أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عقيل الناصري - من ماهيات ثورة 14 تموز ( 5-6) - مفاصل التغيير وملازماتها في الواقع العراقي:















المزيد.....

من ماهيات ثورة 14 تموز ( 5-6) - مفاصل التغيير وملازماتها في الواقع العراقي:


عقيل الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 4728 - 2015 / 2 / 22 - 22:53
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


من ماهيات ثورة 14 تموز ( 5-6)
- مفاصل التغيير وملازماتها في الواقع العراقي:
6- العنف:

{ الانبياء غير المسلحين يخفقون }
مكيافيلي
{ الرحمة جوهر القانون ولا يستخدم القانون بقسوة إلا الطغاة }
شكسبير
{إن مقدرة قاسم على البقاء في دست الحكم اربع سنوات وستة أشهر بممارسة الحد الأدنى من سياسة القمع في الظاهر، وبحصيلة من الدماء أقل مما يتوقع المرء في ذلك الوضع السياسي، شيء ليس بالهين أو مما يمكن التغاضي عنه } .
آوريل دان

حضى موضوع العنف بصورة عامة باهتمام الباحثين في الحقلين الاجتماعي والسياسي منذ فترة طويلة نسبيا وتعددت مفاهيمه ومضامينه وعلله وتبلورت مدارسًه في اتجاهات مختلفة بل وحتى متضاربة ومتناقضة، إذ ساور الشك ولا يزال المختصين في هذا الموضوع، في ماهية " طبيعة السلوك العنف وهل أنه متأصل في الطبيعة البشرية أو أنه دافع مكتسب من لبيئة المحيطة بالانسان؟ ". ومن هذا المنطلق تعدد الرؤى لماهية العنف ومسبباته فمنهم من يرى (عالم الاجتماع دوركهايم) أنه ظاهرة ثقافية أتت مع رياح التطور الاجتماعي ومع تحول المجتمعات الانسانية من مجتمعات بسيطة إلى مجتمعات مركبة. أما سمنسر فقد اعتقد أن " العنف قائم بين الجماعات بسبب الاختلاف في طرائقها الشعبية وأعرافها ". في حين رأى (كمبلوفتش) " بأن النزاع متأصل في طبيعة المجتمع الانساني وهو ينشأ من الجذور الأولى للنشأة الانسانية، إذ أن الرسوس ( Races) ذات نشأة جينية متعددة، وهذا يعني وجود عدائية موروثة في الرسوس البشرية ضد بعضها، مما يحوّل هذه الحالة إلى وضع مستمر وصيغة للتعامل مع المستوى الانساني". في الوقت الذي يعزو فيه (توينبي) " ظاهرة العنف في المجتمعات الحديثة إلى انعدام الذاتية والفردية وإنسحاق الفرد في آلية الحياة الميكانيكية من جهة وفي آلية الحياة الاجتماعية من جهة أخرى..." كما درس ( بارسونز) " العنف الاجتماعي في إطار العلاقات النظامية التي تحددها القوانين المدونة أو المتعارف عليها، ففي هذه العلاقات يتوقع كل شخص يدخل فيها سلوكية وأخلاقية الشخص الآخر، ومثل هذا التوقع يفهمه الشخص الذي يكوّن العلاقة الاجتماعية وساعده في تحقيق أهدافه وطموحاته، لكن لكل علاقة اجتماعية معرضة لاحتمالين، الاحتمال الأول هو عدم قدرة الشخص على معرفة توقع سلوك الشخص الآخر الذي يدخل في علاقة معه، والاحتمال الثاني هو معرفة الشخص توقع سلوك الشخص الآخر بيد أن هذا التوقع لا يساعده في تحقيق طموحاته وأهدافه، وفي هذه الحالة تتحول العلاقة إلى صراع بين الطرفين ويصبح العنف حتمياً... ". ومن هنا نلاحظ تعدد الرؤى لمسببات العنف مما يعقد الإشكالية لفهم هذه العلل ومما يزيد المسألة صعوبة هو تعدد أبعاد العنف ذاته حيث تتداخل وتتفاعل بصورة جدلية عدة عوامل النفسية منها والاجتماعية والثقافية والبيولوجية. ولذا تعددت النظريات التي تبحث في العنف ومنشأه.
ولو عدنا إلى الحالة العراقية ومما يوسمون و(يتهمون) ثورة 14 تموز، بكونها فتحت معها بوابة العنف وجانبه المادي على الأخص، وبالإضطراب الاجتماعي اللذان دبا بين الكثير من المكونات السياسية والاجتماعية والأثنية وخلقت ظرفاً من عدم الإستقرار.. ابتدأ، كما يقولون، منذ صبيحة يوم الثورة عندما تم قتل بعض أفراد العائلة المالكة, (عقدة قتل الأب–عقدة أوديب) وهذا ما سنعود إليه بشيء من التفصيل لاحقاً.
