ عاصفة تقذف بها، أغرقت في الضحك، وحين شاهدت الجنود والضباط ينظرون إلى السماء هلعين مذعورين، تبوّلت على نفسي من شدّة الضحك، أما حين صفعّني أحدهم كفّاً وهو يتساءل عمّا يضحكني وينعتني بالأحمق، كدت أموت من الضحك، لأنني أدركت أنه لا يستطيع أن يتخيّل الصورة التي أراها، ويبدو أنّه أُغمي عليّ من الضحك بعد ذلك، ولم أستيقظ إلا في المستشفى، لأدرك أنّ ما جـرى حقيقة وليـس خيالاً أو وهماً مبعثه سـيجارة الحشيش.
وحين سُئل الضابط عن شعوره الآن، أجاب أنّه سعيد وفرح جداً لأنه لن يقتل أحداً بعد اليوم، وأن لحظات السّعادة التي أحسّ بها حينئذ كانت أمتع لحظات حياته، غير أنّه استدرك مشيراً إلى أنّه لو لم يكن واقعاً تحت تأثير سيجارة الحشيش لما أحسّ بالسعادة والفرح إلى هذا الحد، ولما عاش هذه اللحظات الممتعة التي يستحيل أن تنسى، كما عاشها وبهذه الصورة.
وحين استفسرت منه المذيعة أن يوضّح ما يقصده أجاب:
«كنت أظن أن ما يجري هو من فعل خيالي وحدي، وأنّه نابع من ذاتي ويعبّر عن رغبات في نفسي، وأن الناس لا يرونه مثلي ولا يشعرون به طبعاً!»
ضابط آخر لم يكن محششاً أجاب أنه أصيب بالهلع وكاد أن يجن وهو يرى السلاح الأمريكي يقذف بعيداً في السماء، وأنه الآن ليس سعيداً وليس غاضباً طالما أن السلاح نُزع من الأرض كُلّها.
وراحت المذيعة تتحدث عن الهلع وعشرات آلاف حالات الانهيار العصبي المتفاوتة التي أصابت كثيرين من الناس في العالم.
انقبض الأديب لقمان للحظات، ولم يأخذ راحته إلا بعد أن أكّدت المذيعة أنّ كافة الحالات تمكن معالجتها بسهولة.
ظهرت مذيعة أخرى لتقدّم بعض الصّور التي أُمكن أخذها للمركبة وللكيفية التي نزع بها السِّلاح، فراحت الشاشة تعرض آلاف أنواع الأسلحة الحربيّة المتقاذفة في الفضاء. كانت مشاهد خياليّة حقاً، وأشبه ما تكون بعواصف هوجاء تقذف بكل هذا الرّكام إلى الأعالي.
ابتسم الأديب لقمان وهو يتمنّى في سرّه أن يكون كل هذا الذي يجري حقيقة، وأن لا يستيقظ لحظة ليدرك أنّه مجرّد خيال أو حلم عجيب طويل.
أخبر الأميرة أنّه جائع وأنّه يفضّل تناول الغداء داخل المركبة لأنه يريد متابعة مـا يجري عـلى كوكب الأرض. وألقى نظـرة عـلى سـاعته ليـدرك أنّـه لـم يعد لتوقيتها هُنا أي معنى لاختلافه عن توقيت الأرض.
جاءت مضيفة المركبة وسألت عما يحبّون أن يأكلوا، فقال الأديب لقمان «أي شيء» وتابع ما تبثّه الشاشة.
انتهت مشاهد نزع السّلاح وأعلنت المذيعة أنهم سيعيدون عرض تسجيل الكلمة الموجهة إلى كوكب الأرض كما أذاعتها الفتاة «ساحرة الجمال» التي ظهرت على الشاشة.
«إنهم يقولون عنك «الفتاة ساحرة الجمال» أيتها الأميرة»
«وهل أنا كذلك يا مولاي؟»
«أنتِ تعرفين ذلك أيتها الأميرة»
«آمل أن أظلَّ ساحرة في عينيك يا مولاي»
«بل ساحرتي أيضاً أيتها الأميرة»
وامتدت مائدة كبيرة عليها أنواع متعددة من الأطعمة والمشروبات. أبدى الأديب لقمان رغبته في أن يتناول الجميع الطعام معه ونهض ليجلس إلى المائدة. أحسّ أن وزنه قد نقص قرابة عشر كيلو غرامات، لابدّ أن هذا حدث نتيجة لجاذبية الزهرة التي تقل عن جاذبية الأرض. وكانت الحرارة مرتفعة بعض الشيء، وشعر أن تنفّسه لم يعد كما يرام، ويبدو أن الجن لم يشعروا بما كان يشعر به. أوعز إلى قائد المركبة فاتخذ إجراءات سريعة لمعالجة الأمر، حتى عاد الجو وكأنّه على الأرض.
فوجئ الأديب لقمان بأكثر من مائة جنّي وجنّية يعملون على المركبة.
أفردت موائد لاستيعاب الجميع، وما أن جلسوا حتى رفع الأديب لقمان كأسه وشرب نخبهم.
كانت الأميرة نور السماء بادية على الشاشة وهي تقدّم الرسالة.
سألها الأديب لقمان:
«ما رأيك بكلمات الرسالة أيّتها الأميرة؟»
«إنها جميلة ومعبّرة وتبعث الطمأنينة في نفوس الناس يا مولاي»
«وأنت أيّها الملك ما رأيك؟»
«أرى أنها تحمل إلى الناس من المحبّة ما هو أكثر من الممكن، وتدعو إلى المحبّة بما هو أكثر من الممكن أيضاً، وتطالب بتحقيق محبّة غير ممكنة!»
«لِمَ أنت متشائم أيها الملك؟»
«عشت ثلاثة آلاف عام هي نصف عمري خارج السّجن. لم أرَ فيهما إلا القتل وسفك الدماء حتى من الآلهة أنفسهم، ولم يحقق أحد المحبّة التي كان يسعى إليها بعض الآلهة الآخرين، وأظن أن تجربة البشر في ثلاثة آلاف الأعوام التي قضيتها في السجن لم تغيّر من الأمر شيئاً، رغم دعوات الآلهة والأنبياء والرّسل اللاحقين!»
«كان ذلك في القدم أيها الملك، أما الآن وبعد أن عانت الأمم من ويلات الحروب أظنّ أن الأمر سيختلف، وقد تحقق البشرية بالمحبّة ما لم تحققه يوماً بالحروب»
«لا أظن يا مولاي أنّه يمكن تحقيق المحبة بالمحبّة؟!»
«ويحك أيها الملك، وهل يمكن تحقيق المحبة بالحرب؟!»
«لا يا مولاي، وبالحرب أيضاً لن تتحقق المحبة»
«بمَ إذن أيها الملك؟»
«يبدو لي أن الحياة ستبقى كما هي عليه يا مولاي. حب وحرب، سعادة وشقاء، ورد وشوك، حريّة وسجن، عدالة وظلم، وإذا كنت تحبّني فإن محبّتي لن تحول دون أن يأتي أحد ما ويعيدني إلى قمقمي الرّهيب أو يسخّرني لفعل الشّر!»
«آه أيها الملك، أنت حقاً لم تؤمن بي بعد، أو أنّك لم تأخذ برسالتي، وإلاّ لما أثقلت على نفسي برؤيتك الظّلامية»
«عفواً يـا مولاي، لم أؤمن بإنـسي كما آمنت بـك، ولـم أُخلص لإنـسي كـما أخلصت لك، وقد عاهدتك على الوفاء، وسأعمل على أن أظلّ وفياً لك حتى بعد موتك، وما رأيي يا مولاي إلا رؤيةً لِما مضى وما يدور الآن، وما قد يدور في المستقبل رغماً عنّي وعنك!»
«نحن نحاول أيها الملك، لعلّ معشر البشر يحققون المحبّة وكل ما هو أسمى للحياة، بالمحبّة ذاتها، وهم حتى لو فشلوا لن يخسروا شيئاً، ولن تسفك دماؤهم كما فعلت الحروب»
«وكيف يمكن أن يتغلّبوا على نوازع الشر وشهوة الانتقام في نفوسهم يا مولاي؟»
«بالسّعي إلى المحبّة ونبذ الكره والحقد، والسيطرة على نوازع الشر، والتغلّب على رغبة الانتقام، كما أحاول أنا وأسعى لأن أسيطر وأتغلّب، لو تعرف كم أحمل في بطينتي من نوازع ورغبات تدميريّة هائلة، لم تكن تتيح لي الإخلاد إلى النوم إلا على صواريخ عملاقة أتخيّلها تدك تل أبيب وواشنطن ولندن وغيرها من المدن التي كنت أرى فيها موطناً للظلم. كنت أرى نفسي أشنق بعض الزعماء من أرجلهم، وأُجلس الانتهازيين والمنافقين والطّواغيت على الخوازيق، وأمسخ بعض الأدباء والسُّفهاء إلى جراذين وقطط، وبعض رجال الدين إلى خنازير وأبقار، والنصّابين والمحتالين واللصوص إلى قرود وكلاب، والحق أن هذه النوازع ماتزال تضجُّ في دخيلتي وتقضُّ مضجعي، غير أنني أُحاول بكل طاقتي قتلها ونبذها، أو السيطرة والتغلّب عليها، أو حتى سحقها إن استطعت، وأظنّ أن البشر إذا لم ينووا قتل نوازع الشر في دواخلهم، لن يتمكّنوا من إحلال المحبّة في نفوسهم والسّعي إليها بها، وبها فقط، وهذا ما أُحاول أن أفعله، لعلَّ المحبّة تفعل ما لم ولن تفعله الحروب، وإني لمتفائل بذلك، وأكاد أرى حياة جديدة ومستقبلاً جميلاً ينتظر البشرية»
«لا تنفعل يا مولاي، أعدكم أنني سأظلُّ مخلصاً لكم وسأعمل بكلِّ قواي على تحقيق أمنياتكم»
«أشكرك أيها الملك»
«نخب مولاي!»
ورفع الأديب لقمان كأس بيرة فيما رفع ملك الملوك جرّة من الخمر المعتّق وأفرغها في جوفه.
«معذرة يا مولاي، يبدو أنني لن أتمكّن من ترك الخمر حسب ما يمليه عليّ الدين الإسلامي!»
«هذه مشكلتك وليست مشكلتي أيها الملك!»
«ألم تكن مسلماً يا مولاي قبل أن تصبح نورانياً؟»
«بل ومازلت حسب هويّتي وانتمائي أيها الملك، لكنّي قد أُعتبر في نظر بعض المتديّنين مرتداً عن الإسلام، وعقوبتي هي الإعدام»
«الإعدام يا مولاي؟»
«نعم أيها الملك الإعدام»
«وهل كل المسلمين يتقيّدون بعدم شرب الخمر، والإيمان بالله يا مولاي؟»
«لا أيها الملك، فهناك الملايين ممن يسكرون، وهناك الآلاف ممن ألحدوا رغم اعتقادهم بوجود الله! لكن الإسلام ليس الامتناع عن الخمر وحسب أيها الملك»
«عن ماذا أيضاً يا مولاي؟»
«عن أكل لحم الخنزير مثلاً»
«أوه يا مولاي، لِمَ لمْ تخبرني من قبل، فنحن الآن نأكل لحم خنزير؟»
«لم أعرف أنّ على المائدة لحم خنزير، ثمّ إنني أشرت إليك بعدم تناول الخمر ولم تذعن إليّ، ولا أظن أنّك قادر على التقيّد بأي ركن من أركان الإسلام أيها الملك!»
«وما هي أركانه يا مولاي؟»
«عدا الشهادتين عليك أن تصوم وتصلّي وتحجّ إلـى البيت الحرام وتزكّي»
«أصوم يا مولاي؟ أي لا آكل ولا أشرب؟»
«أجل أيها الملك تصوم طوال النهار لمدّة شهر وخلال ذلك ينبغي عليك ألا تضاجع النساء أيضاً»
«مولاي أنت تقسو عليّ ولا تراعي آلاف السِّنين القاسية التي أمضيتها في قمقم سليمان!»
«أنا أقسو عليك أيها الملك؟ أنت الذي أردت أن تكون مسلماً، وكان في مقدورك أن تظلّ على عبادة «إيل» أو حتى «يهوه» الذي ربّما غضب عليك وقد ينتقم منك لدخولك الإسلام!»
«لا يا مولاي، سأدخل الإسلام، نحن معشر الجن اعتدنا تغيير ديننا، وإذا ارتكبت بعض المعاصي أرجو أن يسامحني الله.. هل هُناك أشياء أُخرى يتوجّب علي الامتناع عنها يا مولاي؟»
«أشياء كثيرة أيّها الملك، من أهمّها، ألا تقتل النّفس التي حرّم الله إلا بالحق، وألا تسرق، وألا تنكح المقرّبات إليك، كأمك وأختك وبنتك وخالتك وعمّتك»
«لكن أجدادكم القدماء كانوا ينكحونهن يا مولاي، ونحن مانزال ننكحهن حين نريد ذلك!»
«لقد حرّم الإسلام ذلك، وإذا تريد أن تصبح مسلماً حقاً عليك أن تبلّغ قومك وكفاكم ارتكاب حماقات!»
«سأفعل يا مولاي»
فرغوا من تناول الطعام، أبدى الأديب لقمان رغبته في الخروج من المركبة ومشاهدة المكان، سأل رائد المركبة عن الطّقس في الخارج، أخبره أنه حار نسبيّاً، لكن السماء ملبّدة بالغيوم، مما يخفف من حرارة الجو.
«وهل ثمة حياة على الكوكب أيها القائد؟»
«نعم يا مولاي، فقد شاهدت وأنا أحلّق عشرات المدن والقرى»
تناسى الأديب لقمان ما يعرفه من معلومات علميّة عن الكوكب تناقض كل ما يجري، وتساءل:
«وماذا عن المكان الذي نحن فيه الآن؟»
«قفرٌ يا مولاي إلا من بعض النباتات الصغيرة المتناثرة»
«لننزل وننظر ما حولنا»
هبط ملك الملوك أوّلاً ثم الأديب لقمان، كان آلاف الحرّاس والمرافقين من الجن يحلّقون في السماء في جماعات جماعات، وكان الطّقس حارّاً رغم أن السماء ملبّدة بالغيوم غير الممطرة، وبدا المكان كما لو أنّه وهدة من كوكب الأرض، أحاطت به بعض التّلال والجبال، وتناثرت فيه النباتات غير المثمرة، لم يذكر الأديب لقمان أنّه شاهد ما يشبه هذه النباتات على الأرض، اقترب من إحداها وانحنى ليشمّها، لم يكن لها أية رائحة. أشار إلى الرائد أن يعود بهم إلى المركبة ليتجوّلوا في سماء الكوكب لاستكشاف أحواله.
جلس إلى جانب الرائد فيما جلست الأميرة نور السماء إلى يمينه، أقلعت المركبة بسرعة تمكّنه من الرؤية، ظهرت سلسلة من الجبال المكسوّة بالغابات، حلّق الرائد فوقها لبعض الوقت فيما أخذ الأديب لقمان يرقبها بمنظار، لم تكن غريبة عن الأشجار التي تنبت على الأرض، وحين دقق النظر شاهد حيوانات تشبه إلى حد كبير الحيوانات الموجودة على الأرض، ورأى نهراً يخترق الغابات يصبُّ في بحر شاسع، بدت على مقربة من شواطئه بعض القرى المتناثرة على سفوح الجبال، كانت تشبه إلى حد كبير قرى كوكب الأرض، لولا أنّ سطوحها كانت مخروطية ومدببة، وبدت في البحر بعض السّفن والقوارب. أشار إلى الرائد أن يهبط بالمركبة أكثر، شاهد بشراً سوداً وسمراً يشبهون أبناء الأرض غير أن حجومهم كانت أكبر بمقدار يسير.
تساءلت الأميرة نور السماء عن سبب كبر حجومهم، فأجابها الأديب لقمان واقعياً على الفور:
«ربما لتتناسب حجومهم وحركاتهم مع جاذبيّة أرضهم أيّتها الأميرة!»
وفيما كان يتأملهم عبر المنظار رأى بينهم من يلوّحون لهم بأيديهم، أحسّ بفرح غامر وهو يهتف:
«إنهم أناس مسالمون، ويبدو أنهم لم يرتابوا من ظهورنا»
«فهتفت الأميرة:
«بل إنهم خائفون يا مولاي وينشدون منّا السلام، تأمّل الرُّعب على وجوههم»
دقق الأديب لقمان النظر عبر منظاره ليجزم بما قالته الأميرة، كان ثمة أطفال يصرخون ويعدون هُنا وهُناك مُختبئين، حتّى الذين يلوّحون من الكبار، كان الرعب يرتسم على وجوههم.
أشار إلى قائد المركبة أن يرتفع في الفضاء ويزيد السرعة ليعيد إليهم الطمأنينة.
أخذ القائد يحلّق فوق الكوكب على ارتفاع شاهق، ليشاهدوا مئات المدن والقرى والمطارات وخطوط المواصلات والموانئ، جزم الأديب لقمان أنّه لا يوجد عند سُكان الكوكب ما هو حربي، إذ لم يطلق في اتجاههم شيء، ولم تصعد إليهم أية طائرات حربيّة، ولم تنطلق نحوهم أيّة صواريخ، وهم على الأغلب ليسوا متخلّفين لأن لديهم ما يُشير إلى حضارة حديثة.
تمكّن قائد المركبة من الاتصال بهم، غير أن لغتهم لم تكن مفهومة، وحين تنصّت الأديب لقمان بلغ أسماعه ما يشبه جرس اللغة الفرنسية!
«أين ملك الملوك؟»
«أمر مولاي»
«أين قواك الخارقة؟ ترجم لي هذه اللغة التي تصلنا عبر الجهاز»
«معذرة يا مولاي فقوانا اللغوية لم تدرك حتى الآن إلا لغات الأرض، ولغات الجن والعوالم السُّفلى!»
أدرك الأديب لقمان للحظات أنه في عالم واقعي، إذ لو كان في عالم خيالي لما عجز ملك الملوك عن ترجمة أي لغة!!
«حاول أيها الملك»
«مفاتيح لغة أهل السماوات ليست تحت سيطرتنا يا مولاي!»
«ما العمل؟ لابدّ من وسيلة»
أشارت الأميرة نور السماء بإرسال رسالة لهم بعدّة لغات، فأخبرها القائد أنّه أرسل رسائل بثلاثين لغة من لغات الإنس والجن دون جدوى.
«هل أرسلت بالعربيّة؟»
«أجل يا مولاي»
«متى تعلّمتها؟»
«هذا اليوم يا مولاي!!»
أراد الأديب لقمان أن يعلّق على المسألة، غير أنه لم يفعل لإدراكه أنّه أمام جن يصنعون المعجزات، رغم اعتقادهم أن عقولهم صغيرة.
«هل أرسلت بالفرنسية والإنكليزية والصينية والروسية والإسبانية والألمانية واليابانية؟!»
«أرسلت حتى بالأرديّة والفارسيّة والتركية يا مولاي!»
«ماذا قلت في رسالتك؟»
«نحن ضيوف مسالمون من كوكب الأرض أجيبونا من فضلكم»
«يبدو أننا سنقلع إلى المرّيخ دون الاتصال بهم»
«وهل يهمّك الاتصال بهم يا مولاي؟»
«وكيف لا يهمّني، ربما أجد لديهم أجوبة عن كل الأسئلة التي يضجُّ بها رأسي، ربّما أجد لديهم نظاماً حياتياً متكاملاً وراقياً أفيد منه أبناء الأرض، ولو كنت أعرف أنني سأجد فرصة للعودة إليهم لأجّلت الأمر»
«ولماذا لن تتمكن يا مولاي، يمكننا أن نزورهم بعد أن نعرف الكوكب الذي سنستقر عليه»
«أظن أن أشغالي ستكون كثيرة، ويخالجني إحساس أنني سأقتل على الكوكب الذي سأستقر عليه، وأن الكوكب الذي أمُرّ عنه لن أعود إليه!»
«ومن سيقتلك يا مولاي؟»
«لا أعرف!»
«لن يكون قتلك يسيراً وأنت في حمايتنا يا مولاي»
«لكن ليس مستحيلاً أيتها الأميرة»
وأطرق الأديب لقمان للحظات والمركبة تجوب سماء الزهرة، هتف:
«هل حاولت التقاط أي بث تلفزيوني لديهم أيها الرائد؟»
«لا يا مولاي، سأحاول الآن»
وأخذ يعبث ببعض الأزرار، ظهر أمامه على شاشة صغيرة صورة امرأة تتحدّث بالإنكليزية.
«هذه من كوكب الأرض أيها الرائد، حاول أيضاً»
وظلّ الرائد يحاول إلى أن التقط الإرسال، كان يُعرض على الشاشة ما يبدو أنه فيلم تلفزيوني، أشار الأديب لقمان إلى الرائد أن يسيطر على أجهزة البث والإرسال، وطلب إلى الأميرة أن تردد كلمة «سلام» ببعض لغات العالم.
ظهرت الأميرة نور السماء على الشاشة وهي تبتسم وتلوّح بيدها وتردد «سلام.. سلام.. سلام»
ظهرت على الشاشة فتاة سمراء جميلة تحمل بيدها باقة ورد وغصن زيتون، وهي تردد وتلوّح «سلام.. سلام.. سلام»
«لقد نجحنا أيتها الأميرة»
«وطلب إلى القائد أن يهبط بهدوء في أكبر مدينة يراها، فقد تكون العاصمة، وطلب إلى ملك الملوك أن يبقي الحرّاس والمرافقين مُحلّقين في الفضاء كي لا يرعبوا سكّان الكوكب، وأعلن أنه في حاجة إلى ملابس نظيفة، إذ لا يُعقل أن ينزل على كوكب الزهرة بملابس الانتحار التي كان يرتديها على الأرض.
وانتصبت أمام الأديب لقمان مرآة ليجد نفسه في زي جنرال تنتظم النجوم والتيجان والسّيوف على كتفيه، وتتدلّى على صدره النياشين والأوسمة.
«أعوذ بالله منك أيها الملك، ألم تجد ما هو أفضل من هذا الزي؟ اقذف به عن جسدي إلى الجحيم!»
شرعت الأميرة في الضحك فيما كان الأديب لقمان يقذف بالنياشين إلى الأرض. وبدا ملك الملوك غير موافق على رأي الأديب لقمان، فقد بدا له جنرالاً لم ير مثيلاً له في عهد سليمان. هتف حين أدرك أن لا مجال للجنراليّة:
«وأنا ما أدراني أنّك لا تحب أزياء الجنرالات يا مولاي؟»
شاهد الأديب لقمان نفسه في زيّ ملك يعلو رأسه تاج ضخم من الذّهب، أحسّ أنّه سيكسر عنقه. زفر متأففاً وراح يستنجد بالأميرة نور السماء، متخلّياً عن ملك الملوك وأزيائه السلطويّة.
أصبغت الأميرة عليه زيّاً أبيض أقرب إلى أزياء الرُّهبان، بدا فيه كالملاك لشدّة بياضه.
«هذا معقول أيتها الأميرة وإن كان يُضفي عليّ وقاراً كهنوتياً لا أحبّذه»
تبدّت لهم من مقصورة المركبة مدينة كبيرة ذات أبنية عالية مخروطية الشكل، تتخللها شوارع عريضة تسير فيها حافلات مختلفة الأشكال، كان بعضها يشبه حافلات الأرض إلى حد كبير.
ظهرت في الفضاء طائرة عمودية، يلوّح أحدهم براية حمراء من نافذتها، أدركوا أنّها تشير إليهم أن يتبعوها، قادتهم إلى مطار كبير على مقربة من المدينة وهبطت أمامهم ليهبطوا بعدها.
حين أطلّ الأديب لقمان من باب المركبة شاهد عشرات الأطفال السُّمر يلوّحون بباقات من الورد وأغصان الزيتون، وعلى مسافة من المركبة اصطفّ بضعة رجال ونساء.
لوّح الأديب لقمان بيده محيياً ونزل تتبعه الأميرة نور السماء فملك الملوك فقائد المركبة فالآخرون.
تقدّم رجل طويل كهل تبدو عليه الهيبة، يرتدي الملابس السّود، مَدّ يده مُرحّباً ومصافحاً وهو يهتف بصوت خفيض «سلام» ويرسم على شفتيه ابتسامة.
صافحه الأديب لقمان وتقبّل باقة ورد وغصن زيتون من أحد الأطفال.
كان جميع المستقبلين سوداً وسمراً وطوال القامة، ولم تكن ملامح وجوههم تختلف عن ملامح وجوه سكّان الأرض.
اصطحبوهم إلى صالون ضيافة كبير تزيّنه الرّسوم والمنحوتات والنقوش والثريّات الجميلة المنيرة، وقد فرش بأرائك وثيرة، وبدا جو الصالون أقرب ما يكون إلى جو الأرض، حتّى أن الملابس التي ارتداها السكان بدت أقرب إلى ملابس أهل الأرض.
قدّمت مجموعة من الفتيات شراباً بطعم عصير البرتقال، ولَغَ منه ملك الملوك إبريقاً كاملاً وراح يتأمّل جمال الفتيات السود الذي لم ير له مثيلاً من قبل، وأضمر في نفسه أن يبْدي رغبته فيما بعد للأديب لقمان لعلّه يتيح له مواقعة بعضهن أو واحدة منهن على الأقل.
كان الرجل الكهل يفتح يديه ويبتسم بمودّة بين لحظة وأخرى مُرحّباً، فيحني الأديب لقمان رأسه ويومئ مبتسماً بمودّة بدوره، ونظراً لطول شعر ذقنه وشاربيه فإنّ ابتسامته كانت بالكاد تُلمح من قبل الآخرين.
نظر الأديب لقمان إلى ملك الملوك هامساً:
«لابدّ من حل مشكلة اللغة أيها الملك»
«أعطني صحيفة مكتوبة منها وسأسخّر جميع الجن الذين في الكون لفك رموزها وفهمها يا مولاي»
كان ثمة رجل بين الجالسين يبدو عليه أنّه رجل معرفة، يضع بعض الصّحائف إلى جانبه، أشار إليه الأديب لقمان أن يعطيه واحدة منها، فأعطاه.
بدت أحرفها تجريديّة تماماً، وأقرب ما تكون إلى الحرف اللاتيني، أعطاها لملك الملوك الذي أعطاها بدوره لرائد المركبة، وما أن نظر هذا الأخير إليها وهزّ رأسه موحياً بفهمها حتى أعطاها للأميرة نور السّماء التي أمعنت النظر إليها لبضع لحظات ثمّ راحت تخاطب رجل المعرفة معرّفة بهم.
ارتسمت الدهشة على وجوه الجميع من سُكّان الزهرة، وخاصّة الرّجل الكهل الذي أذهله هذا التطوّر المُدهش لأهل الأرض.
الأديب لقمان، حاول أن يخفي دهشته كي يجنّب نفسه الحديث عن المعجزات أمام سكّان الكوكب، غير أنّه همس إلى ملك الملوك متسائلاً:
«أيّة عبقرية هذه التي أتاحت لكم أن تعلّموا الأميرة لغة مجهولة خلال لحظة أيّها الملك؟»
«ببساطة يا مولاي سخّرت عشرة آلاف عالم من علماء الجن الذين يقولون أنّ ثانية تفكير واحدة لأي واحد منهم تعادل تفكير سنة لعلماء الأرض جميعاً! ثمّ إنّ الأميرة لم تتعلم إلا نطق اللغة يا مولاي ولم تتعلّم قراءتها وكتابتها!»
«وكيف ذلك وهي لم تسمعها بل شاهدتها مكتوبة؟»
«كما أتحدّث معك بالعربيّة دون أن أجيد قراءتها وكتابتها»
«لكن رُبما سمعتها ومارستها من قبل»
«لا لا! لم أسمعها يا مولاي سمعت ما هو قريب منها»
«الحوار معكم معشر الجن حول معجزاتكم يبدو كقبض الريح، ما لا أفهمه أنّكم تظنون أن عقولكم صغيرة»
«عُلماء الجن يا مولاي يقولون أننا لو أردنا أن نحجّم المعرفة لجعلناها بحجم الكون، ووجودنا نحن معشر الجن ليس أكثر من ذرّة رمل في محيط هذا الكون، لذلك فإن معرفتنا لا تتجاوز جزءاً صغيراً جداً من هذه الذرّة!»
ولأول مرة يندهش الأديب لقمان بشكل مغاير، إذ أحسّ أن المتحدّث هو نفسه وليس ملك الملوك.
«علماؤكم عقلانيّون أكثر من علمائنا أيّها الملك، يبدو لي أنني بدأت الآن إدراك أسرار معجزاتكم التي قد تبدو لي إنجازات عقليّة وعقلانية أمام رؤيتك هذه، أو تفسيرك لمعرفتكم، من الآن فصاعداً سأعتبر عقلي صغيراً إلى حد يفوق التصوّر أمام عقولكم!»
«عفواً مولاي»
«لا داعي للمعذرة أيّها الملك»
«كانت الأميرة نور السّماء تتحدّث إلى «رجل المعرفة» ويبدو أنّهما تفاهما بشكل حسن.
«يمكنك أن تبدأ الحديث يا مولاي»
«ماذا تحدثتما أنتِ والرَّجل»
«تعارفنايا مولاي. أخبرته أننا رسل مسالمون من الإنس والجن من كوكب الأرض نبحث عن الحقيقة والكمال والحياة الأسمى، يقودنا أديب من الإنس»
«حسناً فعلتِ»
«أخبرني أنّهم كوكب مسالم، يعيشون في دولة واحدة يبلغ عدد سكانها أربعة مليارات نسمة، يقودهم مجلس رعاية، يرأسه «الراعي الأكبر» الرّجل الجالس إلى يسارك. عن نفسه قال أنّه كبير أعضاء المجلس المعرفي، هذا كل شيء يا مولاي»
أدرك الأديب لقمان أنهم أمّة متقدّمة على أبناء الأرض بقرون، إن لم يكن آلاف السّنين، وشرع يتحدّث إلى الراعي الأكبر، فيما الأميرة نور السماء تترجم:
«يُسعدنا أن نكون بينكم لنتعرّف إليكم ونطلّع على ما بلغتموه من شأو الحضارة الكونيّة، إننا ننتمي إلى كوكب ما يزال يتلمّس طريقه إلى الحضارة، تتنازعه الشّرور والآثام، وتتقاسمه الشّعوب والأمم، وتسفك فيه الدّماء، وتلوّث سماءَ ه وبحاره السّموم، وتستشري فيه الأمراض الفتّاكة، إننا لنأمل أن تفيدونا بتطوّر تاريخكم المعرفي في مختلف شؤون الحياة»
«أهلاً ومرحباً بكم في كوكبنا المسالم، لقد أُسعدنا بحضوركم وتشرّفنا بمعرفة غاياتكم النبيلة، وقد زدتمونا إيماناً بما حققنا وفعلنا على هذا الكوكب الصَّغير، الذي أرهقته الحروب وخرّبت فيه النفوس ذات دهر!
.. يفرحنا قدومكم إلينا ووجودكم بيننا، إذ يثير فينا الأمل والتفاؤل بالمستقبل، لوجود أمم وكواكب تسعى لتفيد من تجارب الكواكب الأخرى، وتقرّب فيما بينها كما نسعى نحن، لقد حال فقر كوكبنا وسعينا إلى رفاه مواطننا دون الاتصال حتى الآن بالكواكب وإقامة علاقات طيّبة معها، ومع ذلك تمكّنا من معرفة بعض الأقمار والنجوم المحيطة بكوكبنا، وتمكّنا من رصد عُطارد، وتبيّن لنا أن لا حياة متقدّمة عليه، بعكس المرّيخ. وكنّا نعرف منذ زمن أنّ ثمّة حياة على كوكبكم، وفشلنا في إيجاد وسيلة للتفاهم معكم، بعد أن أرسلنا بعض المركبات الفضائية إليه. إننا لنأمل طالما أنّكم بلغتم هذا الشأو من القدرة على الاتصال بالكواكب والأكوان الأخرى، أن تحيطونا علماً في المستقبل بأحوال هذه الكواكب والأكوان، وما بلغه شأن الحياة عليها، وبإمكانية التّعاون فيما بيننا وبينها لبلوغ ذرى متقدّمة في المعرفة والرّقي بالحضارة الكونيّة.
ما يدهشني بعض الشيء أيّها الأديب المحترم، وأيها الضيوف الأعزّاء، هذه الفجوة الهائلة بين تفوّقكم العلمي وتخلّفكم الاجتماعي، إذ كيف استطعتم الصعود إلى الكون الشاسع الهائل، وبهذه البساطة في الوقت الذي ماتزال أممكم متخلّفة وتتنازعها الشّرور والآثام؟
كان بإمكاننا أن نفعل أكثر مما فعلنا في مجال الفضاء، لكنّه كان سيتم على حساب قوت أبنائنا ورفاهية أمّتنا، ولكن الآن وبعد أن حققنا تقدّماً مقبولاً في الرّفاه الاجتماعي، أخذنا نسخّر قدراً أكبر من طاقاتنا وقدراتنا لتطوير علوم الفضاء والاتصالات أكثر مما هي عليه»
«شكراً لحديثكم الشيّق والغني أيّها الراعي الأكبر. الحق أن تطوّر بعض شعوبنا جاء بمعزل عن تطوّر الشّعوب الأخرى، وكان في الغالب على حساب هذه الشّعوب، وعلى حساب الشعب المتطوّر نفسه أيضاً، لذلك حصل هذا التّفاوت المعرفي بين التطوّر العلمي والتقدّم الاجتماعي»
«أظن أنّكم متعبون أيّها الأديب، سننقلكم إلى بيت الضيافة، لتأخذوا قسطاً من الراحة. سنلتقي على مائدة العشاء، السيّد «شاهل بيل» كبير أعضاء المجلس المعرفي في كوكبنا، سيتولّى إطلاعكم على كلّ ما تودّون الاطلاع عليه»
نهض «الراعي الأكبر» وأتباعه لينصرفوا، فيما رافق «شاهل بيل» الأديب لقمان ومرافقيه إلى بيت الضيافة. أقلّتهم حافلة شبيهة بقطار صغير يسير بالطاقة الحراريّة، واصطف على جانب الشارع الذي سلكوه آلاف البشر وهم يلوّحون بأيديهم ويرفعون باقات من الورود.
أخبر الأديب لقمان ملك الملوك أنّهم سيؤجلون انطلاقهم إلى المريخ والكواكب الأُخرى إلى أن يطّلع على شيء من تطوّر المعرفة على الزهرة.
أُفرد للأديب لقمان جناح خاص هو والأميرة نور السماء وكذلك لقائد المركبة وملك الملوك، وتوزّع باقي العاملين في المركبة على العديد من غرف بيت الضيافة.
ناموا جميعاً إلى ما قبل طعام العشاء، ماعدا الأديب لقمان الذي كان قلقاً، وساورته بعض الأحلام المضطربة والمشوّشة، فلم ينم إلاّ قرابة ساعتين بتوقيت أهل الأرض، ونهض على أمل أن يلتقي «شاهل بيل» ويطلب إليه أن يحدّثه عن تاريخ الكوكب وحياته المعاصرة.
انتظر إلى أن نهضت الأميرة نور السماء من نومها وأشار إليها باستدعائه.
جلسوا في شرفة بيت الضّيافة يحتسون شراباً ساخناً. كان جنود الجن يحلّقون في السماء أسراباً أسراباً، وقد أطلق سكّان الكوكب بعض الطائرات التي لا تحدث صوتاً، كانت تحلّق في سماء المدينة راسمة مناظر جميلة.
جلست الأميرة نور السماء بين الاثنين وهيّأت نفسها للترجمة، كان رجل المعرفة ينظر إلى جنود الجن بين مصدّق ومكذّب، ويختلس النظرات إلى جمال الأميرة نور السماء بين لحظة وأخرى، دون أن يجزم أيضاً أنه يمكن أن يوجد جمال بهذا القدر الخارق. هتف متردداً:
«نحن أيتها الأميرة لم نعد نؤمن بوجود الجن حسب الصورة الأسطورية التي قدّمت لنا عنهم منذ أكثر من ألف عام ونيّف، ويبدو أن حضوركم بيننا سيجعلنا نعيد النظر في بعض مفاهيمنا، فهل أنتم حقيقة فعلاً؟!»
تدخّل الأديب لقمان متسائلاً عما يقوله رجل المعرفة، فأخبرته الأميرة بالأمر، فلم يعرف ماذا يقول، فهو حتى الآن لا يعرف إذا كان كل ما يجري حقيقة أم خيالاً،!
«بماذا ستجيبين أيتها الأميرة؟»
«بما يشير به عليّ مولاي»
«قولي له ما تشائين»
نطقت الأميرة بضع كلمات أطرق بعدها رجل المعرفة متفكراً لا يلوي على شيء، فسألها الأديب لقمان عمّا قالته له:
«قلت له يا مولاي إذا كان يرى وجودنا الآن حقيقة فنحن حقيقة، وإذا كان يراه خيالاً فنحن خيال!»
«أحسنتِ! لو فكّرت مائة عام لما خطرت لي هذه الإجابة!»
أشاح نظراته نحو رجل المعرفة:
«حدّثني أيها العالم؟»
«عن ماذا أيها الأديب؟»
«عن تطوّر الحياة على كوكبكم، عن معتقداتكم، عن تاريخكم المعاصر، عن حضارتكم، عن كل شيء إذا ليس في الأمر ما يزعجك»
«ليس في الأمر ما يزعج أيها الأديب لقمان، لكن هذا يحتاج إلى زمن طويل»
«لا أظن أنّ الأمر كذلك إذا أجدت الاختصار»
«سأحاول: يرى علماؤنا أن عمر كوكبنا منذ أن انفصل عن الشمس يزيد عن سبعة مليارات من الأعوام – أعوامنا نحن طبعاً – وأن أوائل الحياة بدأت بالظهور عليه منذ حوالي أربعة مليارات من هذه الأعوام، وقد مرّ كوكبنا بكل الدّهور التي مرّت على الكواكب الأخرى. في البدء ظهرت الحياة في الماء، وبعد تشكّل اليابسة انتقلت الحياة إليها، أوّل الكائنات الحيّة كانت تشكّل الخلايا التي ظهر منها النبات ثمّ الحيوان فالإنسان.
وجد الإنسان على كوكبنا منذ قرابة أربعين مليون عام من أعوامنا، ومرّ بأطوار مختلفة استغرقت ملايين السّنين، إلى أن اكتشف النار قبل قرابة مليون سنة، وأدّى اكتشافها إلى إحداث تطوّر هام في حياته. وقبل حوالي مائة ألف عام ظهر على كوكبنا الإنسان العاقل، الذي راح يدجّن الحيوانات، كالماعز والكلاب، ويشذّب الحجارة، ويحفر الكهوف، وينحت التماثيل، وينقش الرّسوم على جدران المغاور والكهوف، ويكتشف الزراعة خلال الأعوام اللاحقة، حتّى توصّل قبل قرابة ثلاثين ألف عام إلى بناء المدن واكتشاف النّحاس والبرونز وبدء الكتابة الرمزية»
«تبدو لي أيها العالم وكأنك تتحدّث عن كوكب الأرض، لولا أسبقيّة التطور لديكم، مع أن سنتكم تقلُّ عن سنتنا حوالي الخُمسين!»
«حتى الآن لم يثبت لدينا أن تطوّر الحياة على كوكب يختلف عنه على كوكب آخر، إلا من حيث التطوّر النوعي المرتبط بالعوامل الجيولوجية والمناخيّة والمكتسبات المعرفيّة فيما بعد. أرسلنا إلى كوكبكم بعض المركبات الفضائيّة، لكننا أدركنا أن التّفاهم معكم مستحيل، حين شاهدنا كثرة الأسلحة التدميرية لديكم، وكثرة الحروب التي فتكت بالملايين من أبناء كوكبكم خلال القرن الحالي وما تزال تفتك، مما يشير إلى أنّكم لم تتفقوا فيما بينكم، فكيف ستتفقون معنا؟ لقد تجاوزنا هذه الحقبة منذ خمسة آلاف عام!!»
«تقصد أنكم لم تتحاربوا فيما بينكم؟»
«بل لم نعد نصنع السلاح على الإطلاق حتى للصيد! نزعناه من الكوكب كُلّه واستخدمناه في كل ما يخدم تقدّمنا وحضارتنا»
أدرك الأديب لقمان أنّ الخطوة التي قام بها على الأرض منذ ساعات سبقه إليها أبناء كوكب الزّهرة منذ حوالي ثلاثة آلاف عام بتوقيت الأرض، أي حين كان سُليمان يسوق الريح إلى سبأ كانوا هُم يبدأون الحضارة ما بعد الحديثة، أو حضارة ما بعد الأساطير والحروب الشرسة! ولأول مرّة في حياته أحسّ الأديب لقمان أنّه متخلّف، وتمنّى في سرّه أن يجد كوكباً في هذا الكون أكثر تخلّفاً من كوكب الأرض البائس أو بمستواه الحضاري على الأقل، لعلّه يُعزّي نفسه بذلك، ولا يرى نفسه صغيراً أمام أبناء الكواكب!!
«زدني علماً ومعرفة بحضارة كوكبكم أيّها العالم»
«نحن نسمّيها حضارة السّلام لكثرة ما عانينا من تخلّف الحروب، لقد مرّ إنساننا بعصور مختلفة عانى فيها أكثر مما عانيتم، وإذا كنتم قد استخدمتم قنبلتين نوويتين في حروبكم، فنحن استعملنا سبعاً! لقد قُتل منّا في الحروب أكثر من نصف مليار إنسان أيها الأديب، بحيث لم تبقَ أمّة من أمم كوكبنا إلا ودفعت ثمناً باهظاً للوصول إلى الحضارة الحديثة»
«عُد لي إلى الوراء أيّها العالم، لا تُضيّع بعض الحقب التاريخية التي مررتم بها، حدّثني عن أديانكم وعن الأمم والحروب بشيء من التفصيل»
«لقد عبد أجدادنا أيها الأديب أوّل ما عبدوا الشمس والأرض وعطارد والمرّيخ!»
«هل عبدتم كوكبنا؟»
«أجل أيها الأديب لقمان!»
«أريد أن أعرف هذه الأسماء كما تُعرف بلغتهم أيتها الأميرة»
«الأرض يُطلقون عليها «إرد» والشمس «زوس» والمرّيخ «لميش» وعطارد «أنارد» أما كوكبهم الزهرة، فيسمّونه «سوهار»!»
«حسناً، وهل أقام أجدادكم معابد لها على الأرض؟»
«أجل أيها الأديب، أقاموا لها معابد، كانوا يمارسون فيها طقوساً من الجنس الجماعي للتقرّب إليها، كما أقاموا لها نُصباً وتماثيل، وأصبغوا عليها بعض الرّموز، واشتقّوا منها آلهة أُخرى، للأرض والسماء والعواصف والأمطار والأنهار والبحار والخير والشر والحب والحكمة والنار والعوالم السّفلى والعوالم العُليا وما إلى ذلك، وراحوا يتنازعون عليها، فهؤلاء يعزون هذا الإله لهم، وهؤلاء يعزونه لهم، فدارت بينهم الحروب، وكل شعب ينتصر يسوق فتيات وأبناء الشّعب الآخر ويقدّمهم قرابين للآلهة! ومن أفظع ما وصَل إلينا أنه قدّم في يوم واحد مليون ضحيّة للإله «كون» قطعت رؤوسهم جميعاً ثمّ أحرقت جثثهم! وحين كانت شعوبنا تفني بعضها كانت تقدّم أبناءها وبناتها كقرابين.
في عصور لاحقة، أخذت بعض شعوبنا ترفع زعماءَ ها إلى مراتب الآلهة، وخاصّة بعد موتهم، إلى أن ظهرت لدينا ديانات توحيدية سماويّة وغير سماويّة، حيث ظهر عندنا أكثر من ألف نبي ومرسل ومصلح اجتماعي، وكم من حروب طاحنة دارت بين أمم هذه الأديان، إلى أن أخذ كلّ دين ينشق على نفسه حسب الصّراعات التي كانت تدور بين شعوب الأمة نفسها وأديانها حسب فهم كل طائفة وفقاً للدين نفسه.
قبل حوالي عشرة آلاف عام بدأ عندنا ظهور الأدباء والفلاسفة والعلماء الذين لا يؤمنون بوجود آلهة بالمعاني السابقة، فأعدم معظمهم على الخوازيق أو قطعت رؤوسهم، وبعضهم قطعت ألسنتهم أو قوائمهم أو صُلبوا، أو دفنوا أحياء أو جلدوا حتى الموت كي يرتدعوا، غير أن كل هذه الفظائع لم تحد من تطوّر الفكر الواقعي عبر العصور، ومنذ حوالي سبعة آلاف سنة ونحن لا نعبد أحداً، ولا ننتظر جنّة ولا ناراً، فالجنّة والنار موجودان على كوكبنا، فإمّا أن نجعل منه جنّة أو نحوّله إلى نار تلتهمنا!
لم نحقق هذه الخطوات في اتجاه الجنة بيسر، فقد عشنا أكثر من ألف عام ونحن نطوّر آلة الحرب إلى أن أصبحت مرعبة إلى حدود الخيال، بحيث أصبح في مقدورها أن تدمّر كوكبنا وكوكب الأرض وكوكبي عطارد والمريخ مائة مرّة! وكم من الشعوب الفقيرة التي أبيدت عن آخرها على كوكبنا من جرّاء هذه الآلة الفظيعة، إلى أن ارتفع صوت العقل بين أممنا وشعوبنا التي كانت تعيش في أكثر من مائة وسبعين دولة. وبعد خمسمائة عام من طرح فكرة السلام وتوحيد شعوب الكوكب، تحقق الحلم. كان ذلك منذ خمسة آلاف عام، وما يزال هذا اليوم الرّمزي عيداً قومياً لدينا»
«ماذا عن تطوّركم الاجتماعي والاقتصادي أيها العالم، هل مررتم بعصور المشاعيّة والرّق والإقطاع والبورجوازية والرأسمالية والإمبريالية؟!»
«نعم أيها الأديب، مررنا بكل هذه العصور، وقد وصل التطوّر الرأسمالي لدى بعض دولنا إلى درجات هائلة من الثراء، مما دفع بعض هذه الدّول إلى المطالبة بالحد من رأس المال وفرض الضّرائب الباهظة عليه، غير أن ذلك لم يحد من مشاكل كل دولة، فلجأت بعض الدول إلى رأسمالية الدولة، بتأميم الصّناعة والتجارة والزراعة ووضعها تحت سيطرتها»
«ولم ينجح هذا النظام؟»
«بل انهار انهياراً فظيعاً، رغم أنّه حقق إنجازات جيدة»
«ولِمَ انهار هذا النّظام؟»
«لأنه لم يعرف كيف يعدِل بين مواطنيه، وكانت الأغلبية الساحقة تعيش دون مستوى الفقر، بينما الدولة تعيش ثراءً فاحشاً.
بعض الدول النامية اختارت الطّريقين، رأس المال الحُر الذي يملكه الناس، ورأسمالية الدولة، بل وأضافت طريقاً ثالثاً هو رأس المال المشترك، الذي تشارك فيه الدولة والناس، وقد أتاح هذا النظام للصوص والمستغلّين ما لم يتحه أي نظام آخر، فاستلبوا رأسمال الدولة ووظفوه لحسابهم، مما جعل بعض الدّول تصبح متسوّلة على أعتاب الدّول الغنيّة»
وراح الأديب لقمان يضحك، مما دفع رجل المعرفة إلى التساؤل، فأخبره أنه تذكّر تجربة بعض دول كوكب الأرض.
«أظن أن الحديث عن الماضي يطول أيها الأديب»
«دعنا نتحدّث عن نظامكم الحالي»
«نحن حالياً ومقارنة بالأنظمة السابقة نعيش في نظام اللا دولة!»
«وهل يعقل هذا أيها العالم؟»
«ولماذا لا يُعقل؟ يمكن أن تطلق مجازياً على نظامنا اسم دولة، أمّا نحن فنسمّيه «النّظام المعرفي» ونسمّي السّلطة العُليا عندنا «مجلس الرّعاية» وهو يتكون من ثلاثة آلاف عضو نصفهم من النّساء ينتخبون كل خمس سنوات، يرأسه شخص مرة كل خمس سنوات أيضاً، وعلى هذا الشخص حين يرشّح نفسه لرئاسة المجلس أن يكون فوق الستّين من عمره وأن يكون حائزاً على أعلى شهادة عُليا في مجالات العلوم أو الآداب، وأن يكون قد حقق إنجازاً عظيماً واحداً على الأقل خلال سنيّ حياته، وأن يوافق المجلس بالأغلبيّة على ترشيحه، ومن ثمّ عليه أن يحوز على ثقة أمّة الكوكب بأغلبية الثلثين، وهذه الشروط نفسها تنطبق على أعضاء مجلس الرّعاية جميعاً»
«كنّا أمماً وشعوباً تنتمي إلى مئات القوميّات، ونتحدّث مئات اللغات، لكن مع توحيد دُول الكوكب، أخذت هذه النَّزعات تتلاشى واللغات تندثر، وكُلّنا الآن نعتبر أنفسنا «سوهاريين» نسبة إلى الكوكب، ونتحدّث اللغة السوهاريّة. وقد اشتققنا هذه اللغة من معظم لغاتنا السابقة، اعتماداً على اللغات الأكثر انتشاراً، غير أن تعبير «الأمم السوهاريّة» ما يزال دارجاً دون أن يكون له أي دلالات تعصبيّة لهذه الأمة أو تلك.
مررنا أيضاً بالأنظمة الإمبراطورية والملكيّة والجمهورية والفيدرالية الاتحاديّة وغير ذلك، إلى أن انتهينا إلى النّظام المعرفي الحالي الذي ألغى الجيوش وأجهزة الأمن والاستخبارات والسّجون وجميع الوزارات غير الفاعلة، كوزارة الدفاع ووزارة الخارجيّة ووزارة الماليّة وغيرها، وما لدينا الآن هو دوائر تهتم بالشؤون المختلفة»
شعر الأديب لقمان أنه ينتقل من عالم الجن إلى عالم لا يقلُّ خياليّة، ولم يجد مفرّاً من التساؤل:
«قل لي أيها العالم، هل أنتم حقيقة أم خيال؟»
انتهز رجل المعرفة الفُرصة ليكيل بما كيل إليه:
«إذا كنتم ترون أنّ وجودنا حقيقة أيها الأديب فنحن حقيقة، وإذا كنتم ترون أننا خيال فنحن خيال!»
أسقط في يد الأديب لقمان، ولم يجد إلا أن يضحك، فضحكت الأميرة نور السماء وضحك «شاهل بيل» رجل المعرفة.
«لكن أيها العالم، يمكن أن أقتنع أنّكم لا تحتاجون إلى إدارة للدفاع أو للخارجية أو للأمن، لكن كيف سأقتنع أنكم لا تحتاجون لإدارة للمال مثلاً؟»
«لقد ألغينا وجود المال منذ ألفي عام، ولا تراه أمتنا إلا في المتحف أيها الأديب!»
عاد الأديب لقمان إلى تنبيه نفسه في سرّه إلى أنه ومنذ أن خرج إليه ملك الملوك من القمقم وهو يتعامل مع عالم خيالي، قد لا يحدث إلا في الأحلام، فإما أن يرفض هذه الحقيقة ويخرج من هذا الكابوس الطويل، أو يتقبّلها ويخوض غمارها.
«لا يوجد لديكم مال أيها العالم»
«على الإطلاق أيها الأديب!»
«ولا شرطة ولا سجون ولا مخابرات!»
«أبداً، أبداً»
«والمواطن عندكم كي يعمل أو يصبح عضواً في اتحاد ما كاتحاد الكُتّاب لا يحتاج إلى شهادة حُسن سلوك ولا حكم عليه وما إلى ذلك من الوثائق والشهادات؟»
«أبداً أبداً!»
«وإذا ما دخل إلى مطعم ليأكل، هل يأكل مجّاناً؟»
«إن كوكبنا هو بمثابة بيت كبير، وكل مطعم فيه هو بمثابة صالة طعام لهذا البيت، وكل مواطن فيه هو ابن لهذا البيت ويمكن أن يأكل ما يُريد مما هو موجود في هذه الصالة دون الحاجة إلى المال، أو الحاجة إلى تقديم أي شيء مُقابل ذلك، وهذا ينطبق على كل متطلّبات الحياة، بما في ذلك البيت والكهرباء والماء والسّفر والإقامة والتنزّه والسياحة والتعليم والتثقيف وما إلى ذلك»
«وهل استطعتم تحقيق عدالة بين مواطنيكم في ذلك؟»
«بشكل نسبي نعم، إذ لا يوجد في بيت «الراعي الأكبر» من وسائل الراحة ومتطلبات الحياة، ما هو غير موجود في بيت أي مواطن»
بدا للأديب لقمان أنه أمام نظام يطبّق بعض أفكار أفلاطون وماركس وسبينوزا وروسّو وغيرهم، فتساءل:
«هل نظامكم المعرفي هذا، هو نتاج لتطوّر فكركم المعرفي أيّها العالم؟»
«بالتأكيد أيها الأديب، فنظامنا الحالي لم يأتِ من فراغ، وكم خضنا من الأهوال وواجهنا النّكسات حتّى حققنا ذلك»
أدرك الأديب لقمان أنّ سؤاله لم يكن يخلو من سذاجة، ومع ذلك استمرّ في طرح الأسئلة الساذجة أو شبه الساذجة:
«هل وُضِعت أسس النظام الأرقى، أي الحالي، منذ أن اتّحدت أمم وشعوب الكوكب، أي منذ خمسة آلاف عام، أم فقط منذ أن ألغيتم نظام النّقد أي منذ ألفي عام؟»
«في مفهومنا نحن يتغيّر الشكل باستمرار، لكن يمكن القول أنّه مرّ على نظامنا الحالي، بما حققه من خطوات هائلة من التطوّر قرابة ألف عام فقط، وهذا لا ينفي أن نزع السلاح فالاتحاد كانا الخطوة الأولى في طريق حضارتنا الحديثة»
«وهل مرّت فترة طويلة بين نزع السّلاح والاتحاد أيها العالم؟»
«لا، بل فترة قصيرة جداً، إلى حد أننا ألغيناها من التاريخ ورُحنا نحتفل بالمناسبة في يوم واحد»
وألقى رجل المعرفة نظرة على ساعته وهتف:
«لقد اقترب موعد حفل العشاء مع الراعي الأكبر أيها الأديب، ينبغي أن ننصرف، سنكمل حديثنا فيما بعد»

* * *
(4)
ليلة راقصة على الكوكب سوهار

كان الظّلام قد حل، وكان جنود الجن يحلّقون في سماء المدينة في فوجين متقابلين مطلقين من أفواههم كُرات ناريّة ملتهبة في اتّجاه بعضهم البعض، وكانت الكرات تصطدم في منتصف المسافة الفاصلة بين الفوجين وتتبعثر في شظايا تتناثر في السماء لتشكّل جوّاً عجائبياً.
لم يعرف الأديب لقمان كيف وجد نفسه يعود إلى أسئلته الواقعيّة الحمقاء، متذكراً بعض معلومات الفلكيين التي تشير إلى أن الشمس قد لا تغيب عن جانب من كوكب الزّهرة بينما يظل الجانب الآخر مُظلماً، وهم هبطوا في الجانب المشمس، فكيف حلّ الليل؟ ثم كم مضى عليه بالضبط منذ الانطلاق من الأرض؟ فهل يحسب ذلك بتوقيت أهل الأرض، أم بتوقيت أهل الزهرة؟
راح يهزّ رأسه متذمراً من نفسه كما يبدو، فتساءلت الأميرة نور السماء عما به وهي تأخذ بذراعه وتقوده:
«إني أحاول عبثاً نسيان أسئلة الواقع، هل لديك قوة ما قادرة على أن تنسيني أسئلة الواقع أيّتها الأميرة؟»
«للأسف لا يا مولاي، فأنا لا أعرف فرقاً بين الواقع والخيال، فما هو واقعي يمكن أن يكون خيالياً في لحظة ما، وما هو خيالي يمكن أن يكون واقعياً في لحظة أُخرى!»
«لماذا تعقّدين الأمور أيتها الأميرة؟»
«بل أنت الذي تعقّدها يا مولاي؟»
«أنا أيتها الأميرة؟»
«أكيد يا مولاي!»
«كيف؟»
«بأسئلتك غير القادرة على الحسم بين الواقع والخيال، فهل أنا الآن برأيك واقع أم خيال؟»
«أنتِ خيال، قطعاً خيال!»
ضغطت بلطف على ذراعه والتصقت بجانبه وضمّت رأسها إلى رأسه ليتهدّل شعرها على جبينه وتداعب أنفاسها العطرة أنفه.
أحسّ بقشعريرة لذيذة تسري في جسده كدبيب النّمل:
«أمتأكد أنت يا مولاي؟!»
«لا! أنتِ واقع، بل حقيقة لم أعش ما هو أجمل منها»
وأخذ يدها وقبّلها.
هبطوا من بيت الضيافة. كانت السماء تضجّ بما يبدو لعبة حربيّة أشعل فتيلها جنود الجن. أحسّ الأديب لقمان أن هذه اللعبة قد تثير لدى سُكّان الزهرة المسالمين بعض الرّيبة، فطلب ملك الملوك فامتثل أمامه:
«أوعِز إلى جنودك أن يلعبوا غير هذه اللعبة السّخيفة، أو دعهم يفعلون شيئاً يُفرح الناس ويبعث البهجة في نفوسهم»
«أمر مولاي»
وأشار ملك الملوك بحركة من يده وإذا بالكرات والشظايا الناريّة المتناثرة في الفضاء تتلاشى تباعاً واحدة إثر أُخرى وبسرعة هائلة، لتعمّ السماء موسيقى راقصة وتتدلّى منها قناديل مُضيئة كالثريّات المتلألئة، وتملأ فضاءها عشرات آلاف الفتيات من بنات الجن اللواتي شرعن في مُراقصة الجنود، فيما امتدّت آلاف الموائد العامِرة بأشهى المأكولات وأطيب الخمور، وأحيطت بكراسٍ من المخمل الأزرق تدلّت منها مصابيح حمر مضيئة، مما أضفى على السماء جوّاً بهيجاً.
«أحسنت أيها الملك، وإن كنت أثرت فينا الرّغبة لتناول عشاءنا في السماء»
«ليتفضل مولاي وليدعُ الراعي الأكبر وجميع مواطنيه من الزهرة إلى وليمة في السماء»
«فكرة عظيمة أيّها الملك، سنفعلها غداً لنردّ لهم الدعوة، لا يصح أن نفعلها اليوم ونحن نلبّي دعوتهم»
«غصّت صالة الاستقبال في «قصر الرعيّة» الذي دُعي إليه الأديب لُقمان وأعوانه بقرابة عشرة آلاف مدعو من كبار القوم في كوكب الزهرة.
وقد استقبل الراعي الأكبر وزوجته وكبار المسؤولين في الكوكب الأديب لقمان والأميرة نور السماء وملك الملوك والأميرة ظل القمر وقائد المركبة وصديقته بحفاوة بالغة على مدخل القصر، ثمّ دخل الجميع إلى صالة طعام كبيرة بحيث اتّسعت لكل هذا الحشد.
وقد وقفت في صدر الصالة مجموعة من الفتيات يلوّحن بباقات من الورود فيما كانت فرقة موسيقية تعزف موسيقى هادئة.
أخذ الأديب لقمان والراعي الأكبر مجلسيهما إلى مائدة طويلة وقد جلست الأميرة نور السماء بينهما كي يُتاح لها أن تترجم ما يدور بين الاثنين من حديث، فيما جلس ملك الملوك وقائد المركبة والأميرة ظل القمر عن يمين الأديب لقمان. أما رجل المعرفة «شاهل بيل» وبعض رجالات مجلس الرّعيّة فقد جلسوا مع زوجاتهم في مواجهة الأديب لقمان. وقد جلست زوجة الراعي الأكبر عن يساره وراحت توزّع ابتسامات هادئة على كل من تقع عيناها عليه.
أُفرد على المائدة أنواع عديدة من المقبّلات والسّلطات واللحومات الباردة وبعض أنواع العصير والمشروبات الروحيّة التي لم يبدُ أنها مختلفة عمّا يُقدّم على الأرض.
كان الأديب لقمان متشوّقاً لمحاورة الراعي الأكبر فشرع في الحديث على الفور فيما الأميرة نور السماء تترجم:
«هل لي أن أعرف كيف بنيتم نظامكم أيّها الراعي الأكبر؟»
«بالمحبّة والتعاون أيّها الأديب، حين أنهكت الحروب المدمّرة كوكبنا، لم يجد أجدادنا غير نزع السّلاح من الكواكب وإعلان الحرب بالمحبّة!»
«ماذا تقصدون بإعلان الحرب أيّها الراعي الأكبر؟»
«ما لم يستطيعوا تحقيقه بالحروب المدمّرة سعوا إلى تحقيقه بحروب المحبّة!»
«وهل من الجائز أن تسمّوا ما جرى حرباً؟»
«مجازياً نعم، صحيح أنها كانت حرباً من نوع آخر، لكنها كانت قاسية على إنساننا الذي وجب عليه التغلّب على نوازع الشر في نفسه، وهذه مسألة لم تكن هيّنة»
«معذرة أيّها الراعي الأكبر ماذا تقصدون بنوازع الشر وكيف حددتموها؟»
«اعتبر أجدادنا أن كل نزوع ذاتي في الشخصيّة يمكن أن يسيء إلى الآخرين ولو بقدر يسير هو نزوع شرّاني»
«وهل هذا ينطبق على بعض السّلوك أيضاً؟»
«ليس ثمة سلوك في نظرنا إلا ومبعثه نزوع في الشخصيّة أو له علاقة بشكل أو بآخر بهذا النّزوع»
«وهل بلغ الإنسان الآن لديكم هذا الشأو السامي من قتل نوازع الشر؟»
«لقد خاض إنساننا هذا الصراع منذ آلاف الأعوام، وما يزال يخوضه حتّى الآن، ولو بشكل أسهل وأيسر من ذي قبل، لأن معرفته نمت وتطوّرت إلى حد غدا فيه يدرك جيداً ما معنى أن تقول له أنّ وجوده رهن بوجود الآخر، وأنّ ذاته لا تتحقق إلا باندغامها في الذات الأخرى، والعكس صحيح!»
«هل تقصدون بوجود الآخر والذات الأخرى الإنسان؟»
«الإنسان لدينا ولغاية الآن هُو أرقى الكائنات والموجودات، لكن ذاته لا تنفصل عن ذوات الكائنات والموجودات الأُخرى، وهي بدورها لا تنفصل ذواتها عنه، هو جزء منها وهي جزء منه، إنّ ذاته موجودة في الإنسان والنّبات والحيوان والطير والمائيات والجماد، في الماء والهواء والتراب والنار، في الحجر والصخر والطين، في النهر والجبل والحقل، في الفضاء والكواكب والنجوم، وهذا ما نسمّيه الذات الكُلّية»
بدا الأديب لقمان وكأنّه يستمع إلى بعض أفكار «لوتس» و«شوانغ تسو» و«ابن عربي» مع بعض التطوير الجوهري عليها.
«عفواً أيها الراعي الأكبر إذا ما أزعجتكم بأسئلتي»
«لا أبداً، أنت لا تزعجني، تفضّل واسأل ما تشاء»
«هل تقصدون بقولكم لغاية الآن أنّ فكركم هذا قابل للتطوير في المستقبل؟»
«نعم هذا ما أقصده بالضبط، وليس في المستقبل فحسب، بل الآن، فنحن نفكّر دائماً، وأحياناً نضطر إلى تغيير بعض المفاهيم وليس تطويرها فحسب، ونعتقد بإمكانية ظهور فكر في المستقبل يمكن أن يرقى على فكرنا وفهمنا للوجود»
«كيف يمكن أن نلمس أثر فكركم الراهن على إنسانكم؟»
«تلمس هذا في اتّحادنا في أمّة واحدة، بعد أن كنّا مئات الأمم، تلمسه في المستوى الحضاري الذي وصلنا إليه. الإنسان عندنا نادراً ما يشتم الآخر لأنّه يدرك أنه يشتم ذاته، وحين يحب الآخر يدرك أنّه يحب ذاته، لذلك فهو لا يكره الآخر لأنه سيكره ذاته، ولا يقطع الشجرة أو يقتلع النبتة لأنه يدرك أنه يقتطع ويقتلع شيئاً من ذاته، ولا يقتل الطير والحيوان لأنّه يقتل شيئاً في ذاته، وإذا ما اقتطعنا أو اقتلعنا أو قتلنا، فلا نفعل ذلك إلا للضرورات المُباحة، كأن نذبح الأغنام والأبقار لأكل لحمها»
وأطرق الأديب لقمان للحظات يُفكر، تساءل الراعي الأكبر:
«ما رأيك بفكرنا أيّها الأديب لقمان؟»
«إن شئت الحق أنا مقتنع إلى حد كبير بفكرة استحالة تحقيق الذات الإنسانية بمعزل عن الذات الإنسانية الأُخرى، أو أن وجودها لا يتحقق بمعزل عن وجود الآخر، إلا أنني لا أدرك كيف يمكن أن تكون ذاتي جزءاً من الذّات البعوضيّة أو الصراصيرية أو الذّبابية مثلاً، وهي جزء من ذاتي، وبالتالي لا يتحقق وجودي إلا بها، ولا يتحقق وجودها إلا بي، أم لعلّ هذه الكائنات لا توجد على كوكبكم؟!»
وشرع الراعي الأكبر في ضحك رزين، وما لبث أن أجاب:
«لا بل توجد أيها الأديب، بعض فلاسفتنا يفسّرون ذلك بوجود الحياة في هذه الكائنات، واشتراكنا معها فيها، وبعضهم يعزونها إلى نوازع الشر، ويعتبرونها جزءاً من ذاتنا الشّرانيّة، وأنّه ينبغي القضاء عليها، على أية حالة، إن أفضل الأدوية لدينا لمعالجة بعض الجروح والقروح هي التي يشترك فيها مسحوق بعض الحشرات المجففة، كالنحل والصراصير والنمل وغيرها!!»
«الحشرات المجففة؟»
«أجل أيّها الأديب!»
«عجيب! كيف خطر مثل هذا الأمر على بال أطبائكم؟!»
«نحن لا نترك شيئاً إلا ونفكر فيه ونجرّبه»
«ماذا عن تقدّم علوم الطب عندكم أيها الراعي الأكبر؟»
«قضينا على الأمراض كُلّها، إذ يندر أن يموت إنسان لدينا، من جرّاء مرض ما، وهذا أدّى إلى تقليل عدد المستشفيات، ونحن الآن نحاول أن نجد علاجاً للشيخوخة لعلّنا نوقف الموت، بعد أن أطلنا معدّل عمر الإنسان إلى الضعف»
«تقول إلى الضعف أيّها الراعي الأكبر؟»
«نعم، كنّا نعيش حوالي مائة وثلاثين سنة الآن نعيش حوالي مائتين وستين!»
عاد الأديب لقمان إلى الإحساس بالدونيّة أمام هذا التطوّر المذهل، فنهض رافعاً كأسه ليشرب نخب أبناء «سوهار»!
وقف النّاس جميعاً ورفعوا كؤوسهم وشربوا النخب.
كانت الموسيقى تنساب بهدوء من آلات بعضها شبيه بالآلات الموسيقية على الأرض، وما لبثت أن رافقتها أصوات الفتيات التي انطلقت بنعومة وهدوء.
أطرق الأديب لقمان مصغياً سمعه، ورغم الإغراق في الصّور التجريديّة التي كانت تبعثها الموسيقى إلا أنه أحسّ بها تنشد الخلود. ظل مصغياً إلى أن انتهت المقطوعة، ليصفّق بحرارة مع الحضور.
نظر نحو الأميرة نور السّماء فالراعي الأكبر. شعر أنّه أرهق الأميرة بالترجمة ولم يدعها تأكل شيئاً. طلب إليها أن تترجم حواراً أخيراً قبل تناول الطّعام، فوافقت بسرور.
«عفواً أيها الراعي الأكبر.. ما هي رؤيتكم للموت، وهل تؤمنون بالبعث والحياة الأُخرى؟»
«كان بعض أجدادنا يرون فيه حياة وراحة أبديّتين، حتّى أن الموتى كانوا يصطحبون معهم إلى القبور بعض ما يحتاجون إليه من متاعهم وممتلكاتهم إلى تلك الحياة، وبعضهم الآخر كان يرى أنّ أرواحنا تحلّ في كائنات أخرى وأنّه لا يموت إلاّ الجسد، وبعضهم كان يرى أن الروح تصعد إلى السماوات، وآخرون كانوا يرون أن الروح تحلّ في مولود إنسي آخر، وبعضهم كان يرى فيه حقاً لا مفرّ منه نحو بعث منتظر وحياة أُخرى في الجنّة وعذاب في النار، وبعضهم كان يرى أيّها الأديب لقمان أن الموت هو نهاية المطاف ولا يتبعه أي شيء آخر على الإطلاق، ونحن الآن نتبع هذا الاعتقاد»
استغرب الأديب لقمان أن يسمع هذا الاعتقاد الأخير فهتف:
«ألا ترى أيّها الراعي الأكبر أن اعتقادكم الحالي يتناقض مع فلسفتكم الراهنة، فأنتم تميتون الذات التي يفترض أن تكون متّحدة مع الذات الأخرى الكليّة؟!»
«لا أظن أيها الأديب، ليس ثمة تناقض، فما يموت هُو الذات الشهوانيّة الجزئية، أما الذات الروحيّة فتبقى خالدة بما حققه الإنسان من معرفة وجمال وعمل خلاّق»
«الآن اختلف الأمر، وإن كنت أرى حسب ما فهمته من فلسفتكم أنّ ما أطلقتم عليه «الذات الشهوانية الجزئية»
فقاطعه الراعي الأكبر قائلاً:
«أو بتعبير أدق أيها الأديب، الجانب الشهواني الجزئي في الذات!»
«ليكن أيها الراعي الأكبر، فهذا الجانب لا ينفصل عن الذات الفرديّة التي هي بدورها جزء من الذات الكُلّية المطلقة وتتحد معها، إلى حد يستحيل معه الفصل بين ذات جزئية وأخرى كونيّة، لاتّحاد الكل بالجزء والجزء بالكل!»
«نحن ولغاية الآن نقول بإمكانيّة ذلك، كما أنت مستقل عنّي وأنا مستقل عنك رغم اشتراكنا بذات كُليّة واحدة»
«على أية حال أيها الراعي الأكبر، ما يريحني أنّكم وأجدادكم فكّرتم ومازلتم تفكّرون بما فكّرنا فيه نحن وأجدادنا. الفارق أنّكم أفدتم من فكركم، بينما نحن أضعنا فكرنا هباءً، بل إن بعضنا اعتبره عبئاً علينا أو زندقة وإلحاداً، أو جنوناً وتخريفاً، أعتذر مرة أُخرى لكثرة أسئلتي أيها الراعي الأكبر، وأعتذر للأميرة نور السماء لما بذلته من جهد كبير في الترجمة»
***

هتف الراعي الأكبر قاطعاً على الأديب لقمان أيّة تساؤلات ممكنة:
«أكل لحوم هذه الحيوانات من الضرورات المُباحة أيّها الأديب»
تمتم الأديب لقمان:
«أظن أنني أدركت ذلك أيها الراعي الأكبر»
ظهرت على مسرح صالة الطعام مجموعة من الفتيات يرتدين أزياء شعبية ملوّنة وشرعن في تقديم رقصات فولكلوريّة.
تنبّه المحتفلون إلى فتاتين وشابّين دخلوا صالة الطّعام وقدموا إلى مائدة الراعي الأكبر وضيوفه، كانت إحدى الفتاتين بيضاء جنيّة تسير مع إنسيّ أسود والأخرى سمراء إنسيّة تسير مع جنّي أبيض.
وقف الجنيّان خلف ملك الملوك فيما وقف الإنسيان خلف الراعي الأكبر وطلبا منه شيئاً ما:
نظر الراعي الأكبر إلى الأديب لقمان.
«مواطنو كوكبنا يرغبون في أن ينزل الجن من السماء ويمرحوا معهم»
نظر الأديب لقمان نحو ملك الملوك متسائلاً فهتف الآخر:
«إنها رغبة الجن أيضاً يا مولاي»
تخوّف الأديب لقمان من أن يكون جنود الجن أفظاظاً مع نساء الكوكب.
«لكن دعهم يتعاملون بلطف مع الإنسيّات أيها الملك، وامنع عليهم أن يأخذوا أي شكل جنّي مهما صَغُر!»
وبدا أن ملك الملوك انزعج لسوء الظن الذي أبداه الملك غير المتوّج الأديب لقمان:
«اطمئن يا مولاي، فأنت لا تعرف مدى لطف الجن حين يريديون أن يكونوا لطفاء!»
«حسناً أيها الملك، لينزلوا وليحتفلوا ويمرحوا ويبتهجوا، لكن لا تدعهم ينزلون بأيديهم، ليحضر كل جنيّ وجنيّة بعض الهدايا لأبناء الكوكب»
«أمر مولاي»
ولم يعرف الأديب لقمان أن ملك الملوك سيفعل ما لا يقدر عليه إلا الآلهة العظمى، فقد أمر بأن ينزل على الكوكب أربعة مليارات جنّي نِصفهم من الإناث، أي بعدد سُكان الكوكب، وأن يحضر كل جنّي معه ما يمكنه أن يهديه للسكان من الحُلي والجواهر وأفخر أنواع الأقمشة والملبوسات، وأشهى الأطعمة والمشروبات، ولم تمر سوى لحظات حتّى أنيرت سماء الكوكب بمصابيح إضافيّة، كأنها النجوم والأقمار، ومدت في كل مكان، في الشوارع والساحات، في الحدائق والمتنزّهات، وفي كل قرية ومدينة مئات آلاف الموائد العامرة، وصدحت الموسيقى من أقصى الكوكب إلى أقصاه، وأقيمت حلقات الرقص وجلسات اللّهو والسّمر، وحفلات الغناء والطّرب.
وفي صالة الطعام التي يجلس فيها الراعي الأكبر وضيوفه، فوجئ الجميع بالسّتائر ترفع والجدران تختفي وزجاج الواجهات يُفتح، وصالة الطّعام تتمدد وتتسع، لتفرد فيها مئات الموائد الكبيرة، وليظهر الآلاف من فتيات الجن اللواتي بَدوْن كحور العين والآلاف من الشباب الذين بدوا كالولدان المخلّدين، وراحوا ينثرون الحُلي والجواهر على الحضور، ولينطلق صوت ملك الملوك داعياً الجميع إلى المرح والفرح ونسيان الهموم والتُرَح! فنهض الجميع يرقصون، فاختلط الإنسيّون بالجنّيات والإنسيات بالجنيين ولم يبق أحد جالساً إلا الأديب لقمان والأميرة نور السماء التي كانت تضمُّ رأس الأديب لقمان إلى كتفها، وتنظر إلى جمهور الراقصين، السُّكارى منهم وغير السُّكارى، وحين حانت التفاتة منها إلى وجه الأديب لقمان، رأته حزيناً والدّموع تترقرق في عينيه ثم تنزلق على وجنتيه، فضمّته بحنان شديد، واحتوت رأسه تحت ذقنها وراحت تمسح الدموع عن وجنتيه وهي تسأله:
«أية هموم هذه التي تجرؤ على الاقتراب من قلب مولاي وأعجز أنا عن مواجهتها؟!»
«هموم أهلي وأبناء موطني وأبناء كوكبي أيّتها الأميرة، الجوع، القتل، الموت، الأمراض، الكره، الحقد، وملك الملوك يلقي بكل ما لدى الجن لأبناء الزهرة حتّى دون أن يسألني رأيي!»
«مولاي، سنسخّر جن السماوات والأرض وكل الكواكب ليمطروا ذهباً وماساً على أيّة رقعة في الأرض تريدها.
ودعت على الفور ملك الملوك بالتّخاطر الجنيّ وإذا به يجثو أمام الأديب لقمان ويضع يديه على قدميه ويهتف باكياً غاضباً من جراء ما فعل:
«ليغفر لي مولاي، وليأمر أين يرغب أن تمطر السّماء ذهباً، وإذا شاء سأغرق له الأرض بالجواهر على ألا أرى دموعه»
«هل تعرف فلسطين أيّها الملك؟»
«وهل هناك أحد لا يعرف فلسطين يا مولاي، وهل أنسى حبيبتي عستارت؟!»
«أمطر عليها قدر ما تستطيع، أمطر على غزّة والضفّة الغربيّة أكثر من باقي المناطق!»
«أمر مولاي»
«وهل تعرف كوبا؟»
«سأجعل أعواني يعرفونها يا مولاي»
«أمطر عليها آلاف الأطنان من الذّهب والماس، وإذا طلب فيدل أي شيء آخر، فاعطوه أكثر مما يريد»
«أمر مولاي! إن فلسطين وكوبا، بجبالهما وسهولهما وشوارعهما وحدائقهما وأسطح بناياتهما، تغرقان الآن بالذّهب والماس يا مولاي»
«أحسنت أيها الملك! وروسيا.. أمطر على روسيا!»
«أمر مولاي!»
«على الهند وباكستان وبانغلادش»
«أمر مولاي»
«على سوريا والأردن ولبنان ومصر والسودان وبغداد والجزائر والمغرب والصومال، أو أقول لك، على كل الدّول الفقيرة في القارتين الآسيويّة والإفريقية»
«أمر مولاي»
«وعلى أستراليا»
«أمر مولاي»
«هل نفذت أوامري؟»
«لو ترى حال هذه القارات الآن يا مولاي، أخاف أن يجن الفقراء من الفرح!»
«لا تغرقهم كثيراً بالجواهر!»
«لا لن أُغرقهم، أيّة أوامر أخرى يا مولاي؟»
«أفكّر في الفقراء في الدّول الغنيّة، أليس في مقدورك أن تمطر عليهم وحدهم شيئاً؟!»
«الفقراء وحدهم يا مولاي؟»
«أجل فالأغنياء لا يقنعون!»
«سنجد بعض المشقّة في معرفة الفقراء من الأغنياء يا مولاي»
«تدبّر الأمر،لا أريد أن أرى فقراء على الأرض»
«أمر مولاي»
«هل نفّذت أيّها الملك؟»
«على الفور يا مولاي»
وأطرق الأديب لقمان للحظات ورأسه مُلقى على صدر الأميرة نور السماء وعيناه تنظران إلى ملك الملوك الجاثي على قدميه، وما لبث أن شرع في البُكاء والضحك معاً.
هتف ملك الملوك:
«أيتها السموات ما الذي ألمّ بمولاي؟!»
وهتفت نور السماء وهي تحتويه إليها وتطوّقه بيديها ظانّة أن الشيطان يوسوس في نفسه:
«أبعد الله الشيطان عنك، وكلأك برعايته وعنايته يا مولاي»
وفوجئت بالأديب لقمان يغرق بالبكاء والضحك حين سمع ما قالته:
«لا عليك أيّتها الأميرة، ربما هذا من تأثير الخمرة السوهاريّة»
«ما هذه الخمرة التي تضحكك وتبكيك يا مولاي؟ إنّه الشيطان، يوسوس في نفسك، ويدعوك إلى تكذيب ما يحدث، ويهمس في أسماعك، مدّعياً أن الفلسطينيين في غزّة قد لا يجدون ما يأكلونه، وأنّ الكوبيين مايزالون فقراء إلى حد قد لا يمكّنهم من تناول أكثر من وجبة طعام بائسة في اليوم، وأنّ الشعب الروسي أُذِل، وأنّ الجوعى في الهند وبعض دول أفريقيا وآسيا، مازالوا يتسوّلون في الشّوارع، وينامون على الأرصفة!!»
«كفى، كفى، أيّتها الأميرة، ليذهب الشيطان إلى الجحيم، إنّه كذّاب لئيم، وهيّا هيّا، قومي لنرقص، وأنت أيّها الملك، عُد إلى الرقص، عُد إلى حوريّاتك وفتياتك ونسائك، لكن اسمع، أريد أن يستيقظ فيدل ليجد القصر الجمهوري بكل غرفه وصالاته وأروقته ممتلئاً بالذّهب والماس وكل أنواع الجواهر، ولابأس من أن تفعل ذلك في غزّة والقدس أيضاً! مفهوم أيّها الملك؟»
«مفهوم يا مولاي»
«هيا أيتها الأميرة، لنرقص، لنرقص، لنرقص بجنون، لم أرقص منذ عشر سنوات، منذ أن أقبل الخريف منذراً بطي سنيّ عمري، ولم أفرح منذ عشر سنوات، ولم أذق رضاب الفتيات منذ عشر سنوات، ولم يضمّني صدر عاشقة منذ عشر سنوات، لتزغرد فتيات الإنس والجن، ولتضجّ السموات والأرض بصدح الموسيقى، وليتردد صدى الأغاني والأناشيد من أخاديد الكون، ولتدق أقدام الإنس والجن تخوم اليابسة؟!»
نهض الأديب لقمان ليرقص كما لم يرقص في حياته برفقة الأميرة نور السّماء. وظلّ يرقص والأميرة تحلّق معه لتذهل برقصها وجمالها الحضور، وتبعث في نفسه الفرح والسُّرور، وهي تدور من حولِه كفراشة، ليحط رأسها على صدره تارة وتأخذ رأسه إلى صدرها تارة، يلفّها وتلفّه، يدور بها فتدور به، يطويها وتطويه، يضمّها وتضمّه، يشبك يديها وتشبك يديه، يكاتفها وتكاتفه، يراكبها وتراكبه، يرائِسها وترائسه، يواجهها وتواجهه، يجانبها وتجانبه، يخاددها وتخادده، يدابرها وتدابره، يباعدها وتباعده. تدور حول نفسها كمغزل، وهو إليها مبتهجاً يُقبل! وحين تعب دون أن تتعب هي، فتح لها ذراعيه، فألقت نفسها عليه، فضمّها وحواها، وبكل ما في قلبه من محبّة وحنان غمرها ورعاها، فأحسّت الأميرة نور السماء بما لم تحس به مِنْ مشاعر مع أي مِنَ الجن من قبل، فطوّقته بيديها، والتحمت بجسده حتّى غدت وكأنّها قطعة منه، ودمعت عيناها فرحاً، وسط تصفيق الجميع وفرحة الإنس والجن، وبهجة الراعي الأكبر وأعضاء مجلس الرّعاية والمجلس المعرفي وكبار العُلماء والأدباء وآلاف الحضور!
رفع ملك الملوك شمنهور الجبّار دنّاً كبيراً من الخمر، وهتف بصوت هائل بلغة أهل الكوكب!
«نخب مولاي العظيم الملك لقمان، وأميرة المشرق والمغرب، أميرة العوالم العلويّة والعوالم السُّفليّة، الأميرة نور السّماء»
فهرع الجميع إلى كؤوسهم، فيما رفع من كانوا على الموائد كؤوسهم، وأحضروا كأسين للأديب لقمان والأميرة نور السّماء، وشرب الجميع كؤوسهم، وشرب ملك الملوك دنّ الخمر عن آخره!.
قبل انصرافه، دعا الأديب لقمان الراعي الأكبر ورعيّته إلى وليمة عشاء في اليوم التالي، وعاد إلى بيت الضيافة، فيما ظلّ ملك الملوك وقائد المركبة وطاقمها في الحفل الذي استمرّ حتى الصباح.
***

حين استيقظ قبيل الظهيرة إثر كابوس فظيع، قطع عليه لذّة النوم الجميل الذي كان يغطّ فيه، ألفى الأديب لقمان الأميرة نور السماء مستيقظة ومستلقية إلى جنبه، بثياب النوم الحريرية وترمقه بنظراتها، همس لها:
«هل هنئتِ في نومِك؟»
«بوجود مولاي»
«مَن يجد الهَناء بالنّوم على غطيطي؟»
«أنا يا مولاي!»
«لو كنت مكانك لما احتملت نفسي»
«بل لكانت السعادة تغمرك يا مولاي!»
«هُراء!»
«وماذا عن نومِك يا مولاي؟»
«أظن أنني نمت أجمل نومة في حياتي لولا أنّها انتهت إلى كابوس كالعادة»
«لِمَ تحلمُ دائماً يا مولاي؟»
«ربّما لأنني لا أستطيع التخلص من هذا القلق الذي يُلازمني دوماً»
«أنتَ تفكّر كثيراً يا مولاي؟»
«وكيف يمكن أن أتوقّف عن التفكير؟»
«بالراحة والاسترخاء وإشغال عقلك بمسائل لا تبعث على القلق»
«هل في مقدورك أن تساعديني على فعل ذلك؟»
«سأحاول يا مولاي، لن أدعك تنام بعد الآن دون أن أعمل على إراحة أعصابك»
«وعقلي كيف سأريحه؟!»
«إراحة الأعصاب تريح العقل أيضاً يا مولاي»
«سأكون شاكراً أيّتها الأميرة وإن كنت أظن أنّ ليس ثمّة ما يُريح أعصابي أكثر من ممارسة الحب، وقد فعلنا، ومع ذلك حلمت»
«ستعرف في حينه يا مولاي. الآن أخبرني بماذا حلِمت؟»
«جئت بيتي على الأرض فوجدت ابني وابنتي وأمّهما حُزناء يبكون!»
«لِمَ يا مولاي؟»
«كانوا جوعى، لم يكن عندهم إلا بقايا نقود حين غادرتهم، ولم ينلهم من كُلِّ الذّهب والجواهر التي أنُزلت على المدينة، بل البلد كلّه، قطعة واحدة، لقد استولى الناس على الجواهر كُلّها، ولم يتركوا لهم شيئاً!»
«ألم يحاولوا يا مولاي؟»
«حاولوا، لكن دون جدوى، كان الناس يتلقّفون الجواهِر من السماء ببراعة قبل أن تصل إلى الأرض، ويبدو أنّهم لم يكونوا بارعين في اللقف والتلقّف، ما أحزنني أكثر أيّتها الأميرة أنّه لم يكن لديهم أي طعام أو شراب، وكانوا جائعين»
«لِمَ لمْ يقترضوا من الجيران أو من معارفهم يا مولاي؟»
«يبدو أنّ كبرياءهم أبت ذلك، فقد عوّدتهم أن يعطوا لا أن يأخذوا، وإذا كان لابدّ من الأخذ، فليكن أقل مما أعطوا. كانوا يرون الناس يأخذون مِنّي ويأكلون على مائدتي، ولم يروني أتطفّل ذات يوم على مائدة أحد، أو رأوا أحداً يعطيني، إلى أن تبدد كل ما لدي من مال، ولم يعد أحد يتعرّف عليّ، حتى أنّ جرس هاتفي لم يعد يرن، مع أنّه لم يكن يتوقّف عن الرّنين إلا للرد عليه، تصوّري أنّهم لم يحاولوا حتى مطالبة بعض المدينين لي بنقود!»
«وهل كانوا يعرفون أنّك من تسبّبت في إنزال الذّهب والجواهر يا مولاي؟!»
«لا، لو أنّهم عرفوا لكانت مصيبة لن يقدروا على احتمالها»
«وماذا فعلت يا مولاي؟»
«أحسست برغبة هائلة في الانتقام، فكّرت في استدعاء ملك الملوك كي يستعيد الجواهر من هؤلاء الجاحدين وأن يكوّمها في جبل ويضعها تحت حراسة الجن، ويترك هؤلاء يتوسّلون ويتحسّرون مدى الحياة، دون أن ينالوا شيئاً حتّى لو ماتوا قهراً وجوعاً!»
«ولم تستدعه يا مولاي؟»
«لا، لم أستدعه»
«ولم تنفّذ رغبتك في الانتقام؟»
«لا، لم أكن قادراً على تنفيذها أيتها الأميرة، بل رحت أتوسّل لكلّ الآلهة والأنبياء أن يساعدوني للتغلّب على هذه الشهوة في الانتقام»
«وهل تغلّبت؟»
«أظنّ ذلك»
«وهل تركت أسرتك تتضوّر جوعاً؟!»
«لم أرغب في استدعاء ملك الملوك أمامهم، كي لا يعرفوا أنني وراء كل ما جرى ويجري، فخرجت إلى الخلاء، وعبثاً حاولت إحضارك أنتِ أو إحضار ملك الملوك، فرحت أندبُ حظّي البائس، ومصير أولادي التعساء، إلى أن استيقظت من نومي»
وفوجئ الأديب لقمان بملك الملوك يقف أمام السرير بثياب النّوم وهو يهتف بانفعال:
«مُرني يا مولاي، مُرني لأنزل مصيبة بالمدينة التي جعلت أولادك يكابدون ويلات الفقر والجوع؟!!»
«وأنت كيف عرفت بالحُلم أيها الملك؟»
«أخبرتني الأميرة نور السماء يا مولاي؟»
«لكنّه كان مجرّد أضغاث أحلام أيّها الملك!»
وفوجئ الأديب لقمان بالأميرة نور السماء تهتف:
«للأسف كان حقيقة يا مولاي، لم تحصل أسرتك على شيء وهي الآن دون طعام!»
ونهض الأديب لقمان ليجلس في السّرير وليهتف: «لا، لا، غير ممكن، مستحيل!» ثم غمر وجهه براحتي يديه وهو يهزّ رأسه بانفعال شديد، جاهداً لأن يكبت الألم في دخيلته.
لجلج صوت ملك الملوك متلعثماً:
«هل أنتقم لكَ أشد انتقام يا مولاي؟»
وران صمت فظيع، كان الأديب لقمان خلاله ما يزال تحت وقع الصدمة، يكبت أثر انفعالاته، ويجاهد للسيطرة على نفسه، وقد ضمّت الأميرة نور السماء رأسه إلى صدرها، وهتفت إلى الملك شمنهور:
«إياك أن تقدم على فعل شيء دون أن يأذن مولاك أيّها الملك»
«لن تشعر نفس مولاي بالطمأنينة ما لم أنتقم له من هؤلاء الجشعين، الغدّارين، المرابين، المنافقين، البخلاء، من معشر الإنس، الذين لن يرتدعوا دون أن يدفعوا ثمن أهوائهم!»
استكان الأديب لقمان إلى صدر الأميرة نور السماء ورفع يديه عن وجهه لينظر إلى ملك الملوك ويهتف دون أي انفعال:
«لا أيّها الملك، لا تفعل شيئاً، وإيّاك أن تفكّر في الانتقام، لقد عشت كفلسطيني أهوالاً أصعب وأمر مما لا يقاس، بما تعيشه أُسرتي الآن، ولم أسعَ إلى الانتقام وإن فكّرتُ فيه! أرسل من يأخذ لأسرتي شيئاً من المؤونة والطعام واللباس والجواهر أيضاً»
«لو أنك عشت لذّة الانتقام، لو أنّك جرّبتها ولو مرّة يا مولاي، لما أمرتني أن أفعل ذلك فقط!»
«بل جرّبتها أيها الملك وإن في مسائل ليست ذات شأن، ولا أُريد أن أجرّبها الآن في مسائل تتعلّق بمصير البشر»
«إنّي لست خائفاً عليك إلا من هؤلاء البشر الذين تؤثرهم على نفسك يا مولاي»
«لا أظن أنّ في مقدورهم أن يفعلوا بي كفلسطيني أكثر مما فعلوا، هذا إذا لم أستطع دفعهم إلى التغلب على نوازع الشر في نفوسهم!»
«لا أظن أنّ هناك من يقدر على ما تريد غير الله يا مولاي»
«سأسعى للقائه وإقناعه أيّها الملك، كي يساعدني لتحقيق ذلك»
«وإذا لم تتمكن يا مولاي؟»
«سأسعى بالحسنى والمحبة وعمل الخير أيّها الملك»
«أشك أنّها ستجدي شيئاً يا مولاي!»
«أرجوك أيّها الملك، إنّي في حاجة إلى من يُغني في نفسي الأمل والتفاؤل بالخير، ولست في حاجة إلى من يدمّر هذا الأمل وينمّي بذور الحقد، فلا تدعني أغضب عليك، اذهب ونفّذ ما أشرت به عليك، واترك أمر الناس لي»
«اعذرني يا مولاي، فأنا لا أحتمل أن أرى دخيلتك تتمزّق أمام عينيّ وأنا القادر على إراحة نفسك، وإعادة الطمأنينة إلى جوّانيّتك وبطينتك»
«لا عليك أيها الملك، أنا بخير، وهذه مسألة سهلة أمام الأهوال التي ستواجهنا، وإذا لم نتغلّب على هذه فلن نتغلّب على ما هو أكثر قسوة وفظاعة وإيلاماً للنفس»
«ليست المشكلة مشكلة أسرتك يا مولاي، فلقد عرفت من أتباعي أنّك كفلسطيني تحمل في دخيلتك من الآلام ما تنوء الجبال بحمله!»
«هل تتجسس عليّ أيّها الملك؟»
«معاذ الله يا مولاي! لكن دفعتني رغبة عارمة لأن أعرف ما حل بأهل محبوبتي عستارت خلال الأعوام الثلاثة آلاف التي أمضيتها في قمقم سُليمان، فعرفت أنّهم قاسوا من الأهوال ما لم يقاسه بشر قط، بدءاً بقتل جميع نسائهم ورجالهم وأطفالهم وحيواناتهم في أريحا – وهذا ما شاهدته بعيني – مروراً بمقتل «جُليّات» وصلب يسوع المسيح، وانتهاءً بالمجازر الحديثة في القرن العشرين، التي توّجت بمجزرة الحرم الإبراهيمي!»
«وهل عرفت كل هذا التاريخ أيّها الملك؟»
«ولِمَ لا أعرفه يا مولاي طالما أن أعواني خارج القماقم شاهدوا كل الأحداث وشهدوا عليها، ولو سألت الأميرة نور السماء عمّا شهدته من أحداث، لحدّثتك بما تنفطر له القلوب!»
«آه، أرجوك أيها الملك، أنا أعرف الماضي كلّه، وعرفت مئات المجازر وشهدت مئات المجازر، وأريد أن أنسى، أنسى تماماً، ولا أتذكّر شيئاً، ولا أريد أن أفكر إلا في المستقبل، في المستقبل، هل فهمت؟ ليس الفلسطينيون وحدهم من عاشوا المجازر وويلات الحروب والمآسي، كل شعوب الأرض عاشت مآسيها وويلاتها، والآن لا أمل إلا في المستقبل، وليس بما خلّفته أحقاد الماضي!!»
«معذرة يامولاي، وإني لأتضرّع إلى الله، أن يكون دائماً إلى جانبك، ويُلهمك القوة والصّبر والعون، للتغلب على الماضي، ورسم طرق المستقبل»
وانصرف ملك الملوك، فيما غمر الأديب لقمان رأسه في صدر الأميرة نور السماء وشرع في البُكاء. احتوته الأميرة بكل جسدها وحنانها إلى أن غدا جزءاً منها:
«لن أدع نسيم الشرور تهبّ حيث يكون مولاي، ولن أتيح للجاحدين أن يطفئوا الابتسامات الوادعة أمام خطاه، ويطمسوا نذر المحبّة التي تنوء بها شغاف قلبه، ويطفئوا شموع الأمل المنيرة في أعماق نفسه، إنّي أرى المحبّة تفرد أسارير أجنحتها على قلوب الناس، وابتسامات الفرح ترتسم محلّقة على شفاه البشر، وبشائر السّعادة تطلّ ملوّحة من عيون الأطفال. ليطمئن قلب مولاي، ولتغمر نفسه نسائم الهناء، ولترقص لمرآى عينيه أجمل الورود. هي ذي الآمال الجميلة تلج غياهب الأحاسيس وتناغي أحلام المحبة»
«ما أعظمك أيّتها الحورية الأميرة، ما أجمل هذا الحنان الدافق من نبل قلبك، كم أتمنى أن يصحو هذا العالم من سُباته لينعُم بفيض محبّتك ودفء حنانك، يستظلُّ بفيء ابتسامتك، ويستنير برجاحة عقلك، ويستكين إلى ابتهالات الرّوح المنسدلة حتّى من حرير شعرك، فمدّي يدك يا مليكة قلبي وامسحي براحتها على جبين هذا العالم، لعلّه يستعيد محبّته من غياهب الضّياع وظلمات الأحقاد»
«سأفعل يا مولاي كل ما تشاء أن أفعله، فاخلد إلى الراحة، واستلقِ على وجهك، كي تتيح لشوق أصابع يديّ أن يلثم أسرار جسدك!»
استلقى الأديب لقمان على وجهه وإن على مضض، كما أشارت الأميرة نور السماء! لكن ما أن أحسّ بدبيب أناملها يحبو على أسارير ظهره بكل هذا الشّوق، وأصابعها تداعب عضلات جسده، وتسِلُّها عضلة إثر عضلة، حتّى استسلم لخدرٍ لذيذ، راح يسري في شرايين جسمه ومسامات جلده، ويدعوه لأن يبقى مطروحاً في السّرير لساعة أُخرى، ولو لم يكن هُناك أشياء كثيرة تنتظره لبقي مطروحاً اليوم بطوله.
حين نهض، أحسّ وكأنّه طرح عن كاهله حملاً ثقيلاً، وأنّه غدا كطائر خفيف الوزن.

* * *






(5)

حقيقة وخيال وجن وخوازيق!

وهم يتناولون إفطارهم في شرفة بيت الضيافة، أبدى الأديب لقمان رغبته في أن يبقى على اتّصال مع كوكب الأرض ليطّلع على ما يجري عليه، فأوعزت الأميرة نور السماء إلى قائد المركبة، الذي جاء بطاقم من الجن وطلب إليهم أن يبقوا في المركبة لتشغيل أجهزة الاتصال ورصد كل ما يجري على الكوكب.
جاء «شاهل بيل» رجل المعرفة ترافقه زوجته «سلمنار». كانت امرأة سمراء فاتنة الجمال، صافحت الأديب لقمان والأميرة نور السماء بتهذيب جمّ، كان بودّ الأديب لقمان أن يطمئن عمّا إذا مَرّت الليلة بسلام.
«آمل أن تكون الليلة قد مرّت بسلام على أبناء كوكبكم»
بادرت السيدة سلمنار إلى القول:
«لا أظن أن أبناء الكوكب سعدوا في حياتهم كما سعدوا هذه الليلة»
«وهل انتهت السعادة الآن؟»
«لا أيها الأديب، فالجن ما يزالون معنا»
وتنبّه الأديب لقمان إلى ما يظن أنه انتهى بمرور الليل، وراح يتساءل في سريرته عمّا سيجري، متخوّفاً من أن يقوم الجن بإفساد أبناء الكوكب وجعلهم يغرقون في اللهو والمرح وترك العمل. وربّما يزرعون الشرّ في نفوسهم بعد أن قاوموه آلاف السّنين.
«وأين هم الآن يا سيّدتي؟»
«في المنازل، في المطاعم، في الحدائق، في الكروم والبساتين والحقول والغابات، على سفوح الجبال وفي الأودية والمروج والأخاديد والشِّعاب وعلى شواطئ الأنهار والبحار والمحيطات»
«أواثقة أنتِ من أنّ الأمور تجري على ما يرام، وأنه ليس ثمة مشاكل على كوكبكم؟»
فقال شاهل بيل:
«ثمة مشاكل لا تستحق التوقّف عندها، كالإفراط في تناول الكحول والإغراق في الملذّات الجسديّة»
«ألن يسبب كل هذا مشاكل كالغيرة مثلاً، قد تؤدي إلى القتل أو سفك الدماء، أو مجرّد الشّجار بالأيدي؟»
«ليس أبناء كوكبنا من يستخدمون شيئاً للأذى حتى أيديهم، إنّ أقصى ما يفعلونه حين يغضبون، هو أن يرفعوا أصواتهم بعض الشيء!»
«ومتى كانوا يرفعون قبضاتهم أو يشهرون سكاكينهم أو ما شابه ذلك؟»
«مررنا بهذه المرحلة منذ مئات الأعوام، واستطعنا التغلّب عليها!»
«غريب، كل شيء مررتم به وتجاوزتموه، ألا تعانون من شيء الآن؟»
«أشياء لا تستحق الذكر!»
«وبمّ يمتاز أحدكما عن الآخر؟»
«بمدى معرفته، بتفوّقه في ميادين العلوم والآداب والفنون، بتفانيه وإبداعه في عمله، بسموّ نفسه، بتهذيب لغته وحسن نطقه ومنطقه، برقيّ سلوكه، بمدى محبّته للآخرين، ومدى اتّحاده بالذات الكُليّة أو الكونيّة. ثمة جوانب كثيرة في حياتنا تميّز الإنسان عن الآخر أيها الأديب لقمان»
وخطر للأديب لقمان أن يسأل:
«هل الذات الكليّة أو الكونيّة هذه، هي بمثابة الله عندكم؟»
«يمكنك أن تعتبرها مجازاً كذلك، أما إن شئت الدّقة فالذات الكلية هي الوجود، وبعض فلاسفتنا يعتبرونها المادة، لأنها أصل الوجود وأصل كل شيء، وبعضهم يعتبرونها خلاصة الحياة وروحها التي ينتظم الوجود فيها!».
«وهل تقيسون مدى اتّحاد الإنسان بالذات الكلية أو اقترانه بها أو اقترابه منها، بمدى ما يحققه من إبداع في مختلف مجالات الحياة؟»
«بكل تأكيد نعم!»
«هل يمكن القول أن العلم والإبداع هما بمثابة صلاة لهذه الذات؟»
«مجازيّاً، أو إلى حد ما، نعم!»
«وبمَ يُكافأ الإنسان المتفوّق لديكم، أو أنّه لا يُكافَأ؟»
«لا، بل يُكافأ بأن نحقق له رغباته على الكوكب»
«حتى لو طلب أن يعيش وحده في قصر، وأن يكون لديه العشرات من الخدم، وأن يتنقّل بوسائط نقل خاصّة أينما يشاء ومتى يشاء، وأن يتناول طعاماً خاصّاً على سبيل المثال؟!»
«نعم، ثمة إمكانيّة لذلك، لكن ما يجعل الإنسان المبدِع عندنا لا يقدم على طلبات تميّزه كثيراً عن الآخرين، هو اعتقاده أنّ الآخرين جزء منه، جزء من ذاته، لذا ليس من اليسير عليه أن يرى نفسه مميّزاً إلى حد كبير عنهم، يمكن أن يكون مميّزاً بشكل نسبي، وتُلبّى بعض رغباته العاديّة»
«كي أفهمكم بشكل جيّد أيها العالم، أريد أن أبسّط المسألة بمثال من عندي:
لأعتبر أن كوكبكم بيت ريفي، يقطنه أب وأم وأولادهما، ولأعتبر أن الأب هو أهم المبدعين في هذا البيت، فهو لا يميّز نفسه عن أولاده وزوجته إلا بقدر لا يبعده عنهم، وهو يحرص على جمال البيت لأنه بيته، وعلى الكتاب الذي في المكتبة لأنه جزء من ذاكرته، وعلى الجدران لأنها تحميه وتحمي البيت، وعلى نقاء الهواء الذي يدخل البيت كي يبقيه نظيفاً من الشّوائب والملوّثات، وعلى الهواء نفسه طبعاً لأنه يتنفّسه، وعلى النباتات والأشجار حول المنزل لأهميّة الأكسجين الذي تفرزه، وعلى جمال زهور الحديقة لأنها تُريح نفسه، وعلى الكرم والبستان لأنّه يأكل منهما الخضار والفواكه، وعلى الخضار والفواكه بحد ذاتها لأنّه لا غنى له عنها، وعلى الأعشاب لأنّه يستخرج منها الدّواء، وعلى الحيوانات لأنه يأكل لحمها ويشرب حليبها، وعلى التراب لأنه لا غنى عنه للنبات، وعلى الماء لعدم إمكانية استمرار الحياة دونه، وعلى المكان لضرورته، وعلى الزّمان لاستحالة الحياة خارجه، وعلى الفراغ والاتساع لحريّة الحركة، وعلى الفضاء للتحليق، وعلى النار للطهي، وعلى الحرارة لنموّ الحياة، وعلى النور للرؤية، والنور مستمد من الشمس، والشمس مركز لمجموعة كونيّة لا تنفصل بدورها عن مجموعة كونيّة أخرى، إلى آخر ما هُنالك من الموجودات والكائنات والملموسات والعناصر والأشياء وضرورتها للحياة، ولأعتبر أنّ كل فرد في هذه الأسرة يحمل هذه الرؤية الأبويّة، فهل أكون قد رسمت مثالاً مبسّطاً لفهم فلسفتكم المعرفيّة؟!»
أطرق شاهل بيل قليلاً:
«أجل يمكنكم ذلك، رغم أنّكم بسّطتم الأمر إلى حد كبير، فالمسألة أعقد من هذا التبسيط!»
«المشكلة أيها العالم أنّكم من كوكب آخر، ولا أعرف أفكاركم الدينيّة ولا فلسفاتكم الماديّة والعلمانيّة وأنظمة حكمكم السابقة، ولا تعرفون أفكارنا وفلسفاتنا نحن أبناء الأرض، وإلا لما كان هُناك أيّة مشقّة في الحوار، لكن يبدو لي أنّكم عرفتم معظم ما مررنا به، بل وما نزال نعيشه من أفكار دينيّة وفلسفيّة وأنظمة حكم، وأنا أناقشكم على ضوء معرفتي المتواضعة لأدياننا وفلسفاتنا، فأنا أديب ولست فيلسوفاً، وأمضيت نصف عمري في تعلّم اللغات وقراءة الرّوايات والمسرحيّات والشعر، والاستماع إلى الموسيقى والغناء ومشاهدة السينما ومن ثمّ الكتابة، ولم أخصص للفلسفة والأديان والأساطير وعلم النّفس والتاريخ والفضاء والفكر والسياسة والاقتصاد والنّبات والطب إلا النصف الآخر.
كم بودّي التعرّف إليكم أكثر، والتجوّل في مدينتكم، وزيارة متاحفكم ومصانعكم، ولا أعرف فيما إذا سيسمح وقتي بذلك، إذ ثمّة كوكب بائس يزخر بالمشاكل، تركته خلفي يعيش حالة ترقّب وقلق بعد أن نزعت سلاحه»
ظهرت في السماء كوكبة من الجن تحمل فتيات من الإنس وكوكبة من الجنيّات تحمل شباباً من الإنس، كانوا يحلّقون على ارتفاع منخفض ولجلجة ضحكاتهم تتناهى إلى الأسماع.
هتفت السيدة سلمنار:
«أترى أيها الأديب كم هُم سعداء؟!»
«حقاً، يبدون سعداء، لكن ألن نؤخّركم عن أعمالكم؟!»
«سنعطّل عن العمل ونحتفل ما دمتم في ضيافتنا!»
«أهوَ الراعي الأكبر الذي أشار بذلك؟»
«نعم، لكنها كانت رغبة الجميع»
سأل الأديب لقمان الأميرة نور السماء عمّا إذا تعبت من الترجمة، فنفت ذلك، فطلب إليها أن تسأل السيدة «سلمنار» عمّا يعنيه اسمها بلغة أهل «سوهار» فسألتها فأجابت:
«سلمنار.. أي السّالمة من النار، إذا كان المسمّى أنثى، أما إذا كان ذكراً فيذكّر المعنى، وهو اسم قديم كان يرتبط بدين سابق لنا، كان أتباعه يؤمنون بوجود الجنّة والنار في حياة أخرى!»
«وشاهل بيل؟»
«شاهد الحقيقة!»
«يبدو لي أن لغتكم القديمة هذه كانت قريبة من العربيّة التي أتحدّث بها أنا يا سيدتي»
«معظم اللغات عندنا كانت متقاربة، ولا يستبعد أن تكون متقاربة مع لغاتكم أيضاً»
وتدخّل شاهل بيل متسائلاً عمّا إذا يودّ الأديب لقمان النهوض للتجوّل في المدينة، على أن يتابعوا الحديث خلال التجوال، فوافق الآخر على الفكرة، ونهض متسائلاً عن ملك الملوك، فانبثق أمامه بلمح البصر.
«أين أنت أيها الملك؟»
«مع الجميلات يا مولاي، تناولنا الفطور في جناحي»
«أما زلن هُن هُن أم أنّك استبدلتهن أو أضفت إليهن؟!»
«لا لم أستبدلهن يا مولاي، لكني أرحت بعضهن، وأتيت بغيرهن أيضاً من بنات الملوك، وبنات!»
وتردد ملك الملوك وبدا خجلاً بعض الشيء لأوّل مرة:
«وبنات الـ ماذا أيها الملك؟»
«وبنات الإنس يا مولاي، اصطحبت معي تسعاً من ليلة الأمس!»
ولم يخفِ الأديب لقمان دهشته من قدرة ملك الملوك على اصطياد فتيات الإنس أيضاً.
«لكن إياك أن تمشكلنا مع مُضيفينا أيها الملك؟»
«أبداً يا مولاي، كانوا سُعداء، وهُنّ الآن سعيدات، ولولا خوفي منك لاصطحبت مائة منهن!»
«مائة؟ هل يُعقل هذا؟!»
«مولاي.. أنت تنسى أنني جنيّ ولستُ إنسياً، ولا تعرف أن طاقتي الجنسيّة تُعادل طاقة مائة ألف رجل، ثمّ إنهنّ جميلات وممتعات يا مولاي، وأنا خلفي ثلاثة!»
«أعرف ثلاثة آلاف عام من القهر والحرمان! لكني حقاً لم أكن أعرف طاقتك الخارقة هذه، رغم توقّعي ذلك، على أية حال يكفيك تِسع إنسيّات، واختر من الجنيّات ما يحلو لك، ولا تنسَ أن تدع الإنسيّات ينصرفن متى شئن!»
«لقد وقعن في حُبّي يا مولاي، ولا يصدّقن حتى الآن أنهن خليلات ملك ملوك الجن»
ابتسم الأديب لقمان وهو يأخذ بيد الأميرة نور السماء ويهمّان للنزول من البيت.
«هل أرسلت ما طلبته منك إلى أسرتي؟»
«نعم يا مولاي، أرسلت لهم جنيّاً في شكل إنسيّ ادّعى أنّه صديقك ومرسل من قبلك، وقدّم لهم حمولة شاحنة مما طلبته، وأخبرهم أنّك بخير وتسلّم عليهم، وستعود إليهم قريباً، وهم الآن في غاية السعادة»
«أشكرك أيها الملك، ألا تريد أن تتجوّل معنا أنتَ وخليلاتك؟»
ويبدو أن ملك الملوك كان قد حزم أمره على ما هو أجمل، فقد أجاب على الفور:
«لا، ليسمح لي مولاي، فقد دعوت الفتيات ومن يرغبن في دعوته لتناول الغداء على المرّيخ!»
«على المريخ أيها الملك؟!»
«أجل يا مولاي، لأقنعهن أني ملك ملوك، وأنني قادر على فعل المعجزات»
«ومتى ستعودون؟»
«قبيل الأصيل يا مولاي»
«وإذا ما احتجت إليك؟»
«ما عليك إلا أن تهتف باسمي يا مولاي لتجدني أمامك»
«وإذا ما واجهتكم مشكلات على المريخ؟»
«وهل ثمة مشاكل يمكنها أن تعترض طريقي يا مولاي وأنا خارج القمقم؟»
«لكن إياك وسفك الدّماء»
«حتى لو اضطررت إلى ذلك يا مولاي؟»
«اعمل على ألا تضطر»
«وحتى لو كان مسببو المشاكل من غير الإنس؟»
«حتى لو كانوا من الجن أو الطيور أو الحيوانات أو النباتات أو الأسماك!»
«وإذا كانوا من الملائكة والشياطين؟»
«حتى لو كانوا كذلك، لا نُريد أعداء أيها الملك، إذا وجدت الكوكب مأهولاً بكائنات ما، فابحث عن أرض خالية، وإذا لحق بك أحد اهرب بضيوفك»
«أمر مولاي»
«لا تنسَ أننا دعونا مواطني الزُّهرة على حفل عشاء في السماء»
«لم أنسَ يا مولاي، أوعزت إلى مليونين من مهرة الجن للتحضير للحفل»
«ماذا ستفعل بالمليونين أيها الملك؟»
«سترى في المساء يا مولاي»
«هل ستقلب الدنيا رأساً على عقب؟»
«لا لن أقلبها يا مولاي»
«حسناً، سنظل قلقين إلى أن تعودوا»
«لا تقلق يا مولاي»
نزل الأديب لقمان والأميرة نور السماء والعالِم «شاهل بيل» والسيدة «سلمنار» وراحوا يتجوّلون في شوارع المدينة التي بدت واسعة ونظيفة وجميلة وتزيّنها النباتات والزهور والأشجار المختلفة، وكانت شبه خالية من الحافلات، وقد أُقفلت جميع الدّوائر والمؤسسات والحوانيت لاحتفال سكّان الكوكب بضيوفهم من أبناء الجن، وكان هُناك بعض الشباب والفتيات يتجوّلون في الشوارع أو ينتشرون في الحدائق والمتنزّهات.
توقفوا في ساحة كبيرة تنتصب فيها مئات التماثيل المختلفة لنساء ورجال، قال شاهل بيل:
«إن هذه التماثيل هي لمبدعين ومتفوّقين في تاريخنا، ومعظم الساحات وسطوح بعض الأبنية عندنا يقام عليها مثل هذه التماثيل»
نظر الأديب لقمان إلى أعلى البنايات، كانت التماثيل تحيط قواعد الأشكال المخروطية والهرمية التي تعلو أسطح البنايات.
«لكن، ما هي الغاية من هذه الأشكال السامقة للسطوح عندكم؟»
«إنها بالدرجة الأولى ترمز للتطلّع إلى المعرفة، وهي مستوحاة من الخوازيق التي كانوا يجلسون عليها العظماء والمفكّرين من أجدادنا»
«ولماذا كانوا يخوزقونهم؟!»
«لاختلافهم معهم في أمور الدين والمذاهب والمعتقدات والأفكار والنظم السياسيّة وغير ذلك»
«وهل كانت الخلافات تبلغ حد الخوزقة؟»
«والحروب أيضاً»
«هل كان الخلاف في العادة يدور بين دين ودين آخر، أو فكر وفكر آخر، أم بين تابعي الدين أو الفكر ذاته؟»
«حدث عندنا كل ما يمكنك أن تتخيّله من صراعات حتّى بين الأب وابنه»
«وكيف تجاوزتم هذه المرحلة؟»
«كثرة الصراعات وما كان ينجم عنها من ضحايا أدّت إلى ظهور نظام رأسمالي ديمقراطي، أتاح الحوار بين الأفكار المختلفة، وأتاح ظهور أحزاب وأفكار جديدة، حتى بلغ الأمر في بعض الأقطار إنشاء حزب في كل قرية، ولم يعد في مقدور أي جماعة أو أي حزب الوصول إلى السلطة إلاّ بالتحالف مع أحزاب أخرى، غير أن هذه المرحلة لم تدم، فلقد غدت الشعوب واعية ولم يعد في مقدور أحد الوصول إلى السُّلطة مهما كان ديمقراطياً وعلمانياً ومتفانياً في خدمة الشعب!»
«وهل يُعقل هذا؟»
«ولماذا لا يُعقل؟»
«يمكن أن تتحد الأحزاب جميعاً وتنجح في الانتخابات»
«لقد اتّحدت! أقصى اليمين مع أقصى اليسار، وأكثر الأحزاب تناقضاً فيما بينها ولم تنجح، لأن أكثرية الشعوب لم تعد تؤمن بالأحزاب والطّوائف!»
«وبماذا أصبحت تؤمن؟»
«بالمعرفة، بالعلم، بالعمل، بالمحبّة!»
«ألم تكن الأحزاب تؤمن بالمعرفة؟»
«بلى، لكن انطلاقاً من فهمها للمعرفة، فالمؤمن كان يرى أن الله هو مصدر الخلق، والعلماني كان يرى أن المادة هي المصدر»
«ولِمَ رفضت الشعوب الماديين؟»
«لأن الانتماء الحزبي ظل في معظم جوانبه أقوى من الانتماء المعرفي، إلى أن أصبح الماديّون شبه لاهوتيين، لا يقبلون أي نقد لأفكارهم!»
«هل هذا يعني أنه لا يوجد لديكم أحزاب الآن؟»
«أبداً، نحن الآن نرى أنه كي تفكّر بشكل حُر يجب أن تكون حرّاً، وخارج أي انتماء مهما كان!»
«وكأنك تتحدث في اللامعقول أيها العالم؟»
«لماذا؟»
«أليس السلوك المعرفي للفرد إذا جازت التسمية، انتماء للمعرفة بشكل أو بآخر؟»
«أجل!»
«إذاً عُدنا إلى هذه الدوّامة، عُدنا إلى الانتماء حتى لو كان معرفياً»
«لكنه غير مقيّد»
«بالعكس، أنا أرى أنه مقيّد ولو نسبياً، فكل ما يتناقض مع المعرفة التي حددت أطرها وأسسها وقوانينها، أو لنقل رسمت أو وضعت من قبل الفرد أو المجتمع أو السُّلطة، سيكون في مجال شك، وقد يُلغى ولا يؤخذ به!»
«هل توضّح لي ذلك أفضل بمثال من أمثلتك المبسّطة كي أعرف ماذا تقصد بالضبط؟»
«انظر إلى السّماء أيها العالم؟»
ونظر «شاهل بيل» والسيدة «سلمنار» والأميرة نور السماء إلى السماء، فشاهدوا الجن والإنس يحلّقون في جماعات، ويقومون بطقوس عجيبة في الفضاء، إما يلعبون، أو يمارسون الحب، أو يرقصون، أو يغنّون أو يتمتعون بالتحليق في الفضاء.
«هل شاهدت وتأكّدت مما يجري أيها العالم؟»
«نعم»
«ألا يتناقض هذا مع الأُطر التي وضعتموها للمعرفة أو مع رؤيتكم المعرفية؟!»
وأطرق شاهل بيل للحظات، وما لبث أن هتف ليفحم الأديب لقمان:
«لا أيها الأديب لقمان، إنه لا يتناقض أبدا!!»
«لقد أفحمتني أيها العالم، رغم أنني شخصياً أرى أن كل هذا الذي يجري الآن خيال يتناقض تماماً مع معرفتي!»
«لقد قلتها بنفسك أيّها الأديب، ومع ذلك ترى في المسألة تناقضاً مع معرفتك!»
«كيف؟»
«قلت إنه خيال، ونسيت أنك لم تعرف أنه خيال إلا انطلاقاً من معرفة حصلت عليها، ولها أطر في عقلك، إذن فهو لا يتناقض مع معرفتك!!»
وأطرق الأديب لقمان مفكّراً ثمّ هتف:
«لأفترض أنه حقيقة، فهل سيتناقض حينئذ؟!»
«بالتأكيد لا!»
«متى سيتناقض إذن؟»
«حين نرى أن هذا حقيقة ما بعدها حقيقة، أو خيال ما بعده خيال!»
«هل هذا يعني أنه لا يوجد حقيقة ثابتة وحقيقة خياليّة أو متخيّلة؟!»
«بشكل نسبي يوجد، أما بشكل مُطلق فلا، فكل حقيقة تخضع لزمانها ومكانها وحركتها وسكونها وعوالمها ومكوّناتها»
«يبدو أن الحق معك أيها العالم، فأنتم توغِلون في المُطلق واللانهائي، هل في ميسوري القول الآن، إن ما يجري الآن خيال بقدر ما هي معرفتكم حقيقة؟»
«لكن قولك هذا قد يحتمل أكثر من تأويل، ومع ذلك يمكنني القول "نعم.»
«لنعُد بحوارنا إلى الوراء أيها العالِمْ، حين ظهرت عندكم ديكتاتوريات ملكيّة أو جمهورية، أو اتحادية، ذات حزب واحد، أو أحزاب متعددة»
فقاطعه شاهل بيل:
«ديكتاتورية الأحزاب المتعددة والمتحالفة خوزقت من أجدادنا أكثر مما خوزقت الأنظمة السابقة، البروليتاري منها والرأسمالي!»
«أريد أن أعرف ماذا جرى في هذه المرحلة الفاصلة بين تلك النّظم المختلفة، ونظامكم الحالي، فبعد سقوط الأحزاب والطوائف وغيرها، ألم يرشّح العلمانيون والمستقلون أنفسهم للسلطة؟»
«بلى، لكن الأحزاب أخذت تغتالهم، فلم يعد أحد يرشّح نفسه، وعاشت البلاد بعد ذلك حالة من الفوضى، ورغم فوضويتها، كانت أفضل من أي نظام سابق!»
«هل حدث ذلك في بعض الدول على الكوكب أم كيف؟»
«بدأ بدولة ديمقراطية كبرى يحكمها حزب واحد ليبرالي، ثم انهارت خلفها دول أخرى، إلى أن انهارت الدول الرأسمالية الليبرالية كُلّها، لتتبعها الأنظمة المختلفة الأُخرى في كافة أنحاء الكوكب، ولم يعد هناك مفر من نهوض حُكم الشعب في الدول المختلفة، ولم يكن من العسير فيما بعد أن تجد هذه الشعوب والأمم الكثير من النقاط المشتركة في أفكارها، فعملت على التقريب فيما بينها إلى أن قررت الاتحاد في نظام اللا دولة، الذي يمكن أن نطلق عليه مجازاً اسم دولة»
«لدي سؤال من مئات الأسئلة التي تلحُّ عليّ، سأسأله قبل أن ننتقل إلى الخطوة اللاحقة. أريد أن أعرف شيئاً أكثر عن الديمقراطية التي كانت سائدة في دول الكوكب المختلفة والتي رفضتها الشّعوب»
«كل نظام وكل حزب، كان يفصّل ديمقراطية على مقاسه! ديمقراطية تتيح له أن يبقى في السُّلطة، حتى الملوك والجنرالات ابتكروا ديمقراطيات تتلاءم مع مصالحهم»
وشرع الأديب لقمان في الضحك وهو يحلّق بخياله في كوكب الأرض.
«لننتقل إلى المرحلة اللاحقة التي شكّلت بدايات النظام المعرفي الحالي. كيف وجد أجدادكم أن ثمة ما هو مشترك بين الفكر اللاهوتي والفكر العلماني مثلاً؟!»
«في الفكر اللاهوتي ثمة خالق هو الله وهو موجود منذ الأزل، وفي الفكر العلماني ثمة مادّة موجودة منذ الأزل أيضاً، جاء منها الخلق، وانطلاقاً من هاتين النقطتين تمَّ التعمّق في كافة المسائل، وأخذت الرّؤى تتعمّق وتتطوّر إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه لتشمل كافة نواحي الحياة»
«لكن كيف حللتم مشكلة الخلق، بين من يرى أن الوجود مخلوق من خالق وبين من يرى أن الوجود أزلي وغير مخلوق؟»
«حين تمَّ تحرير العقول من تعصّبها، لم يكن من الصّعب على أجدادنا أن ينطلقوا من العَدَم، ليقنعوا أجدادنا الآخرين بلامعقولية تفكيرهم»
«آمل أن توضّح لي ذلك أيها العالم»
«الإقرار بالخلق ينجم عنه الإقرار بالعدَم قبل كُلّ شيء، فإذا لم يكن هُناك إلاّ العدم، فهل كان الله عدماً، وهل جاء من هذا العدم؟ ثمَّ كيف يمكن أن يأتي عدمٌ من العدَم، والأدهى من ذلك أن يَخلِقَ هذا العدم وجوداً بهذا الحجم الهائل من العَدَم وليس من مادّة ما؟!.
لم يجد اللاهوتيون تأويلاً لذلك، فاقتنعوا بالوجود الأزلي للمادة من تلقاء نفسها ودون أن يخلقها أحد، خاصة وأنه كان هناك من سبقهم من المتصوّفة والفلاسفة اللاهوتيين من اعتقد بأسبقيّة المادة، بل وأسبقيّة الوجود،واتّحاد الله بنفسه بهذا الوجود كُلّه وعدم انفصاله عنه، إلا بقدر انفصال الله عن أنبيائه، والشخص عن ذاته، واللوحة عن راسمها، والمنحوتة عن ناحتها، والقصيدة عن ناظمها، إلى آخر ما هنالك من خالقين ومخلوقات، أو من ذات وانعكاساتها، أو تجلياتها.
لماذا تنظر إليّ بهذه الدهشة أيها الأديب؟»
«أشعر أحياناً وكأنك صاعد من كوكب الأرض إلى كوكب الزهرة، بل أحياناً أشعر أنّك أنا لولا أنني مازلت أنتمي إلى هذه الأنظمة البائسة على كوكب الأرض»
«يبدو لي أن البشر جميعاً في الكواكب والأكوان المختلفة، مرّوا بأنماط متشابهة من التطوّر، لكن عزلتهم عن بعضهم، لم تتح لهم الإفادة من معارف غيرهم»
«لكن، نحن على الأرض لسنا معزولين عن بعضنا، والدّول المتطوّرة نسبياً عندنا تعتبر أنّ ما وصلت إليه من تطوّر في بعض مجالات العلوم والتكنولوجيا، أسرارٌ هامة لا تتيح لأية دولة أخرى وحتى لمواطنيها الاطلاع عليها»
«لقد مررنا بما هو أسوأ من ذلك!»
«لنعد إلى الخوازيق أيّها العالم، والتي جلس بعض أجدادنا أيضاً عليها، وما نزال نحن نجلس، وإن اختلف شكل الجلوس والخوزقة! أظن أنك لم تكمل لي حديثك عنها ولماذا هي سامقة؟»
«سامقة، لتعطي دلالة على السّمو والشموخ والخلود، أو لتوحي بالرفعة والقوة، وعدا عن الجمالية التي تضفيها على البناء بحد ذاته، وعلى المدينة بشكل عام، فهي تقاوم الصّواعق والعواصف والأعاصير والأمطار الغزيرة وغيرها من العوامل الطبيعيّة الأخرى، التي قد تؤثّر على عمر البناء»
«ولِمَ استوحيتم الشكل من الخازوق وما علاقته بالمفاهيم التي تحدّثت عنها، والدلالات التي أشرت إليها؟»
«الخازوق عند أجدادنا كان يرمز إلى عضو الذكورة والقوّة الجنسية، وكانوا يرون أن الغريزة الجنسّية بحد ذاتها وما تدفع إليه من فعل جنسي، وما ينجم عن ذلك من حياة مسألة مقدّسة»
«وهل تحترمون هذه النظرة الآن؟»
«بالتأكيد، ونمارس الجنس بحريّة كما ترى، شريطة توفّر القبول لدى الطرفين، أو لدى الأطراف المختلفة»
«ولم تضعوا شروطاً أخرى»
«لا، أو أنها شروط ليست بذي أهميّة»
«حتى لو كان بعض الأطراف متزوّجين؟»
«لا يوجد عندنا زواج حسب بعض المفاهيم التي طبّقها أجدادنا، الزواج عندنا الآن هو اتّفاق اثنين على حياة مشتركة لزمن غير محدد، قد يكون شهراً، وقد يكون العمر كُلّه!»
«وماذا عن تكوين الأسرة؟»
«إذا أنجبا يكون الأولاد أولادهما طبعاً!»
«وإذا اختلفا عليهم من يأخذهم؟»
«لا يأخذهم أحد، فهم أولاد الاثنين، وقد يعيشون مع الأم أو مع الأب، أو في مؤسسات رعاية الأطفال، والغالبية العظمى تختار هذا الحل، لأنه الأفضل لدى الجميع، وقد يأتي الآباء معاً أو منفردين، ويصطحبونهم في رحلات أو زيارات وما إلى ذلك. وانفصال الرّجل والمرأة عندنا لا يعني أنّهما ابتعدا أحدهما عن الآخر، فهما يتّحدان بالذات الجمعيّة»
«أنت تستخدم تعبير الذات الجمعيّة لأول مرّة»
«هي جزء أكبر من الذات الفرديّة أو الخاصة أو الصغرى، وأقل من الذات الكلّية أو الكونيّة، إن التسميات ليست مهمة لدينا، المهم هو الدلالات»
«وماذا عن الخيانة الزّوجية؟»
«لا يوجد عندنا خيانة، إذا اشتهى أو رغب أحد الطّرفين طرفاً ثالثاً وهذا يحدث دائماً، فهي حق طبيعي له، وإعلام الطرف الثاني أو عدم إعلامه مرتبط بالاتفاق الخاص بينهما، وهذا الاتفاق قابل في كل لحظة للتغيير والإلغاء من قبل أي طرف!»
«هل هذا يعني أنّه لا يوجد عندكم رغبات غير مشروعة»
«بل يوجد كثير، فكل اثنين لهما شرعهما الخاص بهما، وثمة بيننا من يتعاهدون على الحب والإخلاص إلى الأبد!»
«وماذا عن المحرّمات الجنسية لديكم؟»
«لا يوجد عندنا محرّمات بالمعنى الديني السابق، يوجد ما هو مكروه وما هو غير مرغوب. المكروه، مضاجعة الأم والبنت والأخت والخالة والعمة، وغير المرغوب مضاجعة ابنة العم والخال والخالة والعمة، وأيّة فتاة من الأسرة ذاتها مهما كانت قرابتها، خاصّة إذا ما كان هدف المضاجعة هو الإنجاب! ثمّ إن الافتضاض للفتاة غير مرغوب قبل سن العشرين، والإيلاج للفتى قبل السن ذاتها أيضاً، ونقصد من ذلك، أن يصل الفتى والفتاة إلى سن النضج الذي يتيح لهما إدراك أبعاد العُلاقة، لكن الرغبات الغريزيّة العفوية والتي يعبّر عنها الأطفال مع بعضهم بالمداعبة والملامسة والتقبيل، فهذه تعتبر مشروعة مهما كان سن الطّفل، لكن يتم إرشاد الأطفال من قبل الأبوين أو المؤسسة الراعية إلى كيفية ممارستها وشروط هذه الممارسة حتى لا يؤذي الأطفال بعضهم، أو يتناقلوا الأمراض.
كذلك مكروه جداً عندنا أن يقوم رجل بالغ بممارسة هذه المداعبات لمن هُنّ دون سن الثامنة عشرة، وهذا ينطبق على النّساء البالغات في تعاملهن مع الفتيان الصّغار. أظن أن سن الثامنة عشرة يقارب سن الرابعة عشرة على كوكبكم!»
«غريب أيّها العالم!»
«ما هو الغريب؟»
«حالنا على الأرض، فأنظمتنا رغم العديد من الشّرائع التي تتبعها، لم تضع حلولاً ترقى إلى حلولكم في هذه المسائل، إذ ثمّة مشرّعون من أممنا، أتاحوا الزواج من صغيرات في سن التاسعة، ومداعبتهن وتفخيذهن وهن في السادسة، بل وذهب بعض اللاهوتيين لدينا إلى إتاحة ذلك حتى مع الرّضيعة، وأوغلوا في الخيال إلى حدّ تصورواً فيه رجلاً يمكن أن يطأ طفلة صغيرة ويخرّب جسدها، كأن يشقّ مَهبلها على شرجها ومجرى بولها، بحيث يصبح الثلاث مجرى واحِداً!!»
«ولماذا تصوّروا ذلك؟»
«لكي يعاقبوه إذا ما تجاوز المداعبة إلى الافتضاض أو التدمير!!»
«هل يعقل أن تحدث مثل هذه الآثام عندكم؟»
«بل ما هو أسوأ، إذ لا يوجد في معظم دولنا أية ثقافة جنسيّة أو توعية وتوجيه جنسي للأطفال، فيعيشون طفولتهم بأشكال عشوائية، إلى حد قد يضاجع الأخوة أخواتهم والأخوات إخوتهن، وأحياناً النوع مع ذاته كأن تمارس الإناث السُّحاق، أو يمارس الذّكور اللواط، والمصيبة أنّ هؤلاء الأطفال ما أن يكبروا قليلاً حتى يواجهوا عالم الحجاب والمنع والمحرّمات غير المعقولة، مما يؤدّي إلى صدمات نفسيّة تدميريّة فظيعة تورث الطفل أمراضاً مزمنة لا ينجو منها إلا القلّة!»
«يبدو لي أنكم متخلّفون كثيراً أيها الأديب، فما تتحدّث عنه شيء فظيع عندنا»
«للأسف لا يوجد في كوكبنا إلا الفظائع، وإن تستّر بالأخلاق الزائفة!»
«لكن لماذا لا يوجد توجيه جنسي للأطفال عندكم؟»
«المسألة تتعلّق بالتخلّف، فالتحدّث مع الأطفال، بل ومع الكبار، عن هذه الأمور يعتبر عيباً وعاراً، وينمو الطفل ويكبر أحياناً دون أن يعرف حدود العيب والعار والحرام، أو يعرفها ويطبّقها بشكل خاطئ. مما ينعكس على سلوكه وحياته الجنسيّة، كأن يصاب بالبرود الأبدي، وهذه الحالة تصيب النساء عندنا أكثر مما تصيب الرّجال، إذ ثمة نساء يتزوجن وينجبن أطفالاً ويشخن دون أن يعرفن ما هي الذروة الجنسية، بل دون أن يسمعن بها!»
«لماذا لا تحدّثنا عمّا تعرفه أنت معايشة من قصص كوكبكم، فقد نفيد منها بعض الشيء!»
«لو حدّثتك عن مآسٍ أعرفها لما صدّقت»
وهتفت السيّدة سلمنار:
«أنا سأصدّق، يا ليت لو تحدّثنا شيئاً!»
«وأنا سأصدّق بالتأكيد أيها الأديب لقمان!»
«لكن هذه مسائل تحتاج إلى زمن وأنا متعب وفي عجلة من أمري»
«اختصر أيّها الأديب!»
«قصة واحدة فقط!»
«ليكن وبعدها سنرى!»
«عرفت شاباً، كان يتردد على الطبيب النفساني، وكم سألته عمّا يعاني منه، فلم يقبل مصارحتي، حتّى طبيبه الذي كان صديقي لم يقبل أن يقول لي شيئاً عمّا يُعاني منه، إلى أن عجز جميع الأطباء عن معالجة حالته، كان ثمة أثر عميق في نفسه، يخزه ويجرحه ويؤنّبه باستمرار، لم يستطع تجاوزه، ودفعه مراراً إلى الانتحار، إلا أنه كان يجد من ينقذه في كل مرّة.
فوجئت به ذات يوم يأتي إليّ راغباً في مصارحتي واستشارتي في الأمر. كان كبير تسعة أُخوة من الذّكور والإناث، وقد افترس إخوته الثمانية ذكوراً وإناثاً مستغلاً صغرهم، فما أن يبلغ أحدهم الخامسة أو السادسة حتّى يفترسه!»
«ماذا تقصد بالافتراس يا مولاي؟»
«الاغتصاب الجنسي أيتها الأميرة»
«وظلّ يمارس معهم إلى أن كبروا وبلغوا، وكان هو قد تخرّج من الجامعة. ويبدو أن الإحساس بالذنب لم يتعمّق لديه إلا بعد أن رفضت أخواته الزّواج ممن تقدّموا إليهن»
«ولماذا رفضن؟»
«لأنهن لسن عذراوات، والعذريّة شرط أساسي للفتاة في بعض دولنا أيّها العالم، فتلجأ بعض الفتيات غير العذراوات عندنا إلى إجراء عمليّة رتق عند الطبيب، كي تقنع العريس بعذريتها وطهارتها ليلة الزفاف!!
المهم! لم يعد هذا الشاب قادراً على مواجهة طالبي نسبه بعد وفاة أبيه، كما لم يعد قادراً على مواجهة إخوته وأخواته، فهرب إلى العاصمة»
«وماذا فعلت له؟»
«كانت مصيبة أكبر من أن أقدر على حلّها، وأكبر من كل الكلام الذي يمكن أن أنصحه به، وتمنّيت لو أنّه لم يخبرني، لقد بتُّ أخاف على أولادي وأولاد الناس منه. لكنه لم يعد يأتي إليّ، إلى أن عرفت أنه عاد ليقيم مع أسرته، بناء على نصيحة الأطباء، شريطة أن يلتزم السُّلوك السَّوي مع إخوته وأخواته، لعلّه يتحسن ويستطيع مواجهة واقعه.
«وهل واجههُ؟»
«يبدو أنّ الصُّدف أو ربما الأقدار، تلعب دوراً هاماً في إنقاذ كثيرين من ظروفهم الصعبة»
«ماذا حدث؟»
«لقد شبَّ حريق هائل – أثناء نومهم – في البيت، وكان هو المستيقظ الوحيد»
«وما أسباب الحريق؟»
«انفجار اسطوانة غاز، كان باب المطبخ مغلقاً والأسطوانة تهرّب الغاز، وحين دخل إلى المطبخ وضغط على زر الكهرباء ليضيء النور هبّ الحريق، لتتفجر الاسطوانة ولتنتشر النار في البيت كُلّه.
تفانى في إنقاذ إخوته وأخواته. قيل لي أنه كان يلفّ أحدهم بحرام ويحمله إلى الخارج ويعود ليقتحم الحريق، وينقذ آخر، إلى أن أنقذ الجميع، واحترق هو. ماتت الأم فيما بعد من جرّاء الحريق، وتشوّهت إحدى الفتيات»
«ألا يمكن أن يكون هو قد دبّر الحريق بقصد التطهير من عذاب الضمير، والتكفير عن الذّنب، خاصة وأنه كان مصراً على إنقاذ الجميع ليحترق هو ويموت»
«هذا وارد أيّها العالم، وقد فكّرت أنا في الأمر حين سمعت القصة، وعرفت أن إخوته حزنوا عليه كثيراً!!»
«وماذا بعد أيها الأديب؟»
«يمكنك أن تعتبر هذه القصة كأسوأ نموذج للتربية الجنسية عندنا»
«يا ليت لو تحدّثنا قصصاً أخرى عن هذه المسائل، فنحن مانزال نوليها جُلّ اهتمامنا، ولا نظن أننا حتّى الآن نسلك الطريق الأفضل، وخاصّة فيما يتعلّق بالجنس عند الأطفال، أو بين الكبار والصّغار»
«لدي مئات القصص، وكلّها حقيقيّة وليست من خيالي، لكني لستُ مهيّأً لقصّها حتى بهذا الأسلوب غير القصصي، ولا توجد لدي رغبة في الحديث، أفضّل الاستماع إليكم والاطّلاع على عوالمكم»
«ستطلّع على كل شيء تريده أيّها الأديب، لكن أرحنا قليلاً وتحدّث أنت!»
«هل تعبت من الحديث؟»
«إلى حد ما!»
«سأحدثك بعض القصص، لكن لنذهب إلى مطعم ما، أريد أن أرى مطاعمكم وأتناول قليلاً من البيرة»
«ليكن أيها الأديب»

* * *
(6)
بطيخ وبغال وزنى أبوي!!

اصطحبهما شاهل بيل والسيّدة سلمنار إلى مطعم، ظن الأديب لقمان أنّه أرقى مطاعم المدينة وأجملها. كان المطعم يعجّ بالمئات من الإنس وضيوفهم من الجن، الذين كان معظمهم يرقصون رقصات جنونيّة على مسرح المطعم، وبين الموائد والممرات، والظريف أن بعض الطهاة والنُّدل كانوا يرقصون أيضاً حتى وهم يقومون بتقديم الطلبات وتحضير الطّعام. وبدا أن الإنسيات كن مسرورات للغاية ببهلوانيّات الجن وشقلباتهم على المسرح، خاصّة حين يمسك جنّي ما إنسيّة ويقلّبها بين يديه أو يشقلبها رأساً على عقب، أو يمددها على كتفيه ويدور بها، أو يحملها على راحة يده، وهي تستجيب لكل ذلك بمتعة فريدة!
رحّب مدير المطعم بهم وأفرد لهم طاولة بعيدة بعض الشيء عن الضجيج والضوضاء. تأمّل الأديب لقمان الراقصين والمبتهجين إنساً وجنّاً، وما لبث أن شرع في التساؤلات كالعادة:
«هل يتاح لأي مواطن عندكم أن يتناول طعاماً مجاناً في مطعم كهذا؟»
«أنا أختلف معك أيّها الأديب حول كلمة مجّاناً، فهذا المواطن يعمل ويتعب ومن حقّه أن يأكل ويشرب ما يشاء في أي مطعم، مع أنّ مستوى المطاعم لا يختلف عنه من مطعم إلى آخر، فكُلّها درجة أولى إن شئت التصنيف، وكلّها تقدّم الطعام ذاته والمشروبات ذاتها وبالطريقة ذاتها، والسائد أكثر لدينا هو الخدمة الذاتية، لذلك تجد الندل قليلين عندنا!»
«لكن!»
فقاطعه شاهل بيل قائلاً:
«أنسيت أنه جاء دورنا للاستماع إليك؟»
«ليكن! لكن سأختصر لأقول، إن المشاكل في كوكبنا أكثر من أن تحصى، وفيما يتعلّق بالمسألة الجنسية، تجد نساء عندنا ورغم القناع الأخلاقي يضاجعن أبناءهن، ورجالاً يضاجعون بناتهم، وثمة من يضاجعون البهائم والحيوانات وحتى الفواكه والخضار، وثمة من يخونون نساءَ هم، وثمة من يخنّ رجالهن، وثمة من يتزوّجون امرأة كل أسبوع على سنّة الله ورسوله، وثمة من لديهم مئات الجواري والغلمان!»
«مهلاً، مهلاً أيها الأديب، ماذا تقصد بمضاجعة البهائم والفواكه والخضار؟!»
«يا عزيزي.. عندنا في الريف يلجأ أبناء الفلاحين إلى مضاجعة الجحشات والبغلات والأبقار والمعز والنّعاج والخنازير. وفي المدينة، وربّما في الريف أيضاً، تلجأ النسوة إلى الخيار والجزر والموز والكوسا والفقّوس والباذنجان، وحتى الزّجاجات الأسطوانية والصبّار!»
«الصبّار؟»
«نعم! ذات مرة فعلتها فتاة من قريتنا لم تجد غير الصّبار لأن شوكه يثيرها أفضل من أي فاكهة أُخرى!»
«وأنت ماذا أدراك أيها الأديب؟»
«هي قالت لي حين رأيت شفريها متورّمين!»
وراح السيد شاهل بيل وزوجته يضحكان، فيما الأديب لقمان يتابع:
«لكن إن شئتما الأطرف، فهو ما فعله أحد المراهقين في بلدتنا مع البطيخة، حيث ثقب في قشرها دائرة بحجم عضوه، وحفر لها حفرة في الأرض كي تستقر فيها واستلقى فوقها. كان أمتع شيء في هذه المضاجعة، هو إحساسه بتمزّق لُب البطيخة أمام ضغط عضوه، فقد كان يشعر أنّه يفتض بكارة عذراء»
كان رجل المعرفة يضحك هو والسيدة سلمنار والأميرة نور السماء والأديب لقمان يتحدّث ببراءة الأطفال:
« وذات يوم أمعن هذا المراهق في الخيال، فأحضر بطيخة وبرتقالتين!»
فتساءل شاهل بيل:
«ولِمَ أحضر البرتقالتين؟»
«كي يجعل منهما نهدين يرضعهما وهو يفتض بكارة البطيخة!»
«وهل حفر لهما أيضاً؟»
«لا، ثقبهما فقط، وأمسكهما بيديه، وراح يمتصّهما واحدة إثر أُخرى وهو يضطجع فوق البطيخة، التي لم يكن يتركها إلا وهي مثقوبة ومُخردقة من كل مكان!»
«فعلاً هذه قصص حقيقية ولا يمكن أن تكون من الخيال أيها الأديب لقمان! لكن، ألم يثرك هذا المراهق أو يدفعك لأن تفعل مثله؟!»
وراح الأديب لقمان يبتسم، فقد كان يتحدّث عن نفسه، فهو صاحب هذه الأفكار في زمن مراهقته، وخجل من أن يقول ذلك لشاهل بيل، فهتف:
«لا عيب! أنا كنت مقتنعاً أن هذا عيبٌ وعار!»
وحين أحسّ الأديب لقمان أنه لا يجيد الكذب أضاف بعض الحقيقة من خياله:
«وإن شئت الحق أغواني ذات مرة، فقد كان شيطاناً في ابتكار أساليب للمتعة، ففعلتها، لكني لم أكررها حين عجز خيالي عن تمثل عذراء بدلاً من البطيخة! أما هو اللعين! فكان خيالُه خصباً، وكان يخاطب الفتاة المتخيّلة بأقذع الكلمات وأسفلها، وهو يمارس كل العنف مع البطيخة، وكان يتمثّل ردّة فعل الفتاة وهي تتوسّل إليه وإلى إلهه وإلى عضوه ألا يكون معها عنيفاً إلى هذا الحد، ويقلّد ذلك بصوته، ليبدو كممثل يقوم بدورين في آن واحد!!»
وفيما كان الجميع يضحكون، هتف شاهل بيل:
«لا، هذا مسرح متكامل ولا ينقصه شيء!»
وبدت الأميرة نور السماء خجلة بعض الشيء وإن كانت تضحك، أما السيدة سلمنار، فقد كانت تضحك بملء فيها، وكأنها تستمع إلى حكايات من بلاد واق الواق!
«أنت جميل أيها الأديب، لا تعرف كم أجد فائدة في قصصك هذه، نحن عندنا نعطي جائزة لكل مراهق يحدثنا عن سلوكه وطباعه بصدق، حتى إذا وضعنا حلولاً راعينا فيها غرائز الإنسان وسلوكه!»
«شكراً لهذا الإطراء أيها العالم»
«معذرة أيها الأديب لم أقصد»
«بل اقصد يا عزيزي، فنحن في كوكب الأرض نموت ونحن في سن المراهقة!!»
فتح شاهل بيل فمه دهشة:
«ماذا تقصد أيها الأديب؟»
«الكبت يلازمنا منذ طفولتنا وحتّى وفاتنا، فلا تستغرب أن يحدث معنا في الكبر ما كان يحدث معنا في الصّغر نظراً لعدم وجود النساء، أو لعدَم توفّر الحرية الجنسية، وكم من النساء والرجال لدينا لا يجدون غير العادة السرّية والبطيخ وما أدراك ما البطيخ؟!!»
«إن مجتمعكم لفظيع حقاً!»
«حتى في المجتمعات التي فيها حريّة جنسية مطلقة لدينا، تجد معظم النسوة يفضلن ممارسة العادة السرّية على ممارسة الجنس مع أزواجهن على سبيل المثال وهذا ينطبق على نسبة كبيرة من الرجال»
«هذا موجود عندنا أيضاً لكن بنسب قليلة جداً، رغم أن الباعث على ذلك ليس الكبت في معظم الحالات، بل الهروب من روتينية الطقس الجنسي، والرغبة في إيجاد ممارسة ليست موجودة في الواقع!»
«الأكثرية من المتزوجين عندنا يتمثّلون نساء غير زوجاتهم خلال الممارسة معهن، وهن كذلك أيضاً، أي أنهم يمارسون عادة سرية مع بعضهم البعض، وهذا يساعد على إطالة أمد الزواج الفاشل!»
«هذه الحالات شبه معدومة عندنا لأن في مقدورهما كزوجين الانفصال بسهولة، إلا إذا كانا في سن الشيخوخة ولا يحبّذان الانفصال»
وسادت لحظات من الصمت. هتف بعدها شاهل بيل:
«وماذا عن الممارسات مع الحيوانات؟!»
فهتف الأديب لقمان:
«لا! هذه مسألة مخجلة، فلا تحرجني!»
«أنا لا أرى فيها ما هو مخجل أيها الأديب لقمان، أنت تتحدّث عن مجتمع مكبوت تكبّله الشرائع والقوانين والعادات، ومن الطبيعي أن يبحث الفرد فيه عن متنفّس لغرائزه، وقد مررنا بكل ما تتحدث عنه»
«حقاً هل مررتم بذلك؟»
«وأسوأ مما تتصوّر»
«سأحدّثكم بعض القصص الأخرى لكن باختصار!»
«موافقون!»
«هذا المراهق اللعين الذي كان صديقي! فاجأني حين قال لي أن البغلة ألذّ من البطيخة والنعجة أيضاً! وراح يحدّثني. قال لي: إن بغلتهم لم تكن مروّضة كما يجب لصغر سنّها، فما أن يقترب منها حتى تضمّ أذنيها إلى رأسها وتكشّر عن أسنانها وتهجم عليه لتعضّه، أما حين كان يقترب منها أبوه أو أخوه، فقد كانت تتملّس بهما وتحك رأسها بأكتافهما! ولم يكن قادراً على اكتشاف هذا السر، إلى أن كان ذات غروب وطلب إليه أبوه أن يصطحب البغلة إلى البئر ليسقيها، لأنها لم تشرب طول النهار. كانت البغلة تمر في فترة سفاد، فلم تضم أُذنيها ولم تكشّر عن أنيابها، ولم تستدر لترفسه بخلفيتيها، فأضمر في نفسه أن يفعلها معها على البئر.
أبطأ في الطريق إلى البئر كي يحل الغسق ولا يراه أحد.. وما أن وصل إلى البئر وأسقى البغلة حتى حل الغسق وخفّت الرؤية. راح يداعب البغلة بأن ملس بيديه على رأسها ثم عنقها، فصدرها! فظهرها فبطنها وهي تستجيب، إلى أن بلغ قائمتيها الخلفيتين فأشبعهما ملساً قبل أن ينتقل إلى حيائها، ويلامسه ويداعبه لتستجيب وترتخي وتستسلم كلّية وتشرع في ثني قوائمها، فأشرع هو عضوه و«سفدها»!
وبعد ذلك الغسق راحت البغلة تتملّس به كلّما اقترب منها!!»
ضحك شاهل بيل إلى أن استلقى على قفاه! وضحكت السيدة سلمنار والأميرة نور السماء، أما الأديب لقمان، فقد شرب كأس بيرة وراح يرقب الضحك!!
حين توقفوا عن الضحك، هتف الأديب لقمان:
«أظن أن هذا يكفي أيها العالم؟»
«واحدة أخرى فقط، أريدها من حياتك أنت وفي الكِبَر!!»
«لا! لن أحدثكم عن حماقاتي لا في الصّغر ولا في الكبر، كفانا بطيخاً وبرتقالاً والله أعلم ماذا ارتكبت من حماقات قبل وبعد ذلك، سأحدثكم عن حماقات من عرفتهن من بعض النساء»
«على أن تحدّثنا عن حياتك فيما بعد»
«حياتي تحتاج إلى مجلّدات، وليس الآن وقتها، لكن لابأس بنتف منها»
«ليكن، نحن نقبل بأي شيء منك»
«كان لي صديقة شهوانية من بلد متحضر جداً على كوكبنا، وكان أبوها ضابطاً في الجيش يعمل في بلد آخر متخلف يستعمره البلد المتحضّر!
قالت لي أنها ذهبت لزيارة أبيها ذات يوم في ذاك البلد، وكان يقيم مع أختها التي تكبرها بعامين، كان عمرها عند الزيارة اثنتي عشرة سنة. فوجئت بأبيها ليلاً يداعبها ويقبّلها بشهوة فيما كانت أختها نائمة، فاستجابت له، فعرّاها وافتضّها، وظل يضاجعها كل يوم، واكتشفت فيما بعد أنه يضاجع أختها أيضاً، وقد افتضها وهي في العاشرة. وثابر على مضاجعة الاثنتين إلى أن تزوّجتا، وقد حملت صديقتي منه قبل زواجها، فأرغمها على الإجهاض.
الطريف في الأمر أن هذه الأخيرة «صديقتي» ظلت تشتهي أباها، وكانت تضاجعه كُلما زارته، إلى أن كبر وشاخ. ما أدهشني أنها لم تكن تكرهه، ولم تكن تحقد عليه، بل كانت تحبّه، ولم تناقشه يوماً في ما يجري بينهما أو بينه وبين أختها، ولم تكن غاضبة من نفسها أيضاً، أو تعتبر أنها فعلت منكراً أو ارتكبت إثماً، وكانت ترى في قصة النبي لوط الواردة في كتاب مقدس عندنا، مثالاً يحتذى، وكانت ابنتا هذا النبي قد أسقتاه خمراً وضاجعتاه، وأنجبتا منه نسلاً نُسب إلى ابنيهما منه.
وأطرف ما في الأمر، أنها حاولت أن تضاجع أباها حين زارته في أحد أعياد ميلاده وهو في سن الشيخوخة، فلم يحدث معه انتصاب رغم كل محاولاتها لاستثارته. وقد فسّرت لي ذلك، بأنه ربما نوع من الثأر أو الرغبة المكبوتة في الانتقام، ولم أوافقها على ذلك!»
«وهل هذه العلاقات استثنائية في مجتمعاتكم أيها الأديب لقمان؟»
«هي استثنائية، ربما لأنها تجري بشكل سرّي في المجتمعات المختلفة، لتحريمها من قبل الشرائع والقوانين المدنيّة»
«وماذا أيضاً؟»
«عرفت امرأة كانت تداعب ابنها منذ الصغر وما أن بلغ سن المراهقة حتى كان أفضل عشيق لها. لكن حين بلغ وكبر وحاول أن يتزوج ويستقل بنفسه، دهمته وهو نائم وقطّعته بالساطور إرباً ووضعته في كيس ودفنته في حديقة المنزل. ارتاب الجيران في أمرها. فاعتقلت واعترفت بجريمتها. حكموا عليها بالإعدام!»
«هذه قصة مرعبة أيها الأديب، حدّثنا عن البيئة التي نشأت فيها»
«نشأت في بيئة ريفية تغرق في الجهل حتى أُذنيها، فقد كان أجدادنا يلبسون نساءَ هم حزام العفّة حين يذهبون إلى الحج أو يغيبون عن البيت لبضعة أيام، وبعضهم كان يرغم زوجته على ارتدائه حتى لو غاب بضع ساعات فقط. وبعضهم كان يخيط فرج زوجته إلى أن يعود من سفره. غير أن النسوة المحنّكات كنّ يقمن بفك الخيوط ولا يعدنها إلا حين اقتراب عودة الزوج، ويروى عن جدّتي أنها فوجئت بجدّي يعود مبكراً من موسم الحج، فهرعت لاستقباله وهي تزغرد وتصفّق فرحاً وتغني:
وتقطّعن قُطبانه!»
«من فرحتك يا بو علي

أي أن خيوط فرجها تقطّعت من شدّة الفرح!
أما بعض ذوات الحزام. فكنّ يصنعن مفتاحاً سرياً ويقمن بفتح قفل الحزام بمجرّد انطلاق قافلة الحج!
وما يزال بعض الرجال عندنا يقفلون أبواب المنازل على زوجاتهم حين الانصراف إلى العمل. تعرّفت على واحدة من هؤلاء، كانت قد عملت نسخة سرية من المفتاح، وكنت أزورها بين فترة وأخرى وزوجها في العمل، إلى أن اكتشفت أنها تضاجع رجالاً كثيرين للانتقام من زوجها الأحمق، فلم أعد أرغب في مواقعتها.
وما تزال بعض المجتمعات لدينا تقوم بختان المرأة لتخفيف الشهوة الجنسيّة لديها. فالمفهوم الشائع عند بعض مجتمعاتنا أن طاقة المرأة الجنسية تعادل طاقة عشرات الرجال. ولذلك يلجؤون إلى مختلف الوسائل للحد منها. وهم في الغالب يقضون عليها نهائياً، سواء بهذه الطرق الوحشية أو بالتربية الخاطئة التي تحاصر الطفل من طفولته إلى صباه ثمّ بلوغه.
في هذه البيئة التي تشغل فروج النساء حيّزاً كبيراً من تفكيرها، نشأت، ولو تعرف أيها العالم كم من العصي الغليظة تكسّرت على كتفي، وكم من الحبال الرفيعة المفتولة والمدهونة بالزيت نهشت من لحم ظهري، لكفرت بهذا الكوكب الذي ولدت فيه»
«ومن كان يضربك بالعصي والحبال؟»
«أبي، ومن هناك غير أبي والسُلطة فيما بعد أيها العالم، لا أرتْك الذات الكُلية عصي أبي وحباله المدهونة بالزيت»
«ولماذا كان أبوك يدهن الحبال بالزيت؟»
«وأرباب كوكبنا كُلّهم أنني أحياناً لم أكن أعرف حتى لماذا يضربني تحديداً! ما أعرفه تماماً أنني كنت متخوّفاً من أن يقتلني كما قتل أحد إخوتي، فقد شكّل لي هذا التخوّف كابوساً ظلّ يلاحقني إلى أن هربت من البيت على إثر ضربة من هراوة فأس أرادها أن تشق رأسي، لكني أملته فكسرت كتفي»
«وهل قَتَلَ أخاك حقّاً؟»
«أجل. كان أبي يضرب لأتفه سبب، لإخفاقي – من جراء الهواء – في إشعال النار من عود ثقاب واحد على سبيل المثال. أما الضربة الفأسية القاضية التي كان قد جندل أخي بمثيلها، فقد سددها لأنني اختلست من محفظة نقوده خمسة عشر قرشاً كي أذهب إلى «القدس» لأقص شعري وآكل الكنافة!»
«وأين تقع القدس هذه أيها الأديب؟»
«تقع في موطني، وهي مسقط رأسي!»
«ماذا تعني بمسقط رأسك يا مولاي؟»
«ماذا أيتها الأميرة، هل بدأت تنسين اللغة العربية؟»
«اعذرني يا مولاي، فأنا جنّية ولم أمارس العربية كثيراً!»
«اعتبريه مكان ولادتي، مع أن المعنى الحرفي لا يخلو من طرافة»
«السيد شاهل بيل يريد أن يعرف المعنى الحرفي!»
«المكان الذي لامس فيه رأسي الأرض لأوّل مرة»
«ماذا تقصد يا مولاي؟»
«أقصد حين نزلت من فرج أمّي!»
وراحوا يضحكون فتساءل الأديب لقمان:
«هل في هذا ما يُضحك يا جماعة؟»
«أنت جميل حقاً أيها الأديب لقمان، لم يخطر هذا على بالنا، فالمولود عندنا ربّما لا يلامس رأسه الأرض حتى بعد سنة من الولادة»
«هذا عندكم أما في قريتنا فالأمر مختلف!»
«ولماذا كان أبوك يضربكم بهذه القسوة؟»
«يبدو لي أنّه كان يكرهنا كرهاً شديداً لشكّه أننا أولاد حرام، ولم يكن ينادي أمي إلا «يا شرموطة» أو «يا عاهرة» وهو يكيل لها فردات الأحذية أو الحجارة إذا كانا في الحقل! أما نحن فكثيراً ما كان ينعتنا «أولاد الشرموطة» والحق إنني في طفولتي المبكّرة، كنت أشاهد أمّي عارية مع رجل قد لا يشبه أبي، وقد انطبعت هذه الصورة الضبابية في ذاكرتي وعاشت زمناً طويلاً! وكانت أمي امرأة طيّبة كثيراً وضعيفة جدّاً، ويستطيع أي رجل بقليل من الإرغام واللطف والخبث أن يضاجعها، وأذكر أنها تعرضت ذات مرة لمحاولة اغتصاب من قبل شاب، وكم توسلت إليّ وهي تبكي وترتجف ألا أُخبر أبي بما حدث، بل أن لا أخبره أن أحداً قد زارنا في البيت، فقد كانت تفضّل أن تستر نفسها وتذعن ولو على مضض لأي متحرّش أو مغتصب، إذا ما تمادى في محاولته، على أن تثير فضيحة قد تؤدي إلى حتفها في مجتمع لا يرحم. ويمكن لمجرّد مشاهدة فتاة فيه تتحدّث إلى شاب على انفراد أن يقيم الدنيا ويقعدها وتسيل له دماء كثيرة بريئة، وقد يؤدّي إلى حرب عشائريّة أو قبليّة. إن الآهة بل «الأنّة» التي لا أنساها في حياتي ولن أنساها هي «أنّة» أمي وهي تغربل الزّبل في مهجع الأغنام، ومخيلتها تستعرض بعض صور حياتها. كانت تتوقف للحظات وتوجم وهي تطلق نظراتها إلى الأرض وكأنها تريد أن تخترقها بها لتعرف ما تحتها، ثمّ تئن من أعماق أعماقها، وتكرر الأنّة ثلاث مرات متتالية، يزداد فيها التفجّع والألم ليبلغ ذروته في الأنّة الثالثة. كُنتُ أحسُّ في هذه الأنّة ما لم أحسّ به في جميع المراثي التي قرأتها في حياتي، يبدو أنها كانت ترثي فيها الحياة برمّتها، وهي تتمثل كل الآلام التي عاشتها.
كانت هذه الأنة مزيجاً من التأوّه والأنين ولم أسمع مثيلاً لها في حياتي، لكني سمعت ما يقاربها من فراش الاحتضار حين زرت بعد ثلاثين عاماً صديقة مريضة بالسرطان، وحين شاهدت أمّاً فلسطينية تئن على فقد ابنها في مجزرة «صبرا وشاتيلا»!»
وكانت عينا الأديب لقمان قد دمعتا وهو يتذكّر أمّه، فيما خيم الصمت على شاهل بيل والسيدة سلمنار والأميرة نور السماء. مسح الأديب لقمان دموعه وأجاب على استفسار «شاهل بيل» عن مجزرة «صبرا وشاتيلا» ثم عاد ليتابع الحديث عن القرية:
«أما ما يجري سراً خلف هذا الستار الواهي والأخلاق الزائفة، فهو لا يصدّق إلى حد يدفع مَن هو مثل أبي إلى التّفاخر – أمامي وأمام أمي وبعض إخوتي فقط – بأنه زنى مع ثمانين امرأة في بلدتنا التي لا يتجاوز عدد سكانها خمسة آلاف نسمة حينئذ. مع أن أبي، كان يصوم ويصلّي ويؤم الناس في الصلاة، خاصة في عيدي «رمضان» و«الأضحى» - وهذان عيدان دينيّان عندنا – فتصوّر؟!»
«هربت – إثر فأسيّة أبي – من هذا العالم المُرعب، وتركت قطيعنا الذي كنت أرعاه إلى غير رجعة، والحق أنني هربت إلى عالم أكثر رُعباً، ويمكنك أن تقول أيها العالم أن كتفي الآخر قد كُسر أيضاً، لكثرة ما انهال على جسدي من عصي وهراوات وسياط في السجون الجميلة!
مرّت أيام كنت أترحّم فيها على فأسيّة أبي وحباله الزيتية أمام عصيهم وسياطهم وكراسيهم الكهربائية وغير الكهربائية وخوازيقهم ونيران سجائرهم و«بوابيرهم» التي كنت أُرغم على الجلوس عليها لتسلخ مؤخّرتي بنارها!»
«ولماذا سجنت أيها الأديب؟»
«لأنني أصبحت متمرّداً ومخرّباً ومجرماً!»
«ماذا تقصد أيها الأديب لقمان؟»
«عملت في السياسة أيها العالم وأصبحت فدائياً!»
«وهل هذه مسألة توجب السجن والتعذيب؟»
«يا أخي أنت في الكوكب سوهار وتنعم بالمحار ولا تعرف شيئاً عن كوكب الأرض السيّار! نعم يا عزيزي.. ثمة دول لدينا المثل السائد لدى شعوبها والذي تحرص على تحفيظه لأبنائها قبل أن يرفعوا رؤوسهم هو «السياسة تعاسة!» وإن شئت أمثالاً أخرى «امش الحيط الحيط وقول يا رب السّتر!» و«الكف ما بيلاطم مخرز!» و يا ويل من ينسى هذه الأمثال مثلي ويقوده غروره إلى أن يصبح سياسياً!»
«وأين سجنت أيها الأديب؟»
«لا! كل شيء إلا هذا السؤال. أنت حقاً تبحث عن المحظورات وتدور حول الممنوعات أيها العالم، ونحن نتعب ونشقى وننتحر حتى على الورق ولا نعرف أين ننشر انتحاراتنا، حتى «الناقد» المتبجّحة بـ «إبداع الكاتب وحرّية الكتاب» لا تنشر آهاتنا الملتاعة!!* لنقل في المشتري! سُجنت هناك في المشتري لأنني اشتغلت في التعاسة وكتبت أدباً يزخر بالنّجاسة»
«مولاي مولاي! لم أفهم جيّداً وكأنّك تهذي!»
«الهذيان ضرورة أيتها الأميرة، فإذا لم نهذِ سنجنّ، وإذا جننا سنطق، وإذا طققنا سننفلق، وإذا انفلقنا سنموت، وإذا مُتنا سيشمت بنا السَّدنة الزّنيمون من كتبة العروش والمعابد، وهنا تكمن الطامّة الكبرى! فهم يغتبطون بتكميم أفواهنا وبالحصار المضروب على حركاتنا وسكناتنا وما يدّعون أنه إفلاسنا وصمت أقلامنا!»
«مولاي! إن الكلام يندفع من فيك كالسيل وأنا لم أعد قادرة على متابعة ما تقول، لا تنفعل يا مولاي وأرح نفسك!»
«هل نحضر لك طبيباً أيها الأديب لقمان؟»
«لا لا، شكراً يا سيّدتي أنا بخير، إنّها مجرّد حالة عارضة من الانفعال تنتابني كلّما فقدت السيطرة على خط استوائي المتأرجح!!»
«هل تفضّل الذّهاب إلى بيت الضّيافة؟»
«لم نرّ شيئاً من المدينة أيّها العالم»
«سترى ما تريد طالما أنت في ضيافتنا»
«أريد أن أرى متاحفكم وآثاركم ومعابد أجدادكم أم أنكّم هدمتموها؟»
«لا، لم نهدم شيئاً، لكننا لم نبنِ منذ آلاف السنين»
«أليس بينكم من ينظر إلى الذات الكلّية نظرة لاهوتية؟!»
«كان هذا قبل تعميق الفكر واستيعابه، أما الآن فلا»
«وهل يشعر الإنسان بامتلاء روحي ولا يحسّ بخواء ما في نفسه؟»
«الذات الكليّة عندنا هي الروح وكلّما اتحد الإنسان بها كلّما ازداد إحساسه بالإشباع الروحي، غير أن هذا الاتحاد لا يتم عن طريق شعائر دينية أو سلوك معيّن، لأن العمل ومحبّة الآخر والتّفاني والسّعي إلى ما هو أجمل وأسمى، أصبح بحد ذاته شعائر دينيّة أو بديلاً لها، وأصبح الوجود برمّته هو المعبد أو بديلاً له!»
«وهل يمكن القول ولو مجازاً أنّ الحالة الأرقى والأسمى عندكم لاتحاد الذات الفرديّة بالذات الجمعيّة بالذات الكليّة، هي اتحاد العبد بالمعبود بالمعبد بالعمل؟»
«لكن دون إسباغ المعنى اللاهوتي عليها»
«ألا يتيح ذلك لبعض الدجّالين أن يدّعوا اتّحادهم بالذات الكليّة، مما قد يدفع بعض الناس إلى تقديسهم؟»
«حدث مثل هذا من قبل أما الآن فهو شبه مستحيل»
«لماذا؟»
«لأن فهم فلسفتنا تعمّق عند الناس، إلى حد عدم فصل الذات الفرديّة عن الذات الكلّية، فهي ذات واحدة ونحن نجازف – إذا جاز التعبير – بتجزيئها، حين نؤكد أن الذات الفردية تتحد أو تبتعد عن الذات الكليّة بالقدر الذي تقترب فيه هذه الذات منها أو تبتعد عنها بعملها، والناس عندنا يعرفون أن هذا فكرنا وفكر أجدادنا نحن ولم ينزله علينا أي إله، وهو نتاج لتطوّر معرفي بدأ منذ آلاف السّنين، ثم إنه ينبغي على من يريد أن يدّعي ذلك الاتحاد أن يقوم بأعمال جبّارة ملموسة ومحسوسة، بدءاً من أعظم الإنجازات العلمية أو الفنيّة أو الأدبية، وانتهاءً بالتّفاني في خدمة الناس ومحبّتهم»
«هل لك أن تضرب لي بعض الأمثلة على ذلك، ولتكن من حياة الراعي الأكبر عندكم؟»
«الراعي الأكبر عندنا لم يقل يوماً أنه اتّحد بالذات الكليّة، رغم أنّه عمّق فكرة عدم انفصال الذات الفردية عن الذات الكليّة الكونية الكبرى، واعتبرهما واحدة، لكن التصرّفات السيّئة للفرد تقوده إلى أن يبتعد بذاته عن هذه الذات، وإذا ما ساءت أعماله كثيراً فإنها تؤدي إلى انفصال ذاته عنها، لكن دون العزل التام أو الانفصال المطلق، وبهذا المعنى يُصبح كل فرد متّحداً بالذات الكليّة.
والراعي الأكبر عندنا يحمل أعلى شهادتين في الطب الدماغي والجهاز العصبي، وقد طوّر خلايا الجهاز المناعي النفسي، وخلايا الجهاز المناعي الفيزيولوجي في جسم الإنسان، وطوّر الخلايا الإبداعية في الدّماغ!»
«يبدو لي أنني لن أخـرج مـن كوكبكم إلا مجنوناً أيـها العالم شاهـل، عـن ماذا تتحدث أنت؟»
«هل كلامي غير مفهوم أيها الأديب؟»
«هل يعني كلامك أنكم اكتشفتم من قبل جهازاً للمناعة النفسية في جسم الإنسان، وأنّكم استطعتم فرز خلايا الدّماغ أيضاً من قبل، وأنّكم تعملون على تطويرها، أكثر مما طوّرتموها؟!»
«نعم أيها الأديب فكلامي واضح جدّاً»
«في الحقيقة هو واضح إلى حد يدفعني إلى عدم التصديق، فنحن حتى الآن لا نعرف أنه يوجد جهاز مناعي نفسي في الجسم، وبالتأكيد لم ولن نستطيع فرز خلايا الدّماغ لمعرفة الخلايا المختصّة بالإبداع ونُقدم على تطويرها، يكفي أننا اكتشفنا كريات الدم البيض، وقد نقوم بتطويرها بعد ألف عام إن شاءت البساطير العظيمة التي لعنت ربّنا ورب آبائنا! آخ لو أن الذات الكُلية تبعث إليكم ببسطار عظيم من عندنا لتعرفوا قيمة الحضارة البُسطارية!»
«أنا في الحقيقة لم أعد أفهم ما تقصد أيها الأديب؟!»
«وهل من الضروري أن تفهموا كل شيء عندنا، نحن أيضاً نتجاوزكم بآلاف الأعوام من الحضارة البُسطارية!!»
«مولاي أنا لم أفهم أيضاً ماذا تعني بالحضارة البُسطاريّة؟!»
«لا! أنتم ستفهمون أيتها الأميرة، طالما توّجني ملك الملوك ملكاً عليكم، ستفهمون حتماً يا معشر الجن!»
كان شاهل بيل والسيدة سلمنار يضحكان دون أن يفهما جيداً، هتفت السيدة سلمنار لتشير إلى أنها قد فهمت:
«لقد مرّ كوكبنا بتخلّف أكثر من التخلّف الذي يعيشه كوكبكم الآن أيها الأديب لقمان!»
وهنا أراد الأديب لقمان أن يقلب لها دماغها! فهو لم يخرج من حالته الانفعاليـة التي تأتـيـه كنوبات بين يـوم وآخـر وأحياناً بين سـاعـة وأخـرى، ليفقد السيطرة على توازن ما يُسمّيه خطّه الاستوائي المتأرجح!
«أنا كنت أكذب عليكم أيتها السيدة سلمنار، كي لا تكتشفوا سر المعجزات الحضارية التي وصل إليها كوكبنا، والدّليل على ذلك وجودي معكم، وتحليق الجن في السماء، ودعوة ملك الملوك لبعض فتياتكم وشبابكم إلى غداء على المرّيخ، وإذا تشائين الآن أن تتناولي طعام الغداء على كوكب يبعد عن كوكبكم مليون سنة ضوئية ونعود قبل المساء فتفضّلي، أنتِ والسيد شاهل بيل كي تعرفا شيئاً يسيراً من معجزات الحضارة البُسطاريّة!!»
«وانقلب رأس السيدة سلمنار حقاً، فراحت تحاور الأديب لقمان بجديّة وإن أحسّت أنه من غير اللائق أن يكذب عليهم ويدّعي أن كوكب الأرض متخلّف!
«الحقيقة أيها الأديب لقمان أنني كنت أظن أن كوكبكم متقدّم علينا، خاصة بعد زيارتكم لنا، وتمكنكم من فك رموز لغتنا والتحدّث بها، نحن فعلاً لم نرقَ إلى هذا المستوى من الحضارة. ففي مجال الفضاء لم تستطع مراصدنا إلا رؤية الكواكب والسّدائم الواقعة على بعد ألف مليون سنة ضوئية!!!»
أحسّ الأديب لقمان أنه ارتكب حماقة فظيعة، فقد بدا شاهل بيل في حالة من الذهول، وبدلاً من التوقّف عن هذه الحماقات، راح الأديب لقمان يغرق فيها أكثر:
«فقط؟ ألف مليون سنة ضوئية فقط يا سيدتي، مراصدنا نحن أحصت حبّات الرمال الموجودة على كوكب يبعد عشرة آلاف مليون سنة ضوئية يا سيدتي، نعم عشرة آلاف مليون سنة عداً وهدراً، وعرفنا أن ثمة كواكب تضجّ بالحياة على بعد خمسمائة ألف مليون سنة ضوئية، وأنا في طريقي إليها فور انتهاء زيارتي لكوكبكم، وسأقيم على واحد منها، وأدعوكم لزيارتي أيضاً!!!»
«لكن هذه إعجازات علمية أكبر من أن يتصوّرها العقل أيها الأديب لقمان!»
«إنه إعجاز خُرافة الحضارة البُسطاريّة يا سيدتي، وهو حقاً أعظم وأعقد وأكبر من أن يستوعبه عقل بشري، أو يصدّقه، عفواً مع احترامي الشديد لعقولكم، وما بلغتموه من تقدّم لابأس به في مضمار الحضارة!!»
بدت الدهشة الشديدة والذهول وهما يكتسحان وجهي شاهل بيل والسيدة سلمنار، إلى حد أدرك فيه الأديب لقمان أنهما انزعجا، وأن الجو قد ينقلب رأساً على عقب بين لحظة وأخرى:
«قولي لي يا سيدتي، أنتم لا تعرفون الكذب؟!»
«نعرفه لكننا لا نمارسه ولم نعتد على سماعه، حتى أن الكلمة تكاد تُلغى من قواميسنا!»
«والمُزاح ألا تعرفونه أيضاً؟»
«إذا كنت تقصد الكلام الطّريف فنحن نعرفه!»
«لا، ليس الكلام الطّريف فحسب، يبدو أنكم لا تعرفونه أيضاً! هل تسمحين لي بتقبيل يدك؟»
«لماذا؟»
«لكي أعتذر!»
«تعتذر عن ماذا أيها الأديب؟»
«سأقول لك بعد أن أقبّل يدك!»
ومدّت السيدة سلمنار يدها، نهض الأديب لقمان وانحنى، وأخذ يدها وقبلها:
«أعتذر بشدة أيتها السيدة. فقد كنت أكذب عليكما وأمزح معكما، من شدة غيظي وقهري!»
راح شاهل بيل يضحك، فيما هي فتحت فاها تعجّباً من هذا الكذب الموغل في الخيال، وظلّت على هذه الحال للحظات إلى أن هتفت:
«لكن اسمح لي أيها الأديب لقمان فوجودك معنا يثبت أنكم متقدّمون علينا فعلاً لا قولاً في مجال الفضاء!»
«لا يا ستّي، فأنتم أرسلتم مركبات إلى كوكبنا أيضاً لكنكم لم تتمكنوا من التّواصل معنا والتحدث إلينا، ثم إن طاقم مركبتنا جنّي وليس إنسيّاً!»
«حتى تمكنكم من تسخير الجن مسألة ليست سهلة وفي غاية التعقيد، فنحن كدنا أن ننسى الجن!»
«أتوسل إليك أن تظلّوا ناسيين، فهذه مسألة لها عُلاقة بالأساطير والخرافات أكثر مما لها عُلاقة بالعلم!»
«وما أدراك. فقد تكون الخرافة حقيقة وقد تكون علماً صرفاً؟!»
«يبدو أننا سنبدأ ثانية من حيث انتهيت في حواري مع السيد شاهل، لذا سأختصر لأقول، يمكنك أن تعتبري ذلك علماً وحقيقة، لكني أنا شخصياً عاجز عن إدراك حقيقتها وقوانينها العلميّة، ودعينا نكمل حوارنا حول تقدّمكم أنتم!!»
«ليكن أيها الأديب لقمان، لكن اسمح لي أن أقول، أنني لو لم أكن أعلم أن المعرفة هي أكبر من طاقتنا كبشر على إدراك أبعادها المطلقة لأثار حوارك معي، ووجودك ووجود أعوانك معنا، فيّ الجنون بالتأكيد!!»
«أحمد ذاتكم الكُلّية لتفهمك معجزاتنا! هل في مقدوري متابعة حواري مع السيد شاهل بيل؟»
«بالتأكيد أيها الأديب لقمان»
ارتفعت موسيقى صاخبة في المطعم وجنّ الراقصون من الإنس والجن، فعلّق الأديب لقمان:
«بالمناسبة، موسيقاكم ورقصكم هذا يذكرانني بموسيقانا الصاخبة ورقصنا الجنوني على كوكب الأرض، يبدو لي أنكم في هذا المضمار لم تتجاوزونا أبداً»
«هذه موسيقى للشباب والمراهقين أيها الأديب وليست لي ولك!»
«حتى لو كانت للأطفال فأنا لا أحبّها، بل أشعر أنها تزعجني وتثير أعصابي»
«هل أطلب إليهم أن يغيّروها؟»
«لا، دعهم يمرحون فلن نفرض مزاجنا عليهم، ثمّ يبدو أن الجن منشرحون لها أكثر منكم. عن ماذا كنا نتحدّث سابقاً؟!»
«عن تطوّرنا في علم الطب والجسد»
«آه نعم! ماذا كنت سأسأل؟ أجل! هل يعني تطوّركم هذا أيها العالم أنه في مقدوركم أن تنجبوا العلماء والأدباء والمبدعين متى شئتم؟!»
«إلى حد ما نعم! نحن في طريقنا إلى تحقيق ذلك تماماً!»
«لو لم أحمل مسؤولية هذا الكوكب البائس، لطلبت اللجوء الإنساني على كوكبكم، وأرحت نفسي مِن كلّ هذا العناء!»
«نحن نرحّب بك في أي وقت!»
«إذا ما فشلت في تحقيق أحلامي سأعود لأعيش بينكم أيها العالم»
«أهلاً بك متى شئت»
«أكمل لي حديثك عن الراعي الأكبر أيها العالم، اضرب لي مثلاً ملموساً عن فهمه وتطبيقه للعدالة، وتفانيه في محبة الناس»
«ثمّة نوع من السّمك لا يأكل منه الراعي الأكبر حتى الآن لأن أبناء الكوكب لم يأكلوا منه جميعاً لندرة وجوده، ونعمل الآن على الإكثار منه بعد أن وجدنا المناخ الملائم لذلك!»
«غير معقول!»
«ولماذا غير معقول أيها الأديب، يبدو أنكم لا تدركون على كوكبكم ما معنى أن يكون الإنسان راعياً أو زعيماً لأمة، فلو كنت مع أسرتك وأرسل لكم الجيران طبقاً صغيراً من الطّهي ألا تفضل أولادك على نفسك، وتترك حصتك الصغيرة لهم؟!»
«ربما ممكن!»
«ربّما؟! أنتم حقّاً لا تدركون معنى المسؤولية!»
«نحن لا ندرك؟ سامحتك الذات الكونية، فأولاد بعض زعمائنا مثلاً، حسابهم في البنوك الخارجية أكثر من حساب آبائهم، انطلاقاً من المسؤولية التي يتحمّلها الآباء في تفضيل الأبناء وأفراد الشعب على أنفسهم! وقد لا تصدّق إذا ما قلت لك أن بعض زعمائنا لا ينامون الليل من كثرة التفكير في مصير الشعوب، فمثلاً تقتضي الحرية أن يكون عدد السجّون عندنا أكثر من عدد الحدائق، وإلا لن يعرف المواطن معنى الحرية، ويقتضي ضبط سلوك الفرد في معظم أوطاننا أن يكون هناك رجل مخابرات لكل خمسة مواطنين على الأكثر وإلا لن يكون منضبطاً!
يحق لك أن تضحك، لكن لابدّ أن نلحق بكم، بل وسنتجاوزكم، وربما نستعمر كوكبكم، فأنتم لا تمتلكون قوى خارقة خرافيّة مثلنا، تصوّر أن أوّل عمل صغير قمت به، هو أنني جمعت الأسلحة كلّها ووضعتها على القمر خلال دقائق، وأمطرت على الكوكب ذهباً وماساً خلال دقائق، وصعدت إليكم خلال دقائق، وذات دقائق سأنفخ في روح البشريّة على كوكبنا لتقفز مائة ألف عام إلى الأمام، وفي هذه الحال سنتقدّم عليكم آلاف آلاف الأعوام!»
«آمل ذلك أيها الأديب، لكن إياكم أن تفكّروا في استعمارنا، فقد استعمرنا بعضنا ما فيه الكفاية، وإذا ما فكّرتم بذلك، فلن نفهمه إلا إغراقاً في تخلّفكم!»
«عفواً أنت محِق! إذ لا يعقل أن نكون حينئذ متقدّمين عليكم وتراودنا فكرة الاستعمار، سنتّحد معكم، وبما أنني أنا من حقّق هذه المعجزات الخارقة، يحقُّ لي أن أرشّح نفسي لمنصب الراعي الأكبر في الكوكبين وربما في الكواكب التي لا تعد التي سنوحّدها!»
«أنا سأعطيك صوتي حينئذ أيها الأديب لقمان»
«أشكرك. آخ! يبدو أنني لن أذهب لأنال قسطاً من الراحة أيها العالم، أريد أن أعرف كل شيء. وأن أرى كل شيء ويبدو أنني سأمكث عندكم أكثر مما توقّعت إذا لم أغيّر رأيي وأتابع رحلتي. قل لي هل تحترمون المفكّرين من أجدادكم الأوائل، وأنبياءكم ودياناتكم القديمة؟»
«طبعاً هذا شيء عادي، لكننا لا نقدّسهم، نجلُّ العظماء منهم ونحترمهم، وخاصة من رقوا منهم بالفكر الديني إلى ذرى المُطلق بحيث جعلوه يقترب من فكرنا الحالي، إننا ننظر إليهم نظرتنا الآن إلى الراعي الأكبر الذي لا يحتل مرتبة قدسيّة رغم ما حققه من منجزات عظيمة، ورغم سلوكه الراقي في المجالات المختلفة. مثلاً هو الوحيد بين زعماء كوكبنا الذي أمضى عمره مع زوجة واحدة، مع أنه خلص في بعض أبحاثه إلى أن من مارسوا الحُب مع نساء أكثر أو العكس عاشوا زمناً أطول، ومع ذلك لا يرى أحد منّا أنّه يجب أن نفضّله على الآخرين ممن سبقوه وكانوا مولعين بالنّساء»
«لكن الجميع يحبّونه ويحترمونه»
«لا، ثمة من لا يحبّه ولا يحترمه إلاّ بقدر ارتباطه معه بالذات الجمعيّة والذات الكونيّة، ومدى إحساسه بهذا الارتباط!»
«هل يُعاد تجديد انتخابه بعد الفترة الأولى؟»
«لا، هذا غير وارد في دستورنا، هي فترة واحدة غير قابلة للتجديد»
«حتّى لو أصّر الشعب على بقائه في سدّة الحكم؟»
«حتّى الآن لم يصر الشعب عندنا على بقاء زعيم في سدّة الحكم، خلافاً للدستور»
«ربّما لأن الشعب يخاف عودة الدكتاتوريّة!»
«لا، هذا غير وارد، الشعب يريد التجديد الدائم، والبحث عمّا هو أسمى وأجمل وأرقى!»
«وماذا عن حدود الديمقراطيّة، هل لديكم صحف معارضة مثلاً؟»
«بل لا يوجد لدينا إلاّ صحف المعارضة، إذ ليس ثمّة صحيفة خاصّة بمجلس الرّعاية، فهو يعرف أنه سينتهي بعد خمس سنوات ولن يعود ثانية إلى السلطة!»
«فعلاً، إن نظامكم حيّرني، وبماذا تعارض هذه الصحف؟»
«كُلَها تقدّم رؤى جديدة لتطوير العلوم والآداب والفنون وأجهزة إدارة الحكم»
«أكثرها معارضة ماذا تريد؟»
«إلغاء مجلس الرّعاية وإلغاء منصب الراعي الأكبر»
«وما البديل الذي تطرحه؟»
«اللا نظام والحريّة المطلقة»
«كيف اللا نظام؟ وما هي حدود الحريّة المطلقة؟»
«إن شئت رأيي، لا يوجد حياة خارج النّظام، ولا يوجد حريّة مُطلقة»
«ومع ذلك أرى أنّكم قطعتم شوطاً كبيراً في هذا المجال، بحيث قد يستحيل أن يأتي نظام موغل في المطلق أكثر منه»
«إنهم يريدون إلغاء المسؤولية، وأن يفعل المرء ما يُريده»
«حتى في أن يقتل؟»
«لا طبعاً»
«ماذا إذن؟»
«مطالِب يتعلّق معظمها بالمتعة الجنسية وإشباع الرّغبات وما إلى ذلك»
«لكن كل هذه المسائل متحققة في كوكبكم»
«ثمة من يطالب بإلغاء الحياة المشتركة المحددة بين الرّجل والمرأة، إذ يعتبر هذا نوعاً من الزواج، والزواج في نظر هؤلاء مؤسسة فاشلة لابُد من سحقها، وجعل الرجل يتمتّع بجسد أي امرأة يريدها وفي أي وقت، وهذا ينطبق على النّساء أيضاً، وثمة من يطالب بمداعبة الصغيرات والصغار وما إلى ذلك حتّى لو كانوا دون سن الرشد! والافتضاض بدءاً من سن الثانية عشرة!»
«قطعاً، لابّد أن يكون لهؤلاء جذور كوكبيّة أرضية. هل هُناك من يؤيدهم؟»
«أقليّة لا تذكر»
«لكن، ألا يشكّل هؤلاء نوعاً من التحزُّب؟»
«لا!»
«ومحطّات التلفاز والإذاعات من يسيطر عليها؟»
«عاملون من مختلف الأطراف، وهي مفتوحة للجميع، وأقل المتحدّثين فيها، هم مجلس الرّعاية والراعي الأكبر!»
«وإذا ما انتقد أو شتم أحدهم الراعي الأكبر أو مجلس الرّعاية عبر الإذاعة أو التلفاز أو الصحافة، ماذا تفعلون له؟»
«لا شيء. فهذا من حقّه، لكن لغتنا شذّبت منذ زمن، ولم يعد فيها كلمات نابية كثيرة، ثمّ إن فلسفتنا تحطّ من مكانة الإنسان كلّما تدنّى في لغته وسلوكه ووعيه، وترفع من مكانته، كُلّما ارتقى، على أية حال نحن نخطط لكي لا يكون لدينا خلال فترة قريبة إلا الإنسان الكامل، بعد أن أصبحنا نتحكّم بمعظم الجينات الوراثية والمورّثات الأخرى، ومعظم خلايا الدّماغ والأعصاب وما إلى ذلك»
ونهض الأديب لقمان وهو يهتف:
«سأذهب لأرتاح وإلاّ سأجن بما حققتموه من منجزات، لكن قل لي، ما الذي تستطيعون الآن زراعته في جسم الإنسان من أعضاء؟»
«كل شيء تقريباً!»
«تقول كل شيء؟»
«تقريباً! حتى الدّماغ والخصيتين!»
«هل هذا يعني أنّ المجانين عندكم قد يزرع لهم أدمغة جديدة إذا ما فشلتم في علاجهم؟»
«بالتأكيد»
«لم يبق إلاّ أن تقول لي أنّكم تصنعون الأدمغة؟»
«طبعاً، لقد أخبرتك قبل قليل أننا تدخلنا كثيراً في شؤون تطوير الدماغ، وفي المستقبل القريب لن يكون لدينا إلا الدماغ الذي نريد»
«ولن يبقى أمامكم إلا التحكم التام في خلق البشر!!»
«هذا ما سنحققه ذات زمن!»
«قومي أيتها الأميرة يجب أن نرتاح، فأنت تعبتِ، وأنا أشعر أنّ دماغي لم يعد يحتمل، وكي أحتمل فيما بعد، ينبغي أن أبقى مدركاً أنني أعيش في خيال، على أيّة حال، لم تعد هُناك قوة قادرة على إقناعي أن هذا واقع!»
«أنتَ هكذا تنسف كل ما توصّلنا إليه أيها الأديب لقمان!»
«أنا لم أنسف أيها العالم، أنت أوغلت في الخيال، حتّى أكثر مما يقتضيه التوحّد مع الذات الكلّية!!»
«ستعرف أنني لم أوغل حين تدرك أن النفس الإنسانية تتوق دوماً إلى الكمال، إلى ما هو أجمل وأرقى وأسمى، وكُلّما قطعت شوطاً في المعرفة تجاوزته إلى شوط آخر، وكُلّما عاشت لحظة سعادة دمّرتها لتبحث عمّا هو أجمل وأكثر سعادة منها، إنه سر هذه الصيرورة المعقّدة بين الذات والطبيعة، أو بين الذات الإنسانية والذات الكونية، يمكنك أن تنصرف أيها الأديب!»
وعاد الأديب لقمان ليجلس!
«ماذا أراك جلست؟»
«كم بودّي أن أنصرف، لو لم أجد نفسي مشدوداً إليك بألف حبل!»
«سأقطعها لك أيها الأديب!»
«لا أظن أن في مقدورك أن تفعل ذلك أيها العالم، فهي حبال مسحورة! هل تريد أن تقول لي أن السّعي الدائم إلى ما هو أجمل هو دأب الإنسان عندكم؟»
«نعم هذا صحيح وأظن أننا تطرّقنا إليه أيها الأديب لقمان:
«وما هو الأجمل في نظرك، أقصد متى يبلغ الإنسان ذروة الجمال والكمال؟»
«حين يحقق انسجامه الكامل مع الوجود!»
«هل تقصد اتّحاده بالذات الكليّة؟»
«بل ذروة الكيفيّة التي توحّده بالذات الكليّة، نحن نرى، أنّ هذا الكون مسيّر حسب نظام غاية في الدقّة، ولولا ذلك لاصطدمت ملايين الكواكب والنجوم واحدها بالآخر، ودمّر الكون وانتهت الحياة، وكل ما في هذا الكون من كائنات عدا الإنسان، حقق انسجامه الكامل مع هذا النظام، ولم يشذ عنه إلا الإنسان، الذي ما يزال يسعى لتحقيق هذا الانسجام!»
«ولِمَ شذّ عنه الإنسان دون باقي الكائنات؟»
«لأنه لم يقبل بواقعه كما هُو، أراد أن يحقق انسجاماً أرقى، أو توازناً متكافئاً مع هذا النظام، فارتكب من الحماقات ما لا يُحصى!»
«ومتى سيحقق الإنسان ذلك الانسجام حسب رأيك؟»
«ربّما خلال آلاف السّنين، وربّما خلال مئات الآلاف، وربّما خلال ملايين، وربّما يدمّر نفسه ويدمّر الكون المحيط به دون أن يبلغ هذا الكمال من الانسجام»
«أشكرك أيّها العالم، يبدو أنني سأنصرف، لأنال قسطاً من الراحة رغم الأسئلة الكثيرة التي تلحّ عليّ. ثمة سؤال أخير يتعلّق بالغاية التي تنشؤون عليها أجيالكم، فهل ينشأ الإنسان عندكم على أن غايته في الحياة هي البحث عن الكمال، أو لنقل البحث عن الأسمى والأجمل والأكثر تكاملاً، للوصول ذات يوم إلى أقرب حدود الكمال المطلق؟!»
«بالتأكيد أيها الأديب، وأظن أننا تطرّقنا إلى ذلك أيضاً، إنما بشكل آخر، والإنسان عندنا دون هذه الغاية لن يكون إنساناً! لا مجال بيننا للإنسان الكسول الخمول المستكين إلى الماضي والسَّلَف!»
«وماذا عن متطلّبات الحياة، كالطعام والشّراب والسّكن والعمل والجنس وما إلى ذلك؟»
«كل هذه المسائل حق طبيعي له وليست غاية، لا يوجد عندنا إنسان غايته أن يعمل ويأكل ويشرب ويتزوّج وينجب أولاداً ويتعبّد لمعبود ما، لقد مررنا بهذه الحقبة منذ آلاف الأعوام، وقد تجد الإنسان عندنا يعمل في مهنة لا تحتاج إلى إبداع أو معرفة، لكنك إذا ما دخلت إلى بيته ستجد فيه مكتبة قد لا تقل عن مكتبتي، وقد يفهم في مختلف مجالات المعرفة بقدر ما أفهم أو أكثر!»
«بالمناسبة هل تحددون النسل عندكم؟»
«نعم، لا يُسمح بإنجاب أكثر من طفلين عندنا، ومعظم الأمهات لا ينجبن أكثر من طفل»
«لماذا تقول الأمهات وليس الآباء والأمهات؟»
«لأن دور الآباء عندنا ثانوي، إذ ثمة نساء ينجبن دون زواج أو من مضاجعة عابرة، أو يلقحن أنفسهن في المختبرات»
«وهؤلاء الأطفال إلى من ينسبون؟»
«إلى أمّهاتهم في الغالب»
«قل لي، هل تحمل المرأة عندكم تسعة أشهر؟»
«لا، كانت كذلك، لكننا عملناها ثمانية والآن نحاول أن نعملها سبعة، وفي المستقبل لن تكون أكثر من ثلاثة أشهر وكلما قصرت فترة الحمل كلّما زاد عمر الإنسان!!!»
بدا الأديب لقمان وكأنّه سيجن حقاً. ألقى نظرة على الأميرة نور السماء وسألها:
«نساء الجن أيّتها الأميرة كم شهراً يحملن؟!»
«تسعة يا مولاي»
ونظر إلى رجل المعرفة وخاطبه بتوسّل:
«يا رجل حتّى نساء الجن يحملن تسعة أشهر، أرجوك، أستحلفك بذاتك الكونيّة أو الكليّة، أن تكون واقعياً بعض الشيء، وأن لا تحدّثني بما لا يحتمله عقلي الصغير، وألا تغرقني في الخيال أكثر مما أنا غارق فيه، بل أكثر مما يغرق فيه المجانين من بعض المؤلّفين!!»
«المشكلة أيها الأديب أنّك ترى الحقيقة خيالاً ولا تريد أن ترى الخيال حقيقة، وآمل ألا يضيع عقلك بينهما!»
«أنت تحيّرني حقاً، لِمَ تساءلت بالأمس عن الحقيقة والخيال حين تساءلت عن حقيقتنا كجن وإنس على كوكبكم، ولِمَ أجبتنا بما أجابتك به الأميرة نور السماء حين تساءَلنا نحن فيما بعد عن حقيقة أو خيال ما يجري على كوكبكم؟»
«في المرّة الأولى كنت أختبر مدى معرفتكم، وفي الثانية، أجبتكم على قدر فهمكم!!»
«والآن أيها العالم؟»
«الآن أجيبكم حسب معرفتي أنا، لذلك يصعب عليكم تصديقي!»
«وهل نحن الآن حقيقة في نظرك؟»
«نعم، لكن بقدر ما أنتم خيال!»
«لا! غير معقول! هيّا أيتها الأميرة، دعينا نذهب، أعاهدك أيّها العالم أنني لن أطرق حديث الحقيقة والخيال ثانية، وسأبذل كل جهدي لتصديق ما سأسمعه منك!»
* * *

(7)
حرب جنّية وغزل كوني!

لم يذهب الأديب لقمان إلى بيت الضيافة، كان قلقاً على كوكب الأرض، فاقترح على الأميرة نور السماء أن يذهبا إلى المركبة الفضائية لمتابعة أحوال كوكب الأرض. وتناول الغداء هُناك.
ودّعا شاهل بيل والسيدة سلمنار على أمل اللقاء بهما مساءً في حفل العشاء.
أخذت الأميرة نور السماء بيد الأديب لقمان وانطلقت به في السماء على مرأى السيدة سلمنار وشاهل بيل وبعض أبناء الكوكب الذين أصيبوا بالدهشة من جرّاء ما حدث. فقد انطلق أحدهما إلى جانب الآخر وكأنّهما صاروخان، وشقّا عنان الفضاء بسرعة هائلة إلى أن نزلا على سطح المركبة.
تلقّى الأديب لقمان الأنباء الواردة من كوكب الأرض بارتياح نسبي شابهُ القلق الشديد، فقد خرج مئات الملايين من الناس بمسيرات دينية مهيبة سادها جوّ الخشوع والإيمان، وراحت تطوف شوارع مدن العالم مؤيّدة «رسل الخلاص» والإجراء الذي قاموا به بنزع سلاح دول الأرض. وأقام مئات الملايين الصلوات لآلهتهم، في الكنائس والمساجد والمعابد والكُنُس، وعلى قمم الجبال وفي السهول، حتى أن معظم الشّعوب أمضت الليل كُلّه على قمم الجبال وهي تنير الأضواء وتشعل النيران وتوقد المشاعل وتقيم الصّلوات وكأنّها تلقّت رسالة سماوية من آلهتها رغم تأكيد الأديب لقمان في رسالته إلى أبناء الأرض على أن ما جرى كان من فعل بشر وليس من فعل آلهة.
كان الأديب لقمان يتابع أخبار الكوكب وهو ينتقل من محطّة تلفزيونية إلى أخرى ويطلب إلى قائد المركبة أن يريه بعض المدن والعواصم ليجزم بصحّة ما يجري، وهو يعضّ بأسنانه على شفته السُّفلى تارة وعلى إحدى سُبّابتيه تارة أخرى، وقد أخذ القلق ينتابه بعض الشيء.
نظر إلى الأميرة نور السماء وهتف:
«غريب تعلّق هؤلاء البشر بالدين والآلهة، هل يُعقل أنّهم لم يسألوا أنفسهم كيف يتعبّدون للآلهة مع أنّهم تلقّوا رسالة من بشر؟ وعرفوا أن الأسلحة نزعت من قبل بشر، وأن الجواهر التي أنزلت على الكوكب كانت بالتأكيد من فعل هؤلاء البشر أنفسهم؟‍! حقّاً أكاد أعجز عن معرفة الكيفيّة التي يفكّرون بها»
«إنهم يعجزون عن تفسير ما يجري يا مولاي فيعزونه إلى آلهتهم»
«لكن ألم يسألوا أنفسهم أي إله منهم هذا الذي أوحى إلينا بما أوحى؟ لو أنهم يؤمنون بإله واحد لما أثقلت دماغي بالأسئلة، ولما احترت في تصرفاتهم وردود أفعالهم. المسلمون يقولون إن هذا من فعل إله محمّد، وأن الساعة آتية لاريب فيها! والمسيحيون يقولون أنه من فعل يسوع المسيح، وأنه عاد كما وعد ليخلّص البشريّة، واليهود يقولون أنه من فعل الله والله هو «يهوه» الذي خاطب موسى في مدين قائلاً: «أنا الرّب، وأنا ظهرت لإبراهيم واسحق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء، وأما باسمي «يهوه» فلم أُعرف عندهم!!» بم كان يُعرف إذن، بـ «إيل» الذي ماتزال أسماء مثل: «إسرائيل» و«جبرائيل» و«ميكائيل» و«إسرافيل» وغيرها ترتبط به؟! هل يُعقل أن يكون هذا الإله هو الذي فعل معجزتيّ نزع السلاح وإنزال الجواهر؟! تصوّري، حتى الهنود يقولون أنّه من فعل «بوذا» و«براهما» و«مهاويرا»، والصينيون يقولون أنه من فعل «لوتس» و«كونفوشيوس»، والحال ذاتها مع شعوب الأرض جميعاً، انصحيني أيّتها الأميرة ماذا أفعل؟!»
«ماذا يقولون عني يا مولاي؟»
«اعتبرك بعضهم حوريّة من حواري الجنّة وقد أمرك الله ببث رسالته إلى العالم بعد أن سيطر على أجهزة الاتصالات، تصوّري أن يحدث مثل هذا رغم تأكيدنا على أننا بشر؟!!!»
«لكن يا مولاي، إن شئت الحقيقة أنّه لا يوجد بشر إلا أنت، وأن ما جرى هو من فعل جن أكثر مما هو من فعل بشر!!!»
«أنا أتحدّث عمّا قلناه في الرسالة»
«لن يُصدق الناس أن هذه المعجزات هي من فعل بشر لاستحالة ذلك عليهم!»
«هل كان يجب أن أقول أنها من فعل جن كي يصدّقوا، هذا إذا اقتنعوا»
«والله لا أعرف يا مولاي، لكن ما الذي يُضير مولاي في ذلك؟»
«يستحيل أن تتحد شعوب الأرض وهي تتبع مئات الأديان والمذاهب، فإما إلغاؤها، أو الاستعاضة عنها بدين واحد يجمع فيما بينها، يأخذ من هذا الدين وذاك ما هو أفضل، أو يستوحي ديناً جديداً منها، والأفضل أن يأتي فكر جديد يستوعب هذه الأديان ويقنع الشعوب بصوابه، وهو في الحقيقة موجود، لكنه يحتاج إلى صوغ جديد وتعميم على الناس!»
«تقصد الفكر العلماني التنويري يا مولاي؟»
«أجل أيتها الأميرة»
«لعلّك أخطأت في صوغ مفردات الرّسالة التي وجهتها إلى أبناء الكوكب»
«هذا ما أفكّر فيه أيّتها الأميرة. يبدو لي أنني أخطأت في صوغ بعض فقراتها، فقد فكّرت فيها على عجل، لكني أكّدت فيها على العلم والمعرفة والرّقي والمحبّة وعدم الإصغاء إلى رجال الكهنوت وغيرهم»
«واختتمتها بأن دعوتهم إلى ما دعا إليه العظماء من آلهتهم وأنبيائهم ومصلحيهم!»
«هل يمكن أن تكون هذه الفقرة قد هدمت كل شيء بذكر الآلهة والأنبياء والرسل والمصلحين؟!»
«ممكن يا مولاي، خاصة وأن الرسالة بُلّغت بطريقة لم يقدر عليها حتى الآلهة من قبل! فقد بُلّغت إلى جميع البشر بجميع لغاتهم، وليس بلغة واحدة كما في الديانات السماوية وغير السماوية!»
«لكن هذه المسألة تحديداً كان يجب أن تدفعهم إلى إله جديد على الأقل!»
«يبدو لي أن البشرية لم تصحُ من هول الصّدمة بعد، ولم يكن أمامها كردّة فعل عفويّة غير العودة إلى دياناتها والتمسّك بآلهتها، لأن ما جرى يظل في كل الأحوال معجزات إلهية خارقة!»
«أنتِ محقّة أيّتها الأميرة، بماذا تنصحينني؟»
«لتترك البشرية على كوكب الأرض لبضعة أسابيع تفكّر وتعلل يا مولاي إلى أن تصحو، وأنت ترقبها بهدوء وتروٍ من الأعالي، وبعد ذلك تقرر ماذا ستفعل على ضوء ما سينجم عن صحوتها!»
«آه أيتها الأميرة، لقد أزحت عن كاهلي عبئاً ثقيلاً لبعض الوقت، أشكر لك رجاحة عقلك»
«العفو يا مولاي»
«أظن أن بإمكاننا أن نأكل شيئاً الآن»
«أمر مولاي»
كان الجميع في المركبة قد تناولوا طعام الغداء فلم يُفرد إلا مائدة للأديب لقمان والأميرة نور السماء. أفردت في حديقة المركبة على جانب مسبح صغير تحيط به وتعلوه نوافير مائية أضفت على الجو سحراً أخّاذاً. وكان الطقس حارّاً بعض الشيء، مما دفع الأديب لقمان والأميرة نور السماء إلى نزع ثيابهما والبقاء بالألبسة الداخلية الخفيفة، فجلسا إلى المائدة كعاشقين مولّهين، وراحا يضمّان واحدهما الآخر، ويتبادلان العناق والقبلات والهمسات والضحكات، في طقس ليس ثمة ما هو أجمل منه ولا أمتع، لا أبهج ولا أعذب، فطاب بينهما الغزل، وراحا يجذّفان ليبحرا على ضفاف الوله، ويغرقا في لجّة الغرام، فهمس الأديب لقمان في أذن الأميرة نور السماء، بعد أن ألقمها قطعة صغيرة من فخذ حجلٍ مشوي، وهي تلقي رأسها على كتفه الأيسر:
«لا أظن أن ثمّة في الوجود من هو أكثر سعادة منّي، إنّ هذه اللحظات الممتعة التي أمضيها معك، كافية لأن تمحو عذابات العمر كلّه وتحيلها إلى سعادة وهناء»
فهتفت الأميرة نور السماء بصوتٍ كأنّه لحنٌ عذب:
«لتظل نذر السعادة وبشائر الفرح محلّقة في سماء مولاي وحُبّي، وليهنأ قلبه بلذائذ العيش، وشغف المسرّة، ولتبعد عن نفسه حزائن الأتراح، وليعمّ ظلام لياليه نور السموات، وضوء نهاره أشعّة الشّموس الكونيّة‍‍!»
«ما أجمل الكلمات حين تنساب من شفتيك العذبتين شهداً يا مليكة قلبي، ما أجمل عينيك حين ترمقاني بلظى الشوق ودفق الحنان، ما أعذب روحك وهي تماهي بروحها روحي، وكأنّ الله يحلّ في قلبينا ويشطر نفسه إلى نصفين، نصف لي ونصف لك، ويناشدنا أن نحرص على وجوده في جسدينا، نكلأه بدفق مشاعرنا، وأسمى خفقات حُبّنا، وملء نبضات قلبينا»
«مولاي وحبّي، لتهن الصعاب أمام خطا قدميك، ولترمقك الآلهة بعيون المحبة، ولتسخّر قواها الشّمولية لتحقيق أمانيك النّبيلة، لتحرسك بكل قوى الكينونة الخفيّة، وليُفرد ظلّك على الأرض كما في السماوات، وليمجّد اسمك كلّ من في الأكوان، ولترفرف رايات محبتك مع سدائم كل النجوم، ولتذد الشُّهب والنيازك عن صفاء عينيك، ولتمسح حوريّات السّماء دموعهما التي طالما سالت عطفاً وحزناً وشوقاً للبشر والمعذّبين»
«حبيبتي.. لا تغرقيني في بحار الحُبّ وغياهب الولَه، فأنا ظمئ إلى النسيان، والتفيّؤ في ظلال الرموش الهديبة، والوجنات التي يرفّ وميضها بطيف الهوى، فلا تكوِني على قلب صاغته الكينونة على تؤدة ذرّة ذرّة للمحبّة!!»
«مولاي وسيّدي، حبّي ونور عيني، ضيا قلبي ومهجتي، روحي وأحلامي، النّسمات التي تداعب خصلات شعري، الحنوّ الذي يغلّف شغاف قلبي، خذني إلى رحاب فؤادك الدّافق بالحنان، ضمّني إلى جوانح صدرك النّاسغ بروح السَّرمدية، وامنحني قبساً من فيض حُبّك، أطلُّ به على سُهب الأكوان»
«يا مليكة روحي، كلّما ضممتك إلى صدري سرت الحياة في جسدي قطرة قطرة، وغاب الفناء عن دخيلتي دهوراً، فدعيني أغرق في سرمديّة حبّك الآلهي، ورقّة مشاعرك السّماوية، فكلّما نقلت رأسي من كتفك إلى كتفك الآخر، أحسست بطيف حُبك ينقلني من كون إلى كون. وكلّما صافحت وجنتي نهداً من نهديك ضعتُ في عالم الأكوان، فارحمي قلباً ضعيفاً ضاع بنهدٍ كوني لا يرحم، تتدفق من مساماته أكاسير الحياة ينابيع وأنهاراً»
وفيما كانا يتبادلان هذه الكلمات من الغزل الرّفيع، ويلتحمان بجسديهما ليكادا أن يصبحا جسداً واحداً، قاطعهما صوت قائد المركبة وقطع عليهما صفاء خلوتهما وجمالها، حين هتف:
«عفواً مولاي ملك الملوك لقمان، عفواً أيتها الأميرة نور السّماء»
فرفع الأديب لقمان رأسه عن رأس الأميرة ونظر بعينين هائمتين سارحتين، نحو قائد المركبة، فيما ظلّت الأميرة نور السماء ملتحمة بجسده، ومُلقية رأسها على صدره:
«ماذا أيها القائد؟»
«ملك الملوك يا مولاي في أزمة على كوكب مجهول، فقد تعرّض لهجوم مباغت من قوى إلهية جبّارة، ويستأذنك باستخدام القوة للدفاع عن نفسه وضيوفه»
وحين سمعت الأميرة نور السماء كلام قائد المركبة، رفعت رأسها عن صدر الأديب لقمان دون أن تتكلّم:
«أوضح لي كلامك أيها الرائد»
«اصطحب ملك الملوك في دعوته إلى المرّيخ قرابة عشرة آلاف إنسان من كوكب الزهرة، لكنه وجد الكوكب مأهولاً وتخوّف من حدوث مشاكل بينه وبين سكّانه، فذهب إلى المشترى فوجده مأهولاً بأقوام مجهولة، فانتقل بضيوفه بالسرعة الخارقة العُظمى وحطّ على كوكب بعيد مجهول، عليه بعض الحياة البدائية. وفيما كانوا يرقصون ويمرحون. فوجئوا بالفضاء على مسافة أميال منهم يعجُّ بآلاف القوى الإلهية المجنّحة، التي شرعت في إثارة العواصف نحوهم. فسخّر ملك الملوك قواه الدّفاعية بأن أقام أطواداً جبارة فعصفت بها وهدمتها، فأقام أطواداً أكبر منها فعصفت بها، وما يزال حتّى الآن يقيم الأطواد أمامها وهي تعصف بها وتهدمها وتتقدم نحوهم بقوى خارقة وعواصف عاتية لا يقدر عليها غير الآلهة، وإذا لم تتح له أن يستخدم قواه الهجومية التدميرية، فإنّ هذه القوى ستفتك بهم!»
زفر الأديب لقمان تأففاً وهو يدرك أن ما كان متخوّفاً منه قد حصل.
«أليس أمامه أية وسيلة للهرب بضيوفه؟»
«إنّه محاصر من كل الجهات يا مولاي، وقد أقام حتى الآن عشرين سدّاً منيعاً بين السماء وأرض الكوكب، فدمّرت جميعها، ومازال يقيم السدود والحواجز والأطواد الجبّارة لإعاقة تقدّمها، ولم يبق بينه وبينها غير بضعة أميال»
«ألم يحاول التفاهم معها؟»
«ليس هناك أي مجال للتفاهم يا مولاي، إنها قوى شريرة لا ترحم!»
«ما رأيك أيتها الأميرة؟»
«ارحمه يا مولاي. وأذن له باللجوء إلى قواه التدميرية، إنّه ينفجر غيظاً وغضباً الآن!»
«أليس في مقدوري أن أراه وأرى هذه القوى أيّها الرائد؟»
«يمكن ذلك إذا ما انتقلت إلى مقصورة الاتصالات يا مولاي»
وهرع الأديب لقمان والأميرة نور السماء إلى المقصورة ليشاهدا الهول على الشاشة. كان ضيوف ملك الملوك يتقوقعون على أنفسهم بين أشجار غابة، فيما يحاول ملك الملوك وصديقاته الجنيّات تهدئتهم وطمأنتهم دون جدوى، وعلى مسافة بضعة أميال منهم، كانت الأطواد الهائلة التي ينصبها ملك الملوك في طريق تلك القوى تنهار تباعاً وكأنها أكوام من الصفيح، وقد بدت تلك الأقوام للأديب لقمان أقرب ما تكون إلى الأسود العملاقة المجنّحة، كان حجم الواحد منها بحجم جبل، وحين شاهدها أدرك أنه لا مفرَّ من استخدام قوّة تدميرية هائلة لردعها، فأعطى إشارته إلى ملك الملوك، الذي كان يتوسّل صارخاً:
«مولاي مولاي! هل تقبل أن تفتك قوى الأعداء بمولاّك وضيوفه؟!»
وما أن أعطى الأديب لقمان إشارته حتّى أشار ملك الملوك بحركة من يده وصرخ صرخة هائلة، فاندفعت عواصف ناريّة في اتجاه هذه القوى. فأطلقت هي عواصفها غير الناريّة لمواجهتها، فاصطدمت العواصف بعضها ببعض لتكتسح العواصف الناريّة العواصف الأخرى وتحرقها وهي تعصف بها وتتقاذفها في الفضاء في اتجاه مُطلقيها لتحرقهم، لكن ما أن أُحرق الفوج المهاجم من هذه القوى، حتى فوجئ ملك الملوك بظهور فوج آخر يقذف الأعاصير الجبّارة المحمّلة بالمياه التي راحت تطفئ العواصف النارية التي يطلقها، فأمر ملك الملوك قواه الجنيّة بأن تهُبّ أعاصير ناريّة من خلف هذه القوى، ومن فوقها ومن أمامها وعن يسارها وعن يمينها وفي وسطها، فهبّت أعاصير ناريّة هائلة من كل مكان، وراحت تلتهم كل ما يقف في طريقها وكأنه هشيم، وتحيل المياه إلى نار حمراء، تفور ليتصاعد منها دخان ويملأ عنان السماء، وسط صراخ ملك الملوك الذي ارتعدت منه الجبال، وزلزلت منه بعض الكواكب والأجرام، وهو يأخذ شكله الجنّي!
أدرك ملك الملوك أنّه هزَم هذه القوى شرَّ هزيمة وأبادها عن آخرها، فقهقه بملء فيه فرحاً، ليرتج الكوكب الواقف عليه من شدّة قهقهته، وراح يعلن وهو يدرك أن الأديب لقمان يسمعه ويراه:
«أشكرك يا مولاي إذ أتحت لي أن أخوض حرباً ضد قوى خارقة وأنتصر عليها بيسر بعد ثلاثة آلاف عام من ظلام السجن»
كان الأديب لقمان مايزال في غاية الدهشة والذهول لهول ما رأى، فهتف مخاطباً ملك الملوك الذي كان مايزال في شكله الجني الهائل:
«حسناً أيها الملك، يكفيك الآن هذه الحرب. اصطحب ضيوفك وعد إلينا، قبل أن تخرج إليك قوى أُخرى قد تهزمك»
«مولاي، لقد كانت هذه على الأغلب قوى آلهيّة وهزمتها، فأيّة آلهة يمكن أن تهزمني بعدها؟»
«ما أدراك أنها قوى آلهية أيها الملك؟»
«وهل يقدر على هذه العواصف والأعاصير التي دمّرت الأطواد التي أقمتها أمامها غير الآلهة أو عظماء الجن يا مولاي؟»
«ربما يوجد آلهة وجن قادرون على تدمير الأكوان كلّها أيها الملك، فعُد قبل أن يظهر إليك أحدهم!»
«مولاي، لكن ضيوفي لم يتمتّعوا بعد كما أريد!»
«يكفيهم الرُّعب الذي أصابهم، فسارع إلى إعادتهم قبل أن يتحوّل يومهم إلى عزاء»
«أمر مولاي، سأكون عندكم فور انتهائهم من إعداد أنفسهم للعودة»
«كم تبعد عنّا أيّها الملك؟»
«أعواني يقولون أننا نبعد عنكم حوالي مائة ألف سنة ضوئية يا مولاي!»
«الله يخرب بيتك يا بعيد! وهل أنتَ واثق من أنك ستعود إلينا هذا المساء وقبل حفل العشاء؟!»
«سامحتك الآلهة يا مولاي، ألم ننطلق من عندكم قبيل الظهيرة، وتأخّرنا بعض الوقت على كوكبي المرّيخ والمشتري؟»
«لن يهدأ لي بال قبل أن أراك وأرى ضيوفك على الكوكب»
«انتظر بضع دقائق ريثما يعدّون أنفسهم وستراني عندكم يا مولاي»
«سأنتظر ولن أغادر مكاني قبل أن أراكم هُنا»
أنهى ضيوف ملك الملوك الذين معظمهم من الفتيات، أنهوا تهيئة أنفسهم للعودة، فقد حملوا أمتعتهم ووقفوا متأهبين وملك الملوك يقف أمامهم.
أشار ملك الملوك بالحركة المعتادة من يده واختفى ليختفي الضيوف جميعاً!
فوجئ الأديب لقمان به يدخل عليه مقصورة المركبة بعد لحظة هاتفاً، وقد أخذ شكله الإنسي:
«السلام على مولاي ملك الملوك الأديب لقمان»
نظر الأديب لقمان إليه وهو يدرك أنه ما يزال يعيش هذا الكابوس الجميل منذ أن خرج عليه ملك الملوك من القمقم الذي عثر عليه في القبر الذي أعدّه لنفسه كي ينتحر فيه:
«وعليك السلام أيها الملك، أين ضيوفك؟»
«انظر من النافذة تراهم يا مولاي»
وألقى الأديب لقمان نظرة عبر النافذة، ليرى آلاف الفتيات وبعض الشّباب يحملون حقائب صغيرة على أكتافهم وظهورهم ويخرجون من أرض المطار وكأن طائرة أنزلتهم للتو.
«ما لا أفهمه أيّها الملك أنّك تستطيع العودة إليّ بهذه السُّرعة ولا تستطيع الهرب بضيوفك من القوى التي هاجمتك، هل لك أن تفهمني ذلك؟»
«لأنّي محاصر من كل الجهات يا مولاي حتى من السّماء فكيف سأتجاوزها؟»
أطرق الأديب لقمان قليلاً، ويبدو أنّه اقتنع:
«حسناً أيها الملك، أنت تعرف أنني لا أحب الحروب، وأتمنّى ألا تقع في أي مكان في الكون، ومع ذلك، أُهنّئُك بانتصارك على القوى التي واجهتك»
فأحنى ملك الملوك رأسه وهو يهتف:
«أشكر مولاي الذي أعرف أنه لن يترك مولاّه يُقتل من قِبل أية قوى مُعادية دون أن يتيح له استخدام قواه الجبّارة»
«هذه مسألة ليست في حاجة إلى تأكيد أيّها الملك، فأنت صديقي وقد تعاهدنا على ذلك، ولن أسمح لأيّة قوة مهما كانت أن تقهرك وتذلّك، طالما في مقدوري ومقدورك أن نواجهها، وإذا لا مناص من الحروب فلتكن! ما يؤلمني أنني ضعيف أمامك، خاصّة إذا ما احتجت إليّ ذات يوم، ولم أقدر على مساعدتك، كيف لي أن أمتلك قوى خارقة تستطيع إنقاذك في وقت الضيق؟»
«هذا ما سأعمل عليه يا مولاي»
«وهذا ما سأعمل عليه أنا أيضاً إذا ما التقيت الله يوماً»
«أشكرك من أعماق قلبي يا مولاي»
«أنا لم أفعل لك شيئاً حتى الآن يستحق الشّكر أيها الملك»
«أرجوك يا مولاي.. لِمَ هذا التفاني والتواضع؟»
«أيُّ تفانٍ وأي تواضع أيّها الملك؟»
«لِمَ تنسى دائماً أنك من أعادني إلى الحرّية؟»
«أوه أيّها الملك، ألم أقل لك أنّها كانت مجرّد صُدفة وليست تفانياً أو تواضعاً أو حتّى محبّة؟»
«لا يا مولاي فكل شيء كان مرسوماً!»
«كيف أيّها الملك؟»
«ألم أقل لك أن الملك سليمان أبلغني أنّه لن يُفرج عني إلاّ على يديك؟»
«أجل أيها الملك»
«إذن فأنت لم تأتِ إليّ بمحض الصدفة، كان مقدّراً لك أن تأتي إلى هُناك»
«إذن فالفضل يعود إلى من ساقني إلى هُناك»
«لا يا مولاي»
«لماذا لا؟»
«حين عثرت على القمقم ألم يخطر ببالك أنّه قد يكون فيه جنّي سجين؟»
«بلى، ولم يخطر ببالي أي شيء آخر غير هذا أيها الملك!»
«ومع ذلك فتحت القمقم يا مولاي؟»
«وهل تراني أترك سجيناً في سجن حقير كهذا، وأنا لم أكره في حياتي شيئاً أكثر من السجون، ولم أذق الأمرّين إلا في السّجون؟»
«مع أنك تفرج عن جنّي قد يؤذيك يا مولاي»
«هذا ما تخوّفت منه أيها الملك، ومع ذلك فتحت القمقم ببطء، إنما دون أي تردد كما أذكر»
«هذا أنت يا مولاي، حين خلقك الله، شاء ألا يزرع في نفسك إلا المحبة والخير وإحلال الحق، وجعل الشرور في غيرك، وإن كنت أخاف عليك يا مولاي فلا أخاف إلا من هذه الطيبة»
«بل لتخف أيضاً من الشر الذي زرعه الآخرون في نفسي، لكني متفائل أيها الملك، لابدّ أن ينتصر الخير يوماً فأيّام الشر لن تدوم»
«آمل ذلك يا مولاي، مع أنني متشائم وتراود نفسي الوساوس والشكوك»
«اطمئن أيها الملك، يخالجني إحساسٌ عظيم بأن العالم مقدم على الخير والمحبّة وإحقاق العدالة»
«آمل أن يكون إحساسك صادقاً يا مولاي»
«والآن هل تسمح لي قبل انصرافي أن أطلب منك طلباً وأزفّ إليك نبأ يا مولاي؟»
«ماذا لديك أيّها الملك؟»
«سنستغل مناسبة حفل العشاء في السماء هذا المساء ونقوم بتتويجك رسمياً ملكاً على الجن الحمر بحضور الملوك جميعاً ونقيم لك وللأميرة نور السماء حفل زفاف ونتوّجها ملكة أيضاً!!»
نظر الأديب لقمان إلى الأميرة نور السماء التي كانت تجلس بصمت وخجل:
«هل خططتما معاً لهذه الليلة أيها الملك؟»
«في الحقيقة يا مولاي، كنّا نود أن نقيم التتويج والزّواج على الكوكب الذي سنقيم عليه، لكن نزولنا على الزهرة وحدوث مناسبة الحفل التي ستقام، والتي ليس من السهولة تكرارها جعلنا نغيّر رأينا»
«سأكون سعيداً بإعلان زواجي من الأميرة نور السماء أيّها الملك، لكني أشك في أنني سأكون سعيداً بتتويجي رسمياً ملكاً عليكم، فأنا لا أُحب الملوك، ولا أطمح أن أكون ملكاً، ولم أعترض حين أعلنت ذلك لعدم أخذي الأمر مأخذ الجد، ولأن علاقتي بالجن كانت وما تزال عبرك أنت»
«هذا اليوم ستلبس القلادة السحرية المطلسمة يا مولاي، وتستطيع بعد ذلك أن تصدر أوامرك إلى أي ملك من ملوك الجن أو إلى ملوك الجن الحمر جميعاً دون أن تسألني رأيي»
«وماذا سأفعل بمائة ألف ملك يحكمون مائة ألف جيش إن لم يكن مائة ألف دولة؟»
«يمكنك أن تستولي بهم على الأكوان كُلّها يا مولاي»
«لكن ليس لدي أية رغبة في الاستيلاء على أحد، وأفضّل لو أنكم تعفوني من ذلك أيها الملك»
«إنها رغبتي ورغبة الأميرة نور السماء ورغبة ملوك الجن جميعاً بل ورغبة رعايانا يا مولاي»
«لكن ماذا بوسعي أن أُقدم لكم، وكيف أقدر على حلّ مشاكلكم وأنا لا أعرف عنها شيئاً أيها الملك؟ ثم ألا ترى أنه من الظلم أن يحكم إنسيّ جنّاً؟!»
«مولاي، نحن نضع ثقتنا بك ونجزم أنك لن تظلمنا، بل ولن نجد من هو أكثر عدالة منك ليحكم بيننا بالعدل»
«إنّي أشكّ في ذلك أيها الملك، فأنا لم أكن أعرف فيما إذا كنت عادلاً حتّى بين أفراد أُسرتي الصغيرة، فكيف أعرف أنني سأعدل بينكم، خاصة وأنا لا أعرف عن عدالتكم شيئاً»
«مولاي، لتكن عدالتك عدالتنا، ولتكن شرائعك قوانيننا، ولتكن أحكامك وتوجيهاتك ومفاهيمك ناموساً ونبراساً لنا»
«ألن تجدوا في ذلك ظلماً أيها الملك؟»
«نحن نرضى بهذا الظلم يا مولاي»
وأطرق الأديب لقمان للحظات ثم نظر إلى الأميرة نور السماء، فرأى التوسُّل في عينيها، وأحسّ للحظات أنه يمكن أن يقبل بالملكيّة ولو من أجل عينيها!
«ليكن أيّها الملك، وآمل أن أقدر على أن أعدل بينكم وأُحقق أمانيكم»
وألقت الأميرة نور السماء نفسها بين أحضانه، فضمّها إليه، فيما ملك الملوك يهتف:
«عاش مولاي العظيم»
وراح الأديب لقمان يضحك وهو يملس على شعر الملكة المنتظرة نور السماء ويهتف فيما الملك شمنهور يغادر:
«والله لن تقتلني إلا بتعظيمك هذا أيها الملك»
ولم يعقّب الملك شمنهور على ما سمعه، فبادرت الأميرة نور السماء إلى القول:
«أنت لست ممن يقتلهم التعظيم، لأنك لست في حاجة إلى من يعظّمك يا مولاي»
«ماذا تقصدين أيتها الأميرة؟»
«أليس كلامي واضحاً يا مولاي؟»
«هل تقصدين أنني في قرارة نفسي أقتنع بذاتي كما أنا ولا أطمح في أيّة مناصب أو ألقاب يصبغها عليّ الآخرون؟»
«ويمكنني أن أضيف إلى ذلك أنّك في قرارة نفسك ترى أنّك إنسان عظيم، وأن أي تعظيم لن يرقى إلى هذه العظمة التي تستشعرها في نفسك!»
فوجئ الأديب لقمان بكلام الأميرة الذي لم يعرف كيف توصّلت إليه:
«لنفترض أن وجهة نظرك صحيحة، ألا يمكن أن يكون هذا غروراً مَرَضيّاً»
«لا! ما لمسته حتى الآن أنّه ثقة عالية بالنفس وليس غروراً يا مولاي»
«كيف لمست ذلك أيتها الأميرة؟»
«من يثق بنفسه، أو بعظمة نفسه وسموّها إن شئت يا مولاي، لا يشعر بالحاجة إلى التعظيم الأهوج من أحد، ولا يسعى إلى المناصب الهزيلة في نظره والعظيمة في نظر الآخرين، كمناصب الزّعماء ملوكاً كانوا أم رؤساء، أباطرة، أو حتى أنبياء وآلهة!»
«لكنّي كنت أحلم بأن أكون أديباً عظيماً أيتها الأميرة؟»
«هذا حلم إنسانيّ مشروع يا مولاي، وليس طموحاً في منصب أو سلطة»
«وسلطة الأدب على النّفس أليست سُلطة؟»
«لكنها سُلطة جميلة يا مولاي، سلطة لن تسيء إلى أحد، ولن يكرهها أحد، سلطة تشذّب النفس وتسمو بها إلى العُلا»
«المؤسف أن تنصيبي ملكاً سيمنعني من الكتابة»
«ستجد وقتاً لتكتب، سنعيّن لك مئات المساعدين كي تتفرّغ للكتابة!»
«آه ما أجملك أيتها الأميرة، أنتِ تثيرين في نفسي الأحلام القتيلة، وتعيديني إلى الأيام الخوالي التي كنت أعاني فيها من الزّمن الفاصل بين قلمي وخيالي!»
«ماذا تقصد يا مولاي؟»
«لم أكن أعرف كيف أوفّق بين بطء قلمي القاتل وسرعة الضوء التي ينطلق بها عقلي، فما أفكّر فيه في دقيقة أحتاج ربّما إلى مائة سنة للتعبير عنه! ما يحزنني أنني سأموت وأنا لم أكتب أكثر من واحد في المليون مما يدور في دماغي، وكثيراً ما أشعر أنّ اللغة، أيّة لغة مهما عظمت، عاجزة عن التعبير عمّا يدور تماماً في الخيال، أو يكتنف أعماق النفس»
«سنحاول أن نحلّ هذه المشاكل قدر الإمكان يا مولاي؟»
«هل سنجد حلاً لقلمي الذي يسير ببطء النملة؟»
«ببطء النملة يا مولاي؟»
«بل إن أبطأ أنواع النمل أسرع منه، لأنني أكتب كل قِصّة أو رواية ثلاث مرّات، وبعض الفصول أكتبها أربع أو خمس مرّات، ثم إنّك لن تحتمليني إذا ما عُدت إلى الكتابة!»
«لماذا يا مولاي؟»
«لأنني أكون كالمجنون وأعيش في عزلة شبه تامّة لعدّة أشهر، وأحياناً سنوات!»
«ولماذا تكون كالمجنون يا مولاي»
«لأن الفرق بين الأديب والمجنون شعرة واحدة!»
«كيف؟»
«المجنون قد يبكي ويضحك ويغضب ويمارس العادة العلنية أمام الناس، أما الأديب فيغلق باب غرفته على نفسه، ويشرع تارة في البُكاء، وتارة في الضّحك، وتارة في الغضب، وتارة في ممارسة العادة السريّة مع أجمل جميلات الخيال الذي يجسّده عقله!!»
«وهل ستلجأ إلى هذه العادة وأنا إلى جانبك يا مولاي؟»
«أظن أنني لن ألجأ يا حبيبتي، لأن خيالي لم يجسّد من هي أجمل منكِ حتى الآن!»
«وماذا عن الفيلسوف يا مولاي؟»
«الفيلسوف يظلّ واجماً وساهماً، فيبدو وكأنّه يحدّق في الجدران، أو يوغِل في المطلق، هذا إضافة إلى ما ذكرته عن الأديب!»
«أنت لا توجم وتسهم؟»
«كثيراً! إلى حد أنني ألبس حذائي على «البجاما»، وأهمّ للخروج من البيت، لأجد ابنتي تصرخ بي «سلامة عقلك يا بابا هل ستخرج إلى الشارع بالبجاما؟» فأضحك على نفسي وأعود وأنا أدرك أن الشعرة الفاصلة بين المجنون والأديب قد بدأت تتجاوز حدود الأدب، وأتمنى ألا يحدث ذلك ذات يوم!»
ودفنت الأميرة نور السماء رأسها في صدره وهي تهمس:
«أُحب صدقك يا مولاي، لم أرَ في حياتي من هُوَ أصدق منك، أشعر أحياناً وكأنّك طفل يتحدّث عن نفسه»
«أنا طفل في الثامنة والأربعين يا حبيبتي!»
«أما أنا فطفلة عمرها ستّة آلاف عام يا حبيبي»
«لكن كلامك عن العظمة والعظماء كلام خطير ولا يمكن أن يصدر عن أطفال، ولا أظن أنني سأسمع من بني الجن ما هو أخطر منه أيتها الأميرة»
«أعرف أنّه خطير يا مولاي، لكن ليس عليك»
«لكنه خطير على الزعماء والأنبياء والآلهة، فهم لا يشبعون من تعظيمهم، ولا يكتفون بترديد آيات التعظيم والتكبير والتأليه حتّى لو رددت كل ثانية مدى سرمديّة الزّمن، ومن أفواه البشر والحيوانات، ومن أغصان النّباتات!»
«أجل يا مولاي، إني أعرف ذلك!»
«ولا تنسي أنّك الآن مسلمة وينبغي عليك أن ترددي الشّهادتين خمس مرّات على الأقل في اليوم، وأن تصلّي لله والنّبي خمس مرّات في اليوم، وأن تطبّقي فرائض الدين الإسلامي الأُخرى»
«أظن أنه يفترض في الله ومحمّد وهما بهذه العظمة ألا يكونا في حاجة إلى شهادتي وصلواتي، بل وألا يكونا في حاجة إلى شهادات وصلوات النّاس جميعاً!»
«أنتِ بهذا تلحدين أيّتها الأميرة!»
«بالعكس، أنا أدعوهما لأن يكونا بمستوى عظمتهما، ولا أظن أنّ كُلّ من يقول رأيه يُصبح ملحداً يا مولاي!»
«أنا لم أقل إلا رأيي، ومع ذلك اعتبرت من قبل بعضهم ملحداً»
«هؤلاء جهَلة يا مولاي!»
«جهلة؟! ألا تعرفين أيضاً أنّك بقولك هذا تطعنين في الأديان، بل وتشيرين إلى ما يُسمّيه بعض أطباء الأمراض النفسيّة عقدة النقص أو الشّعور بالدّونية وربّما جنون العظمة عند بعض الزّعماء، بل عند الآلهة والرُّسل جميعاً، وتدعين إلى إلغاء الصلوات بل والمساجد والشهادتين وأركان الإسلام كلها، وبالتالي إلغاء الإسلام، والمسيحية واليهوديّة وكل الأديان!!»
«أجل يا مولاي إني أطعن في الأديان كُلّها وأشير إلى بعض السّلبيات لدى آلهتها وأنبيائها، لكني لا أدعو إلى إلغائها بقدر ما أدعوها إلى أن ترقى بوعيها وسلوكها إلى ذرى الكمال!»
«الأديان ثابتة ولا تتغير أيتها الأميرة، والأنبياء قالوا ما لديهم وما أنزل عليهم، أو ادّعوا أنّه أُنزل عليهم، ورحلوا، وليس في الإمكان إجراء أي تغيير، فإما أن نقتنع ونظل مؤمنين، أو لا نقتنع ونغدو ملحدين، ليس ثمة أي مجال للحلول الوسط»
«وهل جاءت الأديان من أجل الآلهة أم من أجل البشر يا مولاي؟!»
«لنقل أنّها جاءت من أجل البشر!»
«إذا جاءت من أجل البشر، فلِمَ لا يتدخّل البشر أنفسهم في بلورة مفاهيمها كي تتلاءم مع ظروف حياتهم؟!»
«لأن الآلهة والأنبياء لا يقبلون بذلك وإن ذُكر أن النّبي محمّد قد قال ما معناه أنّ الأمّة الإسلاميّة في حاجة كل مائة عام إلى من يُصلح لها أمور دينها»
«إذن ليقم الآلهة والأنبياء ديناً لهم في السموات وليتركوا من على الأرض والكواكب وما تحتها وشأنهم!»
وراح الأديب لقمان يضحك، فتساءلت الأميرة:
«لم تضحك يا مولاي؟»
«هل هذا قولك الفصل في مسألة الدين أيتها الأميرة؟»
«نعم يا مولاي»
«لكن إلى ماذا تستندين حين تبتّين في المسألة بهذا الإطلاق؟»
«إضافة إلى ما قلته يا مولاي، فإني أستند إلى أكثر من عشرين ألف عام من استبدال الآلهة، فعمري ستة آلاف عام، وعمر أبي أكثر من اثني عشر ألف عام، وعمر جدّي أكثر من خمسة وعشرين ألف عام، وكل الآلهة الذين عايشناهم، انتهوا إلى غير رجعة، وانتهت معهم مفاهيمهم وتعاليمهم، وكنّا نغيّر معظم مفاهيمنا أو بعضها، مع اكتشاف أو ظهور كل إله، ونقول إن هذا هو الإله الأخير الحق، لنكتشف بعد حقبة من الزّمن أننا على خطأ، بل لنكتشف أنّ كل هؤلاء الآلهة انتهوا أو رحلوا ونحن بقينا أحياء، مما يؤكد أنهم لم يكونوا آلهة، وأننا نحن الذين صدّقناهم، أو أوجدناهم، أو تصوّرناهم، أو رفعناهم إلى مراتب الآلهة، بل ونحن من وضع سننهم وشرائعهم ورحنا نطبّقها على أنفسنا، مع أنّ بعضهم كانوا بشراً ضعفاء، وعاجزين عن فعل أي شيء ذي قيمة سامية!!»
لم يصدّق الأديب لقمان أن الأميرة نور السماء يمكن أن تكون متبصّرة إلى هذا الحد، فضمّها إلى صدره بشدّة وهتف:
«أنتِ بهذا التفكير الأخير بدأت تقتربين منّا أيتها الأميرة، ولا أستبعد أن تنضمّي إلينا يوماً»
«تقصد المتنوّرين يا مولاي؟»
«نعم»
«بماذا أختلف عنكم يا مولاي؟»
«نحن لا نقتنع بوجود الآلهة أصلاً أيتها الأميرة، ونرى أن الحياة وجدت وحدها، وطوّرت نفسها بنفسها، ولم يخلقها أو يطوّرها أحد. أي أنّ الوجود بحد ذاته لم يكن له غاية، وليس ثمة وجود آخر غيره، سواء كان ذلك قبله أو بعده. وما جاء من آلهة ومعبودين ليسوا أكثر من تصوّرات وأفكار بدائيّة أوجدها البشر، وحتى الجن كما أشرتِ أنتِ، خلال سعيهم الدائب للبحث عن سرّ الخلق وما خلف الوجود!!»
«لكنك قلت أنّك ستسعى للقاء الله، فكيف تسعى للقاء من لا تقتنع بوجوده يا مولاي؟»
«لعلّني أكتشف أنني على خطأ ولو بنسبة واحد في البليون!», ثم تراودني فكرة مختلفة وهي أنه لابُدّ أن يكون هناك غاية نبيلة من وراء الخلق»
«وإذا ما اكتشفت أنك على خطأ وأنّ هناك إلهاً ما خلف هذا الوجود، هل ستؤمن به يا مولاي؟!»
«إذا ما اقتنعت بصدقه وعدالته وصواب أفكاره، سأكون أكثر المؤمنين به والمخلصين له»
«تقصد صدقاً وعدالةً وصواب أفكار أفضل مما وصل إلى البشر؟!»
«بالتأكيد، فإذا كانت الأفكار والتعاليم المتناقضة التي وصلت إلى البشر، هي أفكار آلهة، فهذه مصيبة فظيعة، وأظن أنني لن أتوانى عن هدم عروش هؤلاء الآلهة إذا وجدت إلى ذلك سبيلاً!!»
«أظن أن لديك الآن من القوة ما يمكّنك من هدم عرش أي إله مستبد يا مولاي!»
«آمل ذلك أيتها الأميرة، وآمل أن أتمكّن من هدم عروش الاستبداد في دول الأرض قبل أن أهدم عروش الاستبداد في السماوات»
«وكيف ستهدهم كل هذه العروش دون أن تريق دماً يا مولاي؟»
«طالما لدي قوى تمكنني من ذلك لن يكون الأمر عسيراً»
«هل اقتنعت بفكرة الذات الكلية السائدة في كوكب الزُّهرة؟»
«حتّى الآن لا، مع أنّها تزخر بكل ما هو عظيم وسامٍ وخلاّق»
«ونظام اللا نقد واللا دولة أو النظام بشكل عام؟»
«أيضاً حتّى الآن لم أقتنع به، لكن ما حققه هذا النظام من إنجازات حضارية ومِن رُقي في السّلوك الإنساني، مسائل لابدّ من التوقّف عندها والتفكير فيها طويلاً»
«ألا ترى أنّ فكرة الذات الكليّة تلتقي مع الفكر العلماني بعدم اعتمادها مبدأ الخلق والخالق؟!»
«أجل تلتقي كثيراً، لكنها تختلف بإيجاد فكرة أو مبدأ الذات الكُلّية والذات الفردية، والذات الجمعيّة»
«أظن أن جلستنا طالت يا مولاي، وأنت في حاجة إلى الرّاحة، فأمامك حفل عشاء وحفل تتويج وحفل زفاف!»
«فعلاً أيتها الأميرة دعينا ننال هنا في المركبة قسطاً من الراحة لأنني تعبت حقاً»
«لكن، ألا يرغب مولاي في دعوة بعض زعماء الأرض وبعض أقاربه وأصدقائه إلى حفل تتويجه وزفافه»
«آه، فكرتك عظيمة لكنها جاءت متأخرة أيتها الأميرة، كان يجب أن نُفكر في هذا من قبل، لكن الآن، لا أظن أن هذا من اللائق قبل سويعات من بدء الحفل، قد نفعل ذلك في مناسبة قادمة!!»
***

أقام ملك الملوك الدّنيا وأقعدها، فقد نصب روضاً في السماء تقدّر مساحته بآلاف الأميال المربّعة. وأرساه على قواعد صلبة شامخة، وقد أقامه فوق منطقة شبه صحراوية وخالية من السكان كي لا تحجب الشمس عن أبناء الكوكب، فيما لو أرادوا أن يبقوه بعد انتهاء الحفل، وقد أنزلت منه آلاف آلاف المصاعد والسلالم المتحركة للصعود والنزول، ووزعت في ممراته آلاف أنواع الورود والزّهور ونباتات الزينة والأشجار المثمرة وغير المثمرة، وسط آلاف النوافير الملونة التي كانت ترذّ الماء في كل الاتجاهات لتتغيّر ألوانه مرة كل ثانية من الزمن، ليظهر في أكثر من عشرين لوناً متتابعاً، وكان ثمّة العديد من شلالات المياه الذهبيّة التي تنحدر إلى العرش من الجهات الأربع، وتتجمّع في بركة من حول المنصّة الرئيسية وتندفع من نوافير موزّعة حول منصّة العرش التي أقيمت في منتصف الرّوض وأُحيط بها مسرح هائل فرشت أرضيته بخشب الأبنوس الهندي!
وقد مُدّت في الروض آلاف آلاف الموائد على أرضية من بلاط المرمر تخللتها آلاف المسارح المعدّة للرقص، وقد حفلت الموائد بكل ما لذّ وطاب وكلّ ما يمكن أن يشتهيه المرء من طعام وشراب، ونصب عليها بعض المناظير المقرّبة لكي يتاح للذين يجلسون بعيدين عن منطقة العرش عشرات الأميال أن يرقبوا ما يجري عبرها، إذا لم يكتفوا بمشاهدة ما يجري على شاشات النّقل والبث الكبيرة التي بُثّت في مختلف أنحاء الرّوض لتنقل كُلّ ما يجري ضمن الرّوض كُلّه بالصوت والصورة.
وكانت الأرضيّة ترتفع تدريجياً كُلّما ابتعدت المسافة عن العرش كي يتاح للجميع الرؤية المباشرة إذا ما أرادوا.
وقد انتصب العرش على قاعدة مربّعة من حجر المرمر مجللة بالديباج وتوسّطه كرسيان من العاج المرصّع بالجواهر النفيسة والمجلل بمخمل أخضر اللون،! وسط سماء مكشوفة لم يعلوها إلا آلات التصوير والآلاف من الثريّات الملوّنة التي كانت تتلألأ في سماء الرّوض.
وقد انتشرت في كل مكان بين الموائد وحول منصّة العرش وبين الورود والزّهور مئات الآلاف من حوريّات الجن الفاتنات اللواتي ارتدين الملابس الحريريّة الطويلة الشّفافة، وعرّين أيديهن وصدورهن وظهورهن، وكنّ يتخطّمن هُنا وهناك وهن يعددن الموائد ويفردن أنواع الطعام والشراب، أو يضفين عليها لمساتهن السحرية لتبدو في أجمل شكل.
بُعيد الغروب، أوعز ملك الملوك إلى مئات الآلاف من بنات الجن وشبابهم أن يقفوا على أبواب المصاعد والسّلالم ومداخل الرّوض ليستقبلوا المدعويين، ويدلّوهم على أماكن جلوسهم، ومن كان مكانُه بعيداً أُعدّت له عربة سحريّة على شكل حمامة بيضاء ذات جناحين أخضرين لتقلّه إليه.
وكان ملك الملوك قد دعا إلى الحفل ثلاثاً من زوجاته السابقات بينهن زوجته الأولى، وبعض أولاده وبناته والملوك المائة ألف وزوجاتهم بمن فيهم والدي الأميرة نور السماء والأميرة ظل القمر التي قرر أن يتزوجها، كما دعا العشرة الكبار من ملوك كل من الجن الصُّفر والزرق والسّود والخضر وزوجاتهم، وكان ينوي أن يقيم تحالفاً معهم لكي يكونوا عوناً للجان الحُمر وللأديب لقمان، خاصّة وأنّه كان يعرف أن كبار الشياطين والأبالسة هم من الجان السود، وكان يريد أن يكسب ودّ هؤلاء تحديداً أكثر من غيرهم، مع أنه لا يحبّهم لما يسمعه عنهم من أعمال شائنة، غير أنه كان يظن أنهم يمكن أن يقدّموا عوناً هاماً للأديب لقمان لقدراتهم الخارقة، حتى في مقارعة كُلّيي القدرة من الآلهة، وكان ثمة ما يكدّر صفو ملك الملوك، فقد عرف من الملك «حامينار» والد الأميرة نور السماء أن ملك ملوك الجن الصُّفر الجبّار «دامرداس» كان قد طلب منه يد الأميرة نور السماء غير أنها أبت الزواج منه متذرّعة بعدم رغبتها في الزواج، وحبّها للحرية ومسامرة من تشاء من الملوك، فهدد بقتلها أو شن حرب على الجان الحمر إذا ما سمع أنها تزوجت من غيره ذات يوم، ولاشك أنّه سيفاجأ بزواجها من الأديب لقمان هذه الليلة، ولا أحد يعرف ما الذي ستكون عليه حاله حين يراها تفضّل إنسيّاً عليه وعلى ملوك الجنّ جميعاً.
وقد اقترح ملك الملوك على الأديب لقمان ألا يشارك في استقبال كبار الضيوف، لأن الأمر سيكون مُرهقاً له، وتولّى هو والملك حامينار والد الأميرة نور السماء والعشرة الكبار من أتباعهما استقبال كبار الضيوف من كوكب الزّهرة ومن ملوك الجن، بمن فيهم الملك دامرداس ملك ملوك الجن الصّفر الجبّار، وطالب يد الأميرة نور السماء من أبيها.
في المركبة، أقدمت الأميرة نور السماء وأربع من أميرات الجن الحوريّات، على تشذيب شعر رأس الأديب لقمان وذقنه وشاربيه وأدخلنه الحمّام وحمّمنه ثمّ ضمَّخنه بأطايب المسك والعنبر وألبسنهُ حُلّة ملكيّة بيضاء من حرائر السماء، ووشّحنه بوشاح أخضر زُيّن بالزمرّد والياقوت.
وقد ارتدت الأميرة نور السماء حلّة بيضاء أيضاً وتوشّحت بوشاح أحمر زُيّن بالجواهر ذاتها، وزادت على ذلك بأن زيّنت أصابع يديها ومعصميها وزنديها وعضديها وجيدها بأثمن الجواهر، وعلّقت في أذنيها قرطين على شكل ثريّتين من الماس النّقي، الذي لا تشوبه أية شائبة، وتطيّبت بعطور نفّاذة تضوّعت رائحتها الزكيّة في المركبة كلّها وما حولها!!
طلب الأديب لقمان ملك الملوك ليسأله عمّا إذا حضر الإنس والجن جميعاً، وعمّا إذا أحسن الاستقبال لكبار المدعوين، فأبلغه أن الأمور سارت على ما يرام، ولم يخبره بسِرّ الملك «دامرداس» لكنه أخبر الأميرة نور السماء التي فضّلت أن يبقى الأمر سرّاً على الأديب لقمان، كي لا ينشغل باله، وأشارت إلى ملك الملوك أن يأخذ احتياطاته ويضع بعض جيوش الجن الحمر على أُهبة الاستعداد وأن يوكل إليهم حراسة الفضاء المحيط بكوكب الزهرة تحسّباً لأية حماقات متهوّرة قد يقدم عليها الملك «دامرداس»، فأعلن لها أنّه احتاط لكلّ شيء، مع أنه يستبعد أن يقوم الملك دامرداس بردّة فعل طائشة وهو في ضيافتهم وبين ملوك الجن وزعماء الإنس.
تساءل الأديب لقمان قبل أن ينطلق موكبه إلى الحفل عمّا إذا يتوجّب عليه مصافحة كبار الضيوف، فأعلن الملك شمنهور أنّ ذلك قد يستغرق معه يوماً بكامله، فقال الأديب لقمان:
«لكن ليس من المعقول ألا أصافح الملك «حامينار» الذي سيزوّجني ابنته والراعي الأكبر الذي أُقيم الحفل على شرفه!»
«هؤلاء ستصافحهم بعد التتويج يا مولاي، ثم إنّهم يجلسون على المائدة التي سنجلس عليها، وستحيي باقي الجماهير الجنيّة والإنسيّة بيديك من على العرش الطائر الذي ستنطلق عليه إلى هناك، وسيحلّق فوق منطقة الرّوض كلّها»
«قل لي، من يجلس أيضاً على المائدة التي سنجلس عليها أيّها الملك؟»
«أنا وعشرة من أكابر ملوكي وأربعة ملوك ملوك جن آخرين وأربعون ملكاً من كبار ملوكهم وزوجاتهم، وبعض زوجاتي السابقات وكبرى بناتي والأميرة ظل القمر والراعي الأكبر وزوجته وشاهل بيل وزوجته ونائب الراعي الأكبر وزوجته»
«وكم تعداد هؤلاء أيها الملك؟»
«قرابة مائتين يا مولاي!»
«ولِمَ لا أصافحهم قبل التتويج؟»
«لأنهم سيضطرّون إلى مصافحتك بعده وفي هذه الحال ستمضي ليلتك في المصافحات!»
«ألا ترى أنّ المناسبة تستأهل ذلك؟ فلن أتوّج ملكاً لملوك الملوك كلّ يوم، ولن أتزوّج من أميرة حوريّة ستغدو ملكة هذه الليلة كل يوم؟!»
«يمكنك أن تفعل ما يسُرك يا مولاي!»
«أراك زعلت!»
«لا يا مولاي، إن ما يرضيك يرضيني!»
«سأفعل كما رسمتَ أنت أيها الملك فأنت مُصيب!»
«شكراً يا مولاي!»
«هل يتوجّب عليّ أن ألقي كلمة ولو قصيرة بعد التتويج؟»
«يُفضّل هذا يا مولاي»
«وماذا سأقول فيها أيها الملك؟»
«هذا ما لا أخاف عليك منه يا مولاي!»
«والله إني لا أخاف شيئاً أكثر من الكلام!»
«اسم الله عندما يخرج من فمك يبدو جميلاً يا مولاي!»
«ربّما لأننا خصمان لدودان!»
دخلت فتاتان تحملان تاجين مرصّعين بالجواهر، هتف الأديب لقمان:
«ما هذا هل ستتوجنا منذ الآن أيها الملك؟»
«هذان تاجان عاديّان يا مولاي، ستظهران بهما أمام المليارات من المدعوين، إذ ليس من اللائق أن نترك رأسيكما حاسرين على حالهما!!»
أخذ الأديب لقمان تاج الأميرة نور السماء ووضعه على رأسها، فأضفى على جمالها جمالاً آخر، تأمّلها الأديب لقمان للحظات وهتف:
«آه ما أجملك، لا أظن أن الملوكيّة وجدت إلا من أجلك، فهي لا تليق إلا بك! ليتني حاولت الانتحار وأنا في عنفوان الشّباب ولم أنتظر حتّى خريف العُمر، كي أكون جديراً بك!!»
فهتفت الأميرة نور السماء:
«وهل يهون عليك أن تدعني أنتظر قرابة ثلاثين عاماً لأرى جمال شيبك ووقار صَلعك ورزانة حضورك ورجاحة عقلك يا مولاي؟»
«وما جمال الشّيب ووقار الصّلع ورزانة الحضور ورجاحة العقل أمام عنفوان الشّباب أيّتها الأميرة، لو عرفتني وأنا أسير في شوارع دمشق، ممشوق القوام، مفتول العضلات، بارز «النهدين» طويل الشَّعر، مفتوح الطّوق دارع الصدر، أُعلّق بلدي مصلوباً على صدري في سنسال يلتف حول عنقي وأتأبط بعض الكتب والحسناوات يلاحقنني ينشدن قربي وودّي، لغيّرت رأيك!»
«لا أظن أنني كنت سأغيّر رأيي يا مولاي!»
وقطع حوارهما ملك الملوك بصوته الفظ:
«أعطني رأسك الآن أيها الملك فقد أدركنا الوقت»
واستدار الأديب لقمان هاتفاً:
«هاك رأسي أيها الملك، فمن الأجدى له أن يغدو رأس ملك على أن يظلّ رأس أديب يُحاصِر ما يدور فيه الرُّقباء والمخبرون وسدنة السّلاطين!!»
نظر الأديب لقمان إلى نفسه في المرآة فرأى التاج يتلألأ على رأسه فأيقن أنّه غدا حقاً ملكاً، رغم هذا الهُتاف اليقظ في قرارة نفسه، الذي يذكّره دائماً أنّه قطعاً في حُلم لن تكون له نهاية كما يبدو، فهتف مخاطباً رأسه:
«آمل ألا تؤول إلى الخُواء والغرور، وتجنح إلى التسلّط والتكبّر والاستبداد، أيّها الرأس الذي طالما تصارعت فيك الهواجس، وأثقلتك نُبل الأفكار!»
فسارعت الأميرة نور السماء إلى القول:
«لن يؤول رأس مولاي إلا إلى الكمال، ولن تأخذه يوماً أبّهة الملوك، مع أنّي لم أرَ من هو أبهى وأكثر مهابة من مولاي بالزّي الملكي»
«هذا ما يبدو لك أيتها الأميرة.. هل ننطلق إلى الحفل الملكي؟»
«أجل يا مولاي.. كي لا نتأخر!»
«هيّا إذن إلى العرش الطائر أيّتها الملكة!»

* * *
(8)
تتويج في السماء

انطلق الموكب من المركبة على عرش طائر مكشوف إضاءته كنور النّهار. وقف الملك لقمان والملكة نور السماء في وسطه فيما أحاطته ثمان من حوريات الجن بينهن الأميرة ظل القمر، وقد جلسن واضعات أيمانهن على خدودهن، وحلّق إلى جوانبه الأربعة في أسراب منتظمة أربعمائة جنّي يمتطون الخيول المجنّحة، وقد طار ملك الملوك وبعض مرافقيه ليسبقوهم إلى روض الجنان.
وما أن أطلّ العرش الطائر على سماء الرّوض حتّى ضجّت السماوات العُليا بقرع الطّبول وإطلاق الأسهم النارية الملوّنة بالملايين، وصدحت الموسيقى من كافة أرجاء الكون وضجّ كُلّ من في الرّوض بالنهوض والتصفيق الحاد وزغردت حوريّات الجن فيما لوّح الملك لقمان بيده وكذلك فعلت الملكة نور السماء.
راح العرش يحلّق في سماء الروض مارّاً فوق المدعوين، الذين ناف عددهم على عشرة مليارات مدعو من الجن والإنس، وكُلّما كان العرش يقترب من مكان، كان تصفيق الموجودين فيه يزداد حدّة.
وحين شاهد الملك «دامرداس» ملك ملوك الجن الصُّفر الأميرة نور السماء، طار صوابه وامتلأ قلبه بالغضب وأحسّ أنّه سيتفجّر غيظاً وقهراً، فانتفض في مجلسه وراح يهزّ رأسه بشدّة حتى أحسّ من كانوا يحيطون به بهول ما ألمّ به دون أن يعرفوا السبب، ماعدا بعض ملوك الجن الذين كانوا يعرفون قصّته، ولم تمر سوى برهة من الزمن حتى اندلعت عواصف ناريّة أحاطت سماء كوكب الزهرة من كل النّواحي، على مسافة لا تبعد أكثر من خمسين ألف ميل عنه، فانتفض ملك الملوك شمنهور الجبّار بدوره، وقد دبّ في رأسه الجنون، فأمر جيوشه بأن تُهبّ الأعاصير الملتهبة في مواجهتها، فكان على بُعد حوالي ثلاثين ألف ميل من كوكب الزّهرة أن هدرت الأعاصير الشمنهورية الملتهبة في مواجهة العواصف الدامرداسيّة الناريّة وراحتا تنطلقان بسرعات جنونية هائلة لمواجهة بعضهما. وحين نظر الملك دامرداس إلى الملك شمنهور ورآه ينظر إليه هو والملك حامينار والد الأميرة نور السّماء، أيقن أنّهما عرفا أنّه هو من يقف خلف هذه العواصف الناريّة الجبارة، فأشاح وجهه عنهما ليبعد الشكّ عن نفسه، فظلّ ملك الملوك يحدّق إليه ويبتسم بخبث.
كلّ هذا والناس ومعظم الجن لا يدرون بما يجري، والملك لقمان والملكة نور السماء يحلّقان في سماء الرّوض، لكن ما أن التقت الأعاصير بالعواصف على بُعد حوالي أربعين ألف ميل من الكوكب حتّى ارتجّت السماء وأرض الزهرة وهدرت الرّعود وهوت الصواعق وتناثرت الشّهب والنيازك. والتمعت البروق الهائلة، فنظر الناس والجن وإذا بالآفاق البعيدة من حول الكوكب تلتهب بنار كونيّة هائلة، فارتعب كثيرون، وأدرك الملك لقمان أنّ ثمّة أمراً خطيراً يجري، فتساءل موجّهاً كلامه إلى الملكة نور السماء وهما يحلّقان في سماء الرّوض، فحاولت الملكة نور السّماء أن تقلل من شأن ما يجري مع أنّها كانت متخوّفة من أن يتحوّل ليل الحفل إلى حرب ضروس تحرق الأخضر واليابس:
«ليس ثمة ما يستوجب أن يشغل بال مولاي، إنهم بعض ملوك الجن يستعرضون قواهم يا مولاي!»
«ولمَ لم يستعرضوها إلاّ الآن؟»
«سأخبرك فيما بعد يا مولاي!»
«لكني قلق أيتها الملكة، لقد أحسست بالسماء ترتج، وها هو الأفق أينما نظرت يلتهب بالنار وتتصاعد منه الشّهب، وكأن براكين قد تفجّرت فيه»
«لا عليك يا مولاي، فجيوشك تحرس السماوات حتّى إلى ما وراء حدود كوكب الزهرة، وليس ثمة قوة قادرة على تجاوز أعاصيرها النيرانيّة الهائلة، فلا تقلق»
وجاهد الملك لقمان ليحتفظ برباطة جأشه فيما كان العرش يهبط في الروض وسط تصفيق الجميع وتحليق الحُراس من الجن في السماء.
أخذ الملك لقمان بيد الملكة نور السماء وصعدا بضع درجات تتبعهما الحوريّات الثماني، ليقفا على العرش الروضي الذي كان يدور ببطء شديد كي يراه الحضور من كل الجهات، فيما جلست الحوريات على أطرافه وأعدن وضع أيديهن على خدودهن.
صعد ملك الملوك والملك حامينار تتبعهما حوريّتان تحملان تاجين ذهبيين مرصّعين بالماس على طبقين ذهبيين.
عرّف الملك شمنهور الملك لقمان على الملك «حامينار» فتصافحا بحرارة والملك لقمان يهتف:
«إنه ليشرّفني ويسعدني هذا التقرّب إلى أسرة جلالتكم أيها الملك»
«إنه لفخر لنا ولأسرتنا ولملوك وأمم الجن الحمر قاطبة يا مولاي»
رفع ملك الملوك التاج العادي عن رأس الملك لقمان ليتوجّه بالتاج الملكي ويلبّسه القلادة السحريّة، فيما توّج الملك حامينار الملكة نور السماء وسط وقوف الجميع وتصفيقهم.
جلس الملك لقمان والملكة نور السماء على كرسيّي العرش، وكان بريق الجواهر يشعُّ من رأسيهما من جرّاء انعكاس الأضواء عليه، فيما العرش يدور بهما ببطء ليتسنّى للجميع مشاهدتهما. وقد وقف ملك الملوك والملك حامينار خلفهما.
ما أن أنهى العرش دورته حتّى نهض الملك لقمان وشرع في إلقاء كلمة قصيرة بمناسبة التتويج:
«صاحبات الجلالة الملكات، أصحاب الجلالة الملوك..
صاحبات النّيافة السيّدات، صاحب المهابة الرّاعي الأكبر..
صاحبات المعالي العالمات، أصحاب النّاموس العُلماء والأدباء ورجال المعرفة..
أيتها الحوريات الفاتنات، أيها الشباب الأعزاء:
من القلب أقول لكم أهلاً ومرحباً، وعميق شكرنا لتشريفنا بحضوركم، واسمحوا لي أن أُحيي صاحب المهابة الراعي الأكبر، وأبناء كوكب الزهرة العظماء، الذين حقّقوا على كوكبهم معجزات حقيقية لم يرق إليها بشر معروفون حتى الآن، وليستميحونا عذراً لاستغلال الحفل المقام على شرفهم لإقامة حفليّ التتويج والزّفاف.
ضجّ الروض بتصفيق حار استمرّ لأكثر من دقيقتين على إيقاع الموسيقى..
واسمحوا لي أيّها الأعزاء من أبناء الزُّهرة، أن أهنّئ أبناء الأمم الجنيّة، وملوك الأمم الجنيّة، ونساء وفتيات وحوريّات وشباب الأمم الجنيّة، بإطلاق سراح ملك الملوك شمنهور الجبّار بعد ثلاثة آلاف عام من القهر والحرمان في سجون الطاغية سُليمان!!!
وراح الجن يصفّقون بأيديهم ويدقّون الأرض بأرجلهم فرحاً، فيما ملك الملوك يلوّح بيديه.
وإنّي أيّها الأحبّة من أبناء الجن لأعاهدكم، ألا يبقى جنيّ في قمقم إذا ما استطعنا الوصول إليه ومعرفة مكانه! وإني لأعاهدكم أيها الأحبة بأن ينتهي عهد القماقم والسجون إلى الأبد وألا يعود ثانية، وأن يولّي عهد السُّجود والرّكوع إلى غير رجعة».
جُنّت الجماهير الجنيّة والإنسيّة وراحت تصفق بأيديها وتدق الأرض بأرجلها، وتطلق المفرقعات في الفضاء، فيما الأفق البعيد يلتهب باحتدام الصراع بين العواصف والأعاصير، وجعل الملك لقمان الحناجر تبحّ من الهتاف حين صرخ طالباً إلى الجماهير الجنيّة أن تهتف بعده:
«فليسقط سليمان! وعهد سُليمان، إلى الأبد!!»
انطلقت مئات الزغاريد من أفواه الحوريّات لتصاحب الهُتاف، فيما اندفع الإنسيّون من أبناء الزهرة إلى الهُتاف مع الجن.. وما أن هدأ الهُتاف حتى تابع الملك لقمان:
«وإنّي أيّها الأحبّة، يا من أوليتموني ثقة أنا عاجز عن حملها، وتخالج نفسي الريبة بأن كاهلي سينوء بها، لأعاهدكم على أن أعمل على تغيير الصورة التي رسمت لكم في أذهان أبناء الإنس وبعض الجن في كل الكواكب، لتحل محلّها صورتكم النّبيلة وأعمالكم الخيّرة».
اهترأت الأكفّ من التصفيق، وبحّت الحناجر من الهتاف، وهمس ملك الملوك من خلف الملك لقمان:
«وتقول أنك لا تعرف مشاكل أبناء الجن يا مولاي؟»
«وإني قبل أن أودّعكم أيّها الأحبّة لأدعوكم لأن تحيطوني علماً بما لا أعرفه من مشاكلكم لعلّنا نستطيع معاً وسوياً أن نجد الحلول لها، وإنّا على ذلك لقادرون.
وإني أيها الأحبة، لأدعوكم منذ اليوم إلى أن ترفعوا هاماتكم وألا تحنوا رؤوسكم لكائن أبداً، وألا تسجدوا أو تركعوا لكائن أبداً، بشراً كان أم إلهاً، جناً أو ملاكاً!»
وتوقّف الملك لقمان للحظات يرقب هيجان جماهير الجن والإنس، التي راحت تهتف بملء حناجرها:
«عاش ملك الملوك لقمان العظيم»
فرفع الأديب لقمان يده، فتوقّفت الجماهير:
«بل قولوا عاش لقمان رسول الحرية، عاش لقمان رسول الخلاص، لأني سأدعوكم أيضاً إلى نبذ تعظيم الزّعماء، فلا عظيم بعد اليوم إلا أنتم، ولا مولى بعد اليوم غيركم»
هاجت الجماهير وماجت كالبحار متلاطمة الأمواج.
«واتركوا أيّها الأحبة كلمات التعظيم والتبجيل، نتداولها نحن الزّعماء فيما بيننا في المناسبات الرّسمية من قبيل اللياقة والاحترام»
«عاش لقمان رسول الحرية. عاش لقمان رسول الخلاص»
«وأوصيكم أيها الأحبة، أن تحبّوا بعضكم، وألا تدعوا الكُره يراود نفوسكم، وألا تُكرهوا أخاكم على ما لا يرضاه، وأن تتشاوروا فيما بينكم، وأن تأخذوا برأي الأغلبية، وأن تسعوا إلى الحقيقة، وتبحثوا عن المعرفة، وتبدوا رأيكم في كل ما يتعلّق بحياتكم، وما يكتنف الوجود من حولكم، وألا تدعوا للخوف سبيلاً إلى نفوسكم.
وإني لأوصيكم أيّها الأحبّة بأبناء كوكب الزُّهرة الذين أولوا ضيافتنا كل الكرم والرّعاية، فمدّوا أيديكم لهم كلّما دعت حاجتهم إليكم، وكونوا لهم إخوة وعوناً وسنداً في السّراء والضّراء، وأفيدوا من تجربتهم الخلاّقة، في السُّموّ بالحياة الإنسانية..
عاشت أمم الجن والإنس!
فهتفت الجماهير خلف الملك لقمان مردّدة ما يقوله.
عاشت وحدة الكواكب!
عاشت الحريّة. عاشت المحبّة»
صفّقت الجماهير طويلاً بعد انتهاء الكلمة. وبادر كبار المدعوّين إلى تهنئة الملكين بالصّعود تباعاً إلى العرش وملك الملوك يعرّف الملك لقمان على كبار ملوك الجن، وكان آخر الناهضين للتهنئة الملك دامرداس والملوك العشرة من أتباعه، وكانت الأعاصير الملتهبة تخوض صراعاً مريراً مع العواصف الناريّة، وقد أفلحت في احتوائها وجعلها تدور في فلكها إلا أنها لم تتمكن من إيقاف هبوبها.
وكان الملك دامرداس قد أضمر أن يشعل فتيل حرب لا تبقي ولا تذِر بمجرّد انتهاء مراسم التتويج، وقد استدعته أُصول الضيافة واللياقة الملكية ألاّ ينصرف دون أن يستأذن ويهنّئ الملك لقمان بتتويجه.
صافح الملك دامرداس الملك لقمان بوجه مُتجهّم، ولم يصافح الملكة نور السماء التي كانت تقف على أعصابها! وطلب على الفور الإذن بالانصراف متذرّعاً بانشغاله بشؤون ممالكه، فأدرك الملك لقمان أنّ في الأمر شيئاً رهيباً، فاستوقفه هاتفاً بحزم:
«ليسمح لي صاحب الجلالة الملك أن أبدي أسفي وعجزي عن السّماح له ولأصحاب الجلالة ملوكه بالانصراف ما لم نقم بواجب ضيافتهم وإكرام مقامهم الجلالي!»
فوجئ الملك دامرداس بهذا التهذيب الجمّ وجمال النطق مما لم يعتد على سماعه من معظم ملوك الجن، فأجاب بلهجة مهذّبة بعض الشيء لكنها لا تخلو من استفزاز جعل دخيلة الملك شمنهور تضطرم بالنار:
«ليسمح لي جلالتكم بإبداء شكّي في مقدرته على إكرام مقامنا ورأب الصّدع الذي زرعه قومه في نفوسنا»
أدرك الملك لقمان أنّ المسألة في غاية الخطورة، وأن هذا الملك ربما أُهين، وقد يبغي شيئاً كبيراً لإرضائه، ربما لا يقل عن مملكة من ممالك الجن الحمر، وأدرك أن الحرب المستعرة في الآفاق البعيدة بين العواصف والأعاصير، لم يشعل فتيلها أحد غيره:
«اسمح لي أن أقول لكم أيها الملك العظيم أننا نحن معشر العرب من أبناء الأرض لا يثير الألم في نفوسنا أكثر مما يثيره إزعاج الضيف أو إهانته، ولا أظن أيها الملك العظيم أنّي بتتويجي اليوم ملكاً على ملوك الجن الحمر قادرٌ على أن أتخلى عن إنسيتي وعادات آبائي وأجدادي، فإن أساء إلى شخصك، أو أهان مقامك السامي أحد من قومي وأنت في ضيافتي، فأخبرني، وإن شئت نصراً على عدو فاطلب لتجد جيوشي طوع يديك، وإن شئت نفوذاً أو جاهاً أو سلطة فإنّي أضع جميع ممالكي تحت نفوذك، وإن شئت دماً فإني مستعدّ لأن أقدّم دمي قرباناً على مذبح إكرامِك على أن تبرح ضيافتي متكدّراً غاضباً مهموماً»
أدرك الملك دامرداس أنه أمام ملك عظيم إن لم يكن مجنوناً أو مدّعياً، فقرر أن يختبر صدق أقواله:
«عفواً جلالة الملك، إن مطلبي لصغير أمام ما تعرضه من عظيم كرمك»
«اطلب تنلْ أيها الملك»
«إنّي لفي ريبة من أن يتراجع جلالتكم»
«أُشهد على نفسي جلالة الملك شمنهور وجلالة الملك حامينار، وجلالة الملكة نور السماء وأصحاب الجلالة الملوك العشرة من أتباعكم»
«ولن تغضب جلالتكم؟»
«بل سأكون سعيداً بتلبية طلب جلالتكم»
وصمم الملك دامرداس على طلب يد الملكة نور السماء التي أخذ قلبها ينبض بسرعة شديدة فيما أخذ قلب أبيها وقلب ملك الملوك يتأجّجان غضباً:
«لقد سبق لي وأن تقدمت بطلب يد الملكة نور السماء من أبيها، فأبت مبدية عدم رغبتها في الزواج، إلى أن فوجئت هذا المساء بقرانها من جلالتكم، إنّه ليشرّفني أيها الملك أن أتقدّم بطلب يدها من جلالتكم»
رانَ صمت فظيع شمل جميع الواقفين على منصّة العرش، وبدا الملك لقمان وكَأنّهُ لم يُفاجأ إطلاقاً بالطلب، ألقى نظرة نحو الملكة نور السماء وابتسامة طفيفة مشحونة بالثقة العالية بالنفس ترتسم على شفتيه، أدركت الملكة نور السماء مغزاها على الفور، فمدّ يده إليها فأخذتها بيدها، فقدّمها نحو الملك دامرداس قائلاً:
«إنّه ليشرّفني ويُسعدني أن أهب جلالتكم قطعة من قلبي، ولو أنكم طلبتم قلبي نفسه وممالك الجن الحمر جميعاً، لكان ذلك أهون عليّ، فهنيئاً لجلالتكم بدرّة الأكوان وفاتنة الأزمان الملكة نور السماء، وإنّي لآمل أيها الملك أن تحيطوها برعايتكم، وتشملوها بعنايتكم، وتغمروها بفيض مشاعركم، وتصونوها بأهداب عيونكم!»
ومدّ الملك دامرداس يده ليأخذ بيد الملكة نور السماء ويقرّبها إليه ويوقفها إلى جانبه دون أن يفلت يدها، وقد أدرك، أنه أمام ملك عظيم لم يسمع عن مثيل لكرمه بين الإنس والجن. فهتف بصوت غاية في التأثّر والانفعال فيما كان الصمت يطبق على رؤوس الجميع:
«إنّي أيها الملك الأعظم لأعجز عن إيجاد الكلمات اللائقة بشكر مقامكم الجلل، والثّناء على كرمكم العظيم، وإنّي لو قدّمت لكم ممالكي في المشرق والمغرب والسماوات العُليا والسُفلى، وكل نسائي وكريماتي وجواريّ، لما استطعت أن أفيكم عظمة كرمكم، وشهامة نبلكم، لذا أعلن أمام مهابة جلالتكم بتشرّفي بقبول هبتكم الملكة الجليلة نور السماء، التي هي حقاً دُرّة الأكوان وفاتنة الأزمان، واتخاذها أختاً لي وشريكة في الحكم، ومالكة للقلادة السماوية لأقوام الجن الصّفر، وتقديمها في الوقت نفسه هبة مني لجلالتكم لعلّني بهذا أُقابل عظمة كرمكم بما تستحق أن يقابلها أو يضاهيها، وحتى لا يُقال بين معشر الجن والإنس، أنّ الملك دامرداس، كافأ نبل الكرم وعظمته بما هو أقل منه نُبلاً وعظمة»
وقدّم الملك دامرداس الملكة نور السماء نحو الملك لقمان، ليأخذ بيدها ثانية وسط دهشة الجميع الذين تنفّسوا الصُّعداء، وخمدت النيران التي كانت تضطرم في أفئدتهم، وامتلأت نفوسهم غبطة، وأعجبوا بحكمة الملك لقمان العظيمة التي فاقت حكمة سليمان. وحلّت قضية كبيرة، وأوقفت حرباً كونيّة مرعبة، وحوّلت ملكاً جباراً من عدوٍ لدود إلى صديق ودود ونصير دائم خلال لحظات.
وكان الملك شمنهور والملك دامرداس قد رفعا يديهما وأعطيا إشارة وقف الحرب، فهدأت العواصف الناريّة والأعاصير الملتهبة التي كانت تتصارع بجنون على مسافة من محيط كوكب الزهرة.
عادت الملكة نور السماء لتأخذ مكانها إلى جانب الملك لقمان الذي بادر إلى القول:
«إني حقاً لأقف عاجزاً عن النطق والتعبير عما يكتنف نفسي، وأنا أتقبّل من جليل عظمتكم أجمل درّة عرفتها الأكوان، فأنّى للغات أن تسمو بلواعج النّفس حين تفيض بعظائم المشاعر؟!»
«إن عظمة كرمكم، كانت خير تعبير عن فيض مشاعركم أيها الملك العظيم. اسمحوا لي أن أُعبّر عن فرحتي بتتويجكما، بإهداء الملكة نور السماء القلادة السّماوية، وإهدائكم القلادة السحريّة للجن الصُّفر»
ودون أن يسأل الملك لقمان عن سرّ هذه القلادة، مدّ عنقه بعد عنق الملكة نور السماء ليلبّسه الملك دامرداس إيّاها، غير أنه هتف:
«بِمَ سأقدر على مكافأتكم أيها الملك العظيم؟»
«صداقتكم لي وزواجكم من أُختي في العهد هي أكبر مكافأة أيها الملك»
نزل الجميع عن منصّة العرش وانضموا إلى مائدة كبار الملوك حيث يجلس الراعي الأكبر وشاهل بيل والسيدة سلمنار. وقد رغب الملك لقمان في الجلوس إلى جانب الراعي الأكبر، فأدرك ملك الملوك، أنّهما سيمضيان الليلة في الحوارات الفكريّة، فهتف:
«اسمح لي يا مولاي، هذه الليلة ليلة فرح وسنحتفل أيضاً بانعتاقي من السّجن ولقائي بزوجاتي وبناتي وأولادي وملوكي وممالكي، وليس بتتويجكما وزواجكما فقط، ولن ندعكم أنت والراعي الأكبر والملكة نور السماء تمضونها في الحوارات الفكريّة والفلسفيّة»
لم يجد الملك لقمان بُدّاً من الإذعان فجلس في مواجهة الراعي الأكبر وزوجته،وكان إلى جانبيهما السيد شاهل بيل والسيدة سلمنار ونائب الراعي الأكبر وزوجته، وبعض الكبار من ضيوف الإنس، وجلس إلى يسار الملك لقمان الملكة نور السماء فأبوها الملك حامينار فزوجته الملكة «شامنهار» فابنتهما الأميرة ظل السماء، ثمّ بعض الملوك والملكات، وجلس إلى يمينه الأميرة ظل القمر، فالملك شمنهور، فزوجته الأولى الملكة «نسيم الريح» فالملك دامرداس، فزوجته الملكة «ظل السحاب» فبعض الملوك وزوجاتهم.
وما أن أخذ الجميع أماكنهم حتى عمّت سماء الروض جيوشٌّ جرّارة، من أمم الجن جميعاً، وكان كل جيش يمر محلّقاً بعد الآخر، تركب أفواج منه الخيول المجنّحة، وأفواج أخرى يحلّق جنودها بأجنحة، وأفواج تركب الظّباء، وأفواج تركب الزّرافات، وأفواج تحلّق دون أجنحة ودون أن تركب شيئاً، وتقوم بألعاب بهلوانية في الفضاء، وحركات شيطانية وسط إضاءة ملونة باهرة وأسهم ناريّة ساحرة، وأسماك طائرة وغزلان رامحة وطيور في السماوات مُغرّدة، وجنّ يأخذون أشكالاً مختلفة، وموسيقى فرحة تصدح من كافة الأرجاء.. وكان أكبر الأفواج المحلّقة، فوج الجن السّود الذي أخذ شكله الجنيّ، فبدا كل جنيّ فيه بحجم جبل هائل، وحين مرّ من فوق الروض، غطّاه من أقصاه إلى أقصاه وحجب الأفق من كافة الاتجاهات، وكان أفراده يحملون بعض الكواكب والأقمار على ظهورهم، فأدهشوا الجميع بجبروتهم!
وتوالت الاستعراضات الجنيّة في السماء فظهرت أفواج من الجن الخضر، أخذت شكل الإنس، وسارت في طوابير فائقة الانتظام وكأنها تسير على الأرض، وكان يسمع لها وقع خطا مما أدهش الجميع!
أما آخر الأفواج التي حلّقت في السماء فقد كانت أفواج الجن الزرق الذين عملوا العجب، فقد حلّق السرب الأول في شكل بشر ثابتين كالأصنام في صفّ منْتظم، ودون أن تنم عنهم أية حركة، وهم يقفون على أهبة الاستعداد ويرتدون زياً عسكرياً أزرق، تبعهم فوج من آلاف اليمامات الزرق التي حلّقت في مشهد منتظم أخّاذ فاردة أجنحتها دون أن ترفّ بها.. تلاه سرب من الحوريّات يحلّقن طائرات بملابس شفّافة بدت كلون البحر، وكنّ يفردن أيديهن ويضممن أرجلهن.. تلاهن سرب من الأفاعي العملاقة لهن رؤوس حوريّات وشعور طويلة كانت متدلّية في الفضاء، فأدهشن الجميع بجمال وجوههن وطول قاماتهن الأفعوانيّة!
واختتم العرض السّمائي بمشهد غاية في الجمال، لكلّ أنواع الحوريات ومن جميع طوائف الجن. حوريّات في شكل جنّيات وحوريّات في شكل إنسي وحوريّات البحر اللواتي أجسامهن أجسام أسماك ورؤوسهن رؤوس إنسيّات أو جنّيات، بعضهن بأجنحة وبعضهن بلا أجنحة، وحوريّات لهن أجسام غزالات ورؤوس إنسيّات وحوريّات لهن أجسام أفاعٍ ورؤوس جنّيات، وحوريّات لهن رؤوس إنسيّات وأجسام حمام وحوريّات لهن رؤوس إنسيّات وأجسام خيول..
وحين انتهت الاستعراضات السمائية، وخلا الجو إلا من الحُرّاس والمرافقين، أراد الملك لقمان أن تحضر فرقة من حوريّات الجن للرقص، فنظر إلى ملك الملوك، طالباً إليه أن يرفع العرش من مكانه كي تتسع صالة الرّقص، فأخبره ملك الملوك أنّه الآن ليس في حاجة إليه بعد أن ارتدى القلادة السّحرية، ما عليه إلا أن يشير بحركة من يده حتّى ينفّذ على الفور كل ما انتواه في عقله، فلم يُصدّق الملك لقمان نفسه، إلا بعد أن أشار بيده ليختفي العرش من المكان وتبدو صالة المسرح المستديرة للعيان وقد أعدّت للرقص والمرح. فأشار الملك لقمان بحركة ثانية من يده لتظهر على المسرح مائة فاتنة من الجنّيات الحوريات، بالأزياء الحريريّة الشّفافة القصيرة رافلات، وعن الأكتاف والنّهود والأفخاذ حاسرات، طويلات الشّعور، نحيلات الخصور، مورّدات الخدود، جامحات النهود، كحيلات العيون. في ظلال الجفون، برموشٍ سابلات.. ووجانٍ ناعسات، شامخات الأنوف، رقيقات الشّفوف! غزلانيات الأعناق، صغيرات الأشداق، كاعبات الصّدور، آسرات الخُصور، مكتنزات الأرداف، ظبيانيّات الأظلاف.
أفخاذهن ممتلئات، وسيقانهن ممشوقات، وركبهن بآيات الجمال ممسوحات.
المخفي منهنّ أعظم من كل عظيم، من خلقة إله ذوّاق أو شيطان رجيم!!
رحن يتهادين على المسرح كاليمام، ويتمايلن يمنة ويسرة بانسجام، يتخطّمن كحجلاتٍ شاردات، ويتقافزن كظبيات جافلات، يقبلن كأطياف الأحلام، ويدبرن كأنوارٍ في الظّلام، ففتنّ برقصهن الحضور، وبجمالهن الملك شمنهور، الذي أخذ دِنّاً من الخمر وشرب نخب الملك لقمان، ثم همس يخاطبه:
«أستحلفك بنور السماء وبكل أقوامك من الجن يا مولاي كيف أحضرت هؤلاء الفاتنات، لا أذكر أنني في حياتي طلبت راقصات من الجن، إلا وقلت لهم، ائتوني بأجمل الراقصات، فلم يحضروا من هُنّ أجمل منهن»
راح الملك لقمان يضحك وهو يهتف:
«هذا سر المهنة أيّها الملك!»
فغرَ الملك شمنهور فمه دهشةً وحيرةً وهو يكاد ألا يصدّق ما يسمعه:
«هل بدأت تفهم في أسرار الجن أكثر منّي يا مولاي؟»
«لا! العفو أيها الملك»
«أين السّر إذن؟»
«لقد أمليت عليهم مواصفات جمال الراقصات اللواتي أريدهن وأعمارهن وأطوالهن واللباس الذي يرتدينه والرّقص الذي يؤدينه»
أطرق الملك شمنهور للحظة يفكّر.
«هل فعلت كل هذا خلال تلك اللحظة التي أشرت بيدك فيها يا مولاي؟»
«بالتأكيد»
«هذا ما أعجز أنا عنه يا مولاي، حتى أنني لا أستطيع أن أتخيّل، ألم أقل لك أنكم معشر الإنس أكفأ منّا بعقولكم وقوة خيالكم؟»
«آمل ذلك أيها الملك»
«بل وإنّي لآمل يا مولاي أن تحقق باستخدام هذه القلادة كل المعجزات التي نعجز نحن عن تحقيقها. لكن يا مولاي!»
وبدا الملك شمنهور متردداً بعض الشيء، فقد كانت الأميرة «ظل القمر» تجلس بينه وبين الملك لقمان، وكانا يتحدثان بتقريب رأسيهما أمامها، وهي تستند بظهرها إلى الوراء كي تتيح لهما الحديث، وكان كما يبدو خجلاً بعض الشيء من أن تسمعه.
«ماذا أيها الملك؟»
خفض ملك الملوك صوته:
«إن شئت الحق، أنا أخجل منك ومن الأميرة ظل القمر ومن نسائي وعشيقاتي وجواريّ، مع أنّهن يعرفنني على حقيقتي!»
«عرفت ماذا تريد أيها الملك؟»
«أتوسّل إليك يا مولاي أن تبقي هؤلاء الراقصات الفاتنات ولا تأمر بإعادتهن من حيث أتين، لأمضي معهن ولو ليلة واحدة!»
«لكنهن كثيرات أيها الملك!»
«بل هُن قليلات بعد ثلاثة آلاف عام يا مولاي!»
«أليس في مقدورك أن تطلبهن إذا ما صرفتهن؟»
«هذا ما لا أستطيعه يا مولاي أرجوك!»
«حتى لو أمرت الجن بإحضار الراقصات اللواتي أحضروهنّ إليّ»
وأدرك الملك شمنهور أنه لا يشغّل عقله أحياناً:
«آه فعلاً، كيف غاب هذا الأمر عن بالي يا مولاي؟»
«لا أعرف!»
«لقد لفتّ انتباهي إلى ما يريح عقلي يا مولاي، ليس عليّ بعد الآن إلا أن أُلاحظ وأرقب طلباتك، لأحصل على ما هو أجمل وأكثر كمالاً!»
«لكن دون إكراه أيّها الملك، إيّاك والإكراه، ضاجع من تريد برضاها وليس رغماً عنها!!»
«والآلهة إنّي لم أُكرِه أُنثى في حياتي يا مولاي، إلا هؤلاء اللواتي يحببن!»
«يحببن ماذا أيها الملك؟»
«يحببن العنف والاغتصاب يا مولاي، ولا يجدن متعتهن إلا بهما!»
«حتى عندكم؟! كنت أظن أن هؤلاء بين الإنس فقط»
«أوه يا مولاي لو أنّك!!»
«أيها الملك أنا لم أفعل ذلك مع الإنسيّات فهل سأفعله مع الجنّيات، لا قدرة لي على هذه الرّغبات، حتى في الحالات التي كنت فيها أنا الضّحيّة، لم أقدر على ذلك!»
«وهل تفعل النسوة ذلك عندكم يا مولاي؟»
«أحياناً تفرض امرأة نفسها عليك بفظاظة ووقاحة وأنت لا رغبة لك فيها.. لكن ألا يوجد عندك مشكلة غير النّساء الآن أيها الملك؟»
«والآلهة كلّها التي عبدتها والتي سأعبدها أنّه لا يوجد عندي غيرها يا مولاي»
«الأيام أمامك وأظن أنّك ستقرف النّساء، غير معقول هذا الذي فعله بك سُليمان!»
«قتلني يا مولاي، قتلني!»
«الآن قل لي، هل تعرف شيئاً عن مقدرة هذه القلادة التي ألبسني إيّاها الملك دامرداس؟»
«بالمناسبة يا مولاي أنا لم أكن أعرف أنك عظيم إلى هذا القدر؟»
«أوه هلَكتني بتعظيمك هذا يا أخي، ألا يكفي ما أسمعه وسأسمعه من تعظيم بعد الآن؟»
«مولاي، لو كنت أنا مكانك لما استطعت تفادي الحرب الضّروس التي لن تقضي على الملايين من الجن فحسب، بل على سُكّان كوكب الزهرة أيضاً. ما يدهشني يا مولاي أنك كسبت الحرب وجعلت الملك دامرداس حليفاً ونصيراً لنا، ببضع كلمات بليغة، ورباطة جأش، ورجاحة عقل لا غير، الغريب أنك أيضاً أرغمت الملك دامرداس على أن يتحدّث بلغة مهذّبة لم أسمعها منه في حياتي ما قبل السجن»
«ألم أقل لك أنّ الكلمة الطيّبة قد تفعل أفضل مما تفعله الحروب أيها الملك، بل ما يستحيل على الحروب أن تفعله؟!»
«أظن أنك قلت لي ذلك يا مولاي»
«نحن معشر الإنس والجن لا ينقصنا إلا التغلّب على الشر في نفوسنا وزرع المحبة والخير، وساعتئذ لن يكون هناك إلا السلام والعدالة والمحبّة!»
«وهل كنت تفعل ذلك خلال حوارك مع الملك دامرداس؟»
«أجل أيها الملك، قذفت بالشر بعيداً وقررت خوض المعركة بالمحبة، والكلمة الطيّبة، وأنا أرى الأفق البعيد يضطرم بالعواصف والأعاصير الملتهبة!»
«وهل كنت واثقاً من النصر؟»
«نعم! كنت واثقاً أنني سأنتصر أيّها الملك، واسأل الأميرة نور السماء حين ابتسمت لها أدركت على الفور ما أقصده»
«لكن كيف عرفَتْ؟!»
«لأنها نور السماء وليست أنت! ثلاثة آلاف عام جعلت عقلك جامداً، سأعلّمك الشطرنج كي تحرّك عقلك وتنشّطه قليلاً!»
«والشيطان يا مولاي؟ ماذا لو تدخّل الشيطان بينكما أنت والملك دامرداس، وضللكما، وزرع المزيد من نوازع الشر في نفسيكما، فماذا كان سيحصل حينئذ؟!»
«أين هو الشيطان أيّها الملك، إنه فينا نحن، في أنفسنا، وما لم نتفوّق عليه، وما لم نقتله في دواخِلنا لن نعرف طعم السلام والمحبّة والخير والسعادة»
«مولاي! ملوك الشياطين معنا على المائدة وليسوا في نفوسنا، وربما يعرفون ويسمعون كل ما يدور بيني وبينك الآن، ولا أعرف كيف هداهم الله ولم يتدخّلوا بينك وبين الملك دامرداس؟!»
«ماذا تقول أيها الملك؟»
«على مائدتك يا مولاي كل أنواع الجن، الشياطين منهم والطيبين، الأبالسة والملائكة، المردة والعفاريت، الأخيار والأشرار!»
«أريد الشياطين تحديداً من هُم؟»
«إنهم السود وإن لم يكونوا سوداً، بل سُمراً، وقد هنأوك وصافحوك!!»
«هل تقصد ذاك الملِك الأسمر الجميل «إبليس» وأعوانه من الملوك الذين يجلسون إلى جانبه؟!»
«كنت أظن أنه مجرد اسم على مسمّى، هل يُعقل أن يكون هذا الإنسان الجميل هو إبليس الشيطان نفسه؟!»
«على الأرجح أنه هو يا مولاي!»
«يجب أن أجلس معه وأتحدّث إليه»
«الأيام قادمة يا مولاي، لم العجلة؟»
«أيها الملك، هل يُعقل أن يكون إبليس جالساً إلى مائدتي ولا أتحدّث إليه، إبليس الذي كنت أظن أنني ما أن فتّحت عينيّ على الدُّنيا حتى ظهر أمامي، وأغواني لكي أفعل كذا وكذا حتى مع البطيخة، هل يُعقل أن أدعه يفلت من يديّ دون أن أجلس معه طويلاً؟!»
«أقسم لك يا مولاي أنني سأدعك تملّ من التحدث إليه، لكن هذه الليلة نحن في وضع خاص، وربّما هو يريد أن يتمتّع بالسّهر والخمر والنساء!»
«إني لا ألمُس في هيئته إلا الوقار أيها الملك، ومع ذلك فأنت محق، فاللقاء معه يحتاج إلى جو غير هذا الجو، ينبغي أن نكون وحدنا لنتحاور طويلاً، لكن لو يتاح لي أن أُرحب به كما يليق بمقامه!»
«وهل سترحّب به أيضاً يا مولاي؟»
«طبعاً أيها الملك، أليس ضيفنا هو وأعوانه؟»
«لن أخفي عليك يا مولاي، فأنا لا أُحبه ولا أحب قومه، وما دعوتهم إلا من أجلِك!!»
«من أجلي؟»
«طبعاً يا مولاي، لعلّك تعرف منه ذات يوم شيئاً من الحقيقة التي تبحث عنها، وما دعوته اليوم إلا لتتعرّف إليه، وستتاح لك الفرصة للترحيب به، فالليل أمامنا طويل»
«أشكرك أيها الملك»
كانت الملكة نور السماء تتحدّث إلى أبيها وأمّها، أمّا الأميرة «ظل القمر» فقد وجدت نفسها محشورة بين ملك الملوك والملك لقمان، وهما يتحدثان وهي صامتة، حتى أنّهما لم يُتيحا لها أن تأكل أو تشرب شيئاً، فبادر الملك لقمان إلى الاعتذار منها، فسارعت إلى القول:
«لكن الملك لم يجبك عن سر القلادة يا مولاي!»
«آه أشكرك أيّتها الأميرة، لقد نسيت حقّاً أنني سألت الملك شمنهور عن سر هذه القلادة التي أهداني إيّاها الملك دامرداس»
فهتف الملك شمنهور:
«لا أعرف عن أسرارها الكثير يا مولاي، لكن تسخير طاقاتها لا يختلف عن تسخير طاقات قلادتنا، فما أن تنوي شيئاً يتعلّق بها وأنت تلمسها أو تمسكها حتّى تنفّذه لك، وستكتشف حدود قدراتها الكليّة عبر الممارسة، لكن إياك أن تغضب على القلادتين أو تطوّح بهما أو تقطعهما أو تدوس عليهما أو تحطمهما!!»
«ماذا سيحدث حينئذ أيها الملك؟»
«إن عنّفت إحدى القلادتين عنّفت جميع الجن التابعين لها، وإن طوّحت بها طوّحت بهم، وإن قطّعتها مزّقت أجسادهم، وإن دُست عليها دُست على أحشائهم، وهذه أسرار لا يعرفها إلا الجن والآلهة ومن يحملون الحُليّ والأدوات المسحورة يا مولاي»
جحظت عينا الملك لقمان، وأحسّ أنّه سيفقد صوابه ذات يوم إذا لم يظل مدركاً أنّه يعيش في عالم مُدهش قد يتعرض فيه لما هو مدهش ومعجز وخارق للمألوف كل لحظة، ولم يدرك حدود أبعاد تتويجه ملكاً على الجن الحُمر إلا الآن، فلقد غدت أرواح هؤلاء وربّما أرواح الجن الصّفر أيضاً بين يديه!»
تنفّس ملء رئتيه قبل أن يهتف:
«شيء جيّد أنك أخبرتني أيها الملك، كنت في لحظة غضب أو انفعال سأفعل شيئاً من ذلك، خاصّة إذا لم تستجب إحدى القلادتين لي، أو عجزت عن تحقيق طلبي»
«يجب أن تضع في اعتبارك يا مولاي أنّهما تعجزان عن فعل كل ما يعجز أتباعهما فعله»
«لكن كيف لي أن أعرف حدود قدراتهما وقدرات أتباعهما؟»
«بالتجربة يا مولاي، أنا مثلاً لم أكن أعرف أنّ لدى عامة الجن فتيات بهذا الجمال الذي يرقص أمامنا على المسرح الآن، لأني لم أكن أفكّر في اختيار طلبي، كنت أُصدِر أوامري فقط»
«التجربة وحدها لا تكفي أيها الملك، لابدّ لي من معرفة القدرات التي بين يدي أو تحت تصرّفي كي أُقرر على ضوئها ماذا بوسعي أن أفعل»
انتهت الوصلة الأولى من رقص الفتيات، صفّق الحضور بحماس شديد، أشار الملك لقمان بحركة من يده فابتعدت الفتيات جانباً، وقد أفردت لهن مائدة كبيرة من الطّعام والشّراب ليجلسن إليها..

* * *


(9)
ولادة وتنبؤات مأساوية!

أطرق الملك لقمان قليلاً قبل أن يُشير بحركة ثانية من يده، فقد أضمر أن يدعو إلى حفل تتويجه وزفافه كل من: عشتار وإيزيس وعشتاروت وعناة وتيامه وإنانا وأثينا وأفروديت والعذراء، ودليلة، والمجدليّة، ورحاب، وكليوباترا، وزنّوبية، وبلقيس، وعائشة، وزينب، وخديجة، وماريا، وهيلين الطرواديّة، وابنتها هرميونة، وبنلوب، وغيرهن من الآلهات والنسوة المشهورات في التاريخ، وما أن أنهى تعدادهن في مخيّلته، حتى أشار بحركة من يده، فلم يظهر على المسرح أحد، فأشار ثانية فلم يظهر أحد، فثالثة فلم يظهر أحد، فقد احتار الجن في أمرهم وعجزوا عن تلبية الطّلب، فأبلغوا ملك الملوك، فالتفت إلى الملك لقمان ليراه يجاهد ليكتم غيظه، فهتف:
«ماذا فعلت يا مولاي، أربكت الجن وجعلت الفوضى تدبّ في صفوفهم بطلباتك التعجيزية!»
«وهل هناك طلبات تعجيزية على الجن أيها الملك؟»
«أجل يا مولاي، ألم أقل لك أننا لا نقدر على إحياء الموتى، وهؤلاء اللواتي طلبتهن من الموتى!»
«لكن بعضهن من الآلهة، هل مُتْن هُنّ الأخريات؟!»
«إن لم يمتن، فإنّ قوانا لم تستطع بلوغهن يا مولاي!»
«أليس في وسعكم أن تعرفوا ما إذا كنّ ميّتات أو على قيد الحياة أيّها الملك؟!»
«ليس بهذه السّهولة يا مولاي!»
«لكني قرأت عن جنّي يُدعى «مفستوفيلس» جاء بهيلين الطرواديّة وخاطفها باريس وغيرهما»
«ربما أستحضر أرواحهم يا مولاي لكنه لم يحييهم!»
«هل هذا يعني أنّه في مقدوركم استحضار أرواح بعض هؤلاء اللواتي طلبتهن؟»
«كل من هُمْ من البشر نستطيع استحضار أرواحهم يا مولاي!»
«هذا عظيم! يعني إذا طلبت روح «زيوس» مثلاً وحضرت، فهذا يعني أنّه كان بشراً ولم يكن إلهاً»
«هذا صحيح يا مولاي»
«وإذا طلبت روح «هيلين» ولم تحضر، فهذا يعني أنّها شخصيّة خياليّة، وليس لها روح!»
«بالضبط يا مولاي»
«وإذا أردت إيجاد روح لشخصيّة خياليّة ألا يمكن أن يتمَّ ذلك؟»
«لا! لا يُمكن يا مولاي!»
«وإذا أردت تجسيداً لها حسب مواصفات معيّنة أُمليها أنا؟»
«ممكن أن تتقمّصها إحدى فتيات الجن يا مولاي إذا كانت أنثى، أما إذا كانت ذكراً فيمكن أن يتقمّصها ذكر!»
«حسن، فيما يتعلق بالشخصيات الحقيقية، هل لك أن تقول لي ما هو الفرق بين استحضار الرّوح واستحضار الجسد؟»
«الجسد الأصلي لا يُستحضر يا مولاي!»
«ما الذي يُستحضر إذن؟»
«جسد بلا روح يا مولاي»
«عجيب أمرك أيها الملك، كيف تقول أنّكم تستطيعون استحضار الأرواح، وكيف يمكن استحضار أجساد بلا أرواح؟!»
«الروح والجسد لا ينفصلان يا مولاي، إنّهما كُلٌّ واحد ، وما نستحضره هو روح وهميّة بجسد وهمي!»
«تقصد بلا حياة!»
«أجل يا مولاي»
«وهل يمكن أن نتحدّث مع هذه الروح وأن نمارس شيئاً مع هذا الجسد؟»
«يمكن أن تتحدث يا مولاي، لكن لا يمكن أن تمارس شيئاً مع الجسد لأنّه وهم!»
«حتى أنت ستجنني أيّها الملك، كيف يمكنني أن أتحدّث مع الروح ولا أستطيع أن أمارس شيئاً مع الجسد؟!»
«لا أعرف يا مولاي»
«جيد أنك لا تعرف أيها الملك، لأنك قُدتنا إلى حوار عقيم!»
«أنت الذي طلبت منّا طلبات خارقة يا مولاي!»
«طيّب! هل تظن أنّ هُناك بين الجن من يستطيعون استحضار الأرواح الحيّة، أي الأقرب إلى إحياء الموتى؟!»
«أظن أنّ الشياطين يستطيعون فعل ذلك يا مولاي!»
«يحيون الموتى؟»
«هذا ما أسمعه يا مولاي!»
«حسناً أيها الملك، ماذا لو استحضرت الآن بعض الأرواح الإنسيّة، حسب إمكانياتكم طبعاً، إذ ليس لدي إمكانيّات شيطانيّة، ولا أعرف فيما إذا كانت الإمكانيات الدامرداسيّة قادرة على ذلك، لعلّني أعرف كيف ستظهر هذه الأرواح الوهميّة!!»
«أرجوك ألا تفعل ذلك يا مولاي، ويمكنك أن تقوم به وحدك فيما بعد، لتعرف الفرق بين الوهم والحقيقة!»
«لماذا أيها الملك؟»
«ستثير الرعب في قلوب الجميع إنساً وجنّاً»
«هل تخافون الأرواح أنتم أيضاً؟»
«كثيراً يا مولاي»
«لِمَ تخافونها؟»
«لأن لها قدسيّة في نفوسنا يا مولاي!»
«ليكن أيها الملك، سأترك ذلك إلى ما بعد»
«أحسّ الملك لقمان بخيبة أمل، فعادت نفسه إلى مساورة القلق، ومدّ يده اليُسرى على كتفي الملكة نور السماء وضمّها إليه وكأنّه يبحث عن الأمان والعزاء والإخلاد إلى الطمأنينة.
ألقت الملكة رأسها على كتفه وهي تأخذ يده إلى حُضنها وتحتويها بيديها وتستغرق في سكون وتأمّل، وكان الملك لقمان قد تنبّه إلى أنّه أهملها لبعض الوقت، فضمّ رأسها وقبّل شعرها بقدر ما أتاح له التاج الملكي وراح يهمس لها:
«أعتذر يا حبيبتي لإطالتي الكلام مع ملك الملوك»
«لا عليك يا حبيبي فقد كنت في شوق للتحدّث إلى أمّي وأبي وأختي ولم أشعر بابتعادك عنّي»
«أُحاول أن أنسى ما يجول في ذهني وأتوحّد بفيض حُبّك، غير أنّ مخيّلتي الهوجاء تسوق أمامي الرّؤى والتخيّلات المستحيلة حتّى على قدراتكم الخارقة!»
«أعلم أنّ طموحات حبيبي أعظم من أن تحققها خوارق الجن، لكني سأعمل على تحقيق المستحيل كي يهنأ قلب حبيبي»
«ما أجمل كلمة حبيبي وهي تنثال من شفتيك كنسيم نديٍّ، هل تعديني ألا تخاطبيني إلا حبيبي»
«أعد مولى قلبي ألا تنطق شفتاي ولا يدور على لساني إلا اسم حبيبي وكل الكلام الجميل»
«المسرح خلا من الراقصات ألا ترغب حبيبتي أن أقدّم لها ما يُضفي على فرح مهجتها فرحاً»
«أرغب أن أرى ما يجول في أعماق حبيبي معزوفاً بألحان الموسيقى»
«إن ما يجول في أعماق نفسي لأكبر من أن تعزفه موسيقى الأكوان كلّها يا حبيبتي، ولن تجدي فيه غير الحزن والألم والعذابات، ولو أنّ عزفي جميل لأسمعتك لحناً يصوّر بعض ما يدور في نفسي»
«هل تجيد العزف يا حبيبي؟»
«أعزف بشكل سيئ على الناي يا حبيبتي»
«أسمعنا شيئاً ونحن من سيحكم»
«أرجوك يا حبيبتي أن تعفيني كي لا أجلدك وأجلد عشرة مليارات ضيف بعزفي البائس الحزين»
«هل يعدني حبيبي أن يسمعني عزفه يوماً»
«أعدك يا حبيبتي»
«ومع ذلك أرجو حبيبي أن يطلب إلى فرقة موسيقية أن تعزف لحناً مما يجول في نفسه»
«سيكون ذلك مأساوياً يا حبيبتي، إذا ما أجاد العازفون التعبير عن بعض ما يعتلج في نفسي وتضطرم به أغوار قلبي»
«أحبُّ أن أرى شيئاً ملحّناً من أعماق حبيبي»
«وما ذنب ضيوفنا كي نغرقهم بلواعج أحزاني؟»
«بل وأحزاني يا حبيبي»
«وهل يحزن الجنّ أيضاً يا حبيبتي؟»
«نحن لا نختلف عن البشر إلا بقوانا الخارقة يا حبيبي»
وأشار الملك لقمان بحركة من يده فظهرت على المسرح فرقة موسيقية تضمُّ أكثر من مائتي عازف معظمهم من عازفي الناي والأرغول والعود والكمان والإيقاع والطبل والبزق والقانون، وغير ذلك من الآلات الموسيقية الشرقيّة والغربيّة، وقد ظهرت خلفهم فرقة كورال من عشرات المغنّيات.
ضجّ الحضور بالتصفيق الحار وانحنى العازفون والمغنيّات احتراماً وشرعوا في أخذ أماكنهم.
كان الجميع صامتين فأشار الأديب لُقمان بحركة من يده، فانساب لحن منفرد على ناي أجش، راح يتصاعد عالياً ليحلّق في سماوات الأكوان، يعبر الكواكب والأقمار، النجوم والمذنّبات، البحار والمحيطات، الصحاري والسّهوب والجبال، قاطعاً مئات آلاف آلاف الأميال ليجوب سماء فلسطين، ويرفرف في سماء القدس، ويشرع في الهبوط ليحط في حقل حصاد، ولترافقه النايات الأخرى بألحانها الأجشّة، ولتنطلق الإيقاعات بضربات خفيفة متواترة منذرة بولادة «ابن الشّقاء» وفي رواية أخرى رواها الأب أنه «ابن الزّنى» الذي سيُدعى «لقمان»:
كانت أمّه تحصد في الحقل حين جاءها المخاض، وكانت الشمس تتألّق وهي تطلُّ من خلف جبال القدس الشرقيّة لترسل أشعّتها معانقة أبراج الكنائس وقباب المساجد.
انطلق صوت مغنّيات الكورال منخفضاً بطيئاً رتيباً:
في الحقل كانت تحصد
حين جاءها المخاض
في الحقل كانت تحصد
وضعت يدها على بطنها وتأوّهت، وما لبثت أن انطرحت أرضاً وراحت تُزحِرُ وموجات الطلق تدهمها واحدة إثر أُخرى.
ضجّت كل الآلات الموسيقيّة في صخب راح يعلو تارة وينخفض قليلاً تارة ويستصرخ جائراً تارة أخرى وسط لجّة الكورال:
انطرحت أرضاً
تأوّهت الأم وانطرحت أرضاً
راحت تُزحِرُ الأمُّ
راحت تُزحِرُ وموجات الطلق تدهمها
اندفع «ابن الشقاء» من فرج أمِّه وراح يصرخ باكياً حين اصطدم رأسه بالأرض.
تصاعدت أنغام فرحة رافقها صوت الكورال:
ولد ابنُ الشقاء
في الحقلِ ولد ابن الشّقاء
وراح يصرخُ،
حين صَدم رأسُه الأرض
راح يصرُخ
وكانت أشعة الشمسِ
تعانق أبراج الكنائسِ
وقبب المساجد
في مدينة القدس
بلغت الأنغام ذروة تصاعدها، وما لبثت أن عادت إلى الخفوت والتباطؤ شيئاً فشيئاً إلى أن أخذت تتصاعد في توتّر وتوجّس، فما أن مسحت الأمُّ الوليد وأرضعته من ثديها ولفّعته حتّى أوعز الأبُ إليها أن تنهض لتستأنف الحصاد.
ألقته في حذلٍ بين غمور الحصاد، وظلّلته بمنديل فرشته على عيدان منتصبة من القصب لتعمل له خُصّاً. ونهضت تحصد القمح.
مسحته ولفّعته
ومن ثديها أرضعته
وعادت إلى الحصاد
حين أوعز إليها الأبُ
عادت إلى الحصاد
تاركة الطفل في المهد
تحت الخُصِّ
بين غمور الزَّرع
انداحت الأنغام سارحة في غياهب القدر المجهول، وما لبثت أن أخذت تتواتر، منذرة بالشؤم والرّعب، فحين جاءت الأمّ تعدو إلى الوليد في قيلولة الغداء، وسط حَرِّ القيظ، وجدت أفعى تلتف حول جسده في المهد، فلم تقدر على الصراخ كي لا تخيف الأفعى وتلدغ الطفل، ولم تقدر على فعل أي شيء، فراحت تدورُ حولَ الخُصّ حانية الظهر والرُّعب يستولي عليها لتبدو وكأنها أصيبت بالصمم والبكم والصرخات المتوجّسة المستغيثة تُكبتُ في أعماقها أو تتلاشى قبل أن تصل إلى شفتيها.
انطلق صوت الكورال منذراً بالرّعب:
أجل أفعى
حين جاءت تعدو
وسط حرِّ القيظِ
وجدت في مَهدِه أفعى
تلتف حول جسده
فأُصيبت بالصّمم والبكم
ولم تقدر على الصُّراخ
ساد الاضطراب والقلق والتّوجس ألحان الموسيقى المتصارعة، وانطلق نقرٌ رتيب على الإيقاع رافقته آهاتٌ على النّاي.
مدّت الأمُّ يديها، متوجّسة مدّت يديها، لتأخذ الطفل من أحضان الأفعى، لكن الأفعى كانت تلتف حول رجليه وتتمدد على بطنه وتلقي رأسها على صدره، فأنّى لها أن تأخذه، فأعادت يديها وجثت على ركبتيها إلى جانب المهد، وراحت تناشد الأفعى متوسّلة إليها بالله والأنبياء ألا تفجعها بوليدها:
متوسّلة إليها
راحت الأمُّ تناشد الأفعى
متوسّلة إليها:
أستحلفك بالله القدير
بالعذراء وإبراهيم الخليل
بمحمّد وموسى وابن الجليل
ألا تفجعيني بمن في المهد صغير
ألا تفجعيني بمن في المهد صغير
كانت الموسيقى تنوح بمرافقة الكورال متوسّلة بكل ما في الألحان والأنغام من قدرة على التعبير عن التوسّل والاستغاثات.
أخذت الأفعى تفكّ طيّات جسدها من حول جسد الوليد وتنزل رأسها عن صدره، وما لبثت أن غادرت الحِذل وانسابت بين غمور الحصاد.
شرعت الموسيقى في استعادة أجواء الفرح فاستعاد الكورال فرحهُ:
حلّت الأفعى نفسها
من حول الجسد الصّغير
حلّت الأفعى نفسها
وغادرت الحِذلَ
غادرت المهدَ
وانسابت بين غمور الحصاد
أوغلت الأنغام في الفرح، فقد أخذت الأم الوليد، وضمّته إلى صدرها، وعانقته، ودارت به حول نفسها فرحة به:
بالحضن أخذت وليدها
بالحضنِ أخذت الأمُّ وليدها
وضمّته وعانقته
ودارت به حول نفسها
فرحة بهِ
غير أن الموسيقى أخذت تخفت أنغامها شيئاً فشيئاً وتعود إلى التوتّر والصّراع ثانية، فقد أقبل الأب والحاصدون من الحقل، فرأوا الأفعى في طريقهم، فانحنوا يأخذون الحجارة بأيديهم ويرجمونها كي يقتلوها، فحاصروها من كلِّ الجهات:
من كل الجهات
حاصر الأب والحاصدون
الأفعى
بالحجارة من كل الجهات.. حاصروها
حين رأوها
فاستغاثت الأفعى بالأم هاتفة «أجيريني» والتجأت إلى غمرِ زرع، سمعت الأم استغاثتها فألقت الوليد في الحذلِ واندفعت تعدو صارخة بالأب والحاصدين «لا، لا تقتلوها»
بالأم استغاثت
بالأم استجارت
بالأم استغاثت الأفعى واستجارت
فصرخت:
لا تقتلوها
لا تقتلوها
صرخت الأمُّ بالأب والحاصدين
لا تقتلوها
أستحلفكم بالله لا تقتلوها
واندفعت تعدو
نحو الأفعى اندفعت
الأمُّ تعدو
توقّف بعض الحاصدين عن رمي الحجارة نحو الأفعى، فيما استمرّ الأبُ وآخرون برجمها، غير أنّ القشّ كان يحميها من وقع الحجارة على جسدها، اندفعت الأم لتلقي نفسها فوق الغمرِ حيث الأفعى، فأصابتها بعض الحجارة التي كان يقذفها الأب والحاصدون:
فوق الغِمرِ حيث الأفعى
اندفعت الأمُّ
وطرحت نفسها
فأصابتها بعض الحجارة
بعض حجارة الأبِ والحاصدين
أصابتها
تصارعت أنغام الموسيقى بجنون وسط صُراخ الأب «لِمَ أيّتها العاهرة، لِمَ أيّتها الزانية، لم تدافعين عن أفعى، هل طار عقلك، أم لأنّك أفعى مثلها؟‍‍!»
أيتها الزانية
أيتها العاهرة
قال الأبُ
لم تدافعين عن أفعى
أيّتها الزانية
هل طار عقلك
أم لأنك أفعى
لأنك أفعى مثلها
أيّتها العاهرة؟!
أغرقت الألحان في التوحّد بالألم، معبّرة عن عذابات الأم، فبكى جميع الضّيوف، عشرة مليارات من الإنس والجن شرعوا في البكاء والتوحّد مع الموسيقى والأنغام، حتّى الملك شمنهور، كان أكثر الحاضرين حُزناً، فتحوّل الجو، من جوّ فرح قبل الألحان إلى جوّ عذابات وآلام خلالها، وراح الملك شمنهور يصرخ باكياً:
«لم يا مولاي تعيدني إلى تذكّر أيّام حُزني في سجني الطّويل، لِمَ تدعني أبكي على نفسي بعدَ أن حررتني، لِمَ لا تدعني أعيش الفرح وأنسى أيّام البؤس والشّقاء والآلام، أستحلفك بمليكة قلبك نور السّماء أن توقِف هذه الموسيقى لأنّ نياط قلبي تقطّعت من فرط الحزن»
وارتفع صوت الكورال، ليُعيد الملك شمنهور إلى الصمت والدموع:
إلى حُضنها
حملت الأمّ الأفعى
إلى حُضنها
وسارت بها
إلى أطراف الحقل سارت بها
وهناك في أطراف الحقلِ
أطلقتها
في أطراف الحقل
أطلقت الأمُّ الأفعى
إلى حال سبيلها
-إلى حال سبيلها أطلقتها-
أخذت أجواء الفرح تعود إلى الأنغام شيئاً فشيئاً فيما كانت الملكة نور السماء تتشبّث بجسد الملك لقمان وتبكي معه، لتختلج دموعهما في أسمى لحظات التوحّد، فيما شرع صوت الكورال ينشد مُردداً:
بيد أنّها قبل أن تنطلق
قبل أن تنطلق الأفعى
إلى حال سبيلها
وقفت على ذيلها
على ذيلها وقفت الأفعى
وخاطبت الأمّ:
«لقمان» سيدعى ابنُك
ويكون غلاماً فصبيّاً
وسيغرق في دروب البؤس
في دروب البؤس والشقاء
سيغرق ابنُك
ويكون فدائياً!
ويكون صحفياً!
قبل أن يغدو أديباً كبيراً
أديباً كبيراً سيغدو ابنُك
وسيغدو ملكاً عظيماً
ملكاً عظيماً سيغدو ابنُك
ويحكم على الأكوان
على الأكوان سيحكم ابنُك
قبل أن يواجه قدره
ويرحل عن الدّنيا
راحت الموسيقى توغل في الفرح مجّسدةً أحاسيس الأم بعد تنبؤات الأفعى، لتعيد البسمة إلى الحزناء والباكين من ملايين المستمعين والمشاهدين.. وما لبثت أن أخذت تبطئ شيئاً فشيئاً لتتوقف.
نهض الملايين ليصفقوا بحرارة، ووقفت الفرقة لتحيّة الجمهور، ووقف الملك لقمان ورفع تاجه عن رأسه وقلبه رأساً على عقب وهو ينحني احتراماً لأعضاء الفرقة، وما لبث أن ترك المائدة وهرع ليعانق العازفين والمنشدات اللواتي استطعن أن ينقلن بالكلمة كل ما كان يدور في خياله، وكذلك فعلت الملكة نور السماء، وسط جنون التصفيق وحرارة الدّموع التي راحت تنهمر على الوجنات.
وأمر الملك لقمان أن تكون هذه الفرقة، الفرقة الخاصّة بالقصر الملكي، على أن تأتي فيما بعد إلى الكوكب الذي سيقيم عليه..
وما أن أنهى الملك لقمان والملكة نور السماء تهنئة الفرقة بالنجاح الذي حققته حتّى أشار إليها أن تعزف ألحاناً راقصة، وعاد هو والأميرة ليجلسا في مكانهما.
شرعت موسيقى فرحة راقصة تتصاعد شيئاً فشيئاً، فأخذ الناس يتحوّلون من الحُزن إلى الفرح، وما لبثت الموسيقى أن استفزّت كُلّ حواسّهم، فنهضوا جميعاً إلى الرقص، عشرة مليارات من الإنس والجن نهضوا إلى الرّقص، لتضجّ بهم كل صالات ومسارح الروض وحدائقه وممراته. إنس مع إنسيات وإنس مع جنيّات وجن مع جنيّات، وجن مع إنسيات، كُلّهم نهضوا إلى المرح والفرح والرقص، كلّهم دُفعوا إلى اللهو حين ناداهم من أعماقهم هاجس، طالباً إليهم التمتّع بالفرح بعد أن تحسسوا ويلات الحزن. فراحوا يغرقون في اللهو المُجوني والرّقص الجنوني، ماعدا الملك لقمان والملكة نور السماء، اللذان اتّحدا في جسد واحد بعد أن نهضت الملكة لتجلس في حضن الملك ليحتويها بكل جسده، وفيض مشاعره، ويتمنّى لو أنه في مقدوره أن يشقّ جوانح صدره ليبقيها فيه.
همست الملكة وهي تطوّقه بيديها لتداعب أنفاسها أُذنه:
«هل كانت هذه حقاً ولادة حبيبي، كنت خائفة أن تلدغك الأفعى»
قبّل أُذنها قبلات خفية وهمس:
«إذا صدقت أمي يا حبيبتي»
انتعش جسدها وقشعريرة لذيذة تجتاحه من جرّاء تقبيلها على أذنها والهمس فيها.
«أكانت ولادة حبيبي مخيفة إلى هذا الحد؟!»
«لم تكن ولادتي إلا بداية شقاء يستحيل أن يحتمله بشر يا حبيبتي»
«ومع ذلك احتمله حبيبي»
«لأن كل ما تعرّضت له من شقاء بعد ذلك لا يختلف كثيراً عن شقاء الولادة والطّفولة، بل كان أرحم في بعض الأحيان»
«متى سيحدثني حبيبي عن حياته؟»
«لا أعرف، ربّما أُحدثك عن شيء منها، أما عنها كُلّها فهذه مسألة طويلة تحتاج إلى روايات! فهناك فترة الطفولة وحتى سن المراهقة وهربي من بيت أبي، وهي أقسى ما عشته. تأتي شقاواتي الأخرى حتى سن ما بعد العشرين، حيث فترة النضال التي كُلّفت فيها بمهام صعبة، ودخلت السّجون.. ومن ثمّ تحوّلي إلى الصحافة والأدب منذ سن الرابعة والعشرين، أي نصف عمري الآن، وهذه الفترة شهدت الكثير من الأحداث، ففيها تزوّجت مرّتين وعشقت كثيرات، وارتكبت حماقات مع عاهرات وغير عاهرات من الإنسيّات! وكتبت بعض القصص والروايات.. أما الأهم في حياتي فهو ما يبدأ بمحاولة انتحاري وعثوري على ملك الملوك وقدومك إليّ وزواجي منك وتتويجي ملكاً، وما لا أعرف إلى أين سينتهي»
«هل ستكتب ذلك إذا ما أتيح لك؟»
«تقصدين حياتي كلّها؟»
«ممكن، لماذا لا أكتبها إذا ما أُتيح لي ذلك، أظن أن فيها ما يمكنه أن يفيد البشر، خاصّة إذا ما تحدّثت بصدق، فالأدب دون صدق ليس له أيّة قيمة حقيقية يا حبيبتي»
«وهل ستكتب عنّي يا حبيبي؟»
«وهل يعقل أن أنسى روحي يا حبيبتي؟»
«إذن ستكتب عنّي بشكل جميل»
«لا أظن أنني سأكتب في حياتي أجمل مما سأكتبه عنك يا حبيبتي»
«متى سأقرأ بعض كتابات حبيبي السابقة؟»
«بعد أن نأتي بها من الأرض»
«هل فيها شيء من حياتك؟»
«كثير يا حبيبتي، فأنا لا أستطيع الكتابة خارج حياتي وأفكاري، فأزجُّ بشيء منها في أدبي، أو أستوحي منها»
«لكن هل سيصدّق القُرّاء أنّك تزوّجت من حوريّة جنيّة وأصبحت ملك ملوك؟!»
ولِمَ لا يصدّقون طالما أنّ هذا هو ما حَدَث بالفعل يا حبيبتي؟ سيصدّقون قطعاً، وسيصدّقون أنني سأُنجب من هذه الحوريّة طفلاً نصفه الأعلى ملاك جنّي، ونصفه الأسفل إنسي، فنحن شعوب المعجزات يا حبيبتي، ولا نصدّق غير المعجزات، وقد صدّقنا أن الله نفخ في فرج فلسطينية لتنجب لنا يسوع المسيح، وصدقنا أن النّبي محمد صعد إلى السماء السابعة والتقى الله، فلمَ لا نصدّق أنني سأنجب منك نسلاً جديداً يوحّد بين الإنس والجن في الجسد والعقل، وهذا ما سيحدث بالفعل إذا صدقت تنبؤاتي يا حبيبتي!!»
وغمرت الملكة نور السّماء فرحة كبيرة وراحت تطوّق عنق الملك لقمان فيما هو يحتضنها ويتابع:
«وسيتكلّم هذا الفتى في المهد وسندعوه «قاهِر الأكوان»»
«لا يا حبيبي هذا الاسم لا يعجبني»
«سمِّهِ أنتِ»
«سنسمّيه قمر الزّمان!»
«لا! أُريد اسماً جديداً وليس من ألف ليلة وليلة!»
«طيب! نسمّيه غيث السماء»
«غيث السماء؟»
«أليس جميلاً؟»
«غيث ومطر وأعاصير وعواصف وسحب، ألا يوجد غير هذه التسميات؟»
«آه! ذكّرتني، سحُب، سنسميه «سحب السماء» يا حبيبي، أنا فعلاً أحبّ هذه التسميات!»
«يبدو أنّك تصرّين على أن يظل الاسم مقترناً باسمِك»
«أليس جميلاً هذا الأخير؟»
«يعني، لا بأس به، ما رأيك أن نحل الموضوع بيننا؟»
«وهل سنتشاجر منذ الآن على تسمية الغُلام يا حبيبي؟»
«لا يا حبيبتي لن نتشاجر، كُنت أودّ أن نجمع السماء أيضاً ونسميه "سُحب السماوات!"»
«الأمير سُحب السماوات ابن الملك لقمان ابن الملكة نور السماء! جميل يا حبيبي، أنا موافقة»
«عظيم، إياك أن تتراجعي!»
«لا لن أتراجع، وماذا بعد؟»
«تريدين أن أتنبأ بمستقبله بعد ذلك؟»
«بل وبمستقبلنا أيضاً يا حبيبي»
«وهل أنتم تحبّون الأحلام والتنبؤات مثلنا معشر الإنس؟»
«إنها المرة الأولى التي أحلم فيها في حياتي يا حبيبي، أكمل أرجوك!»
«يا حرام يا حبيبتي، سأحلُم لك كل يوم!»
«هيّا احلم لي يا حبيبي أرجوك»
وراح الملك لقمان يربت على ظهرها وهي تستكين إلى حُضنه كطفل، فيما كان الرّقص على أشدّه في الرّوض.
«سيكون ابننا الأمير سُحب السموات، أجمل غلمان السموات والأرض، بحيث لا تنظر إلى جماله امرأة إلا ويُغمى عليها، ونظراً لأن نصفه جنّي ونصفه الآخر إنسي، فإن آلاف النساء والفتيات من الإنس والجن سيغرمن به وينتحرن في سبيل حُبّه حين يشبُّ!»
«ولماذا ينتحرن يا حبيبي؟»
«لأنّهن سيغرمن به، وهو لا يستطيع طبعاً أن يحبَّ كل واحدة ستغرم به، فلا تحتمل الحياة بعد ذلك فتنتحر!! إنسيّات وجنّيات سينتحرن، بالسكاكين والسيوف سينتحرن، وبإلقاء أنفسهن من سطوح المنازل والبنايات سينتحرن، وبقذف أنفسهن من السموات إلى الكواكب سينتحرن، أو حتّى سينتحرن خنقاً بالغازات!»
وقاطع أحلامهما صوت ملك الملوك هاتفاً وهو ينحني عليهما:
«ألن ترقصا يا مولاي؟»
نظر إليه الملك لقمان بطرف عينيه وزجره:
«يا أخي حل عن سمانا قطعت حبال أحلامنا!»
نقزَ الملك شمنهور خوفاً واستقام في وقفته وهو لا يُصدّق أنه يمكن لمولاه أن يتكلّم بهذه اللغة وهذه اللهجة، فظلّ محدّقاً بدهشة إلى أن زجره الملك لقمان ثانية:
«خلص قلت لك حِل!»
دار الملك شمنهور على عقبيه وانصرف دون أن يعلم ما ألمَّ بمولاه.
«أين وصلنا يا حبيبتي؟»
«عند هؤلاء الفتيات والنسوة اللواتي سينتحرن من أجل سحب السموات، لكن!»
«لكن ماذا يا حبيبتي؟»
«لو أنّهن لا ينتحرن، فأنا لا أحبُّ الموت!»
«وماذا سأفعل يا حبيبتي إذا كان جمال الأمير سيخلب عقولهن، ويثنيهن عن رشدهن؟!»
«طيّب، أكمل لي ماذا سيحدث بعد ذلك؟»
فهتف الملك لقمان دون تردد وكأنه يهتف بما هو عادي:
«سأواجه قدَري يا حبيبتي!»
ورفعت الملكة نور السماء رأسها عن عنقه وهتفت بدهشة:
«ماذا تقصد يا حبيبي؟»
«سأموت يا حبيبتي، وعلى الأرجح سأُقتل!»
وراحت تضرب بقبضة يدها الصّغيرة على كتفه وهي تهتف:
«لا،لا،لا أُريدك أن تُقتل أو تموت، ولا أريد أن تحلم لي مثل هذه الأحلام»
«يا حبيبتي حتّى لو لم أُقتل، سأموت لأنني لن أعيش مثلك ألاف الأعوام أو إلى الأبد!»
«لا أرجوك يا حبيبي ألا تفكّر في ذلك، قد نجد إكسيراً يُطيل عمرك!»
«لن يُطيل عمري يا حبيبتي إلا ثمرة لعينة آكلُها من شجرة الحياة التي زرعها الله في الجنّة!»
«قد نصل إلى الجنّة يا حبيبي وتأكل من ثمر الشجرة حتى تشبع!»
«آمل ذلك يا حبيبتي»
«حدّثني عن ابننا»
وراحت تطوّق عنقه وتلتحم بجسده.
«يا حبيبتي هذه مجرد أحلام وتنبؤات وليس من المؤكد أن تكون قدراً»
«ومع ذلك، لا أريد موتاً فيها»
«لكن أنا متُّ وانتهى أمري يا حبيبتي، ولا يصح أنْ نغير الأحلام على مزاجنا!»
وأسلمت الملكة نور السماء قدرها إليه وراحت تلتحم بجسده وكأنّه سيرحل عنها الآن، فيما هو يتابع تنبؤاته المرعبة:
«سيستلم ملك الملوك الحكم من بعدي على كل الكواكب التي ستكون تحت سلطتي بما فيها كوكب الأرض، ويعيث فيها خراباً ودماراً، ويشرع في شنّ حروب مرعبة، وانتقامات فظيعة، ومسوخات مخيفة، ليفتك بآلاف الملايين من البشر»
وبالكاد حتّى همست الملكة:
«ولمَ سيفعل كلّ هذا الدمار يا حبيبي؟»
«انتقاماً لمقتلي يا حبيبتي، فالناس الذين أحببتهم سيقتلونني غيلة وغدراً، ولن يحتمل ملك الملوك ذلك فيشرع في تدمير العالم»
وشعر الملك لقمان بالملكة تتجمّد بين أحضانه، فراح يملسُ على شعرها برفق ويتابع:
«تقبلين أنتِ في البداية بعض أفعالهِ على مضض، لأنك ستقاومين الرغبة في الانتقام، خاصّة وأنك كنت تعرفين أنني كنت أعرف أنني سأقضي نحبي على أيدي بني البشر، ومع ذلك حافظت على جمال إنسانيّتي ولم ألوّث يديّ بدماء البشر، وحين ينتصر الخير في نفسك تحاولين عبثاً ردع ملك الملوك، فحقده سيكون عظيماً وانتقامه لمقتلي سيكون فظيعاً، بحيث لن يبقى طفل في الأرض وبعض الكواكب الأُخرى لن يبكي أمّه وأباه، وأخته وأخاه، ويعيش الليالي الطّويلة على الملح والماء!
فينشب صراع بينك وبينه، لا يلبث أن يتحوّل إلى صراع على السلطة، ثمّ يتحوّل إلى حرب ضروس، تدوم بضعة أعوام، يهزمك فيها هزائم منكرة، ويقضي على كل جيوشك وجيوش أبيكِ وجيوش الملك دامرداس، وجيوش كل الملوك الذين سينضمون إليك، فيهبُّ بعض الملوك والآلهة من أصدقائي في الكواكب والأكوان لنجدتك، فيتم لك النصر على أيديهم بعد حروب طاحنة، تقتلين فيها الملك شمنهور الجبار وتهزمين جيوشه شر هزيمة وتستلمين السُّلطة، وتقدمين على إعادة ترتيب أوضاع الكواكب، وتنادين بالسّير على طريقي، ونشر المحبّة وإحلال السّلام بين البشر والبشر، وبين الجنّ والجن، وبين الجن والبشر، وبين البشر والجن والآلهة، فيعمّ السلام وتسود المحبّة»
كانت الملكة نور السماء قد أخذت تتعرّق وهي تتوحّد بجسد الملك لُقمان، وتقاوِم بكلِّ قوتها الانفعالات التي يُثيرها حديث أحلامه وتنبؤاته في نفسها، وما أن توقّف عن الحديث، حتّى أحسّ بأنفاسها تهمس متوسّلة:
«وابننا يا حبيبي، ماذا حدث لابننا بعد كلِّ هذه الفظائع والآلام؟»
«سيعيش في كنفك يا حبيبتي إلى أن يبلغ أشدّه ويؤتى قدراً وافراً من العِلم والحكمة!»
«وماذا سيحدث بعد ذلك؟»
«ستتنازلين له عن العرش»
«وهل سيتبع طريقتي وطريقتك في الحكم؟»
«أجل. وستفخرين به كثيراً، وسيكون ملكاً عظيماً وعالماً وحكيماً كبيراً، وتسود المحبّة والسّلام في عهده كما لم يسودا من قبل»
وراحت تتنفّس بعمق مستشعرة بعض الراحة والطمأنينة ثمّ همست:
«سأعمل بكُل ما أوتيت من مقدرة لتغيير مجرى هذا القدر الذي رسمته مخيّلتك، ولن أسمح بأن تُراق نقطة دم!»
«يا حبيبتي، المقدّر لا مفرّ منه. أنا لم أسمع أنّ أحداً استطاع مواجهة قدره أو الهروب منه، وما عليكِ إلا أن تكملي كتابة سيرة حياتنا لأنني سأكون قد شرعت في كتابتها ووصلت فيها إلى ما قبل مقتلي، أكملي كتابتها فقد يكون فيها فائدة وعبرة للبشر، وسأطلق على الرّواية الأولى منها اسمي، وحين تتمّين كتابتها بتشييع جنازتي، اشرعي في كتابة الرّواية الثانية وأفضل أن يحمل عنوانها «ملك الملوك» لأنها ستتحدّث عن حروبه وأهواله مع الكواكب والبشر. ومن ثمّ ستأتي الرّواية الثالثة التي تتحدّث عن فترة حُكمك وأفضّل أن أسميها «الملكة نور السماء» أما الرواية الرابعة والأخيرة فستكون بعنوان «الملك سحب السماوات» وهذه تتحدث عن الحقبة التي سيحكم فيها ابننا، وستنشر وهو على قيد الحياة، وسيقرأ الإنس والجن جميعاً سيرة حياتنا ويحتفظون بها مدى الدّهر، لتتناقلها الأجيال!!»
«لو أنك يا حبيبي أوصلتني إلى هذه النهايات السعيدة دون أن تتنبأ بموتك وموت ملك الملوك وهذه الحروب المدمّرة والآلام الفظيعة، لكنت عشت حُلماً جميلاً»
«أنا آسف يا حبيبتي، فحتى أحلامنا، لا يُتاح لنا أن نتحكّم في وقائعها معظم الأحيان»
وضمّته بشدّة ثانية وهي تهتف:
«أنا خائفة يا حبيبي»
«لماذا يا حبيبتي؟»
«لأن ما تنبأت به الأفعى لأمِّك قد حدث فعلاً، وأخاف أن لا أقدر أنا على تغيير مجرى القدر، ويحدث ما تنبأت به أنت في حُلمك!»
«يا حبيبتي، حتى لو حدث، فهو لن يحدث قريباً، فلِم تفكرين فيه منذ الآن، تخيّلي أنني عشت ثمانية وأربعين عاماً حتى تحققت نبوءات الأفعى لأمّي بأنني سأكون ملكاً، ولم تتحقق إلا في اللحظة التي يئست فيها من الحياة وقررت الانتحار!»
«لن أحتمل ذلك حتى لو لم يحدث إلا بعد ألف عام، لا أعرف بأيّة قوّة خارقة سأواجه محنتي فيك!»
وقبّلها قبلة حارّة لتصحو على نفسها وتنسى هذا الحُلم الفظيع، لكن ما أن أتى ملك الملوك بعد لحظات حتّى راحت تنظر إليه بعينيّ الرّيبة، وتغمر رأسها في عنق الملك لقمان، وغدا من المستحيل عليها بعد هذه التنبؤات الفظيعة أن تنسى أن الملك لقمان سيموت وأنّ حروباً طاحنة ستنشب بينها وبين ملك الملوك، فصممت على الشّروع في تغيير مجرى القدر، بمجرّد ما تتاح لها الفرصة، لتظل الحياة سعيدة وجميلة.
كانت فرقة الموسيقى قد أُنهكت من جرّاء العزف، وكذلك أُنهك الراقصون دون أن يتوقفوا، إلى أن جاء ملك الملوك ليذكّر الملك لقمان بأنّه نسي أن يوقف الفرقة عن العزف!
«أوه أيّها الملك حقّاً نسيت!»
ورفع الملك لقمان يده، فراحت الموسيقى تختتم وصلتها الطّويلة، ليعمّ التصفيق كافة أرجاء الرّوض ويعود الإنس والجن إلى موائد الطّعام والشّراب، ليأكلوا كما لم يأكلوا من قبل، وليشربوا كما لم يشربوا من قبل، وليتبادلوا العناق والقبل كما لم يتبادلوهما من


(10)
رؤية شيطانية وآيات ربّانيّة!

نهض الملك «دامرداس» هاتفاً منتشياً بما شرب من خمر:
«لنشرب نخب مليكنا العظيم لقمان»
نهض الملك حامينار والملك إبليس والملك شمنهور والراعي الأكبر وباقي الملوك والملكات والأمراء والأميرات والإنس والجن جميعاً وشربوا النخب، وأراق الملايين منهم الخمر على رؤوسهم، وقد دبّت في رؤوسهم النشوة وغابت عن معظمهم الصحوة، ونهض الملك «إبليس» وخطا بوقار شديد وبهيئة ملائكية إنسيّة أذهلت الحضور إلى أن وقف على مقربة من الملك لقمان وهتف بأدب جم، وهو ينحني احتراماً:
«عفواً أيها الملك العظيم»
التفت الملك لقمان ليراه واقفاً خاشِعاً مُنحنياً بهذا التهذيب الفائق، فنهض عن كُرسيّه وصافحه بحرارة، فيما نهضت الملكة نور السماء وأشارت إلى من في الصَّف على المائدة أن ينهضوا احتراماً للملك، ودعاه الملك لُقمان إلى الجلوس مكانه، غير أنّ الملك إبليس أبى طالباً التحدّث إليه بكلمة فقط، فأقسم الملك لقمان ألا يُبيح له الحديث إلا إذا جلس مكانه، فأذعن الملك إبليس وجلس مكان الملك لُقمان، ونهضت الأميرة «ظل القمر» ليجلس الملك لقمان مكانها.
وحين عاد الجميع إلى أماكنهم، هتف الملك لقمان مرحّباً بالملك إبليس:
«ألف أهلاً ومرحباً بكم أيها الملك العظيم، لكم تملأ قلبي الغبطة وتغمر كياني بهجة السّعادة بالتّشرّف بالجلوس إلى جانب عظمتكم!»
ولم يشعر الشيطان أنه موضع احترام وبهذا القدر العظيم، منذ أن حرّم الله عليه دُخول الجنّة والسماء السابعة، وأحلّ اللعنة عليه والتّعوذ منه، فعجز عن إيجاد الكلمات المناسبة للتعبير عن شكره وامتنانه، فراح يرد مرتبكاً متلعثماً في البداية، لكن ما لبث أن تكلّم بما يليق بالمناسبة:
«إنّي لم أشعر بالخجل والتّواضع في حياتي إلا أمام عظمتكم أيّها الملك، وإنّي لأشكر لكم حُسن استقبالكم لي، وتقديركم الفائق لشخصي، وأنا المكروه من الجميع، والملعون من الجميع، من الإنس والجن، من الملائكة والآلهة، دون أن أقترف ذنباً أو آتي سوءاً، بل أتيت خلقاً جميلاً بهيّاً، وإنّي لأشكر لكم، من أعماق قلبي دعوتكم لي ولزوجتي وبعض ملوكي، لحضور حفل تتويجكم وزفافكم. وإني ما نهضتُ الآن ودنوت من مجلسكم إلا لأطلب إليكم، أن تسمحوا لي أن أعرض مسرحيّة قصيرة تتحدّث عن بعض مأساتي»
فهتف الملك لقمان على الفور:
«إنه لمن دواعي سروري، أن أرى قبساً من خلقكم الإبداعي أيها الملك العظيم»
وأشار الملك لُقمان إلى الملكة نور السماء، أن تنهض بنفسها وتدعو الملكة «بليسة» زوجة الملك «إبليس» لتجلس معهم. وأشار إلى ملك الملوك أن ينهض ليجلس هُو والأميرة ظل القمر مكاني الملكين، فنهض ملك الملوك مصطحباً الأميرة ظل القمر – التي كانت ماتزال واقفة – والرَّيبة تدبُّ في نفسه لتخوُّفه من أن يقوم «إبليس» بإغواء الملك لقمان، وقوده في ضروب الضّلال.
أبدت الملكة «بليسة» امتنانها البالغ للملكة «نور السماء» فيما جلست الملكة نور السّماء إلى جانب الملك إبليس مكان ملك الملوك.
أشار الملك إبليس بحركة من يده، فأطفِئَت الأنوار، كلّ الأنوار في كافة أنحاء الروض أُطفِئَت وعمّ ظلام حالك. وأشار بحركة ثانية، فعمّ الفضاء والروض نور أحمر خافت، وتشكّل في الفضاء كونٌ مصغَّر بعض الشيء، عمّته مئات الكواكب والأقمار والنّجوم والشُّهب والنيازك، فيما انبعثت موسيقى كونيّة خفيفة على الناي، بمرافقة بعض الآلات الموسيقية الأُخرى.
كانت هذه الكواكب، في بداية تشكّلها وتكوّنها، فقد بدت غازات هائلة تتصارع فيها كالعواصف والأعاصير، ويتصاعد منها بخار هائل ودخان كثيف، ليعمّا الفضاء، ويشكّلا سُحباً تغطّي الكون.
وكان ثمة كوكب وحيد كبير، بدت عليه بوادر حياة، فقد تشكّلت فوقه أرض يباس، تخللتها الأنهار، وانتشرت على أجزاء منها واحات الأشجار، وانداحت على مُعظمها مياهُ المحيطات والبحار، وانتشر آلاف الآلاف من الملائكة الصّغار فوق يباسها، وراحوا يستصلحون الأرض ويثرون تربتها، ويزرعونها بالنّباتات والأشجار.
كان الكوكب يحلّق سابحاً في الكون، وقد لفّه ضباب كثيف، فراح يزهو بجماله، وبوجود حياة عليه دون غيره من الكواكب الدائرة حول نفسها في الفضاء. وكان ثمّة ملاك هائل الحجم جميل الشكل، وسيم الوجه بهيّ الطلعة، يحلّق بجناحين كبيرين في سماء الكوكب، يعبر سحب الضّباب، ويحطّ على الأعشاب، ويتخطّم مرحاً، ويستلقي فرحاً، يُعانق الأشجار ويداعب الثّمار، ويمرح مع صغار الملائكة من أبنائه، يمهّد التراب ويزيل الحجارة، يسقي النباتات بيديه، ويحفر بينها قنوات، وما يلبث أن يطير محلّقاً ثمّ يغطس في مياه الأنهار ليخرج من مياه البحار. وما يلبث أن يغطس في مياه البحار ليخرج من مياه المحيطات، وقد ابتلّ بالماء، فراح يهطُلُ من جسمه وجناحيه، وكان كُلّما هبط في بحرٍ أو نهرٍ أو محيط، فاضت شطآنه لتغمر الأرض اليباس.
وفيما كان الحضور يرقبون بذهول، هذا الجوّ الساحر الأخّاذ، وبهجة هذا الملاك بأرضه وتمتّعه بها وعنايته لها، مع أتباعه من الملائكة الصِّغار، وإذا بملاك عملاق له أربعة أجنحة، قدماه تغوران في أسافل الكون ورأسه يختفي في الأعالي يظهر للعيان، وكُلما دنا منه كوكب عليه بعض يباس، أبعده عنه بطرف يده وكأنّه يبعد كُرة أطفال، وإذا كان غازيّاً ينفخ عليه نفخة صغيرة من فمه ينجم عنها إعصار، يغيّر اتّجاه دوران الكوكب. وما لبث هذا الملاك أن هتف بصوتٍ هائل، ترددت أصداؤه من أرجاء الكون:
«يا ميكائيل!»
فظهر ملاك صغير بالمقارنة مع ذاك. كان يطير بجناحين ويحلّق في مسرح السماء، وما لبث أن توقّف وهتف:
«أمر أخي الملك إسرافيل، مقرئ الأوامر الربّانيّة من اللوح المحفوظ، نافخ الأرواح في الأجساد، الموكّل بالنّفخ في الصور يوم القيامة!!»
«أهلاً بأخي ميكائيل مانح الأرزاق والحكمة، الباعث على الكمال!»
«مُرني أيّها الملك الكبير»
«أوحى إلهك إليّ بأنّه يُريد شيئاً من أديم الأرض، فاهبط إليها وائتني بطين نقيٍّ منها!»
«ماذا يُريد الله من الطّين أيها الملك الكبير؟»
«هذا شأنه أيّها الملك!»
«أستحلفك به ألم يخبرك؟»
«قال إنّه سيخلق إنسيّاً!»
«أهذا كائن جديد أم ماذا أيّها الملك الكبير؟»
«ماذا سيكون إن لم يكن كائناً؟»
«ولِمَ سيخلقه من أديم الأرض أيُها الملك الكبير؟»
«قال إن الملك إبليس أولاه عنايته إلى أن غدا أفضل من أديم الجنّة»
«سأهبط حالاً أيها الملك الكبير»
«رافقتك السلامة أيها الملك ميكائيل»
وراح الملَك ميكائيل يحلّق هابطاً من الأعالي، يعبر الفضاء، مارّاً بالكواكب والنُّجوم، مُجتازاً السُّحب والغيوم.
تسمّر الملايين من الحضور في مقاعدهم، وتناسوا الطّعام والشّراب والنّساء، ووجد الملك لقمان نفسه يتحوّل إلى عيون وآذان، فها هو الآن يرى، وجهاً من أوجه الحقيقة التي يبحث عنها.
كان الملَك ميكائيل قد بلغ سماء الأرض، وأخذ يجتاز سحبها وغيومها، مختفياً تارة بين السُّحب والغيوم، وبادياً تارة أخرى، إلى أن هبط ليلُفّه الضّباب، وراح يجوب فوق سطح الأرض، متلفتاً يُمنة ويسرة، فيما كان ملاك الأرض يحلّق في ناحية بعيدة منها، يغطس في البحار ويخرج من المحيطات.
حطّ الملَك ميكائيل إلى جانب نهرٍ كبيرٍ يُشبه نهر النيل، وراح يجمع الطين من شاطئه، مختاراً ما هو الأفضل منه.
وفيما كان مَلاك الأرض يخرج من مياه المحيط، هاتفه هاجس الأرض:
«أنت هُنا تمرحُ في مياهي أيّها الملاك، فيما آخرون، يسطون على أديمي دون أن تدري»
فصرخ الملاك بأعلى صوته وهو يحلّق عالياً ناظِراً إلى الأرض:
«من يجرؤ على السَّطو على أديمِك، وأنت في رعايتي أيّتها العزيزة على قلبي؟»
«إنّه صنوك ميكائيل، يجثو هُناك إلى جانب وريدي الأوسط ويجمع أديمي من حافّته!»
«لا أيّتها العزيزة على قلبي لن أدعه يأخذ من أديمك مثقال ذرّة!»
وطار الملاك بسرعات هائلة، إلى أن حطّ أمام الملَك ميكائيل، وزجره بصوت هائل:
«ما الذي تفعله بعزيزة قلبي أيها الملاك ميكائيل؟!»
«أهلاً بأخي الملَك إبليس، وكيل الأرض وحارسها، وراعي الحياة فيها، وباعث الخير لها، والساهر دوماً على بهجتها وازدهارها وكمالها. إنّي اجمع أديماً لله أيها الملاك!»
«ألم يكن جديراً بك أن تُحيّي وتسلّم وتطلب الأديم من والي الأرض وسيّدها أيّها الملاك؟!»
«معذرة أيّها الملاك إبليس»
«ما موقفك لو أنني أتيتُ الجنّة وسطوتُ على أرزاقك وسرِّ حكمتك، وقدرتك على بعث الكمال، حتى لو كنت مرسلاً من قبل الله؟!»
«أظنُّ أنني سأغضب منك أيّها الملاك!»
«وأنا غضبت مِنك، فإذا كنت حقاً مُرسلاً من قبل الله أو من قبل إسرافيل، فاذهب وبلّغهما أنّي أرفض أن أُعطيك شيئاً، ليسَ لسوءِ تصرّفك فحسب، بل لأن الله أوصاني حين أوكلني بالأرض أن أصون أديمها وألاّ أفرّط بذرّة من ترابها أو نقطة من مائها حتّى له! ثمّ إنّ التّراب يملأ العديد من الكواكب الأُخرى والجنان والسموات، فلماذا لا يُريده إلا من الكوكب الذي خوّل ولايته إليّ؟!.. ألا يعني هذا أنّه يحاول اختبار مدى حرصي عليه وتمسّكي بأديمه وصوني لترابه؟!»
«ستغضب وجه الله أيّها الملاك!»
«لِمَ أُغضِب وجه الله إذا حرصتُ على تنفيذ وصاياه؟ وعانيت مع أتباعي ما عانيت، لآلاف آلاف السِّنين، كي أظلَّ أميناً على عهده، ووفياً له، وها أنذا مازلت أشقى في هذه الأرض إلى أن صارت فرجة للناظرين، تنفيذاً لتعاليمه ووصاياه؟»
وغضب الملك ميكائيل وطار محلّقاً في سماء المسرح السّماوي ليختفي في الأعالي بين السُّحب والغيوم، ولم تمر سوى لحظات حتّى ظهر ملاك آخر راح يهبط من الأعالي ليحطّ على الأرض على مقربة من الملاك إبليس، ويهتف:
«السلام على أخي الملاك إبليس وكيل الأرض وحارسها وراعيها»
«وعلى أخي الملاك جبريل المكين والروح الأمين السّلام»
«لِمَ أغضبت الله أيها الملاك المُكِدّ، ولم ترسل إليه بأديم الأرض مع الملاك ميكائيل؟»
«هل قابلت الله أيها الملاك النبيل، أم خاطبك بصوته أم أوحى لك بذلك؟!»
«لا أيها الملاك، أبلغني الملاك إسرافيل»
«ماذا قال لك أيّها الأمين؟»
«قال إنّك أبيت أن تعطي ميكائيل أديماً من باطن الأرض، وأن الله غضب لذلك، فقرر أن يرسلني أنا كي أُحضِر الأديم»
«أتظنّ أيّها الرّوح الأمين أنّ إسرافيل يطمع بجمال الأرض ويدبّر مكيدة لي كي يُبيّن لله أنّي لست جديراً بأن أكون وكيلاً وحارساً وراعياً لها؟!»
«واللهِ إني أيها المَلَكُ الجميلُ لا أجرؤ على الشَّكِ بمقرئِ الأوامر الرَّبانية، وأمين اللوح المحفوظ ونافخ الرّوح في الكائنات ومن سينفخ في الصورِ يوم القيامة؟!»
«أو لعلَّ الله يريد أن يختبر مدى وفائي له وحرصي على تنفيذ وصاياه؟!»
«وهل يُمكن أن يشُكَّ الخالق في مدى وفائك وحرصك، يا باعث الخير وواهب الحياة الدُّنيا؟!»
«والله إنّي لفي حيرة مِن أمري أيّها الروح الأمين، بمَ تنصحني أيّها المكين؟!»
«إني خائف عليك أيها المكدُّ الجَلِد، يا من شقيت آلاف السّنين وأنت تولي الأرض حُبّك، وتكلؤها برعايتك وتغمرها بعنايتك، وتمنحها نسيم الخير من روحِك، إلى أن فاضت من ينابيعها وأخاديدها روعة الحياة، إن أعطيتني الطين وكان باعث الأمر مكيدة من إسرافيل أو اختباراً من الله، غضب عليك الله في الحالين!»
«إني أتوسَّل إليك أن تجد لي مخرجاً أيّها الروح القُدُس»
«ليس أمامَك إلا أن تصرَّ على عهدك لله بالوفاء والإخلاص ما دُمت حيّاً»
وطار الملاك جبريل محلّقاً في الأعالي دون أن يأخذ طيناً من أديم الأرض، ولم يكد يختفي حتى ظهر ملاك آخر وهبط على الأرض ليقف في مواجهة الملاك إبليس ويهتف بصوت فظّ مسلّماً:
«السّلام على الملاك إبليس باعث الخير وراعي الحياة، وكيل الأرض وحارسها»
«وعلى قابض أرواح الكائنات، ومفرّق النّفوس ومسكّن الحركات ملَك الموت عزرائيل السلام!!!»
«لِمَ هذا الإصرار العنيد على إغضاب وجه الله أيها الملاك؟»
«أنا لا أفهم أيّها الملَك، كيف يُصبح عندكم الإخلاص إلى الإله إنكاراً ورفضاً وإغضاباً؟!»
«إني الرّسول الأخير كي ترسل إلى الله أديماً أيها الملاك، وإلا سيغضب منك ويحلُّ لعنته عليك!»
«هل أبلغك هو ذلك؟»
«لا. أبلغني إسرافيل»
«إنّي لا أثِقُ بمن خلقه الله كما خلقني، بعد أن أوصاني الخالق ألاّ أفرّط بذرّة من تراب الأرض حتى له، يؤسفني أن أعيدك خائباً أيها الملاك»
«ستندم على سوء أفعالك أيّها الملاك!»
«لن أندمَ على ما لم أقترفه أيها الملاك، وأظنّ أنّ في مقدور الله أن يخاطبني أو يظهر لي دون وسطاء إذا هو في حاجة إلى أديم من التراب الذي أوكلني به!»
وطار الملاك عزرائيل غاضباً ليختفي في الأعالي، وفيما الملاكُ إبليسُ يجوب الأرض قلقاً محتاراً في أمره، دوّى صوت هائل عذب جميل كامِل، تردد صداه من أرجاء الكون وتبددت من أمامه سُحب الغيوم وسدائم الضّباب. قال:
«لِمَ أيها العاقُ، تضنُّ عليّ بأديم منحتك ترابه، وأوكلتُ إليك رعايته حين كنت ملاكاً تقيّاً؟!»
توقّف الملاك إبليس ونظر نحو السماء. قال:
«مَن الهاتفُ؟»
قال:
«من سيكون أيها العاقُ إذا لم يكن إلهَك الذي خلقك غُلاماً وجعلك ملاكاً زكيّاً؟!»
قال الملاك إبليس:
«لِمَ تغيّر صوتك يا إلهي؟!»
قال:
«صوتي أيّها العاق لم يتغيّر، أنت الذي تغيّرت وصار صوتي لدنك منسيّاً»
قال الملاك:
«لا أَظن أنّي سأنسى صوت من خاطبني في الجنّة عِشيّا، ومنحني الأرض وأوكلني صونها ورعايتها لأجعل منها جنائن وأوجد فيها ثمراً شهيّاً!»
قال:
«أتشكك حتى بصوتي أيها العاق، ليتني لم أهبكَ جمالاً ملائكيّاً!!»
قال الملاك:
«إني أشكك بالصوت الآتي إليّ دويّاً، فإن كنت إلهي أرني اليوم نفسك كي لا أظلّ في رِيبة من أمري وأظلَّ حزيناً شقياً!!»
قال:
«أوَ تكفر بي أيضاً أيها العاق، ليتني خلقتك كائناً وحشيّاً!»
قال الملاك:
«بل ليطمئن قلبي، إذ في نفسي شهوة تدفعني لأن أعرف شكل من جعلني جميلاً بهيّا!»
قال:
«لو أرسلت لي طيناً لأخلق منه اليوم إنسياً، لأريتك شيئاً من نفسي أيها السّامعُ الأصمُّ والمبصرُ الأعمى، ولجعلتك تراني صُبحاً وعِشيّاً، أما وقد عصيت أمري فلن تراني ما دمتَ حياً، وليحرّم عليك ملكوتي ولتظلّ هائماً في الأرضِ والكواكب والسموات الدُّنيا، ولتحلَّ لعنتي عليك، فأنتَ منذ اليوم جنيّاً!»
وتوقّف الصوت الهائل، ولم يعد يُسمع. راح الملاك إبليس يجوب الأرض محتاراً قلقاً، تتصارع في مخيّلته الهواجس:
«هل حقاً كان هذا صوت الله، وهل حقاً كان يريد التّراب ليخلق إنسياً؟!»
وأطرق للحظات يُفكّر، وما لبث أن استأنف حواره مع نفسه:
«حقاً كان هذا صوت الله، ماذا دهاني وشوّش ذاكرتي، لا يتكلّم بهذه اللغة ذات الموسيقى المتفرّدة إلا الله، حتى أنّه منحني مَلَكَتها وجعلني أُجيبه بها كي أفهم وأقتنع، لكني لم أفهم ولم أقتنع، لقد كنت أسمع صوته وربّما أرى صورته، وإلا ما معنى أن ينعتني بالسامع الأصم والمبصر الأعمى؟ وها أنا أفقد مَلَكة اللغة التي منحني إيّاها خلال مخاطبته! حقاً كان الصوت صوته، وربما التبس علي لأنّه يخاطبني من بعيد، ولم أكن قريباً منه كما في الجنّة. يا إلهي، يا من خلقتني في أجمل شكل وأوكلت إليّ رعاية الأرض، ماذا سأفعل كي أرضيك؟! ماذا لو حاولت أنا بنفسي خلق هذا الإنسي؟ ألن أحافظ على عهدي لك بأن أصون تراب الأرض وماءَها، وألن أكون قد أرحتك من عناء عملية الخلق، إذا كنت تريد حقّاً أن تخلق إنسياً؟ أجل أجل سأفعل ذلك!»
وشرع الملَك إبليس يجمع أفضل ما يعرفه من أديم الأرض. من شاطئ النيل (وريد الأرض الأوسط) جمع، من شاطئ الفرات (وريد الأرض الثاني) جمع، وحمل ما جمعه إلى شاطئ الأردن (شريان الأرض الأصغر) حيث جمع من هناك أغنى التراب، وأهاله فوق ما أحضره من شاطئ النيل والفرات. ومن مكانه على شاطئ الأردن، مدّ يده إلى بحيرة الملح وغرف من مائها غَرفة صغيرة، سكب منها فوق الكومة، ورشق الباقي في النّهر، وما لبث أن شرع يتعرّق بشدّة ليهطل من جسده عرق غزير راح يسكب منه على الكومة، فسكب عليها ضعفي ما أحضره من الماء المالح من بحيرة الملح، ثم فصد ساعده، فانبجس الدم منه، فأضاف إليها من دمه أربعة أضعاف ما أضافه من الماء المالح والعَرَق، ففاضت الحفرة التي عملها وسط الكومة، فاضت بالعرق والدّم والماء المالح.
سمّى الملاك إبليس بالله قائلاً: «بسم الله الرحمن الرحيم» وشرع في خلط الكومة وعجنها بيديه إلى أن امتصت العرق والدماء والملح، فغرف عليها من ماء النهر العذب البارد واستأنف الخلط بيديه، وراح يعجن إلى أن غدت الجبلة كتلة واحدة لدنة ليّنة.
وبدا الملك إبليس محتاراً وهو يردد:
«لكن على أيّة شاكلة تريد أن أجبله يا إلهي؟»
وحين أدرك أن الله لم يخلق من هو أجمل منه راح يهتف:
«على شاكلتي، فأنت لم تخلق من هو أجمل منّي، أجل سأجبله على شاكلتي»
«وسمّى بالله ثانية وشرع يجبل تمثالاً على شاكلته، وهو يذكر اسم الله، فصنعه واقفاً على قدميه، وحين رأى أنّه حسن، وأن لديه المزيد من الطين، شرع في صُنع أنثى له. وما أن أنهاها حتّى أوقفها إلى جانبه، وراح يتأمّل جمال التمثالين وهو في غاية الفرح والدهشة لجمال ما جبله. وما لبث أن استدار نحو الشمس وهو يتطاول واقفاً على رؤوس أصابع قدميه، ليبلغ رأسه عنان السماء، ولتتكسر أشعة الشمس على وجهه. شهق شهيقاً عميقاً أخذ معه مقداراً من حرارة الشمس وراح ينفثه على التمثالين ليجفّا، وما أن جففهما حتّى شرع ينادي بأعلى صوته:
«يا إسرافيل، يا نافخ الأرواح في الأجساد، إن كان إلهك يريد حقاً أن يخلق إنساً، فها أنذا قد أرحته وخلقت ذكراً وأنثى، وأسميتهما آدم وحوّاء، وإنّي أناشدك أن تنفخ في جسديهما روح الحياة الأبديّة، لينطلقا في الأرض وينجبا نسلاً زكياً، وسأرعاهما وأرعى نسلهما مادُمت حياً!»
غير أن أحداً لم يستجب إليه، فراح يصرخ باكياً وبأعلى صوته منادياً:
«يا إلهي، يا إسرافيل، لِمَ لا تجيباني؟ ها أنذا قد أرحتك يا إلهي وخلقت إنساً إن كنت تريد ذلك، لم لا تجيباني؟!»
وما لبث أن شرع في بُكاء مرير، وكأنه رضيع حُرِم من ثدي أمّه، وأخذ يخاطب التمثالين:
«معذرة أيّها الجميلان، لقد أبى الله وإسرافيل أن ينفخا في جسديكما روح الحياة الأبدية، سأنفخ في جسديكما روح الحياة الدُّنيا»
وشرع ينفخ في فم آدم وأنفه والدموع تنزلق على وجنتيه، وبدأت الحياة تدبُّ في جسد آدم شيئاً فشيئاً إلى أن دبّت في كافّة أنحاء جسده، وحين رأى الملك إبليس أنّه فائق الحسن والجمال، سجد أمامه وهو يهتف:
«عظيم أن دبّت في جسدك الحياة أيّها المخلوق الجميل»
ونهض وشرع ينفخ في فم حوّاء وأنفها إلى أن دبّت الحياة في جسدها، وما أن تأمّل جمالها حتى راح يرقص فرحاً ويصفّق بيديه ويقفز عالياً، وما لبث أن هتف:
«هيّا انطلقا في الأرض، كُلا من طيّباتها وتناكحا، وأنجبا نسلاً كثيراً»
انطلق آدم وحوّاء يتجوّلان في الأرض عاريين، بين سحب الضّباب، الذي كان يلفّ كوكب الأرض، لكن ما أن ابتعدا بعض الشيء والملاك إبليس يرقبهما من بعيد، حتّى هبط عليهما من السماء ملاك هائل مجنّح، وحملهما وطار بهما عالياً، فصرخ الملاك إبليس هاتفاً:
«لا! من هذا الذي يجرؤ على اختطاف من جبلتهما بيدي من طين أرضي الذي مزجته بدمي وعرقي ونفخت فيه من روحي، إنّي أعوذ بالله منك كائناً من تكون!!»
فجاءه هاتف من السماء:
«يا إبليس، رأى الله أن خلقك حسن فطلب أن نرفعه إلى الجنان»
«لا لا أنت تكذب أيها الهاتف، لقد أوصاني الله ألا أفرّط بذرّة من تراب الأرض، فكيف بمن خلقته وأحييته من طينها؟!»
وطار الملاك إبليس بأقصى سرعة ليلحق بالملاك ويخلّص المخلوقين، بيد أنّه لم يتمكّن من اللحاق به، وحين بلغ السماء السابعة وهو يصعد خلفه اصطدم رأسه بها ليعود القهقرى إلى الأرض.
جلس الملاك إبليس ينهل التراب ويذرّه على نفسه، وينتف شعر رأسه ويلطم بقبضته على صدره ويندب حظّه التّعس صارخاً باكياً نائحاً بأعلى صوته ومن أعماق جُرحه.
أُضيئت أنوار المسرح السماوي الكوني وأضواء الرّوض دفعة واحدة، وضجّ آلاف الملايين من الحضور بالتصفيق الحار، فيما شرع الممثلون الجن الذين قاموا بأدوار إبليس وجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل وآدم وحوّاء بالظهور على المسرح، وهم ينحنون تحيّة واحتراماً للجمهور واحداً بعد الآخر. وقد استقبل الممثل الضخم الهائل الذي قام بدور الملاك إبليس بتصفيق حار، وصراخ وهتاف وبُكاء وعويل لم يشهد المسرح الكوني مثيلاً له، وراح الملك لُقمان يُعانق الملِك إبليس إلى جانبه ويهنّئُه على العرض المؤثر الجميل، وآثار الحزن والتأثر ما تزال بادية على وجهه والدموع تترقرق في عينيه، فيما اندفع آلاف المُشاهدين والمشاهدات من الجن والإنسيات، يمطرون الممثلين بالورود، ويغمرونهم بالقبلات، مما دفع الملك شمنهور إلى الاعتقاد بأن إبليس أغوى الحضور جميعاً وحاد بهم عن جادة الصّواب.
وكانت فرحة الملِك إبليس كبيرة لتعاطف الملِك لقمان معه، وتأثره لمأساته، وإعجابه وإعجاب آلاف الملايين بالعرض، فراح يشكره من أعماق قلبه على الفرصة العظيمة التي أتاحها له بتقديم هذا العرض على المسرح السماوي وأمام هذا الجمهور الهائل.
وأمر الملك لقمان بدعوة الممثلين إلى الحفل وإكرامهم خير إكرام، وأمرّ بضمّهم إلى فرقة المسرح الملكي بعد موافقة الملِك إبليس.
وراح الملك لقمان يحاوِر الملِك إبليس حول العرض محاولاً أن يعرف منه باقي القصّة:
«في الحقيقة أيها الملك العظيم أنني صعدت إلى السماء هرباً من الظلم والعذابات وسعياً وراء الحقيقة، وها أنت تصدمني بعرضك الجميل والمؤثّر، ولأكتشف أنّ الظلم أُحيق بك منذ بدايات الخلق، وأن مقدرتك العظيمة وحقيقتك النّبيلة طُمستا وأُهملتا، وحلّت بك اللعنات والعقوبات دون أن تقترف ذنباً، ونسجت حولك الأكاذيب والافتراءات دون أن تأتي سوءاً، بل أتيت إعجازاً عظيماً.. لكن ماذا جرى بعد ذلك أيّها الملك العظيم، هل تأكّدت من أنّ الله هو حقاً من كان يريد التراب وهو من أصعد آدم وحوّاء إلى السماء السابعة؟!»
«أجل أيها الملك العظيم، تأكّدت من ذلك حين عرفت أنّه وضعهما في الجنّة، فرحت أتوسّل إليه أن يعفو عنّي ويغفر لي، فأنا لم أتصرّف بما تصرّفت به إلا تنفيذاً لوصاياه، ولم أخلق آدم وحوّاء إلا لأريحه من عمليّة الخلق، وأصون تراب الأرض الذي أوصاني به، فأبى، أبى أيها الملك ولم يذعن لي ولتوسّلاتي وآهاتي. ونظراً لأن آدم وحوّاء كانا مِن خلقي فقد منعهما من أكل أثمار شجرتي الحياة والمعرفة. وحين أخبرني أخي جبريل بذلك، لم أصدّق، ولم أعرف كيف أصل إليهما، فقد منعني من الصّعود إلى الجنّة، وحوّلني إلى جنّي بعد أن كنت ملاكاً، وحرمني من فلذتي كبدي اللذين خلقتهما بيدي.. فكان أن أرسلت لهما الأفعى لتدعوهما إلى تناول أثمار الشجرتين، ليعرفا الخير من الشر، وتكتب لهما الحياة الأبدية، ولسوء حظّهما وحظّي أيضاً، لم يأكلا إلا من شجرة المعرفة، فقد اكتشف الله فعلتهما، فغضب عليهما وعلى الأفعى، وطردهما من الجنّة – كما طرد الأفعى – وأعادهما إلى الأرض حيث أنا»
كنت فرحاً بعودتهما وحزيناً لأنّهما عادا إليّ بحياة قصيرة، هي الحياة التي وهبتهما أنا إيّاها، وهاتفني صوت إسرافيل من الأعالي:
«خذهما أيّها العاق. هذا ما يقوله لك الله، فهاهو يُعيد خلقك إليك، هل كنت تريدهما أن ينعما مثله بالحياة الأبديّة؟! ألا يكفيك أنّك أطعمتهما من شجرة المعرفة؟ سيزرع كراهيّتك في نفسيهما كي لا تجني منهما ومن نسلهما إلا العذابات واللعنات التي ستظلُّ تنصبُّ على رأسك مادامت الحياة!»
فرحت أصرخ أيها الملك:
«لا، لا، إني أتوسّل إليه، وأناشده برحمته وعظمة جبروته ألا يفعل، ألا يكفي أنه حرمهما متعة الحياة الأبديّة؟‍»
غير أن أحداً لم يستجب إليّ أيها الملك العظيم، وهاأنذا أعيش مأساتي وسط ملايين اللعنات وملايين التّعاويذ التي تحاصرني وتنصبّ على رأسي وتقضّ مضجعي وتثقل على نفسي وتدمّر كياني كل لحظة، وكلِّ طرفة عين، فأيُّ قوة يمكنها أن تنقذني من هذا العذاب، وتعيد إليّ بعض حقّي في حياة كريمة، وتنهي هذا النزاع الأبدي بيني وبين الله، وتمحو هذه الكراهية التي زرعها نحوي في نفوس من خلقت بيديّ، ومنحته دمي وعرقي ليسريا في جسده مدى الحياة؟‍‍!!»
وراح الملك لقمان يضمُّ الملك إبليس إليه بمودّة وتعاطف بالغين، مما دفع ملك الملوك وبعض الحضور إلى الجزم بأن الشيطان أغوى الملك لقمان وضلّله عن الحق. وكان الملك لقمان يهتف إلى الملك إبليس بكل خلجات نفسه:
«كم أنا حزين لمأساتك أيها الملك العظيم، وكم يعتصر الألم قلبي وأنا أرى مبدعاً وخالقاً عظيماً ونبيلاً مثلك، يكتوي بنار الآلام، التي يعجز الخلق كلُّه من إنس وجن وآلهة وحيوان ونبات عن احتمال وطئها على النفوس، إنّي لأعاهدك أيّها الملك العظيم أن أعمل بكلّ ما أستطيعه على تغيير صورتك في أذهان الخلق ووعيهم وعقولهم، لعلّني أُعيد إليك شيئاً من حقيقتك النبيلة، وإنّي لأعاهدك إذا ما قابلتُ الله يوماً أن أطرح قضيّتك أمامه، وأطلب التوبة لك والعفو عنك، وإعادة حقّك المهضوم إليك، رغم قناعتي أنّك لم تقترف سوءاً يستحق أن تتوب عنه»
«لقد حاول أخي الحبيب جبريل ذلك دون جدوى أيها الملك العظيم»
«ومع ذلك لا تدعِ اليأس يستولي على أعماق نفسك، ليكن الأمل هاجسك، والتفاؤل بالمستقبل وإحقاق الحق ونشدان العدالة غاياتك، فثمّة بين البشر والجن من يحبّك، وثمّة من يرى أنّك حقاً مظلوم، ولم يشتمك منذ أن أدرك الحياة، ولقد كنت أنا أحد هؤلاء الناس»
«كنت أعرف ذلك أيها الملك، ولهذا أحببت أن أعرض عليك مأساتي»
«إذن لا تيأس، ثمّ هل أبلغك جبريل أنّه رأى الله، وأنّه فعلاً عرض عليه توبتك والعفو عنك؟!»
«لم يَر أحدٌ منا الله منذ أن وجد أيها الملك، ولم يجرؤ أحد منذ بدء الخليقة على الادّعاء أنّه رآه، إننا وفي أحسن الأحوال نسمع هاتفاً يهتف إلينا يقول إنّه الله! إنّ الله ما يزال لغزاً على الملائكة والجنّ والإنس أيها الملك! نحن نعتقد بوجوده، ويرى بعضنا أن أفعالنا وردود هذه الأفعال تحدث بوحي منه!!»
«لابُدّ لنا من حلّ هذا اللغز أيّها الملك العظيم، فثمّة من لم يعودوا خائفين من البحث عن الحقيقة وسبر أغوار الخليقة!»
«كم أنا سعيد لتعرّفي إليك ولقائي بك، لم يبعث أحد الأمل في نفسي كما بعثته أنت»
وضجّت موسيقى صاخبة فانفصلا عن بعضهما.
كان جميع الحضور ينظرون إليهما بدهشة وقد عمّ الصمت جو الحفل فغدا كمأتم، فأمر ملك الملوك بموسيقى صاخبة للرقص، فنهض الملايين من الإنس والجن، من الرجال والنساء، من الشباب والفتيات، من الشائبين والشائبات، من خريفي الأعمار والخريفيّات، من الطاعنين والطاعنات، نهضوا إلى الرقص، وقد دارت النشوة في رؤوسهم وترنّحت أجسادهم من شدّة السُّكر، فأخذوا ينزعون ثيابهم، آلاف الملايين نزعوا ثيابهم وراحوا يرقصون عراة، بجنون راحوا يرقصون، إنس وجنّ كانوا يرقصون، وما لبثت الأجساد أن غرقت بالأجساد والسيقان بالأفخاذ، فراحوا يتبادلون القبل ويتعانقون، في ممرات الروض، في حدائقه وتحت أشجاره، على مسارحه ومراقصه، فوق المناضد وتحتها، بين الورود وعلى الأشجار، على التراب والحشائش، فوق البلاط وعلى السّجاد، وسط صخب الموسيقى ولجّة ضوضاء الرّوض، لتختلط الآهات بالتغنّجات، والتأوّهات بالصرخات، والابتسامات بالضحكات، والأنين بالفرح، والعطف بالقسوة، والرّفق بالعنف، والمتعة بالألم، والقبلة بالعضّة، والتطهّر بالفسق، والجمال بالقبح، والاستغاثة باللطمة، والهناء بالتّعاسة، والجنون بالتعقّل، والسّكون بالحركة، والتوسّل بالزّجر، واللين بالشدّة، والفرح بالتّرح، والنّعومة بالخشونة، والرأفة باللعنة، والنُّبل بالحقارة، والكرم بالبخل، والأمل باليأس، والسعادة بالشّقاء، واللذة بالعذابات، والعدالة بالظّلم، والسّلام بالعَداء، واللحن بالضّجة، والود بالنقمة، والورد بالشوك، والطّهارة بالنّجاسة، والحب بالكره، والجسد بالآخر، والذات بالكل، والكل بالذات، والخير بالشر، والموت بالحياة. ليتوحّد كل ذلك في ملكوت ربّاني تستصرخ فيه الأجساد تطهرها، والأرواح غاياتها، والغايات وسائلها، والوسائل أسباب اتّباعها!!
آلاف الملايين من الجن والإنس، راحوا ينشرون ما يكتنف دواخلهم، ويهتكون أستار سرائرهم، ويخرجون ما في بطائنهم، وما تنوء به نفوسهم، من النوازع والرّغبات، من المكبوتات والمخبوءات، ليظهروا للوجود على حقيقتهم، ليواجهوا بصدق وتحدٍّ مكنونات ذواتهم، وليتخلّصوا من تبكيت ضمائرهم، وليتطهّروا من أثقال أرجاسهم، في طقسٍ شابه التعقّل والجنون، العشق والمجون، الحبور والفجور، ولم تشهد السموات والكواكب مثيلاً له منذ أن وجدت!!

(11)
صِفات محمّدية وهدايا جنّية!

كان الملك لقمان والملكة نور السماء والملك إبليس والملكة بليسة والراعي الأكبر وزوجته والسيد شاهل بيل والسيدة سلمنار والملك حامينار والملكة شامنهاز، وبعض الملوك والملكات، قد ظلّوا جالسين ولم يشاركوا الأغلبية الساحقة الرّقص والطقوس الجنونيّة، وكم كان بودّ الملك لقمان أن ينصرف، لينال قسطاً من الراحة بعد أن أثقل رأسه بالهموم السماوية إضافة إلى الهموم الأرضيّة والجنّية، غير أنّ ذلك لم يكن متيسّراً، فهو مُضيف، وكان عليه أن ينتظر إلى أن ينصرف الملوك والراعي الأكبر على الأقل، لكنه استأذن الحضور ليرتاح قليلاً في مقعده.
دعا الملكة نور السماء لتعود إلى جانبه ليلقي رأسه على كتفها ويغفو لبضع دقائق، بينما شرع الملوك في حوارات هادئة مع الملك إبليس والملك دامرداس وسط صخب الموسيقى وصرخات وآهات المحبين وهمسات المتغازلين، وضحكات العاشقين، وقهقة الفرحين، التي لم تتح لحوارهم أن يكون هادئاً، بل إنّ بعضهم فضّل الاستماع إلى أنغام هذه الموسيقى الكونيّة على إجراء أي حوار.
تنبّهت الملكة نور السماء إلى أن الملك لُقمان غفا على كتفها فقبّلت صلعته وهي تضمّ رأسه، وراحت تتمنى في سريرتها، ألا يدهم كابوس أو حُلم فظيع منامه، خاصَّة بعد مسرحية الملك إبليس التي أثقلت على نفسه وضاعفت من همومه وأحزانه، غير أن تمنّيات الملكة ذهبت أدراج الرّياح، فلم يكد يغفو حتّى شرع يهذي، ونظراً لأنه كان يرغب في النّوم، فقد فضّلت أن تتركه يهذي على أن توقظه.
كان يتساءل بصوت خفيض:
«لِمَ لِمَ أيها الملك؟ لِمَ زرع الله الخير والشر في شجرة اللعنة هذه؟ ألم يكن في مقدوره ألا يزرع فيها إلا الخير؟ أم أنّه كان يجهل ما هو الخير وما هو الشّر، أو أنّه لم يكن قادراً على الفصل بينهما، فزرعهما معاً في شجرة واحدة تثمر ثمراً واحداً، لنأكل منها ونواجه قدرنا البائس هذا ونعيش حياتنا ضحيّة جهله أو رغباته ونزواته، أو عدم مقدرته على الفصل؟! ثم لماذا لا يريدنا أن نحيا إلى الأبد، بِمَ يُضيره هذا الأمر؟!»
«أيُّ إله هو هذا؟ ليته لم يوجد! ليتنا ظللنا دون آلهة على أن تأتينا آلهة كهذه، آلهة لا تميّز بين الخير والشّر. بل آلهة يغلب شرّها على خيرها، وتريد الحياة الأبديّة لها وحدها! آلهة لم تظهر نفسها حتى على الملائكة، ولا يعرف حتّى الملائكة عن شكلها شيئاً، سوى ما يرسمه الخيال القاصر والتصوّرات الحمقاء الجاثمة على العقول! إذا لم أتأكد ذات يوم من أن كل هذه التّرهات ليست أكثر من تصوّرات بائسة لأناس بدائيين، وأن هُناك حقاً آلهة كهؤلاء، فلن أتوانى لحظة عن سحقهم وتقويض عروشهم، حتّى لو كلّفني ذلك إفناء آلاف الملايين من البشر وتدمير نصف الكون!!»
ارتعد جسد الملكة نور السماء لهول ما يدور في رأس الملك لقمان من أفكار مرعبة، وتمنّت في سريرتها ألا يكون هُناك فعلاً آلهة مثل هؤلاء، وكي تتجنّب البشريّة هذا الفناء الفظيع.
راح الملك لقمان يهزّ رأسه ببطء على كتف الملكة التي كانت تمسح عرقه دون أن يستيقظ، ويبدو أنّه كان يستمع إلى رأي محدّثه، فما لبث أن أجاب:
«لا، لا! إنّي لا أرى في ما يجري الآن شرّاً، بل خيراً، فالجنس حق للبشر، فلِمَ أطّرته الآلهة والناس بالأخلاق الزائفة والشّرائع المقيتة؟»
«الحيوانات؟ وما بها الحيوانات؟ ثمة ملايين البشر لا يرقون بسلوكهم إلى الحيوانات، أو إلى مرتبة الحيوانات والنّباتات، أنا لم أسمع عن حيوان يفترس حيواناً لمجرّد الافتراس، ولم أرَ نباتاً يضُرّ نباتاً لمجرّد الضرر، ولا حيوانات تتسافد أو نباتات تتلاقح لمجرّد السّفاد والتلاقح. لقد ظلمنا الحيوانات والنباتات كثيراً بنظرتنا الدونيّة إليها، مع أنّها حققت الكثير من توازنها وانسجامها مع الطبيعة دون أن تملك العقل والإمكانيات التي لدى الإنسان. إنّ ما أراه أنا خيراً قد تراه أنت شرّاً، وما أراه شرّاً قد تراه خيراً، مع أن ثمة إمكانية لأن ترقى أنت إلى مفهومي لماهيّة الخير والشر، وبذلك يمكن تقليص مفاهيم الشر وما إلى ذلك. ينبغي أن يُلغى القتل – وما يتبعه من أعمال شرّانية – من قاموس البشرية، مهما كان الدافع إليه، لنعمل على إقامة عالم، لا يسوده إلا الخير والمحبّة، الخير بمفهوم عصري وليس بمفهوم كهنوتي إلهي سلفي، يُبيح لك أن تقتل مئات الآلاف لأنّهم لم يدخلوا دينك، أو لأنهم يختلفون معك في الرأي والعقيدة، وما إلى ذلك»
«حين تغدو الأوطان وطناً واحداً للبشرية كُلّها لن يكون ثمّة وجود لاستعمار أو احتلال، وحين نرقى بمفاهيم الخير والعدالة والحُرية لن يكون ثمة وجود لصراع أديان وصراع على السُّلطة، وحين يُلغى نظام النقد، لن يكون ثمة استغلال، أو أنّ إمكانية الاستغلال ستغدو شبه معدومة أو محدودة، لكنها لن تكون بهذا القدر الفظيع الحاصل في المجتمعات اليوم»
وفتح الملك لقمان عينيه فرأى عيني الملكة في مواجهتهما.
«آه! يبدو أنّه لا مجال لإيقاف هذا الدّماغ المضطرب أيتها الملكة، لو أنني أتمكن من استخدامه كقطعة ملابس أنزعه وأرتديه حينما أريد، لعلّني أنام في حياتي دون هواجس أو رؤى، ودون تخيّلات أو أفكار..هل كنت أحادث زعيماً؟»
«أظن أنك كنت تحادث ملكاً عن الشر والخير والعدالة والآلهة يا حبيبي»
«آه، هذا الشر سيقتلني يا حبيبتي إن لم أجد له حلاً وأضع له حدّاً»
«لكن بدا لي أنّ هذا الزعيم الذي كنت تتحدث معه كان زعيماً متديّناً»
وراح الملك لقمان يعتصر جبينه بيده.
«أظن أنّه كان ملكاً أو زعيماً من كوكب الأرض. الغريب أنه كان معي هُنا وحاورني كما يبدو في بعض ما يجري الآن، معتبراً أن المليارات من الإنس والجن الذين هُنا ليسوا أكثر من حيوانات، وتمنّى لو أنّه في مقدوره أن يبيدهم من الوجود، الغريب أن هذا الزعيم إذا كان هو فعلاً، كان يقيم في قصوره حفلات مجون لم يشهدها حتّى قصر «هارون الرشيد»!»
وطرحت الملكة نور السماء السؤال الذي يلحُّ عليها:
«وهل يا حبيبي ستبيد آلاف الملايين من البشر وتدمّر نصف الكون كي تقضي على وجود الآلهة الظالمين؟!»
ورفع الملك لقمان رأسه عن كتف الملكة وحدّق إليها متعجّباً:
«هل قلت ذلك حقاً في حُلمي يا حبيبتي؟!»
«أجل!»
«يبدو أنّ هذا الزّعيم استفزّني إلى درجة غير معقولة، فكل ممارساته تتناقض تماماً مع الدين الذي يؤمن به، ومع ذلك يدافع عن مفاهيم هذا الدين بشكل عجيب، ولا يبيح للشعب ما يبيحه لنفسه، بل يطالبه بالإيمان والصلاة وما إلى ذلك، وأجهزة إعلامه تبثّ ستة برامج دينيّة في اليوم، وكأن الآذان الذي يتردد من كل الأحياء خمس مرّات في اليوم عبر مكبرات الصوت، ويقضّ مضاجع الناس في أعمق ساعات النوم ليذكّرهم بالله، لا يكفي! العجيب أن هذا الزعيم لم يصلِّ في حياته إلا أمام عدسات التصوير.
أليس عجيباً أمر هؤلاء الزّعماء وأشباههم من بني البشر؟! لا يقتلني في حياتي أكثر مما يقتلني هؤلاء، وكم أحترم الإنسان المخلص لأفكاره المنسجم مع نفسه، سواء كان متديّناً أو غير متدّين، أمّا هؤلاء فكم أعاني من وجودهم، وللأسف إنهم الأغلبية الساحقة بين بني البشر، بل الأغلبية المطلقة التي تعيش حالة مرعبة من النّفاق والانفصام بين سلوكها العملي وقولها النظري المستهلك، بين ما تبطنه وما تظهره، كم تصادمت مع العديد من هؤلاء في حياتي، خاصّة من الأدباء الذين يحيون حياة فاسقة عاهرة ويخونون زوجاتهم كُلّما أتيح لهم، ويشتمون الآلهة كل ساعة والأنظمة كل دقيقة، لكن ما أن يقرأ أحدهم مشهداً جنسياً في رواية لي أو همسة على الدين أو طُرفة عن الاضطهاد السياسي، حتّى يتحوّل إلى يسوع المسيح، ويشرع في تشريحي على صفحات الصحف السُّلطويّة، ليخرجني فاسِقاً ملحداً متمرّداً أستحق الإعدام! تصوّري أن أحد هؤلاء المنافقين لمّح ذات مرّة في مقالة له إلى ضرورة إعدامي حتى دون محاكمة! وآخر صوّرني أخدِم في كتاب لي القوى المُعادية مما دفع السُّلطات إلى سحب الكتاب من الأسواق ومصادرته، وآخر جرّدني من أدنى حدود إنسانيتي، فادّعى أنني لا أتعرّف على أولادي وأتركهم يكابدون الموت جوعاً، وأن لا شغل لي إلا اللهاث خلف النساء وكتابة الأدب الجنسي، مع أنني لم أكتب في حياتي حتى ولو قصة واحدة غايتها الجنس، والمؤسف أن تكتب بعض هذه الافتراءات في صحيفة اتّحاد الكتاب الذي أنا عضو فيه!!
لا أعرف يا حبيبتي كيف تتأصل النزعة العدوانية وتنمو في نفوس البشر، حقاً لا أعرف»
«استرح يا حبيبي.. استرح لقد تعبت!»
«حقاً يا حبيبتي أنا متعب، متعب جداً، إن نمت عقلي لا يتوقف وإن استيقظت عقلي لا يتوقّف أيضاً، ابحثي لي عن حل، وقولي لي ما العمل، كي أنسى هذا العالم المنافق العدواني والسخيف؟، وأنامَ مرة واحدة في حياتي هادئاً قرير العين؟!»
«سأعمل لك بعد عودتنا إلى المركبة ما يجعلك تنام هادئاً، وإن كنت أشكّ في أن من يطمح إلى إصلاح هذا العالم السّخيف كما تقول، يمكنه أن ينام هادئاً مهما فعلت له»
«ما العمل إذن؟»
«يجب أن تتعاون معي يا حبيبي»
«سأحاول يا حبيبتي إن استطعت»
«لم تجبني عن سؤالي؟»
«أي سؤال؟»
«إفناء الملايين من البشر وتدمير نصف الكون؟»
«آه! هذا إذا وجدت أن ثمة آلهة بهذه الصورة، وعجزت عن تغيير أفكارهم»
«وإذا لم تجد آلهة بالمعنى المادّي لكنّك لم تستطع نزع صورتهم الخياليّة كما هي عليه من أذهان البشر، ماذا ستفعل، هل ستخوض حروباً كي تقنع البشر بأفكارك؟!»
«آه، حتى أنتِ لن تدعيني أرتاح يا حبيبتي، لماذا لا تتركي كُلّ شيء إلى أن تحين ساعته؟!»
«آسفة يا حبيبي، لا أعرف لماذا أنا قلقة كثيراً من هذه المسألة ربّما لأنني خائفة عليك، لن تقدر على مواجهة الآلهة والبشر والجن جميعاً!»
«كل هذه القوى الخرافية التي تحت تصرّفي وبين يدي ولن أقدر؟! كيف إذن قدِر إنسان عادي مثل محمّد على تغيير مجرى التاريخ العربي، وإحداث تغيير نوعي في تاريخ البشرية كلّها، دون أن يكون لديه شيء من هذه القوى الجبّارة التي بين يدي؟!»
«حين مات محمّد لم يكن الإسلام قد خرج من شبه الجزيرة العربية، ولولا أتباع محمد الذين خلفوه، لما انتشر الإسلام يا حبيبي!»
«وأنا قادر على أن يكون لي أتباعي الذين سيكملون الرّسالة من بعدي يا حبيبتي!»
«أنا سأكون واحدة منهم يا حبيبي، سأكون خديجتك الآن، وسيفك المسلول فيما بعد!!»
«سلمتِ يا أعظم ملكة ومليكة قلب! لكن عائشتي من ستكون؟»
«أنا سأكون عائشتك وسودتك وحفصتك وهِندك وزينبك وجويريّتك وصفيّتك ورملتك وماريّتك وميمونتك، فأنا ألم بالفقه والتاريخ والفلسفة والدين وكل صنوف المعرفة مما تعجز كل نساء الإنس عن استيعابه!»
« عظيم! لكن دون قصص صفوانية وأحاديث إفكيّة »
وبدت الملكة مندهشة بعض الشيء وهي تنظر إليه وتتساءل:
«وهل تعرف هذه القصة أيضاً يا مولاي، وأنت لم تعش الأحداث؟»
«قرأتها في قصص التاريخ والأدب والسيرة وحتّى في القرآن يا حبيبتي»
«معذرة يا حبيبي، نسيت أنّكم معشر البشر تؤرّخون لكل شيء وتكتبون كل شيء، وهل يرد اسم صفوان بن المعطل وعائشة والنبي؟!»
وقاطعها الملك لقمان هامساً:
«كل شيء يا حبيبتي، حتى في السيرة النبويّة ترد عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وصفوان بن المعطّل، وحديث الإفك واستشارة النبي لبعض أصحابه، وانزعاج أم المؤمنين عائشة من رأي علي بن أبي طالب إلى أن نزل قوله تعالى وهي في بيت أبيها:
«إن الذين جاءُوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم، بل هو خير لكم، لكلّ امرئٍ منهم ما اكتسب من الإثم، والذي تولّى كبره منهم له عذاب عظيم» إلى قوله تعالى:
«إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به عِلم، وتحسبوه هيّناً وهو عند الله عظيم!»
«وهل يزعجك يا حبيبي أن تسمع عنّي شائعات أو قصصاً من هذا النوع؟!»
واحتدّ الملك لقمان بعض الشيء ونظر إليها هاتفاً:
«اسمعي، أنا في أعماقي أظلُّ عربياً محمّدياً، وجذوري يسوعيّة كنعانيّة وإذا كان حديث الإفك قد أدّى فيما بعد إلى حرب بين علي وعائشة – اتّخذت من دم عثمان حُجّة – راح ضحيّتها أكثر من عشرة آلاف فارس من خيرة فرسان المسلمين، مع أنّ الأول ابن عم النبي وزوج ابنته، والثانية أقرب زوجات النبي إليه، فإن أي مسائل من هذا النوع فيما يتعلّق بي وبك، قد تؤدّي إلى حرب بين كوكبي الأرض والزهرة، أو الأرض وأي كوكب آخر، قد يذهب ضحيّتها الملايين، وراحت الملكة تضحك، فهتف الملك لقمان:
«هل في ما أقوله ما يستوجب الضحِك أيتها الملكة؟»
«معذرة يا حبيبي، لم أقصد!»
«لا تعرفين كم تفجّري في دخيلتي مئات الأسئلة، بصفتك شاهدتِ الوقائع بأم عينك، لكني متعب متعب أيتها الملكة وسأنسى كل الأسئلة إلا سؤالاً واحداً»
«ما هو يا حبيبي»
«بصفتك عايشت زمن محمّد، وشاهدت محمداً، فاحكِ لي عنه، كيف كان، كيف رأيته، كيف أحسست بهِ، كيف كان حضوره، كيف كانت علاقته بالناس، كيف خاض معاركه، أريد انطباعك أنتِ عنه ذلك الوقت، وبصدق، وأنا أعرف أنّك لا تكذبين؟»
«أنت متعب يا حبيبي، ولو حدّثتك عن ذلك بإسهاب لاحتجت إلى زمن طويل، لكني سأختصر لأقول:
كان رجلاً مهيباً، إذا ما أطلَّ، أطلّت مع إطلالته الدّنيا، وخشعت الأرض لوقع خُطاه، وأخفضت الشمس أشعّتها، وأهبّت الريح نسائمها، واكتسحت الظلال السُّهوب، ونطقت الجبال، وغرّدت البلابل، وأشرعت صدرها السلاسل، ورفّت السُّحب، ورذّت الغيوم، وهللت النجوم، وانشرحت الصّدور، وعمّ الحبور، وصفّقت بأجنحتها الطيور، ومادت التلال، وأخصبت الغلال، واستقامت له الطُرق، وهتفت باسمه المغارب والمشارق، وتوقّفت ريح الجنوب عن الهبوب، واستكانت الظّباء، ولجأت إلى أعشاشها الحِداء، وحنّت النوق ومارت بالشوق..
وكان محمد جليلاً، في البِرّ والإحسان أصيلاً، حضوره معك يغنيك، عن حضور البشريّة، ويرضيك، آسر المحضر، خالب المعشر، سميح الوجه، طليق اللسان، ساحر البنان، عالي الجبين، وافر الحنين، مرفوع الهامة، نبيل الشّهامة، سخيّ اليد، بهيّ القدِّ، راجح العقل، صائب الرأي، سديد النأي!!
ليّن وقت اللين، شديد وقت الضيق، مرح وقت المرح، آسرٌ عند التُرح، غاضب وقت الغضب، لا يخاف اللهب. يعرف ما يريد وعن عزمه لا يحيد. لا يهاب الصّدام، يقتحم الزّؤام.
أشجع الرّجال جميل الخصال، أنيس الضّعيف، نصير الشّريف، رفيق الفقير، خصيم الذّليل، محبٌ نبيل، عاشق كبير، يحبّ الجمال، يسمو بالكمال. ظريف المبسم، قوي المعصم، حاسم القرار، عنيد جبّار، يخوض الغمار، كموج البحار، ويقتحم المنايا، وهول الَّرزايا، بقلب جامد، وطودٍ صامدٍ..»
وهنا قاطع الملك لقمان الملكة نور السماء، رغم تمتّعه بهذا الاسترسال في وصف شخصيّة محمد، قاطعها مُقبّلاً شعرها وهو يُردد:
«ما أجمل صِدقك أيتها الملكة، لو أنني وصفت محمداً ما استطعت أن أصفه بهذه الأوصاف»
«ألم تطلب إليّ أن أكون صادقة في نقل مشاعري التي أحسست بها تجاه محمّد قبل ألف وأربعمائة عام ونيّف؟»
«بلى يا حبيبتي»
«هذه الأوصاف مجرّد غيض من فيض يا حبيبي، ولو تركتني أسترسل لما انتهيت حتّى الصّباح من وصف محمّد»
«رغم أنني شعرت أنّي صغير إلى درجة غير معقولة أمام شخصيّة هذا النبي العظيم، إلا أنني أشكرك من أعماق قلبي»
وهُنا لم يصدّق الملك لقمان ما هتفت به الملكة:
«أنت لا تقلُّ عظمة يا حبيبي!»
فهتف الملك لقمان بحدّة:
«لا، أرجوك، لا، لا تقارني شخصيّتي بشخصيّة هذا النبي العظيم»
«قد تكون نبيّاً وأنت لا تدري يا مولاي، فما الذي يمنع الله من إرسال نبيّ جديد في هذا الزّمن الذي ضاعت فيه مفاهيم الأديان، وراح كلُّ واحد يطبّق الدين على هواه؟!»
«ماذا تقولين أيّتها الملكة، اتركي لي كل هذه المسائل إلى أن ألتقي النبيّ أو ألتقي الله، أو ألتقي يسوع المسيح، لا تثقلي دماغي بأكثر مما هو مثقل به، أرجوك!»
«آسفة يا حبيبي»
وأحسّ الملك لقمان بإرهاق شديد، فألقى رأسه من جديد على كتف الملكة، واستكان إلى الصّمت والهدوء وعيناه تُسهمان في الفراغ، وإن كان بَصرُه يصطدم بوجوه الملوك الجالسين في مواجهته، وكان يتمنى في سريرته أن تنتهي هذه الليلة الطويلة.
***

نهض الراعي الأكبر طالباً السّماح بالانصراف، فنهض الملك لقمان والملكة نور السماء لوداعه.
أخذا يُصافحان مُرافقيه، اعتذرا للسيّد شاهل بيل والسيّدة سلمنار عن عدم تمكّنهما من التحدّث إليهما، وأبدى الملك لقمان رغبته في أن يلتقي به كثيراً فيما بعد، وسيدعوه إلى الكوكب الذي سيقيم عليه.
«وهل ستغادر الزّهرة دون أن تعرف كُلّ شيء عنه أيها الملك؟»
«يبدو أنّ المسألة ستطول أيّها العالم، قد أعود إليكم مرّة ثانية لأنني أعجبت بنظامكم، ولا أظن أنني سأجد ما هو أفضل منه على الكواكب الأخرى»
وصافحه معانقاً، وصافح السيدة سلمنار بحرارة، وكذلك فعلت الملكة نور السماء.
هتف الراعي الأكبر، والملك لقمان يحتضن يده بيديه الاثنتين:
«هل حقاً قررت أن تغادر كوكبنا الوديع أيها الملك؟»
«المعذرة أيها الراعي الأكبر، لن أكون في غنى عنكم وعن جمال الإنسان على كوكبكم، لكن المهام التي أوكلت إليّ والتي أوكلتها أنا لنفسي من قبل، أشعر أن كاهلي سينوء بها، إذا لم أُسارع إلى ترتيب الأوضاع والإخلاد إلى الاستقرار، ولن نكون في غنى عن شموليّة معرفتكم وتطوّر الحياة على كوكبكم، وازدهار علومكم، وستجدنا نطلب مساعدتكم بين فينة وأخرى»
«سنقدّم لكم بسرور كل ما نقدر على تقديمه أيّها الملك»
«إن هذا لأملنا فيكم أيها الراعي الأكبر، ونحن لن نتوانى عن تقديم كل ما نستطيعه إليكم»
«أتمنى لك التوفيق أيّها الملك»
«إنّي في حاجة إلى نصيحتك أيّها الراعي الأكبر، فأنا لم أتسلّم سلطة من قبل، حتّى أنني كنت أكره السُّلطات، وأكثر ما أكره الزُّعماء العسكر والملوك، فكيف أن أكون ملكاً!»
«ليست المشكلة في أن تكون ملكاً أو رئيساً أو حتّى نبيّاً أو إلهاً، فما هي إلا تسميات، أوجدها أجدادنا، المشكلة هي أن تعدِل أيّها الملك، ولا تظن أن ثمة كائنات ليست قادرة على تفهّم العدالة واستشعارها وتحسّسها، فهل كان الله ديمقراطياً، حتى بمفاهيم أجدادنا؟ كان يفرض علينا ما يعرفه وما يريده، عبر أنبيائه ورسُله، أو من ادّعوا أنهم أنبياؤه ورسله، وكانت البشريّة بإحساسها ووعيها آنذاك، تدرك أن هذه ذروة العدالة، لأنها منزّلة من الحقّ العدل، الذي لا يمكن أن يكون إلا عادلاً، وعلى هذا الطريق سار الأنبياء والمصلحون، ومن ادّعوا النبوّة والإصلاح، فآمنت البشريّة بهم وبعدالتهم، لأنّهم كانوا في نظرها رسل خير وحق ومحبّة. فأوجد عدالتك بالبحث عن القيم السامية، وإحلال الخير والمحبّة في النّفوس.
عصر النزعات القطرية والقومية والدينية والطائفية، وما إلى ذلك، آيل إلى السقوط، كما آل عندنا وولّى، والعصر القادم هو عصر النزعات الكوكبيّة، وسيمرُّ على الإنسان حين من الدهر ليعرف أنّ النزعة التي يجب أن تسود هي النزعة الإنسانية الروحيّة الكونية، التي توحّد الفرد بالوجود والوجود بالفرد، ليغدو الكّلُ واحداً، والواحدُ كُلاً»
وراح الملك لقمان يشدُّ على يديّ الراعي الأكبر شاكراً ممتنّاً:
«الكلمات لا ترقى إلى التعبير عن جزيل شكري وعميق امتناني لمقامكم العالي أيها الراعي الأكبر»
وتعانقا، وعانقت الملكة نور السماء زوجة الراعي الأكبر.
نهض الملك دامرداس وملوكه عن المائدة، افتقد الملك لقمان ملك الملوك، إذ يُفترض أن يشاركه في توديع كبار الضيوف. ناداه في خياله، قاطعاً عليه متعه، فحضر على الفور مصطحباً زوجته الأولى الملكة «نسيم الريح» والأميرة «ظل القمر» ونهض بعض ملوكه أيضاً للمشاركة في التوديع.
«أين أنت أيها الملك، هل غرقت في مَلذّاتك ونسيت ضيوفك؟ كيف تدع الراعي الأكبر يذهب دون أن تودّعه؟»
«معذرة يا مولاي»
أقبل الملك دامرداس وزوجته الملكة «ظل السَّحاب» صافحهما الملك لقمان بحرارة وهو يتساءل عن سرّ القلادة التي أهديت له، ويعتذر لعدم تمكّنه من التحدّث إليهما مطوّلاً.
«سنلتقي أيها الملك كثيراً، ما عليك إلا أن تطلبني والقلادة في عنقك أو في متناول يدك، لتجدني أمامك، وإذا تريد أن تخاطبني عن بُعد فهذا ممكن أيضاً. وما تطلبه من القلادة وتعجز عنه يمكنك أن تبلّغه إليّ، وهذا الكلام ينطبق على قلادة الملكة نور السماء»
«إني حقاً عاجز عن الشكر أيها الملك العظيم»
وجاء الملك «إبليس» والملكة «بليسة» وفوجئ الملك لقمان بالهدايا السحرية ثانية، فقد أهدياه خاتماً سحرياً يستطيع به أن يستعين بشياطين الكون جميعاً ويطلب الملك إبليس حين يشاء، وأهديا الملكة نور السماء خاتماً آخر تستطيع أن تفعل به كلَّ ما تشاء على كوكب الأرض وأن تعرف أسرار الناس ومشاكلهم وتعمل على حلّها.
أقبل الملك «نذير الزلازل» ملك الجن الزّرق ترافقه زوجته الملكة «هدباء الجفون» وعشرة من ملوكه، أهدى الملك لقمان عصا ذهبيّة سحريّة قادرة على إنزال صواعقَ تحرق الكائنات وتهدم الجبال، وإحداث زلازل وبراكين تدمّر الكواكب، وأهدت زوجته الملكة «هدباء الجفون» الملكة نور السماء خاتماً سحرياً من الياقوت تستطيع أن تنزل بقدرته الأمطار وتقيم السُّدود وتبني الجسور، فشكراهما هي والملك لقمان واعتذرا إليهما عن عدم تمكّنهما من القيام بما يليق بمقامهما العالي.
وما أن انصرفا وأتباعهما من الملوك، حتى نهض الملك «قاهر الموت» ملك ملوك الجن الخضر، وأقبل ترافقه زوجته الملكة «شمس الرّبيع» وعشرة من ملوكه، فصافحاهما بحرارة، وقدّم الملك قاهر الموت، هدية ثمينة للملك لقمان هي عبارة عن خاتم مُطلسم يستطيع بواسطته أن يشفي المرضى ويعيد النّظر إلى الأعمى والسّمع إلى الأصمّ والنطق إلى الأبكم والعقل إلى المجنون والصحّة إلى المسلول وحسن القوام إلى المشلول، وما إلى ذلك من ضروب الأمراض والعاهات، وقدّمت زوجته الملكة «شمس الرّبيع» طوقاً ذهبياً سحرياً ينبت النباتات والأشجار ويخصب الأرض البوار والصحاري والقفار، ويسخّر الحيوانات والطيور لطاعة الإنسان، ويمكّن هذه الكائنات جميعها من النطق بكلام البشر. فشكراهما من أعماقهما وأبديا لهما أسفهما وعذرهما الشّديد لتقصيرهما في الترحيب بظلّهما العالي، واتّفقا على أن يلتقيا فيما بعد. وكانت فرحة الملكة نور السماء بهداياها لا توصف، فما أن انصرف كبار الضّيوف حتى راحت تقفز على قدميها كطفلة، معلنة أنها ستعمّر الكواكب والصحاري وتزرعها بالأشجار المثمرة والنّباتات الطيّبة، وتنشر فيها الطيور والحيوانات، وأنها ستملأ حدائق قصر الزّوجية بالحيوانات والطيور، وزاد الملك لقمان من فرحتها حين أهداها الخاتم المُطلسم الذي يشفي المرضى والعاهات، فطارت من الفرح وسُرّ صدرها وانشرح، وغابت عن بالها تنبؤات الموت والحروب والتُرح وراحت تهتف كطفلة:
«لِم يا حبيبي لمْ تحاول الانتحار منذ زمن طويل كي أتعرّف عليك، وأتزوّجك وأنعم بهذه الهدايا العظيمة؟»
«لو كنت أعرف يا حبيبتي أنني سألتقي حوريّة مثلك لحاولت الانتحار وأنا أحبو»
وأردف الملك لقمان متسائلاً:
«ومع ذلك أشعر أن أياماً طويلة مرّت على محاولة انتحاري، فمنذ متى أنا أعرفك؟»
«منذ الأمس فقط يا حبيبي!»
«أي أمس؟ أمس أهل الأرض أم أمس أهل الزهرة؟ غير معقول أن تكون كل هذه الأحداث التي جرت قد حدثت في أقل من يومين، فالزّمن هنا يختلف يا حبيبتي»
«حتى لو اختلف يا حبيبي، فلم يمضِ على محاولة انتحارك سوى بضع ساعات، لكنها!»
«لكنها ماذا يا حبيبتي؟»
«لكنها يا حبيبي قد تعدُّ بألف ساعة وأكثر مما يعدّون!»
«آها! هذا ما قصدته يا حبيبتي. يا للهول كم من الساعات والأحداث سأشهد إذن قبل أن أموت!»
مثلت صورة الموت ثانية في مخيلة الملكة فهتفت:
«لِمَ العودة إلى الموت ثانية حتى في أجمل لحظات فرحنا؟»
«معذرة يا حبيبتي، ماذا أعمل إذا كانت معظم الهدايا والقوى التي بين يدي لا تجيد إلا الدّمار المرعب؟» فما حاجتي إلى الزلازل والبراكين والصواعق والعواصف والأعاصير؟ ألا يوجد واحد من هؤلاء الجن يمكنه أن يقدّم لي هدية أستطيع بها إصلاح النّفوس، وإحلال المحبّة والخير فيها؟ ألا يوجد من في مقدوره أن يهديني ما يكشف لي سرّ الحياة أو يمنحني روحها كي أهديها للبؤساء والمعذّبين، من يمنحني ما يزيد معرفتي ويعينني على إظهار الحقيقة، ويسهّل لي سبل الحكمة والنّبوغ لأتمكن من تسيير شؤون هذا العالم بشكل أفضل؟»
«بتسخير طاقات هؤلاء الجن يمكنك أن تفعل المعجزات يا حبيبي. أنت حتى الآن لا تعرف ما هو الأثر الذي أحدثه نزع السّلاح وإنزال نفائس الجواهر، في نفوس الضّعفاء والفقراء من أبناء الأرض»
«ربما أحدث أثراً جميلاً، لكنه لم يحدث ما أنشده من بشر يربأون بأنفسهم على الأطماع والضغائن والأحقاد والنّفاق وكل النّزعات الشّريرة والعدوانية»
«الإنسان وجد منذ ملايين السّنين يا حبيبي وأنت تريد تغييره في ساعات، لِمَ لا تتأنّى وتدع التحوّل يسلك مسيرته على مهل وتؤده؟!»
«سأحاول يا حبيبتي»
بزغت الشمس فبدت وكأنها تبزغ من خلف حدود الرّوض الفسيح الذي أقامه ملك الملوك، وراحت تداعب بأشعتها أجساد آلاف الملايين الذين مازال معظمهم يستلقون في كافة أرجاء الروض، نائمين أو يقظين، يتغازلون أو يتحاضنون، يتبادلون العناق والقبلات أو يمارسون الحب!
ألقى الملك لقمان نظرة أخيرة راحت تطوف محلّقة فوق سطح الرّوض مستعرضة توحّد ملايين الأجساد التي رسمت مشهداً أخّاذاً لن تمحوه ذاكرته مدى حياته، لروعة جماله وتفرّده.
أشار بيده فظهرت المركبة الفضائية محلّقة في فضاء الرّوض، يحفّ بها الآلاف من جنود الجنّ، وأشار بها ثانية فانتصب العرش الطائر. لوّح بيده مودّعاً الملايين ممن كانوا يرقبون رحيله، ولوّحت الملكة نور السماء بدورها، فلوّحت الأيدي، ونهضت ملايين الأجساد تلوّح، ونطقت بعض ورود النرجس والجوري والناردين والنسرين، ونباتات الياسمين وعبّاد الشمس والبنفسج هاتفة على مقربة منه ومن الملكة نور السّماء:
«مع السلامة أيها الملك لقمان، مع السّلامة أيتها الملكة نور السّماء!»
نظر الملك لقمان إلى الورود والنّباتات ملوّحاً وابتسامة فرحة تطوف على شفتيه، دون أن يبدو على وجهه أي أثر للدهشة، فقد أدرك أن الملكة نور السماء بدأت تستخدم طاقاتها الخارقة، ثمّ إنّه غدا مهيّئاً لتقبّل أيّة خوارق مهما عظمت، حقيقة كانت أم خيالاً، وسواء كانت تجري في الحُلم أو في الواقع.
قبّلت الملكة نور السماء إحدى ورود النرجس وهي تهتف:
«مع السلامة يا أحلى وردة، يا روح مليكتك»
وضمّت الملكة قبضة يدها وفتحتها ليرتذّ الماء من أصابع يديها على الوردة، ومالبثت أن أشرعت يديها الاثنتين لترذّ الماء على الورود والنباتات المحيطة بها، فراحت الورود تضحك وترتعش وتتراقص منتعشة فرحة، فلوّحت لها الملكة بيديها وصعدت إلى العرش الطائر تحفّ بها بضع فراشات وسبع يمامات!»
صعد معهما إلى العرش الملكة شامنهاز والملك حامينار والأميرة ظل السماء أُخت الملكة نور السماء والأميرة ظل القمر والملكة نسيم الريح زوجة الملك شمنهور، واثنتا عشرة حوريّة من أجمل الحوريّات المائة اللواتي أحضرهن الملك لقمان للرقص، والجنيّات اللواتي صعدن معهم من الأرض، وبعض الجنيّات اللواتي اصطحبهن الملك شمنهور لنفسه.
لوّح الملكان بأيديهما لضيوف الرّوض وهما يَصعُدان إلى المركبة لينتقلا من العرش إليها، ورأيا الراعي الأكبر ونائبه وشاهل بيل وزوجاتهم وبعض أعوانهم يقفون في ناحية من الرّوض ينتظرون إقلاعهما، فلوّحا لهم، فلوّح هؤلاء بدورهم، وكان آخر الداخلين إلى المركبة الفضائية الملك لقمان الذي لوّح تلويحة أخيرة للراعي الأكبر وأبناء الزهرة، وجمع أصابع يده اليُمنى وقبّلها، وألقى بالقبلة إليهم، فبدا كطفل يودّع أبويه..
شرع كلُّ مَنْ في الرَّوض في ارتداء ملابسهم، والانصراف، وإحساس ما يراود الجميع، أنّهم سهروا أجمل ليلة في حياتهم، وأنه يستحيل أن تتكرر مثل هذه الليلة إلاّ إذا كانت على شرف هذا الملك، أو أقامها الملك نفسه!!

* * *
(12)
مساج كوني وحروب كوكبيّة
ما أن دخل الملك لقمان المركبة، حتى أقفلت أبوابها بإحكام وأقلعت ببطء تحفّ بها أسراب الجن المحلّقين.
هتف قائد المركبة:
«إلى أين سننطلق يا مولاي؟»
«كما قلت لك من قبل، إلى كوكب بعيد ذي حياة وليكن خالياً من البشر»
«حتى إذا لم نجد طلب مولاي إلا خارج هذه المجموعة الشمسيّة؟»
«وحتى إذا كان خارج المجموعات كُلّها، لكن إيّاك أن تأخذنا إلى هذا الكوكب الذي صعد إليه ملك الملوك مع ضيوفه وخاض عليه حرباً مع تلك القوى الجبّارة!»
أشار إلى الملكة نور السماء أنّه سيأخذ حمّاماً قبل النوم، فأدخلت معه أربع حوريّات إلى الحمّام، شرعن في تحميمه وتدليك جسده إلى أن لانت أعضاؤه وارتخت. وما أن خرج من الحمّام حتى أدخلته الملكة نور السماء إلى حُجرة نوم تعبق برائحة بخّور النَّد التي أشعلتها فيها. وأضجعته في السّرير على ظهره وطلبت إليه أن يفرد يديه ويسترخي بكل ما يستطيع، ففعل ليغدو كالمصلوب، ثمّ طلبت إليه أن يتنفّس بعمق، بأن يأخذ شهيقاً من أنفه ويزفره من فمه، وأن لا يحاول أن يفكّر في شيء إلا في الشّهيق العميق والزّفير الطّويل، فأغمض عينيه وشرع يتنفّس، فيما راحت هي تمرر أناملها ببطء وخفّة على جسده من أخمصي قدميه إلى منكبيه، وهي تنقر بها وكأنها تعزف على آلة موسيقية، دون أن تكفّ عن الهمس إليه ليستغرق في الاسترخاء والتّنفس العميق. وما لبث الملك لقمان أن وجد نفسه بين أيدي ست حوريّات أخريات يحطن جسده من كل جانب ويشرعن في تمرير أنامِلهن والنّقر بها على جسده. فقد تولّت الملكة نور السماء عُنقه ومنكبيه واثنتان تولّتا صدره وبطنه واثنتان تولّتا فخذيه وساقيه واثنتان تولّتا قدميه، وما لبثن أن أخذن يملّسن على جسده برفق ولين ويمسحنه بروح المِسك، وحين استرخى تماماً وغدا جسده طوع أيديهن، شرعن في تدليكه وهو يتابع التنفس بعمقٍ، وما أن فرغن حتى أشارت إليه الملكة نور السّماء أن يتوقّف عن التنفّس وينقلب على بطنه ويظل مصالباً يديه، فانقلب وقد أحسّ أن جسده غدا خفيفاً.
استؤنِفَت عملية المساج من أوّلها كما حدث لجسده من أمام، فقد بدأت بالتنميل الخفيف الذي راح يُنمّل في جسده إلى أن خدّره ليجد نفسه يغرق في متعة ليس ثمة ما هو ألذّ منها. ثمّ شرعت الحوريّات في سحب أصابع يديه وقدميه وطقطقتها وشدّ أوردة عنقه وظهره وقبض عضلات عضديه وزنديه وربلتي ساقيه، وتدليك فخذيه ووركيه وردفيه وقرص جلد ظهره بخفّة والضغط والفرك بالأنامل على منكبيه والرّبت عليهما بحافّتي اليدين، فأحسّ الملك لقمان وكأنّهن يفصدن جسده ويشرّحن أعضاءَ ه ويسللن أوردتهُ وشرايينه، ومالبثت الحوريّات أن هدَّأن حركة أيديهن ثمّ شرعن يملسن براحاتهن على جسده، فيما صوت الملكة نور السماء يهمس إليه:
«انسَ يا حبيبي، انسَ عالمك الذي جئت منه، وانسَ الكبائر من عالمك الذي أنت فيه، واربأ بنفسك على الصّغائر، واسمُ بروحك فوق الضغائن، ودع الأحقاد للحاقدين والشّرور للآثمين، واهنأ برفيع مقامك ونعيم أيّامك، وليكن الخير أنيس أماسيك والعشق حليف أيّامك والأمل إشراقة فجرك، والمحبّة بزوغ شمسِك والفرح ضوء نهارك.
انسَ يا حبيبي، واخلد إلى نهود تصهل جامحة إلى من هام توحّداً بها وعِشقاً إليها، وتشهِرُ حلماتٍ صارخة تنبض بدفق أكاسير الأبديّة، واسكن إلى أجساد أشرعت سهوبها مدداً لسنابك خيول العاشقين»
وراحت الأنامل تمرّ جارية بلمساتها السحريّة على أنحاء جسده وهمسات الملكة نور السماء تتناهى إلى أسماعه متدفّقة بسحر الكلام العذب الذي ملأ دماغه بالصّور الجميلة، وراح يحثّه على الإخلاد إلى النوم العميق. فنام ليتوقّف دبيب النّمل على جسده ولتنهض الحوريّات بهدوء وتبتعد عنه ليظلّ مستكيناً إلى النوم الممتع.
* * *

تجاوزت المركبة كواكب المشتري والمرّيخ وعطارد وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتّون والمئات غيرها. وراحت توغل في الفضاء البعيد، متجاوزة آلاف الكواكب والنّجوم وقد مرّت عن كواكب كثيرة عليها حياة أو بعض حياة أو بداية حياة، وعن كواكب كثيرة لم تتشكل عليها أيّة حياة بعد. وقد فضّل قائد المركبة التّوغّل بعيداً في الفضاء بدافع الرّغبة العارمة في الاكتشاف، وحين كان يقترب من آخر حدود المجموعة الشمسية لاحت أمامه على شاشة رادار المركبة آلاف الأجرام المنطلقة نحو المركبة من مسافات بعيدة، فأنذر الجن ليستنفروا قُواهم. ونهض ملك الملوك من غفوة كان قد بدأها للتو وهرَع إلى حجرة القيادة، كانت الأجرام تنطلق نحوهم بسرعة هائلة وهي تدور حول نفسها، وقد بلغ حجم الواحد منها ما يقارب ثلاثة أضعاف حجم الكرة الأرضية. أبطأ قائد المركبة من سرعته فيما كان ملك الملوك يرقب الأجرام بدهشة بالغة وما لبث أن هتف:
«سنحتاج لقوى جبّارة لمواجهة هذه الأجرام الهائلة»
فهتف قائد المركبة:
«أظن أنّها كواكب حدث خلل في توازنها فخرجت عن مدارها حول الشّمس، سأحاول تغيير اتّجاهي وأُضاعف سرعتي لأتلافى التصادُم معها»
«حاول أيها القائد»
وغيّر القائد اتّجاه المركبة بنسبة تسعين درجة ليعود إلى التحليق ضمن الفضاء العرضي للمجموعة الشّمسية.
كانت الأجرام تقترب على خط عرض هائل يبلغ مئات السّنين الضوئية، وما أن قطع الرائد مسافة تقارب خمس سنين ضوئية متجاوزاً بعض الكواكب العملاقة، حتّى وجد أمامه عالماً آخر يعجُّ بالكواكب والنجوم والشّهب والنيازك والأقمار والمذنّبات الهائلة متقاربة المسافات فيما بينها، فأدرك أنّه لا جدوى من الاستمرار في هذا الاتجاه دون اللجوء إلى تخفيف السرعة لتلافي التصادم معها.
أحسّت الملكة نور السّماء بالخوف، فهرعت إلى حجرة القيادة، كانت الخطوط التي ترتسم على شاشة قياس السرعة على المسافة تصطدم بأجسام لتتكسّر وترتد منذرة بالأخطار الماحقة.
أشارت إلى القائد أن يبطئ السّرعة ويشغّل أجهزة الاستشعار في الاتجاهات كُلّها، فأبطأ السّرعة إلى حدود مائة ضعف سرعة الضوء.
انطلقت الخطوط في سائر الاتجاهات لتصطدم بأجسام ماعدا الاتجاه العكسي الذي انطلقوا منه من كوكب الزُّهرة.
«لن نعود القهقرى أيها الرائد»
هتفت الملكة وثنّى ملك الملوك.
شرع القائد في إبطاء السرعة شيئاً فشيئاً وهو يرقب خطوط وأجهزة الاستشعار الذاتي في المركبة، إلى أن ارتسمت الخطوط باستقامة في كل الاتجاهات وغطّت الشاشة دون أن تصطدم بشيء. عدّل سير المركبة لتعود إلى الانطلاق بشكل عمودي في اتّجاه الأجرام السيّارة المتّجهة نحوهم.
تساءَلت الملكة:
«ما مدى هذه السرعة؟»
«قرابة تسعين ضعف سرعة الضوء!»
«بهذه السُّرعة لن نجتاز آلاف الكواكب الهارعة نحونا في مئات السّنين الضوئيّة. لا أعرف كيف تكون مركبة مسحورة ولا تحوي جهاز استشعار ذاتي مطلق المسافة»
ونظرت نحو ملك الملوك وهتفت:
«أعِنّا أيها الملك»
فهتف ملك الملوك:
«أنا لا أقتنع بما هو مسحور عن هذه العلوم الإنسيّة! ليس أمامي إلا أن أحمل الجميع على ظهر جنّي وأدعه ينطلق بالسُّرعة الخرافيّة المطلقة، ولن يصطدم بأي كوكب أمامه حتى لو كان هناك بلايين بلايين الكواكب، فهو قادر على تجاوزها مهما قربت المسافة بينهما. فعيناه قادرتان على استشعار المسافات والأجسام مهما بعدت وليستا كمركبتكم الحمقاء هذه!»
«تقصد الاستشعار والتّجاوز أيها الملك؟»
«لا أعرف أيها الرائد كيف يعمل استشعارك هذا، لكن قواي تستطيع أن تكون حيث تريد أن تكون!!»
وتدخّلت الملكة نور السّماء هاتفة:
«وهل نوقظ الملك لقمان وأبي وأمي وأختي وكل النائمين كي ينهضوا وينزلوا من المركبة ليركبوا على ظهر جنّي؟»
«أو يستيقظوا ويطيروا فهم جنٌّ، وأنا سأتكفّل بحمل الملك لقمان!»
«لا أيها الملك، سيكون هذا مرهقاً للملك لقمان وللجميع، لابُدّ من إيجاد حل يُبقينا في المركبة، فالراحة التي تتاح لنا فيها لا يمكن توفّرها على ظهر أي كائن، إلا إذا تتكفّل بإقامة فندق لنا على ظهره!»
«سأفعل ذلك إكراماً لمولاي لقمان!»
«وهل تتكفّل بأن يظل الفندق ثابتاً ولا يتمايل يميناً وشمالاً حسب حركة الجنّي، وربّما ينقلب لنتدحرج كالكرات داخل الغُرف والممرات!»
«لا أعرف أيتها الملكة إذ ليس في وسعي أن أحفر أساسات للفندق على ظهر الجنّي!»
«وماذا لو أحاط الفندق أو المركبة نفسها بدلاً منه بعض الجن وتشبّثوا بها من كلّ جانب كي تظلّ ثابتة بعض الشيء».
«وأين هذا الجني الذي سيحمل على ظهره ثقل الفندق أو ثقل هذه المركبة بحدائقها ومنتزهاتها وغرفها وقاعاتها بالجن الذين فيها والجن الذين سيتشبثون بها من الخارج، ويقطع ملايين السنين الضوئية دون أن يميل أو يتزحزح قيد أُنملة؟!»
«ما العمل إذن أيها الملك؟»
«التدمير، سأرسل جيشاً يتقدّم المركبة بآلاف الأميال ويدمّر أي كوكب أو أي أجسام قد تعترض طريقها!»
«لا أيها الملك فقد يكون عليها حياة، وقد يؤدّي تدميرها إلى اختلال في توازن نظام الكون!»
«الحيوات تملأ الأكوان أيّتها الملكة، ولن يُضيرها تدمير كون منها!!»
«بل سيضيرها كثيراً أيها الملك!»
«إذن تصرّفي أنتِ أيتها الملكة»
وفكّرت الملكة بالخاتم المطلسم الذي أهداه الملك إبليس للملك لقمان، فهو بالتأكيد قادر على حل هذه المعضلة، فذهبت إلى حجرة الملك لقمان وسحبت الخاتم بهدوء مِنْ إصبعه، ولم تكد تملي عليه طلباتها حتى اندفعت المركبة في الفضاء لتنطلق بسرعة تقدّر بألف ضعف مما يمكن أن يتصوّره الخيال الخارق! إذ كانت تتجاوز خلال جزء من ستين من الثانية آلاف الكواكب والنجوم والنيازك المتقاربة فيما بينها والمتباعدة، والتي قد يستغرق تجاوز الواحد منها عشرات السنين الضوئية!!
حين دخلت إلى حجرة القيادة وجدت قائد المركبة يطبق على رأسه بقبضتي يديه ويحدّق هلعاً في الكون المطلق الذي لا يكاد يشعر أنّه يقطعه، ويتجاوز مسافات خيالية فيه، دون أن يستخدم أيّة أجهزة لاستشعار الفضاء أمامه، فيما كان ملك الملوك يقهقه بصوت عالٍ فرحاً بالقدرات الجنيّة الخارقة.
«ماذا فعلتِ أيتها الملكة؟»
وتخوّفت الملكة من أن تقول الحقيقة. بعد أن تنبأ الملك لقمان بالحروب الطاحِنة التي ستنجم بينها وبينه بعد رحيل الملك لقمان.
«استخدمت القوى السحرية للقلادة السّماويّة التي أهداني إيّاها الملك دامرداس»
«هائلة هذه القلادة أيّتها الملكة. إنّها لا تقدّر بثمن، وقد تساوي مملكة من ممالك الجن»
وفيما كانت المركبة تخرج من حدود السماء الأولى وتدخل حدود السماء الثانية، داخلة بذلك مجموعة شمسيّة جديدة، ارتجّت السموات من خلفهم فأبطأت الملكة سير المركبة ونظرت إلى الوراء لترى الكواكب والنّجوم التي تجاوزوها تصطدم ببعضها لتتناثر في ملايين الأجرام وينجم عن تصادمها انفجارات هائلة تهز الكون.
هتف ملك الملوك وهو ينظر عبر منظار سحري:
«لعلّها حرب بين أقوام من الجن»
فهتف قائد المركبة:
«لا أظن، ذلك أيّها الملك قد تكون حرباً بين آلهة أما بين جن، فهذا أكبر من طاقات معظمهم كما أظن فبعض هذه الكواكب والنّجوم قد يتجاوز حجمها ألف ضعف حجم الكُرة الأرضيّة. ولا يمكن إخراجها عن مدارها إلا بقوى خارقة!»
وقالت الملكة نور السماء:
«ألا يمكن أن يكون قد حدث خلل في توازن هذه الكواكب والنجوم فخرجت عن مدارها وراحت ترتطم بالكواكب الأخرى؟»
فقال قائد المركبة:
«ومن يُحدث الخلل في التّوازن إن لم تحدثه الآلهة أيّتها الملكة؟.!»
فهتفت الملكة:
«آمل ألا يؤثّر ذلك على نظام المجموعة الشمسية كُلّه»
فقال قائد المركبة:
«لا أظن ذلك فهذه الارتطامات والصّدامات تجري في جانب صغير من سماء المجموعة»
«ومع ذلك قد تؤثر على ما حولها»
وما لبثت الملكة أن هتفت بهلع:
«ثمة كواكب مسكونة بينها، ذاك كوكب ينشطر إلى آلاف الأجرام المأهولة بالمدن والقُرى، انظروا!»
وراحوا ينظرون من بعيد، كل من كان يقظاً في المركبة أخذ منظاراً سحرياً وراح ينظر..
كان الكوكب المأهول الهائل قد ارتطم بكوكب هائل آخر غير مأهول، فنجم عن ذلك زلزال مدمّر فظيع، تناثر من جرّائه الكوكبان في آلاف الأجرام، التي راحت ترتطم بأجرام وكواكب أُخرى لتنشطر بدورها.
انفصلت قارّات بأكملها عن كواكبها، وقذفت المُدن الكبيرة في الفضاء، وتناثرت القرى في السّماء، وانشطرت المحيطات إلى أقسام، وانهارت سلاسل الجبال، وتفجّرت البراكين، ودمّرت السّدود، واندلعت أعاصير من ماء وريح ونار، وهبّت عواصف راحت تتقاذف الجبال والسّهول والأنهار، الجزر والبحار، الغابات والأمصار، وسط اندلاع الحرائق الهائلة، وتطاول ألسنة النيران، واندفاع الشُّهب، وفيضانات المحيطات، وارتطام القارّات بالمذنّبات، والنيازك بالقرى، والمحيطات بالشّهب، والصّحاري بالغابات، والأنهار بالجبال، والنجوم بالكواكب، والريح بالضّباب، والدُّخان بالعواصف، والمدن بالعواصم، والأقمار بالأجرام، والسّدائم بالغيوم، والغيوم بالقرى، والقرى بالجبال، والجبال بالبشر، والبشر بالنار، والنار بالماء، والماء بالدّم، والدّم بالزّهور، والزّهور بالأشجار، والأشجار بالحيوانات، والحيوانات بالأسماك، والأسماك بالسّفن، والسفن بالموانئ، والموانئ بالقطارات، والقطارات بالحافلات، والحافلات بالعمارات، والعمارات بالجسور، والجسور بالحقول، والحقول بالأجسام، والأجسام بالأعمدة، والأعمدة بالشوارع، والشوارع بالبشر، والبشر بكل شيء، بكل شيء كانت تصطدم أجساد البشر وأشلاؤهم.
كل هذا العالم كان يتصادم وينشطر ليتفجّر ويتناثر، يفيض ويغرق، يعصف ويدمّر، يصعَقُ ويُميت، يحرق ويلتهم، منذراً بفناء الحياة على تلك الكواكب، بل وفناء الكواكب نفسها.
هتف ملك الملوك:
«لم لا نوقظ الملك لقمان ليرى هذه الأهوال الكونيّة؟»
فهتفت الملكة نور السماء بإصرار:
«لا. عملت كل ما بوسعي لأدعه ينام دون أحلام مزعجة، فهل أوقظه لأريه هذه الأهوال الفظيعة؟»
ولم تعد قادرة على متابعة ما يجري في الكون الشمسي الذي خلّفوه وراءهم، فأصدرت أوامرها إلى الخاتم الشيطاني المطلسم، لتنطلق المركبة بسرعتها الخُرافيّة وتوغل في الكون الشمسي الآخر عابرة السماء الثانية، فيما الملكة تتمنى في نفسها ألا تؤثّر الأهوال الجارية خلفهم على كوكبي الأرض والزّهرة.
حين استيقظ الملك لقمان من النوم، كانت المركبة قد قطعت ملايين السّنين الضوئيّة، ومرّت بكواكب مظلمة وكواكب مضيئة.
هتف باسم الملكة نور السماء فسمعته، فأبطأت سير المركبة إلى أدنى سرعة وسلّمت زمامها للرائد وهرعت إليه.
«أين أنت يا حبيبتي؟»
«كنت أقود المركبة يا حبيبي»
«أنتِ يا حبيبتي؟»
«إنما بمساعدة خاتم إبليس الطلسمي»
ونزعت الخاتم وأعطته له.
«ولِمَ اضطررت إلى استخدام الخاتم؟»
«كي تنطلق المركبة بالسّرعة الخياليّة»
«ألم تكن تنطلق من قبل بسرعة خياليّة؟»
«بلى، لكنها كانت شبه محدودة!»
«حتى السرعات الخيالية فيها محدود وغير محدود؟ أين نحن الآن؟»
«نحن نقترب من تخوم السماء الثانية»
«تقصدين المجموعة الشمسية الثانية؟»
«لا أعرف إذا لم نتجاوز سوى مجموعتين شمسيّتين فقط، فقد انطلقنا بسرعات لا يمكن للخيال أن يتصوّرها!»
«وهل يمكن أن نتصوّر منذ متى انطلقنا من الأرض؟»
«لا يمكن تحديد ذلك بدقّة يا حبيبي»
«منذ مليون سنة ضوئية مثلاً؟»
«بل أكثر بكثير يا حبيبي»
«يا إلهي! هل تدركين ماذا يعني هذا؟!»
«أدرك يا حبيبي لأنّ سرعاتنا خياليّة، ولو لم تكن كذلك، لكانت ملايين الحضارات قد انقرضت على الأرض!»
«أواثقة أنتِ من أننا الآن إذا تمكّنا من الاتّصال بالأرض، سنجدهم يتحدّثون عن نزع الأسلحة وما حدَث من معجزات أخرى، أم أن ذلك سيكون قد أصبح في بطون كتب التاريخ المهملة، وربما نجد العكس حسب بعض النظريّات العلمية؟!»
«كيف يكون العكس يا حبيبي؟»
«قد نجد أن البشرية عادت بالزمن ملايين السنين إلى الوراء!!»
«لا يا حبيبي، أنا واثقة أنّ الزّمن على الأرض لم يعد إلى الوراء، ولم يقفز ملايين السنين إلى الأمام، وواثقة من أنّ السّلاح ما يزال على القمر ولم يُبْلِه الزمن حتى ولم يصدأ بعد، وما يزال صالحاً للاستعمال»
«آمل ذلك يا حبيبتي»
«وإذا تريد أن تتفاءل أكثر، سأخبرك أنّ ذلك لم يتجاوز بضعة أسابيع وربما بضعة أيّام»
«كيف عرفتِ؟!»
«لأنه تبيّن أنني حامل منذ بضعة أيام يا حبيبي!»
وهتف الملك لقمان بدهشة:
«نعم؟!»
«ألم تسمع يا حبيبي؟»
«هل هذا يعني أن «سحب السماوات» سيشرّف قريباً؟»
«ربّما بزمن الكون الذي نحن فيه قد يُشرّف خلال أسبوع وربما بعد ساعة!»
وأشرع الملك لقمان صدره فاتحاً يديه على وسعهما لتلقي الملكة نفسها عليه. ضمّها وراح يتقلّب هو وإيّاها على السّرير»
«هل تعرفين يا حبيبتي»
«ماذا يا حبيبي؟»
«طوال عُمري كنت أعتبر الحياة الواقعية حياة سخيفة، لكن بعد أن عشت جماليّات الحياة الخيالية، أكاد لا أجد كلمة مُناسبة في كل قواميس اللغات أنعت بها تلك الحياة الموغلة في الفظاعة!!»
«سنحيلها إلى حياة خيالية يا حبيبي»
«ألا يُفترض أن تكون الجواهر التي أُنزلت على الأرض قد حوّلت حياة الإنس من حياة واقعية بائسة إلى حياة خيالية جميلة بعض الشيء؟!»
«ممكن»
«ماذا سنفعل لأهل الأرض كي ندعهم يحيون حياتنا يا حبيبتي؟»
«سنفعل لهم كلّ ما يريدونه ونقدر نحن عليه، سنحقق كل أحلامهم»
«وهل سنزوّج من يريد منهم حوريّات؟!»
«ولماذا لا يا حبيبي؟»
«والنساء اللواتي يردن حوريين، من أين سنأتي لهن؟»
«من الجن، ويمكن أن نحوّل بعض الشباب إلى حوريين!»
«وإلى ولدان مخلّدين؟!»
«إلى ولدان نعم، أما مخلّدين، فلا يقدر على ذلك غير الله»
«ومن سيحرس هؤلاء الولدان؟»
«يحرسهم من ماذا يا حبيبي»
«ولو يا حبيبتي. أنتِ لا تعرفين أنّ بيننا من يحبّون الولدان أكثر من النساء؟!»
«سيحيون حياتهم بإرادتهم يا حبيبي»
«والشيوخ والعجزة والنساء البشعات، هل في مقدورنا أن نُجمّلهم أو نصغّرهم»
«كل شيء ممكن يا حبيبي!»
«يبدو لي أنّه لم يبق أمامنا إلا القليل كي نمنح البشر الحياة الأبدية، ونقتل الشرّ في نفوسهم، ونحيي الموتى، وبعدها لن يكون إلا المحبّة والسعادة. ولن يكون ثمة مشاكِل على الإطلاق، ألا يمكن أن يتحقق هذا؟!»
«للأسف يا حبيبي، حتى في الخيال لا يُمكن تحقيق كُل شيء!»
«شيء لا يصدّق أليس كذلك؟»
«بل يُصدّق. لأن حياتنا تبقى واقعيّة وليست خيالية يا حبيبي، وإن كانت مُرفّهة أكثر من حياة البشر، ولدينا قدرات خارقة!»
«إذا كانت هذه الحياة واقعيّة فلن يكون هناك أيّ مجال لحياة خياليّة يا حبيبتي!»
«ما رأيك يا حبيبي أن تنهض الآن وتستحم وتأكل وتترك الحياة كما هي، بغض النّظر عمّا إذا كانت واقعية أم خياليّة؟»
«آه فعلاً أشعر وكأنني لم آكل منذ شهر، لكن لم تقولي لي كيف تأكّدت من أنك حامل يا حبيبتي؟»
«لم يأتني دم الطّمث يا حبيبي»
«لكنّ دم الطّمث قد يغيب أحياناً ياحبيبتي، خاصّة وأن الزمن قد تغيّر عليك»
«لا تقلق إذا لم أكن حاملاً سأحمل يا حبيبي»
«لا أريد أن تذهب فرحتنا سُدىً يا حبيبتي»
«سنفرح ثانية، هيّا الآن انهض!»
«سأنهض، لكن كم مضى على نومي؟»
«بالضبط لا أعرف يا حبيبي. فقد مررنا على أزمان وأكوان مختلفة، لكن لم تقل لي هل نمت بشكل جميل بعد المساج؟»
«آه فعلاً، كانت أجمل نومة في حياتي، ومع ذلك حلمت، لكن بعوالم جميلة، يبدو لي أن عقل الإنسان مثل قلبه، إذا ما توقّف توقفت الحياة»
«المهم أنّك لم ترَ كوابيس؟»
«لا، لم أرَ يا حبيبتي، أشكرك»
«أحمد الله يا حبيبي»
«أي إله هذا الذي تحمدينَه؟»
«الإله المنزّه عن الشرور والآثام، المحبّ للخير، الكاره للموت، السّاهر على أبديّة الحياة، الطامح إلى المحبة والساعي إلى خلود البشر وإحياء الموتى!»
«إنه الإله الذي أحلم به يا حبيبتي!»
«وبماذا سأحلُم إن لم أحلُم بما يحلم به حبيبي؟»
وهل يمكن أن يكون هذا الإله موجوداً يا حبيبتي؟»
«لابد أن يكون موجوداً يا حبيبي!»
«أين؟»
«في السماوات!»
«ولِمَ لمْ يقم بأعماله الخيّرة حتّى الآن يا حبيبتي؟»
«ربّما لأنّ الأمر خرج عن يده ولم يعد في مقدوره أن يعيد الأمور إلى نصابها!»
«هذا يعني أنّه إله عاجز يا حبيبتي»
«ليس إلى حد كبير يا حبيبي!»
«كيف؟»
«لأننا لم نقم بمساعدته على تحقيق مآربه»
«وهل هو في حاجة إلى مساعدتنا؟»
«أجل، أظنُّ أنه ينبغي أن نكون معه بقدر ما هو معنا»
«إذا ما وجدت هذا الإله يوماً سأكون معه بكل طاقتي»
«أعرف أن حبيبي لن يتخلّى عن إلهٍ نبيل، وأعاهدك يا حبيبي أن أكون معكما»
قاطعهما صوت قائد المركبة معلناً أن المركبة تحلّق الآن ضمن مدار كوكب هائل مأهول، فأشار إليه الملك لقمان أن يُبطئ سرعة التحليق إلى الحدود الدنيا، لأنّه سيتناول طعامه على شرفة يستطيع منها مُراقبة ما يجري على سطح هذا الكوكب.
* * *

نهض الملك لقمان والملكة نور السماء من السرير. وما أن أخذ الملك حماماً سريعاً حتّى خرج وجلس على شرفة في المسبح. كان الجو نهاراً والشمس ترسل أشعتها من أعالي السّماء، وبدا للملك لقمان وكأنه يحلّق في فضاء كوكب الأرض. أخذ يرقب الكوكب عبر منظارٍ سحري، فيما أخذت الملكة منظاراً وراحت ترقب بدورها.
بدا الكوكب لهما من بعيد يضجّ بالحياة، فقد بدت لهما بعض المدن والقرى، والأنهار والمحيطات والبحار التي تمخرها السفن، وكان ثمة غابات وبساتين وحقول وأناس يعملون، وبدا أن الكوكب بدائي، فلم يكن هناك شوارع حديثة ولا حافلات، بل عربات تجرّها الخيول، ولم يكن هناك مطارات ولا طائرات، ولا أي نوع من الأسلحة الحديثة، كما أن السُّفن التي شوهدت تمخر البحار، كانت بدائيّة. وكان الناس يحرثون الأرض على الثيران والبغال والحمير والحصُن.
أشارت الملكة نور السماء إلى الملك أن يتناول إفطاره، ومن ثمّ سيتابعان النّظر إلى الكوكب، فأشار هو إلى المركبة أن تنزل إلى فضاء الكوكب القريب، ليتمكّنا من النّظر بالعين المجرّدة وهما يتناولان الإفطار.
وفيما كان القائد يهبط بالمركبة فوق سماء بحر كبير، قدّمت الحوريّات على المائدة وجبة من لحم الجداء المحمّر بالسّمن، وحساء الدّجاج، وسلطات من الخس والبندروة والخيار، وبطاطا مقلية، واقريدس وكافيار أسود وحليب ظباء ولبن معز وعصير الفواكه، إضافة إلى النبيذ المعتّق من زمن سليمان.
ولم يكد الملك لقمان يشرب كأساً من حليب الظّباء الذي أدمن عليه بعد أن تذوّقه على الأرض، ثمّ كأساً من عصير الفواكه، حتّى كانت المركبة تجتاز البحر وتدخل إلى منطقة صحراويّة يلفّها الضباب على ارتفاعات متوسّطة وتكثر فيها الجبال والتّلال، فهتف مخاطباً الملكة:
«يا الله ما أجمل الصحراء يا حبيبتي، انظري ما أجملها‍!»
وفيما كانت الملكة تتأمل جمال الصحراء رأت مشهداً عجيباً فهتفت إلى الملك:
«انظر يا حبيبي»
وحين نظر الملك لقمان شاهد جبلاً كبيراً شاهقاً يتسلّقه مئات الآلاف من البشر العُراة يحملون على ظهورهم صخوراً ضخمة ينوؤون تحت وطئتها، وكانت أقدامهم مقيّدة بسلاسل حديدية ثخينة تحدّ من طول خطواتهم، فتوقّفت اللقمة في فم الملك وهو يهتف:
«يا إلهي أي ظلمٍ هذا؟!»
وحين نظر إلى قمّة الجبل شاهد تمثالاً ضخماً بطول ألف ذراع لكائن يشبه البشر. كان محاطاً بسورٍ، وقد نبتت داخل السور الزّهور والورود. وكان حاملو الحجارة يضعونها على قمّة الجبل خارج السور. وقد شكّلت رجماً كبيراً على قمّة الجبل. ومن ثمّ كانوا يعودون أدراجهم إلى أسفل المنحدرات حيث الوادي السّحيق المحيط بالجبل من كل الجهات ليرفعوا الحجارة ويحملوها إلى القمّة، فبدت أفواج منهم وهي تصعد الجبل فيما كانت أفواجٌ أُخرى تنزل منه.. وكان آلاف الحُرّاس من حاملي السِّياط والسّيوف يرغمون الصاعدين والنازلين على السّير في أرتال شبه منتظمة يتخلل واحدها الآخر، ويجلدون الصاعدين على مؤخّراتهم ليسرعوا في الصُّعود ويجلدون المنحدرين على ظهورهم ليسرعوا في النزول.
لم يعد للملك لقمان شهيّة في الطّعام، فأمر على الفور بأن تؤخذ الاحتياطات لأنّه سينزل إلى قمّة الجبل ليُخلّص هؤلاء المعذّبين ويعرف قصّتهم. فرجته الملكة أن يأكل شيئاً قبل النزول، فأعلن لها أنه لم يعد له أي رغبة في الطعام وهو يرى آلام هؤلاء البشر أمام عينيه.
طار الملك لقمان عن الشرفة ليحلّق هابطاً هو والملكة نور السماء، يحفّ بهما جنود الجن، فيما ظلّت المركبة تحلّق في السّماء. وقبل أن يحط الملك على رجم من الصّخور والحجارة الملقاة خارج أسوار ساحة التمثال، خاطب الخاتم المطلسم الذي أهداه إيّاه الملك إبليس، وطلب إليه أن يلهمه هو والملكة نور السماء إتقان اللغة التي يتكلّم بها هؤلاء القوم. وما كاد يطلب إليه الطلب حتّى وجد اللغة تمتثل في دماغه وتدور على لسانه لتنطلق من شفتيه.
وكان الجلاّدون وحاملو السياط قد توقّفوا مندهشين ولم يعودوا يضربون حاملي الحجارة، وراحوا ينظرون إلى هذه القوى الهابطة من السّماء بأعداد هائلة، فيما توقّف حاملو الحجارة في أماكنهم وهم يتمنّون نصرة هذه القوى.
هبط الملك لقمان والملكة نور السماء ووقفا على رجم من الصخّور إلى جانب سور التمثال الهائل الذي كان ينتصب في السماء، وأشار الملك لقمان بيده إلى رجل عجوز أن يطرح الصخرة عن ظهره ويتقدّم منه، فطرح الرجل العجوز الصّخرة عن ظهره وتقدّم حاني الظهر، لأنه لم يكن في مقدوره رفع ظهره لكثرة ما حمل من الصّخور، ووقف أمام الملك لُقمان في حالٍ يرثى لها، فخاطبه الملك بلغته قائلاً:
«السّلام عليكم أيها الشيخ»
فقال الشيخ بلغته:
«وعلى المسلِّم السلام»
«من تكونون أيّها الشيخ.. ولِمَ تحملون هذه الصُّخور على ظهوركم؟»
«نحن معارضة دينية وسياسيّة. عارضنا دين وسياسة الإله داجون ملك كوكبنا، فحُكمنا بالأشغال الشاقّة المؤبّدة»
«هل قلت الإله داجون أيّها الشيخ؟»
«أجل أيّها السيّد»
«لعلّه الإله الذي كانت تعبده بعض شعوب كوكبنا قبل ثلاثة آلاف عام ونيّف؟!»
«أنا لا أعرف آلهتكم ولا أعرف كوكبكم أيّها السيد»
ولم يفكّر الملك لقمان أكثر من ذلك في نوعيّة هذا الإله ومقدرته، فصرخ على الفور بمئات الآلاف من حاملي الصُّخور أن يطرحوا الصّخور عن ظهورهم، وأمر جنود الجن أن ينزعوا السِّياط والسُّيوف من أيدي الجلاّدين والحُرّاس دون أن يضربوهم، وأن يفكّوا السلاسل من أرجل السجناء، وأشار إلى الملكة أن تقوم بإحياء السُّجناء من عاهاتهم، وأن تعالج القروح والجروح من ظهورهم وباقي أجسادهم، وأن تعيد للجميع صحّتهم، ولم تمر سوى لحظات حتّى ألقيت الصُّخور عن الظُّهور ونزعت سياط الجلاّدين وسيوفهم، والتأمت الجروح في الظهور والقروح في الأجساد، واستقامت ظهور العجزة والمسنّين، وارتدى الجميع لباساً يستر عُريهم. وحين شاهد مئات الآلاف من السُّجناء أنفسهم محررين من الصخور ومعالجين من الجروح ومنتصبي الظهور ويرفلون بأجمل الملابس، أشرعوا أيديهم متضرّعين وراحوا يسجدون على الأرض. على قمّة الجبل شرعوا في السّجود، وعلى سفوح الجبل من كل الجهات شرعوا في السجود، وفي أعماق الوادي السَّحيق شرعوا في السجود. حتى الحُراس والجلادين شرعوا في السّجود، معتقدين أن هذا هو الإله الحقيقي وليس الإله الذي يحكمهم، لكن وقبل أن تمسَّ جباه معظمهم الأرض، هتف الملك لقمان بصوت هائل:
«انهضوا! انهضوا أيها الأحرار، فأنا بشرٌ مثلكم، ومكافحٌ مثلكم، إنما كي لا أسجد لمليك أبداً، وكي لا أعظِّم ملكاً أبداً، وكي لا أسجد لإله أبداً، فانهضوا وارفعوا رؤوسكم، واشمخوا بهاماتكم، فليس ثمّة من له حق في استعباد الناس وقد ولَدتهم أُمّهاتهم أحراراً!!»
وتوقّف الملك لقمان للحظات، فهتف الرجل الشيخ:
«عفوك أيها السيّد النبيل، إنّ ما فعلته لنا لا يقدر عليه غير الآلهة، فأخبرنا الصدق من تكون إن لم تكن من الآلهة؟!»
فهتف الملك لقمان بصوتٍ عالٍ كي يسمعه الجميع، فكان صدى صوته يتردد من الأودية السّحيقة المحيطة بالجبل:
«إنّي أقول الصدق أيها الرجال، فأنا بشرٌ مثلكم، غير أنّي رسول الخلاص. رسول الحق، رسول الخير، ورسول المحبّة، وأستعين بقوى الخير من الجنّ والشياطين».
فهتف الرجل بدهشة:
«وهل يوجد أخيارٌ بين الجنّ والشياطين أيها السيد النبيل، فنحن لا نعرف إلا أنّهم أشرار؟!»
«بل العكس أيها الشيخ، إن الجنّ والشياطين أخيار، وليس الأشرار إلا أمثال هذا الإله المتسلّط الذي يحكمكم، ولولا قوى الجن الخيّرة، وقدراتهم الخارقة، لظللتم ترزحون تحت ثقل الصّخور، ولظلّت أقدامكم مصفّدة بالسّلاسل، ولما التأمت جروحكم وقروحكم، ولما استقامت ظهوركم، ولما ارتديتم لباساً جديداً، فلا تلعنوا الشياطين بعد اليوم، ولا تتعوّذوا منهم، إن كنتم تلعنونهم وتتعوّذون منهم. بل اطلبوا لهم المغفرة والمحبّة، وقبول التّوبة من الله!»
فقال الشيخ:
«ومن هو الله هذا الذي تنادي به أيها السيّد النبيل؟»
«إني لا أُنادي به بقدر ما أبحث عنه، لعلّني أجده، إنّه إله يُفترض فيه أن يكره العبوديّة والعبادة والتعظيم والموت، يكره الشرّ والظُّلم، ويحبُّ الخير للبشر، ولكل الكائنات والأكوان، ويسعى لأن يحيا الإنسان حياة أبديّة خالدة!»
«وإذا لم تجده أيّها السّيد النبيل؟»
«إذا لم أجده، فليس هُناك آلهة، سأصعد إلى تخوم السّماء السابعة وإذا لم أجده فلن يكون هُناك إله»
«وإلهنا داجون وأتباعه وأعوانه من الآلهة، ماذا يكونون أيها السيد النبيل؟!»
«قل لي ما هو إلهكم هذا؟!»
«إن التمثال الهائل الذي ينتصب خلفك له، وعرشه هُناك في الأعالي حيث يُقيم مع أعوانه وأتباعه على قمم الجبل العظيم. هو إلهنا ومليكنا، ويقول أنّه من خلقنا وخلق السماوات والأرض التي نقف عليها، وخلق الشمس والقمر والنجوم، وخلق المياه والبحار والمحيطات والأنهار، وخلق النباتات والحيوانات والأشجار، الليل والنهار، وكل ما في الوجود، وهو منزل الأمطار ومسيّر الرّياح ومحدِث الزلازل والبراكين والبروق والرُعود والسُّحب والضّباب وكل شيء!»
«هل هو من قال لكم هذا؟»
«بل رسله الذين ينزلون من الأعالي، وملوكه الذي يعيّنهم علينا، والذين نُرغم على تعظيمهم وتمجيدهم بقدر ما نعظّم اسمه ونمجّده!»
«وأنتم لم تصدّقوا كل ذلك!»
«بل صدّقنا، لكنّا كُنّا نطالب الرُّسل والملوك والولاة، أن يرحمونا، ولا يظلمونا، وأن يعدلوا فيما بيننا، وأن يتيحوا لنا أن نبدي رأينا في شؤوننا، وفيما حولنا قدر الإمكان، وأن يخففوا عنّا وطء طقوس العبادات والصّلوات وتقديم الأُضحيات، وأن يوفّروا المال لبناء المدارس والمستشفيات، وليس لتمجيد الآلهة والولاة وبناء آلاف المعابد»
والتفت الملك لقمان إلى التمثال الضّخم الذي يرتفع ألف ذراع متسائلاً:
«قلت لي أن هذا تمثال إلهكم أيها الشيخ؟!»
«نعم أيها السيد النبيل، وله ملايين التماثيل في كافة أنحاء الكوكب»
«كم عدد سُكان كوكبكم أيها الشيخ؟!»
«ثلاثة عشر ملياراً أيها السيد النبيل!»
«وهل تعيشون في دولة واحدة؟»
«لا أيها السيد نعيش في ألف مملكة، وكل مملكة يحكمها ملك معيّن من قبل الإله والملك الأعلى داجون»
«وما اسم كوكبكم؟»
«اسمه كوكب داجون على اسم الإله أيها السيد النبيل»
«وماذا يعني اسم داجون هذا بلغتكم؟»
«يعني الإله كُلّي القدرة أيها السيد»
وأمر الملك لقمان جنياً أن يقطع رأس التمثال ويحضره له. فأخذ الجنيّ الرأس بين يديه، وضغط عليه من ناحية الكتف ليكسره من أعلى العُنق، وكأنه يقسم خيارة! حمله الجنيّ ووقف أمام الملك لقمان، فمدّ الملك يديه ليأخذه فأخبره الجنيّ أنه ثقيل جداً، فراح الملك يتلمّسه فيما الشيخ يهتف بذعر:
«إني خائف عليك أيها السيد النبيل من أن يضربك الإله داجون بإحدى صواعقه الهائلة لأنك قطعت رأس تمثاله!»
وطفق الملك لقمان يضحك وهو يأمر الجنيّ أن يقذف الرأس أمام قدمي الشيخ:
«خذ أيها الشيخ المكافِح، هذا هُو رأس تمثال إلهك كُلّي القدرة، تساعد أنت ورفاقك ودحرجوه من قمّة الجبل إلى الوادي السّحيق الذي تحملون الحجارة منه، فهو إله دجّال متسلّط، ولو أضمن ألا ينعتني البشر بالظّلم، لأحضرت إلهكم إلى هذا الوادي، وحكمت عليه بحمل رأسه والصّعود به إلى القمة والعودة به إلى الوادي ليكرر ذلك مدى حياته!»
وراح الشيخ ورفاقه يتعاونون على دحرجة الرّأس إلى أن بلغوا به أعلى السَّفح، فأفسح آلاف السجناء له طريقاً بينهم كي يتدحرج من أعلى الجبل بين صفّين من السّجناء، ورفع الجميع أيديهم وهتفوا بأصواتهم:
«عاشت الحريّة، تسقط العبوديّة»
وما أن استقرّ الرأس في الوادي السّحيق وتوقّف آلاف السّجناء عن الهتاف حتّى عاد الشيخ ليقف أمام الملك لقمان وقد اندفع خلفه آلاف السجناء وراحوا يقتربون ليروا الملك لقمان والملكة نور السّماء، فأحاطوا بهما من كل جانب. رفع الملك لقمان يده ليوقف تدافع السجناء من حولهما، فتوقّفوا، فخاطب الشيخ:
«قل لي أيها الشيخ، أين يقع عرش إلهكم داجون هذا؟!»
«يقع على بعد لا يقلُّ عن مائة ألف كيلو متر ناحية الشمال أيها السيد النبيل»
«سأذهب لأخلّصكم منه ومن أعوانه وأطيح بكل ملوكه وولاته، وآمل أن تجروا انتخابات فيما بينكم وتنتخبوا مجلساً يحكم كوكبكم بالعدل والخير والمحبّة، وسأعيّن راعياً من أعواني يساعدكم على تحقيق غاياتكم إذا ما دعت الضّرورة»
«إننا لعاجزون عن شكرك أيها السيد النبيل، وإنا لنأمل ألا تغادر جهنّم قبل أن تساعدنا على إطلاق سراح جميع المعذّبين والسّجناء!»
«هل قلت جهنّم أيها الشيخ؟»
«نعم أيها السيد النبيل، فهذا الجبل الكبير لا يشكّل أكثر من رقعة صغيرة لا تذكر في قارّة صحراويّة تبلغ مساحتها عشرات الملايين من الأميال وهي جهنّم التي يعذّب فيها إلهنا مخالفيه ومعارضيه والخارجين على طاعته وغير المتقيّدين بسننه وشرائعه المطبّقة في الممالك الألف!»
وأطرق الملك لقمان للحظة متعجباً وما لبث أن هتف:
«سأفعل أيها الشيخ ولن أغادر كوكبكم وفيه سجين أو معذّب»
وأمر الملك لقمان بتكسير أعضاء التمثال وقذفها بعيداً في كل الاتجاهات، فصعد إليه أربعة من الجن وقذفوا باليدين والرّجلين وباقي الأعضاء من الأعالي لتسقط في الأودية البعيدة، وسط هُتاف السُّجناء الذي راح يتردد من كل أرجاء الصحراء.
أشار الملك لقمان بيده، وهتف مودّعاً السجناء:
«السلام عليكم أيها الشيخ، السلام عليكم أيّها الأحرار»
فهتف الشيخ قبل أن يجيب:
«وهل سينصرف السيد النبيل دون أن يعرّفنا على اسمه؟»
«اسمي لُقمان أيها الشيخ، وحرفتي أديب، غير أنّ بعض ملوك الجن نصّبوني ملكاً أعلى عليهم»
وهنا انحنى الشيخ وحاول أن يسجد حين وجد أنّه أمام ملك، فسارع الملك لقمان بمساعدة أحد الجن إلى إنهاضه وعدم السّماح له بالسُّجود:
«إيّاك والسُّجود أو الرّكوع أو الانحناء أيها الشيخ، فهذا ممنوع في أعرافي كما أعلنتُ لك»
«ألن تسمح لنا أيها الملك النبيل بإقامة بعض التماثيل لك في مدننا، كي نُخلِّدُ ذكراك؟!»
«وهل حطّمت صنم إلهكم كي تقيموا صنماً لي أيها الشيخ، أقيموا التماثيل للمبدعين والعظماء بينكم قبل أو بعد رحيلهم عن الحياة»
«وكيف سنتعبّد إليك ونتقرّب منك؟!»
«يبدو أنك لا تعي ما أقوله لك أيها الشيخ»
«بل إنني أعي، لكنّنا أمم اعتادت التعبّد والسُّجود والرّكوع للآلهة والملوك والولاة. الذين أذاقونا الألم والعذابات، فكيف لن نتعبّد أو نتقرّب إلى من وهبنا حُرّيتنا وأعاد لنا صحّتنا وكسانا؟!»
«من أراد منكم أن يحبّني أيها الشيخ فليحبّني بنفسه ولنفسه وفي قلبه، وألا يهتف باسمي أمام الناس، وألا يطلب إلى غيره أن يحبّني وألا يُرغم أحداً على محبّتي، وغير ذلك سيكون مغضباً لي أيها الملك. من أراد أن يحبني فليُخلِص في عمله، ويسمو بإبداعه ويعتني بحقله، ويحرث أرضه، ويسعى إلى المعرفة ويشجّع العلم ويطوّر العلوم، ويعمل من أجل أخيه بقدر ما يعمل أخوه في البشرية من أجله، ويحب الناس، ويقتل الشرّ في نفسه، فهو بذلك يتقرّب منّي ويتعبّد إليّ ويزرع محبّتي في نفسه، وأزرع محبّته في نفسي»
ورفع الملك لقمان يده مُحيياً وانطلق هو والملكة نور السماء، فارتفعت أيدي السجناء ملوّحة ودمعت عينا الشيخ وهو يلوّح ويهتف من أعماق نفسه لنفسه:
«لو أنّ لي ألف قلب لعلّني أقدر على اختزان حُبّي لك أيها الأديب العظيم والملك النبيل المُحب»
انحدر الملك لقمان محلّقاً هو والملكة نور السماء ليهبطا متجاوزين سفوح الجبل الكبير، وليعبرا الوادي السّحيق، وقد انحدر خلفهما مئات الآلاف من السّجناء وراحوا يعدون وكأنهم يأملون اللحاق بهما، فنظر الملك لقمان نحوهم مرة أخرى، فأشفق عليهم أكثر من ذي قبل حين أدرك أنهم فقراء ولا نقود لديهم، فلوّح بيده للمرة الأخيرة مودّعاً، وأومأ بحركة منها فأمطرت السماء عليهم ماساً وذهباً، فتوقّفوا عن الجري وأخذوا يجمعون الذّهب والماس!.

* * *
(13)
جهنم الإله داجون!

اجتاز الملك لقمان والملكة نور السماء منطقة الجبل الكبير بأوديتها السحيقة وقلاعها الصخرية، تحفّ بهما أسراب الجن، والمركبة تحلّق على ارتفاع منخفض خلفهما. وفيما هما يحلّقان فوق جبال وتلال شاهدا وادياً هائلاً يلفّه ضباب كثيف ودخان خفيف فانحدرا إليه.
كان الوادي طويلاً وعريضاً يختفي امتداده في المنعطفات فلم يريا إلا أوّله حيث بدا فيه عشرات الآلاف من النسوة العاريات يراوحن وهنّ واقفات في أماكنهن على جمرٍ متّقد، وقد علا صُراخهن وتأوهاتهن وأنينهن من شدّة الألم الذي كان يحدثه حرق الجمر لأقدامهن وهُن يراوحن عليه. وسط صفّين منتظمين متقابلين على سفحيّ الوادي من النسوة السجّانات اللواتي كُنّ يقفن ويلوّحن بسياطهن بالغة الطول. ويهتفن إلى النسوة بصوت موحّد ذي إيقاع سريع «تك تك تك تك تك تك» أي «أسرعن أسرعن أسرعن» وكُلّما انهارت قوى امرأة ووقعت فوق الجمر كنّ يمطرن جسدها بالسّياط.
لم يحتمل الملك لقمان ما رأى، فأمر على الفور بأن يجري نهر فُرات باردا في الوادي، وأن تنتزع السياط من أيدي آلاف السّجانات. فاندفعت مياه نهر غطّت سيقان النساء إلى منتصفها، وكلّما اجتاح السيل أقدام آلاف النسوة طفقن يتأححن ويتأوّهن من برودة الماء، وهنّ يتراقصن ويتقافزن فرحاً في الماء، وما أن يرين موكب الملك لقمان قادِماً محلّقاً فوق السيل حتّى يصمتن، وينظرن مشدوهات، ثم يَسجُدن، فيصرخ الجن بهنّ ألا يسجدن، فيما كانت الملكة نور السماء تسخّر قواها لمعالجة حروق أرجلهن، وإشفاء أمراضهن وإعادة النضارة إلى أجسادهن وخلع الملابس الجديدة عليهن.
ظلّ موكب الملك محلّقاً فوق السيل والملك والملكة يتابعان تدفّقه واندفاعه واجتياحه لسيقان النّسوة، وإطفاءه للجمر المتّقد، الذي كان يطشُّ وينبعث منه دُخان ورماد، فيما وقفت السجّانات مشدوهات على سفحي الوادي وقد نُزعت منهن سياطهن.
وحين كان موكب الملك يجتاز النّسوة كُنّ يشرعن في الزّغاريد والابتهاج والهتاف للحرّية بعد أن منعهن الملك من السجود.
وحين قطع الملك لُقمان قرابة خمسين كيلو متراً في الوادي وهو يحلّق فوق السيل مُرافقاً اندفاعهُ، وتخليص مئات آلاف النسوة من العذاب، أدرك أن الوادي ما يزال طويلاً بمنعرجاته ومنعطفاته، فأمر ماء النّهر بالإسراع أكثر كي لا يتحمّل وزر عذابات النسوة اللواتي سيتأخر اندفاع السّيل في الوصول إليهن. فأسرع السيلُ من جريانه إلى حد أنّه أخذ يُطيح ببعض النسوة حين يدهمهن، ولما رأى الملك لقمان أن بعض النسوة يتألمن بعد وقوعهن أمر النّهر بأن يخفف جريانه وأن تسبقه سحابة ممطرة تمطر على النسوة، وأن يسبقه جنود الجن لنزع سياط السّجانات، فانبثقت سحابة أمام الملك فوق الوادي، ساقتها ريحٌ قوية بعض الشيء وراحت تهطل المطر على أجساد النسوة المعذّبات، فيما اندفع جنود الجن أمام موكب الملك ينزعون سياط السّجانات.
وكان الملك شمنهور والملك حامينار والملكة شامنهاز ومئات الجن الآخرين يتبعون موكب الملك ويرقبون أفعاله وأفعال الملكة نور السماء من شرفات المركبة الفضائية، وهم يتعجّبون لأفعاله، ويلمسون كيف دفعه نبله إلى النزول على الكوكب لتخليص المعذّبين، على أن يتابع رحلته في الفضاء، وتمنى الملك في سريرته ألاّ تطول رحلة الخلاص على هذا الكوكب، وأن لا يكون هُناك كواكب أخرى تعترض طريقهم ويحتاج مواطنوها إلى خلاص، كي يصل الملك لقمان إلى غايته، أو بعض غاياته في العثور على كوكب يمكنه الاستقرار عليه ليتفرّغ لهموم كوكب الأرض وهمومه السّماوية الأخرى.
ظلّ الموكب محلّقاً في الوادي، يواكب اندفاعة السيل وتسبقه السّحابة الماطرة، إلى أن قطع فيه أكثر من مائتي ميل دون أن يصل إلى نهايته، وظنّت الملكة نور السماء أنّه تعب من التحليق في هذا الوادي الطّويل، فهتفت إليه:
«هل تعبت يا حبيبي؟»
فهتف الملك لقمان متسائلاً:
«تعبت؟ إني يا حبيبتي لم أشعر بمتعة كهذه في حياتي، تغمر نفسي بالطمأنينة وتملأ قلبي بالعزّة وتجعل جسدي ينتشي غبطة وفرحاً وأنا أرقب الآلاف المؤلّفة من المعذّبات يتخلّصن من عذابهن الفظيع»
وكان الآلاف من العاملين والعاملات في وادي الجمر هذا يقفون على السّفوح المحاذية للوادي، يرقبون ما يجري وهم في غاية الدهشة ولا يلوون على شيء.
بلغ موكب الملك نهاية الوادي، وكان طوله قرابة خمسمائة ميل، وقد خلّص فيه من المعذبات قرابة مائتي مليون معذّبة.
استدار الملك لُقمان والملكة نور السماء وتوقّفا في سماء الوادي على ارتفاع منخفض، ليريا مئات الآلاف من النسوة اللواتي بدَون لهما قبل أن يلوذ امتدادهن خلف منعطفات الوادي وتعرّجاته. أشار الملك لقمان إلى امرأة أن تتقدم نحوه، فتقدّمت تتبعها مئات النسوة، وتوقّفت على مسافة منه:
«هل لي أن أسألك عمّا فعلتنّه أيتها السيّدة حتى أحلّ إلهكنّ بكنّ كلَّ هذا العذاب؟!»
«إني خجلة من أن أتفوّه بإثمنا أمامك أيها الإله العظيم»
«أنا لست إلهاً أيتها السيدة، أنا ملك ولا تخجلي من أن تقولي لي أيّ شيء»
وطأطأت جميع النسوة رؤوسهن فيما المرأة تهتف:
«أستميحك عذراً أيها الملك العظيم، فنحن من الزانيات والعاهرات، الزانيات اللواتي أحببن وزنين دون زواج، والزانيات اللواتي خنّ أزواجهن حين اكتشفن أن أزواجهنّ يخونونهن، والعاهرات اللواتي دفعهن فقرهن إلى بيع أجسادهن بأثمان بخسة، ليعِلْن أنفسهن وأولادهن. حكم علينا الإله داجون بالعذاب الأبدي، وكلّما احترقت أقدامنا عولجت لنتابع رحلة العذاب الطّويلة، ومن قضت نحبها تحرق جثّتها في محرقة جهنّم»
«وأين هي محرقة جهنّم هذه أيّتها السيدة؟»
«إذا ما طرتَ في اتجاه الوادي عشرات الأميال، ستجدها أمامك أيها الملك العظيم»
«والرّجال الذين زنيتن معهم أين يعاقبهم إلهكنّ داجون؟»
«الرجال لا يُعاقبون في شرع إلهنا، يؤنَّبون فقط أيها الملك العظيم»
وهزّ الملك لقمان رأسه أعلى وأسفل وهو يبتسم ساخراً ويهتف إلى الملكة:
«أي إله ذكوري هذا؟!»
ثم نظر إلى المرأة والنساء من خلفها وهو يحرّك يده ويهتف:
«ارفعن رؤوسكن أيّتها النسوة»
فرفعت النّسوة رؤوسهنّ.
«أجسامكن حق لكنَّ، وفروجكنّ مُلك لكنّ، فهبْنها لمن تحببن، وامنحنها لمن تُرِدن. اذهبن إلى حيث تشأْن، فأنتنّ طليقات، وارفعن رؤوسكن بين النساء والرجال وكل الأمم»
وأشار الملك لقمان بحركة من يده، فأمطرت السماء ماساً وذهباً عليهنّ. وطلب إلى الملك حامينار أن يترك أحد أعوانه ليرشدهنّ إلى مبادئ الحياة الجديدة على كوكبهن.
وارتفع موكب الملك ليحلّق في الفضاء، وحين أحسّ أنّه تعب قليلاً من الوقوف في الفضاء، أمر بأن يُنصب له عرش طائر. فانتصب عرش عليه أريكتان مُريحتان وجلس عليهما هُو والملكة.
أخذ الموكب يقطع الفيافي والقفار باحثاً عن محرقة جهنّم، وعبثاً حاول الملك لقمان أن ينسى عذابات أبناء الأرض حين أيقن أنّه سيتأخر على هذا الكوكب لبعض الوقت، وقد تعترض رحلته كواكب أُخرى تحتاج إلى إنقاذ من حالات العذابات هذه.
أحسّت الملكة بقلقه فتساءلت فأخبرها، فهتفت:
«مُرني يا حبيبي بما تريد أن تفعله على كوكب الأرض وسأنفّذه في الحال، وسأسخّر قواي والقوى الجنيّة المهداة إليّ لتنفيذ ذلك»
فأطرق الملك لقمان غامراً وجهه براحتي يديه، وشرع يتنهّد بعمق، وطفق يتكلّم دون أن يرفع يديه عن وجهه:
«أرسلي رسلك إلى كل السُّجون. كل السّجون على كوكب الأرض أرسلي رسلك إليها، وأطلقي سراح كل السجناء، كل السجناء أطلقي سراحهم: السُّجناء السياسيين والسجينات السياسيّات، السُّجناء القتلة والسجناء اللصوص والسجناء الزّناة، والسجناء المرتشين، والسجناء المستغلّين، والسجناء الجشعين، والسجناء المهرّبين، والسجناء المقامرين والسجناء النصّابين والسجناء الجواسيس، كل السجناء والسجينات أطلقي سراحهم، واطلبي إليهم أن يستقيموا في حياتهم، وأن يحبوا الناس ويقتلوا الشُّرور والآثام في أنفسهم، وبلّغيهم كلَّ مبادئي، كي يتقيّدوا بها ولا يضطروني يوماً إلى التفكير في السُّجون ثانية لمعاقبة المذنبين. وإيّاك واستخدام العُنف مع السَّجانين. عامليهم بلطف، فهم الآن بلا سلاح، وآمل ألا يكونوا قد سُلّحوا بالسّيوف والسّياط والسكاكين!
«وإلى المستشفيات، إلى كل المستشفيات على كوكب الأرض، إلى ملاجئ العجزة، وإلى مستشفيات الأمراض العقلية ومستشفيات الأمراض النّفسية وروضات المعاقين، أرسلي رسلك، وأعيدي النطق إلى الأبكم، والسّمع إلى الأصم، والبصر إلى الأعمى، والأرجل إلى المقعد، والأيدي إلى الأكتع، والظّهر إلى الأحدب، والاستقامة إلى الأحنف، والذاكرة إلى من فقدها، والعقل إلى المجنون، والأعصاب السليمة إلى مرضى الأعصاب، والسويّة إلى النفوس المدمّرة.
أشفي جرحى ومشوّهي الحروب، ومرضى السّرطان والقلب والرّئة والكبد والمعدة والأمعاء والكلى والبنكرياس والرحم والخصيتين وكل الأعضاء التناسلية عند الذّكور والإناث، ومرضى الأسنان والأذن والدماغ والحنجرة والجلد وكل الأمراض، من كل الأمراض أشفي جميع الناس في كل المستشفيات وفي كل مكان على كوكب الأرض، في القرى والمدن والعواصم. في الحقول والأرياف والصحاري والبوادي، في خيم البدو وقوافل الغجر وبيوت الفلاّحين وقصور الأغنياء.
وازرعي يا حبيبتي، ازرعي كل الصحاري والجبال الجرداء على كوكب الأرض، ازرعيها بالأشجار المثمرة والأشجار غير المثمرة، والنباتات، وشقّي فيها الأنهار، صحاري وجبال آسيا، وصحاري وجبال أفريقيا، وصحاري وجبال أوروبا، وصحاري وجبال الأمريكيتين وأستراليا. لا تنسي صحراء النقب وصحراء سيناء والبادية الأردنية، وبادية الشام والصحراء الغربية، والرّبع الخالي ونجد وشمّر والإحساء والنّفوذ، وأراضي الخليج العربي كلّها، والصحراء الليبيّة وصحراء الجزائر، وصحارى العراق. وفي استراليا ازرعي الأشجار وشقي الأنهار في صحراء الإقليم الشمالي والصحراء الرّملية الكبرى، وصحراء أستراليا الغربية وصحراء جبسن.
وأريد يا حبيبتي أن تمدّي جسوراً في السماء تربط عواصم ومدن العالم واحدتها بالأخرى، لا أريد أن تبقى عاصمة في العالم معزولة، أريد جسوراً للحافلات، وجسوراً للقطارات، وجسوراً تهبط فيها الطائرات. فوق الأنهار أقيمي الجسور، وفوق البحار أقيمي الجسور، وفوق المحيطات أقيمي الجسور، وفوق الصحاري أقيمي الجسور، وفوق المناطق القطبية والمتجمّدة أقيمي الجسور، وفوق الجبال أقيمي الجسور وفوق المناطق الثلجية أقيمي الجسور. وحين تفرغ قواك، وينتهي رسلك من إنجاز هذه المهام أخبريني»
وفيما كان الملك لقمان يصدر تعليماته، كانت الملكة نور السماء تصدر الأوامر لقوى الجن لتحشدها في السماء، وما أن انتهى من توجيهاته حتى كان الفضاء يعج بمليون حوريّة جنيّة يرتدين الملابس البيض، سترسلهن لإشفاء المرضى والعاهات والمعاقين، ومليون جندي لإطلاق سراح السُّجناء، وخمسة ملايين معماري لإقامة الجسور، وخمسة ملايين لاستصلاح الصحاري والجبال وشق الأنهار.
احتشد الاثنا عشر مليوناً من هؤلاء في أفواج منتظمة، فحجبوا الشمس وسدّوا الأفق من أقصاه إلى أقصاه وعمّت الظّلال مناطق شاسعة من كوكب داجون، وكان مرافقو وحرّاس الملك لقمان يحلّقون على ارتفاع منخفض تحت هؤلاء. وحين فرغ الملك لقمان من تعليماته رافعاً يديه عن وجهه، أخذت الملكة نور السماء تصدر أوامرها التنفيذية وتدلي بتعليماتها بلغة التخاطر الجنّي. فيما أخذ الملك لقمان يُمتّع أنظاره بأفواج الجن التي ستحمل الخير إلى الأرض.
أنهت الملكة نور السماء إصدار أوامرها وإملاء توجيهاتها وأشارت بحركة من يدها فأخذت أفواج الجنّ تختفي فوجاً إثر فوج، وكان أوّل الأفواج المختفية فوج ملائكة الرّحمة من حوريّات الجن الذي سيعيد الصحّة السليمة والأجساد القويّة إلى كافة أبناء الأرض.
وحين اختفت الأفواج كلّها هتفت الملكة:
«هل رضيت نفس حبيبي الآن؟»
تنهّد الملك لقمان وقبّل الملكة على شعرها:
«أشكرك يا حبيبتي، أظن أنّ همومي ستهون بعد اليوم، لكن هل لهؤلاء الجن قادة يستطيعون أن ينظّموا العمل ويوزعوا القوى على قارات ودول ومدن وصحاري ومحيطات وبحار وأنهار الكوكب؟!»
«طبعاً حبيبي، ولن يتركوا مستشفى أو مريضاً في أيّة بقعة من الأرض دون الوصول إليه»
«وهل سيكونون ظاهرين يا حبيبتي؟»
«نعم يا حبيبي كل هؤلاء الحوريات والجن سيكونون ظاهرين في شكلهم الإنسي الأجمل!»
«وماذا سيجيبون الناس حين يسألونهم من هم؟»
«سيقولون أنّهم من الجن وأنّهم رسل رسول الخلاص الملك لقمان و..»
وقاطعها الملك لقمان قبل أن تكمل:
«يا إلهي هذا يعني أن البشريّة ستعرف الآن من هو وراء رسل الخلاص هؤلاء!»
«وماذا في الأمر؟ يجب أن يعرفوا يا حبيبي»
«ولماذا يجب أن يعرفوا كنت أفضّل أن أبقى مجهولاً، ياليتك قلتِ أنّهم رسلك فقط»
«لقد قلت لهم ذلك أيضاً»
«هذا أفضل، على الأقل سيكون رسل الخلاص اثنين بدَلاً من واحد»
«لا، بل بلايين يا حبيبي وأنت زعيمهم وأنا زوجتك»
«معك حقّ! لأن القوى التي تعمل تحت إمرتنا الآن أصبحت مؤمِنة بنا وبرسالتنا، رغم الاختلاف الديني»
«بل رسالتك يا حبيبي ونحن لسنا أكثر من مؤمنين بها»
«وماذا عن الله؟»
«لم أخبرهم أن يقولوا شيئاً عن الله، الجن المسلمون سيقولون أنّهم مسلمون، والجن المسيحيّون سيقولون أنّهم مسيحيون، والجن اليهود سيقولون أنّهم يهود»
«هل يوجد يهود أيضاً بين الجن الذين أرسلتيهم؟»
«أجل يا مولاي، فثمّة جن كانوا يعبدون يهوه قبل زمن سليمان ومايزالون»
«وهل هناك من يعبد إيل وبعل وعشتار ورَعْ؟!»
«بالتأكيد يا حبيبي، وإن كان مفهوم الآلهة قد تغيّر عند بعض الجن حسب مفاهيم الديانات والأفكار الرّوحيّة والفلسفيّة اللاحقة»
«لعلَّ بعضهم تأثّر بزرادشت وبوذا وكونفوشيوس أيضاً؟»
«بالتأكيد يا حبيبي»
«لماذا لم تخبريني هذا من قبل؟»
«أخبرتك يا حبيبي أننا تأثرنا بكل الأديان وعبدنا مئات الآلهة»
«لكن لم تقولي لي أنّه مايزال بين الجن من يعبدون هذه الآلهة»
«يا حبيبي، هل نسيت أن آلاف آلاف الملايين من الجن الحُمر لم يسلموا إلا على يديك بعد إسلام الملك شمنهور؟!»
«وماذا كانوا قبل ذلك يا حبيبتي؟»
«كانوا يهوِيين وإيليين وبعليين وداجونيين وعِناتيين وعشتاروتيين وآنيين ومردوخيين ورعويين وأوزيريسيين وأدونيسيين وزيوسيين وغير ذلك!»
وشُدِهَ الملك لقمان وكأنّه يعي ذلك لأول مرة:
«يا إلهي! آمل ألا أجن قبل أن أعرف أين أنا ومن أنا وماذا أُريد وكيف سأحقق ما أُريد»
«اطمئن يا حبيبي لن تُجنّ»
وسمعا صوت ملك الملوك يهتف من علٍ:
«مولاي انظر يا مولاي، هل نسيتما أنّكما تحلّقان فوق أرض جهنّمية؟!»
فهتف الملك لقمان:
«لا لم أنسَ أيها الملك، كنت قد أوكلت بعض الجنود بمراقبة الأرض وإعلامي إذا ما رأوا شيئاً يُلفت النّظر».
* * *
كان المركب الملكي يجتاز بعض السلاسل شبه المتوازية من الجبال المسننة البركانيّة، وكانت حمم البراكين تتدفق من آلاف الفوّهات في سُفوح الجبال وتأخذ مجراها منحدرة عبر مئات السّفوح لتصبّ في الأودية وتتابع جريانها مشكّلة أنهاراً بركانيّة، يتصاعد منها الدّخان والبخار.
أدرك الملك لقمان أن مركز التقاء مجموعة هذه الأنهار البركانية سيكون محرقة جهنّم التي تحدّثت النّسوة عنها، وحين مثل في مخيلته مشهد آلاف البشر وهم يقذفون الآن من الأعالي في هذا المصب المحرقة، أمر بالانطلاق بأقصى سرعة لإنقاذ العدد الأكبر منهم، ولم يكد يصدر الأمر حتّى كان الموكب فوق جهنّم نفسها، حيث كانت تلقى من أعالي الجروف آلاف الأجساد في آن واحد وقد علا صراخ وندب وعويل وبكاء ملايين البشر الذين يسيرون أو يُحملون في مئات الأرتال في اتجاه المحرقة. أصدر الملك لقمان أمره إلى الجن ليوقفوا الفظائع على الفور ففعلوا، حتّى أنّهم تمكّنوا من التقاط بعض الأجساد الملقاة من أعالي الجروف قبل أن تصل إلى المحرقة وأعادوها إلى الحياة، ليتوقّف بذلك العويل والصّراخ.
كانت سلسلة الجبال المسنّنة البركانيّة تضيق شيئاً فشيئاً لينتهي بعضها، ويمتد بعضها الآخر، لتنتهي إلى ثلاثة سلاسل يخترقها نهران تتجمّع فيهما حمم الأنهار والينابيع البركانية كلّها، وما تلبث هذه السلاسل الثلاث أن تضيق بدورها لتشكل ما يشبه رأس السّهم، وليلتقي النّهران الكبيران ليصبّا في منخفض كبير واسع، ويشكّلا خليجاً هائلاً من الحمم الملتهبة المتّقدة، تخللته بعض الصخور الكبيرة الناتئة، التي كانت تنتصب وسط الحمم الغائرة المبربرة، وقد احمرّ لونها دون أن تذوب.
وحين أمعن الملك لقمان النّظر، لم يرَ نهاية لطول هذا الخليج وعرضه، فأطبق بيديه على رأسه وهو لا يصدّق ما يرى فهتف إلى الملكة:
«يا إلهي، إذا كان هذا حال جهنّم داجون فكيف ستكون حال جهنّمنا إذا ما وجدت؟»
فهتفت الملكة:
«أراك عُدت إلى ذكر الله كثيراً يا حبيبي؟»
«لا أعرف يا حبيبتي، كُلّما ابتعدت عن الله أحسست به قريباً منّي، يبدو أنّه يكمن في أعماق قلبي، وإن شئتِ الحق لا أجد كلمة أبلغ من اسمه للتعبير عن هذه الأهوال التي أراها!»
ولم تجب الملكة بل أسهمت بنظراتها إلى يسارهما – حيث تمتد منطقة صحراويّة قاحلة إلى ما لا نهاية وتنتهي إلى الجروف الصخرية من ناحية جهنّم – وكلمات الملك لقمان تتردد في مخيّلتها «كلّما ابتعدت عن الله أحسست به قريباً منّي، يبدو أنّه يكمن في أعماق قلبي!»
من أعالي هذه الجروف الصخرية المرتفعة، كان الموكلون بالمحرقة الجهنّمية يلقون بالبشر أحياء أو بعد قطع رؤوسهم.
وكان في هذه المنطقة العديد من الجبال المقامة من الجماجم البشرية ممن قطعت رؤوسهم وألقي بأجسادهم في جهنّم. وبدت وهي تضجّ بمئات الأرتال من ملايين البشر الذين ينتظرون دورهم – كما يبدو – ليلقى بهم في المحرقة الجهنّمية.
وكان سير هذه المئات من الأرتال المقيّدة بالسلاسل أو المحمولة على نقّالات قد توقّف حين نزل جنود الجن ومنعوا تنفيذ العقوبات، فظلّت الطوابير واقفة في أماكنها، والموكّلون والسّجانون والمساقون ينتظرون مصيرهم. وكم كان بودّ الملك لقمان أن يأمر الجنود ليفعلوا كلّ شيء يريده بأسرع وقت لو لم تكن رغبة شديدة تدفعه ليواجه هؤلاء ويتحدّث إليهم ويعرف المعاصي التي ارتكبوها ليعاقبوا بإلقاء أجسادهم وجثثهم في النار.
أخذ الموكب في الهبوط ناحية الطابور الهائل الأوّل الذي اصطفّ فيه الملايين من الرجال والشباب. وكانت حرارة الجو لا تُطاق فسخّرت الملكة قواها وإذا بريح رطبة منعشة باردة تهب.
ترك الملك لقمان العرش طائراً فوق جهنّم وهبط هو والملكة ليقفا على حافة الجرف الهائل، حيث لا يجرؤ أحد على الوقوف خشية الوقوع في الهاوية، وكان المكان الذي وقفا فيه – على صخرة – مرتفعاً بعض الشيء.
كان الرجال في حالٍ أقرب إلى الموت لكثرة ما عانوا من الجوع والتعذيب في السجون وما قاسوه من الآلام وهم يساقون إلى المحرقة تحت وقع السّياط.. وكانت أنصافهم العُليا مُعرّاة وآثار الضرب بادية عليها، حيث ارتسمت في خطوط حمر كانت الدّماء تنزّ منها، وكانت أقدامهم تصفد في الأغلال الثقيلة، وقد وقفوا في رتلٍ منتظم شمل أربعين صفّاً متوازياً – بقدر ما أجازت الطبيعة ذلك – امتدّ إلى ما لا نهاية يمكن أن يدركها البصر. وكان قرابة ألف من الموكلين بتنفيذ عقوبة الحرق وقطع الرؤوس يقفون في حالٍ من الذُّل لتخوّفهم مما قد يحدث لهم من هذه القوى الخارقة التي تملأ السّماء.
أشار الملك إلى أحد الرجال الذين أسعفهم الحظ بوصول الجن بالبقاء على قيد الحياة، أن يدنو منه.
كان قبس من الحياة قد عاد يدبُّ في جسد الرّجل، فتقدّم ليتوقّف أمام الملك ويرفع يده محيياً، فردّ الملك لقمان على تحيّته وسأله:
«ما هو ذنبكم أيّها الرّجل؟»
«نحن من الثّوار وزعماء الثورات الذين استخدمنا سيوفنا للإطاحة بالملوك والولاة الظالمين. إنّهم يقطعون رؤوسنا على هذا الجُرف ليضعوها على جبال الجماجم، ويلقون بأجسامنا إلى الهاوية»
وتأمّل الملك لقمان للحظة قامة الرّجل النحيلة وآثار السّياط على صدره وكتفيه، وهتف:
«بوركتم أيها الرجل وبوركت سواعدكم وبوركت سيوفكم، وبوركت كل نقطة دمٍ أريقت من أجسادكم وأجساد إخوتكم وأبنائكم وشهدائكم»
وأشار الملك إلى الملكة وإذا بالسلاسل تقطع من أرجلهم والعافية تعود إلى أجسامهم، ومطر فاتر مصحوب برغوة الصابون وليف الاستحمام يهطل عليهم من السّماء! فراحوا يغتسلون ويضحكون ويبتسمون.
وما أن فرغوا من تلييف أجسادهم حتّى أنزلت الملكة عليهم مطراً فراتاً راح يغسل أجسادهم، أتبعته بمناشف لينشّفوا أجسامهم.
وطلب إليها الملك لقمان أن تلبسهم لباس الفرسان المسلمين في عهد النّبي محمد، ففعلت، فأشار الملك لقمان بحركة من يده وإذا بهم يمتطون خيولاً حمراً وبنيّة وسوداً وبيضاً، ويتوشّحون بالسّيوف ويتسربلون بالدّروع والزّرود ويمتشقون الرّماح! فهتفت الملكة نور السماء متعجّبة وهي تنظر إليهم بدهشة وخيولهم تقف حسب ألوانها في أبهى انتظام:
«هل تعيد إليهم السّلاح يا مولاي وأنت نزعته من كوكب الأرض؟»
فهتف الملك لُقمان:
«سيف أُشهر في وجه الظلم ليس من العدلِ أن يُنزع!»
«لكنك نزعت سلاح الفلسطينيين واللبنانيين والأكراد والبوسنيين و..»
«وهل ستحاسبينني الآن أيّتها الملكة؟»
فأجابت دون أن تلوي على شيء:
«عفوك يا مولاي!»
وراح يُخاطب المحاربين الثائرين أمامه:
«لم أُعِد لكم سلاحكم أيّها الرجال إلاّ لتفخروا بأنّكم كنتم حملته في وجه الظُّلم والطّغيان ذات يوم، أمّا الآن فإنّي أوصيكم ألا تشهروا سيوفكم من أغمادها، وألا تطلقوا رماحكم لإراقة دمٍ بشري. فالحياة على كوكبكم لن تحتاج بعد اليوم إلى الدّماء، بل إلى العَرَق والكدّ والجهد. ثمّة من سيخبركم فيما بعد من أنا، ويملي عليكم تعاليمي ويساعدكم في إقامة الحياة الجديدة على كوكبكم»
وعاد ينظر إلى الرجل الذي كان يمتطي حصانه متقدّماً الآخرين وسأله:
«لكن قل لي أيّها المحارب، أما تزال الثورات قائمة على كوكبكم؟»
«لقد عُزلنا عن العالم في سجون جهنّم الرّهيبة يا مولاي، والتي ما تزال تغصُّ بالملايين من أبناء الكوكب، ومع ذلك لا أظنُّ أن رفاقنا قد تخلّوا عن الكفاح بعد أن دفعنا ثمناً باهظاً في الممالك المختلفة»
وأشار الملك بحركة من يده محيياً الجميع، فرفع المحاربون رماحهم في استقامة إلى أعلى ردّاً عليها وهم يهتفون معاً بكلمة «سلام».
وطار الملك والملكة بضعة أمتار ليقفا أمام الرَّتل الثاني وكان من النّساء وقارب تعداده الرّتل الأول.
كان الرّعب قد دبَّ في قلوب الموكلين بالعقاب فتجمّدوا في أماكنهم، فأشار إليهم الملك لقمان وهو يتجاوز بعضهم ألا يخافوا، فلن يعاقبهم»
كان رتل النّسوة مُعرّى من النصف العُلوي أيضاً، وكانت آثار السّياط وقروح الحرق بادية على أثدائهن.
تساءل الملك لقمان عن ذنبهن فأبلغته إحداهن أنّهن أمّهات وزوجات وأخوات وبنات المحاربين الذين مرّ عنهم، وعقوبتهن أن يُلقى بهنّ في جهنّم وهنَّ على قيد الحياة. فأمر الملك لقمان أن يُجرى لهنّ ما جرى للرجال، وأن يركّبن على الخيول ويسلّحن بالسّيوف.
وطار إلى رتلٍ ثالث من الرّجال، فتبيّن أنّه رتل لمن تمكّن رجال المخابرات والعسس من اكتشاف أنّهم لا يؤدون الصلاة للإله داجون ولا يترددون على المعابد، فأمر الملك لقمان بمعالجة جروحهم وأمراضهم وإكسائهم.
وطار إلى رتل رابع فكان من الرّجال والشّباب الذين ضُبطوا يشتمون الإله داجون وملوكه، أو ممن تغيّبوا عن الصلاة لمرّة واحدة، فأمر الملك لقمان بمعالجتهم وإكسائهم.
وراح الملك لقمان يمرّ عن الأرتال ويأمُرُ بمعالجتها وإكسائها دون أن يسأل عن ذنوب الناس، إلى أن توقّف عند رتلٍ من النّساء والرّجال الميتين المحمولين على نقّالات أو نُعوشٍ.
كانت الجثث ممددة على النعوش فوق بعضها البعض وكان عشرات الرّجال يقومون بحمل النعوش الكبيرة منها. تساءل الملك لقمان عن ذنب هؤلاء فأُبلغ أنّهم من النساء والرجال الذين يموتون تحت التعذيب في السّجون والمعتقلات ومشاغل الأعمال الشاقّة ووادي الجمر والجبل الكبير، فاحتار الملك لقمان في أمره ولم يعرف ماذا في مقدوره أن يفعل للميتين سوى أن يأمُر بدفنهم بما يليق بإنسانيّتهم، وقبل أن يقرر ماذا سيفعل برتل مئات الآلاف من الأموات لفت انتباهه الرَّتل الذي يليه، إذ كان لمئات آلاف الأطفال الصّغار الذين تراوحت أعمارهم بين سن الرّضاعة والثانية عشرة، وكان الكبار منهم يحملون الصّغار في أحضانهم أو على ظهورهم، وكانت أقدام الكبار منهم مُقيّدة بالسلاسل، وكان الآلاف منهم يبكون ويصرخون وقد نحلت أجسامهم من شدّة الجوع وسوء التغذية، فأمر الملك لقمان بأن يصار إلى تحميمهم وإكسائهم من قبل حوريّات الجن، بعد فكّ القيود من أقدامهم وإعادة العافية إليهم. فأنزلت الملكة نور السماء قرابة نصف مليون حوريّة شرعن في تحميم الأطفال تحت وابل المطر والصابون المنهطل من السماء.
وما أن جففت أجساد الأطفال وخلعت عليهم أجمل الملابس حتّى تقدّم الملك لُقمان من طفلة فائقة الجمال في حدود الخامسة من عُمرها، كانت أُختها الأكبر منها قليلاً تحملها إلى حضنها وتنوء بثقلها، فأخذها الملك لقمان ليحملها عنها، فضمّها إلى صدره وقبّلها وراح يربّت على ظهرها ليهدّء من روعها ويوقف نشيجها وتنشّغها.
«خلص حبيبتي خلص، يلعن أبوه داجون كان بدّه يحرقك في النار؟»
فأجابت الطفلة وهي تنشج وتتنشّغ:
«أ.. أ.. آه»
«خلص حبيبتي لا تبكِ، لن أدعه يحرقك يا حبيبتي»
وأحست الطفلة بشيء من الطمأنينة فطوّقت عنق الملك لقمان بيديها، وأخذت تخفف من نشيجها، فتساءل الملك لقمان:
«أين بابا وماما يا حبيبتي»
فأجابت الطفلة بجملة قطعتها نشجة واحدة:
«رماهم داجون في النار»
كبت الملك لقمان انفعالاته في دخيلته بقوّة خارقة وتساءل:
«يلعن أبوه يا حبيبتي، لِمَ رماهم في النار؟»
«لأنهم ما بحبّوه»
وهتف أحد السّفاحين الموكلين بحرق الأطفال:
«هؤلاء يا مولاي أطفال الثائرين والمعارضين والكارهين للإله والملوك، والمحكومين الذين أُحرقوا أو قُتلوا، يحرقهم داجون كي لا يتبعوا طرق آبائهم حين يكبرون»
نزلت كلمات السّفاح على قلب الملك لقمان كطعن السكاكين. فكبت كل انفعالاته وطار محلّقاً بالطفلة فوق الملايين من البشر، وراح يخاطب الطفلة التي استكانت إلى أحضانه وألقت رأسها على كتفه وهي ما تزال تنشج بين لحظة وأخرى:
«ماذا تريدين يا حبيبتي أن أُحضر لك، فأنا عندي هدايا كثيرة، عندي خيول، وحُصن، وحوريّات، وعرائس، وغزلان، وقطط، وخراف، وسِخال، وقصور، وكل شيء، وكل شيء تطلبينه سأهديه لك»
وراحت الطفلة تستعرض الهدايا في مخيّلتها وهي تستكين إلى كتفه وتُسهم بعينيها نحو حشود البشر تارة ونحو جهنّم تارة أخرى لترقب فورانها وغليانها والبخار المتصاعد منها، دون أن تجيب، فتساءل الملك لقمان:
«لماذا لا تجيبين يا حبيبتي؟»
وما لبثت الطفلة أن هتفت بجملة قطعتها نشجة عميقة ونشغة أعمق، وكأنّها تعوّض بهما عن كل الهدايا:
«ما بدّي.. هدايا.. بدّي.. بابا وماما»
وأجهشت بالبُكاء.
احتواها الملك لقمان إلى حُضنه وكأنّه يريد أن يدخلها بين ضُلوعه، وانفجر بالبكاء وهو يحلّق بها عالياً وعيناه تجوبان عبر الدموع الجبال البركانيّة، وأنهار وينابيع الحمم المتدفّقة منها، ثم المصب الهادر في الخليج الجهنّمي، وما لبث أن صرخ في أعماقه بصوت هائل مستعيناً مستنجداً بكل القوى الجنيّة التي لديه والتي يعرفها، فسمعت الملكة نور السّماء استغاثته فحملت أخت الطفلة وهرعت إليه وهي تصرخ «مليكي» وسمع ملك الملوك شمنهور والملكة نسيم الريح والأميرة ظل القمر والملك حامينار والملكة شامنهاز وقائد المركبة والعاملون عليها استغاثته فهرعوا إليه وهم يهتفون متفجّعين «مولاي» وسمع كلُّ من في الأكوان العُليا والسُّفلى من الجن استغاثته الهائلة فهرعوا إليه يلبّون النّداء، وقد هزّتهم صرخته من أعماقهم وزلزلت أركان أكوانهم، فهرع الملك إبليس والملكة بليسة وأعوانهما، والملك دامرداس والملكة ظل السّحاب وأعوانهما، والملك نذير الزّلازل والملكة هدباء الجفون وأعوانهما، والملك قاهر الموت والملكة شمس الربيع وأعوانهما. جميع هذه القوى حضرت لتسخّر طاقاتها وقدراتها الخارقة لنجدة الملك لقمان، فامتلأت السّماء، كل السماء امتلأت بالجن على اختلاف مذاهبهم وأديانهم وأفكارهم وفلسفاتهم، جن مسلمون، وجن مسيحيّون، وجن يهود، وجن هنود، وجن صينيون وجن أفارقة وجن أمريكيون وجن أوروبيون وجن فرس، وجن عرب، وجن يابانيّون، وجن آسيويون وجن أستراليون، وجن من كافة المذاهب، احتشدوا في السّماء بملايين الملايين فضجّ الكون، كل الكون، بأصواتهم، ولم تمر سوى لحظات، لحظات قصيرة فقط، حتّى قامت قيامة الجبال البركانيّة وغير البركانية فتفجّرت بمياه الأنهار الهائلة العذبة، وراحت الينابيع البركانيّة تقذف أنهاراً من الماء الفرات بدلاً من الحمم، فانهارت بعض الجبال من جرّاء اندفاع الأنهار من باطنها، وزلزلت الأرض، كل الأرض في كوكب داجون زلزلت، وراحت الأنهار الهائلة تطارد حمم البراكين لتصبّ في جحيم داجون نفسه. فارتفع الدّخان من جرّاء إطفاء الحمم الملتهبة، وعلا ليختلط بالضباب والسُّحب المنخفضة، وتعالت أصوات الجنِّ بالصُراخ وأصوات الملايين من أبناء كوكب داجون بالعويل، والملك لقمان يحلّق عالياً فوق خليج داجون، حاضناً الطفلة بين ضلوعه، تتبعه الملكة نور السماء حاملة أُختها، فملك الملوك، فملوك الجن الحُمر وأفواج الجنّ الحُمر، فملوك وملكات الجن الآخرون، فأفواج الجن: الجن السّود بقيادة إبليس والجن الخضر بقيادة قاهر الموت، والجن الزرق بقيادة نذير الزلازل، والجنّ الصّفر بقيادة دامرداس، وكانت الطّفلة تتشبّث بعنق الملك لقمان وتلتحم بجسده، فسألته:
«إلى أين تحملني يا عمّاه؟»
فهتف الملك لقمان من خلال دموعه:
«إلى ماما وبابا يا حبيبتي»
وودّ لو يناشد الله بكل أصوات البشر وأصوات الملائكة وأصوات الجن جميعاً، لكنه لم يشأ أن يُخيف الطفلة، فاستعار الأصوات واكتنزها في نفسه وفجّرها في أعماقه متوسّلاً إلى الله:
«إلهي، ما قطعت ملايين السنين الضوئية، إلا ويحدوني أمل ضئيل في لقائك، وأنك موجود! فأعنّي إن كنت موجوداً، أعنّي يا إلهي ، أعِد الحياة إلى كلِّ من أُحرق جسده في هذه المحرقة الرّهيبة، وأعِد الحياة إلى الموتى في أرتال النعوش التي كانت تنتظر الحرق، أعِنّي يا إلهي، أعنّي يا إلهي»
وما أن فرغ الملك لقمان من توسّلاته حتّى أخذ الدّخان يتبدد والضّباب يتلاشى، وراح الماء العذب يتجمّع في الخليج بعد أن أطفأ الحمم البركانية وجرفها ليرتفع إلى منتصف الجروف العالية، وشرع الملك لقمان في الهبوط، محلّقاً فوق مياه الخليج، وهو يتوسّل في نفسه مستصرخاً الله من أعماقه:
«أعنّي يا إلهي، أعنّي يا إلهي، أعنّي يا إلهي»
وفيما كان يهتف ويحدّق عبر دموعه إلى مياه الخليج الفسيح لمح بعض الأيدي البشريّة تخبط في الماء، ومالبث أن شاهد بعض الرؤوس، ثم مئات الأيدي، ثمّ مئات الرؤوس، ثم آلاف الأيدي، ثمّ آلاف الرؤوس، ثمّ أخذ البحر يمتلئ بأيادي ورؤوس البشر، والأجساد مقطوعة الرؤوس، آلاف آلاف الأجساد مقطوعة الرؤوس، وكانت كل الأجساد والأطراف تظهر للحظات ثم تختفي تحت الماء لتظهر ثانية، فأخذ الملك لقمان يستصرخ القوى الجنيّة في أعماقه:
«كونوا مع الله، أحضروا جبال الجماجم وألقوها في البحر، وكونوا مع الله، كونوا مع الله»
فهرع ملايين الجن إلى جبال الجماجم وحملوها وراحوا يلقونها من السماء في بحر الخليج.
أخذت أجسام بشريّة كاملة تندفع من الماء عمودياً إلى أعلى لترتفع قرابة متر وماتلبث أن تسقط تحت الماء لتصعد ثانية وهي تخبط الماء مقاومة الغرق، فبدت وكأنّها أسماك علقت بصنانير الصيّادين.
هتف الملك لقمان مرّة أخرى لقوى الجن:
«كونوا مع الله، كونوا مع الله»
فاندفع ملايين الجن إلى الماء، فيما راح عشرات الملايين الآخرين يرددون اسم الله «الله.. الله.. الله.. الله..» وانطلقت أصوات الملايين من البشر – الذين أنقذهم الملك لقمان – تردد اسم الله بدورها، وأخذت الجبال والتلال والسّهول والأودية والسّفوح والشعاب والغيوم تردد اسم الله، ليتردد اسمه في كل الأكوان، ولتضج البوادي برجع الأصوات الهاتفة باسمه.
أخذت ملايين الأجساد البشريّة العارية تندفع من الماء بشكل عمودي إلى أعلى لتصعد إلى سماء البحر وتحلّق فيه. أجساد رجال اندفعت، أجساد نساء اندفعت، أجساد أطفال اندفعت، أجساد شيوخ اندفعت، أجساد فتيات اندفعت، أجساد شباب اندفعت، وتتابع اندفاعها بالملايين لتملأ السماء، فيما كان مئات الآلاف من الأموات على النعوش والنّقالات ينهضون من الموت ويعودون إلى الحياة ويشرعون في ترديد اسم الله. إنس وجنّ وأرض وسماوات، حيوانات وطيور ونباتات، الأحياء ومن أُعيدوا إلى الحياة كانوا يرددون اسم الله، في توحّد فريد هائل خشعت له الأكوان.
خلعت الملكة نور السماء أجمل الملابس على كل من عاد إلى الحياة، وانطلق الملك لقمان محلّقاً بالطفلة بين ملايين البشر باحثاً عن والديها بلهفة، وهو يهتف إليها:
«الآن سنعثر على بابا وماما يا حبيبتي، ابحثي معي عنهما بين الناس»
ورفعت الطفلة رأسها وراحت تجوب بعينيها من خلف كتفي الملك لقمان باحثة بين ملايين البشر المحلّقين.
حمل الجنّ ملايين البشر الذين كانوا يقفون في أرتال جهنّم، ليبحثوا عن ذويهم في السماء. حملوا الذين أركبهم الملك لقمان على الخيول بخيولهم، التي راحت تحلّق في السماء دون أن يبدو أن هناك قوىً خفيَّة تحملها. وحملوا النساء والرجال، الأطفال والشيوخ، الشّباب والشابات، فراحوا يبحثون عن ذويهم في هذه الملحمة البشريّة المتلاطمة في السّماء وسط دموع الفرح واختلاط الإنس بالجن، والنّساء بالرجال بالأطفال بالخيول بالملوك باسم الله الذي كان يملأ الكون.
اعتدلت الطفلة في حُضن الملك لقمان وراحت تبحث عن أبويها من أمامه، وليس من خلف كتفيه. وشاء الله ألا يبحثا عنهما كثيراً بين ملايين الناس، فحين كانت الطفلة تجوب بعينيها هُنا وهناك، لمحت أمّها وأباها، فهتفت «ماما، بابا» فسمعتها الأم وهتفت «ماما» وسمعها الأب وهتف «بابا» واندفعا في اتجاه الملك لقمان مشرعين أحضانهما، فاندفع الملك لقمان بدوره في اتجاههما.
أسلم الملك لقمان الطفلة إلى أحضان الأم، فيما أسلمت الملكة نور السماء أختها إلى أحضان الأب.
انثنى الملك لقمان على الفور هابطاً إلى الأرض وجثا – لأول مرة منذ قرابة ثلاثين عاماً – على ركبتيه، واضعاً يديه فوقهما، شاخصاً بعينيه إلى السّماء، فهبط خلفه الملايين وجثوا على ركبهم وفعلوا كما فعل، إنس وجن فعلوا وعلى اختلاف مذاهبهم ودياناتهم، وحين خفض بصره خفض الملايين أبصارهم، وراحت العيون، كل العيون، عيون الإنس والجن، تنظر إليه آملة كلمة منه، فهتف وعيناه تغرورقان بالدّموع:
«حين لا يكون هُناك إله، فليس ثمّة إلا الله»

نهاية الجزء الأول
12/8/1994
* * *



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صديقاتي وأصدقائي وقرائي : أنتم زاد روحي !
- الملك لقمان ج2 (10) اغواء استيري!
- الملك لقمان . الجزء الثاني. (9) شهاب من السموات العليا!
- شاهينيات (115) السبي البابلي وتحرير قورش الفارسي لليهود.
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (8 ) عقل طوطمي!
- الملك لقمان . الجزء الثاني. (7) الله ورسوله والعفاريت !!
- محمود شاهين : مخطوطات تبحث عن ناشر
- شاهينيات (114) ذكر العرب كغزاة لبني اسرائيل .
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (6 ) األله. ألكمال. الفضيلة .
- الملك لقمان . الجزء الثاني. (5) عويل في الغابات!
- شاهينيات (113) بعض قصص سليمان وبلقيس!
- الملك لقمان . الجزء الثاني.(4) تحطيم الأصنام !
- شاهينيات (112) أخبار الأيام أخبار مكررة عن شجرة العائلة التو ...
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (3 ) الآلهة الطيبون!
- الملك لقمان . الجزء الثاني.(2) عرش الإله داجون الحادي عشر.
- الملك لقمان .الجزء الثاني (1) حديث عن كلينتون في أعماق -خليج ...
- شاهينيات (111) قابيل وهابيل وحواء يختفون من شجرة العائلة الت ...
- ملحمة الملك لقمان (13) جهنم الإله داجون!( الفصل الأخير من ال ...
- الملك لقمان .(12) مساج كوني وحروب كوكبيّة!
- بوح الكلمات : خواطر .ذكريات . أشعار. قصص.


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ألملك لقمان . الجزء الأول. رواية .