في البدء لابد من الإقرار من أن الصراع والعنف قرينه على الأغلب، هو ليس قوة مغتربة قدر كونها نتاجاً لتضارب المصالح بين المطبقات والفئات الاجتماعية، من جهة. ومن جهة ثانية، ليس من المنطق ولا من الموضوعية نكران إن حالة من عدم الاستقرار الأمني قد نشبت في المجتمع العراقي منذ أمد طويل. لكونها إحدى سنن الملازمة للحياة والتطور المرافق بالضرورة لكل تغيير جذري، على وجه الخصوص، وهذا ما اثبتته التجارب الانسانية في تاريخ تطورها. طالما " إن تاريخ كل مجتمع إلى يومنا هذا لم يكن سوى تأريخ صراع بين الطبقات- فالحر والعبد، النبيل والعامي، السيد والاقطاعي والقن، رئيس الحرفة والصانع، أي بإختصار المضطهِدون والمضطهَدون– كانوا في تعارض دائم، وكانت بينهم حرب مستمرة، تارة ظاهرة وتارة مستترة: حرب كانت تنتهي دوماً إلى إنقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره، أو بإنهيار الطبقتين المتصارعتين معاً... ".
بمعنى آخر للعنف في بعض المراحل دوراً ايجابياً في حركة التاريخ لآن الصراع بحد ذاته يشير إلى وجود خلل في البنية الاجتماعية، ومن خلال هذا العنف باعتباره الشرط الجوهري لتجاوز الخلل نظراً لكونه يعتبر الأداة الأرأسية التي تحاول الصيرورة الاجتماعية الجديدة أن تظهر للوجود المادي وتزيل تلك الأشكال القديمة.
في الوقت نفسه أن العنف لا يوجد بذاته " كبياض أفلاطون الذي ليس سوى الاشياء البيضاء، يوجد في تجلياته المتعددة داخل النسيج التاريخي المعقد... قائم في تصادم الأنماط الثقافية، في صعود الثقافات الدنيا على حساب العليا وفي إزدواجهما، في إنشطار المعرفة وفي اخلاع الحرفي ورجل الدين وفي إنهيار التخيل الديني، وفي زوال اللغة المقدسة والزمن المقدس وفي انتشار الثقافة الدنيا مع دفق النازحين إلى المدن وبواسطة الميديا واكتسابها وجوداً جديداً متصلاً بالتدوين وطابعاً جديداً متمثلاً في اليوتوبيات وحركات الاحتجاج ضد الثقافة المعاصرة، وفي تزامن الثقافات. إذا تتبعنا كل ذلك بدا لنا أن العنف الذي يتغير مفهومه كل مرة حاضر عند كل إفتراق وإنشطار وإزدواج وتزامن... نفهم من كل ذلك أن العنف ممكن عند كل محطة وكل انعطاف وكل تقاطع، بل نفهم أنه مبثوث في كل مواقف التاريخ وأنه في النهاية يكاد أن يكون مقابلاً أو معادلاً للتاريخ كله ". وهذا ما ينطبق على العراق في مختلف مراحله التاريخية الجذرية ومنها ثورة 14 تموز، التي كانت فترة انقطاع وافتراق عن المرحلة الملكية وتزامن مع ما أفرزته النهضة الصناعية وروح العصر وأفكاره.
في الوقت نفسه يجب التمييز بين نوعين من العنف الذي ساد الواقع العراقي بعد الثورة:
النوع الأول:
هو نتاج طبيعي لكل تغيير جذري, حيث يصبح العنف بمثابة مولدة التاريخ, بإعتباره وسيلة وإن الغاية المرجوة منه هو تحقيق المنفعة بكل اشكال تجلياتها, كما تدلل عليه تجارب التاريخ الانساني. وبهذا المنطلق يمكن تفسير ما حدث يوم 14 تموز وإن لم يكن مقصوداً بذاته. كما أن طبيعية هذا النوع منبثقة من زمكانية الصراع الاجتماعي بين القوى القديمة التي هُزمت والجديدة التي إنتصرت أو في سبيلها إلى ذلك. وتتوقف حدته على مدى إستكانة القوى المهزومة ودرجة مقاومتها للحالة التغييرية الجديدة. ويفترض المنطق إن القوى القديمة تحاول قدر الإمكان إعادة مواقعها ومصالحها المفقودة إلى ما كانت عليه سابقاً, لذا تحاول عرقلة إستقرار الوضع الجديد بكل السبل ووأد ولادة الصيرورة الاجتماعية الجديدة، من خلال الاستخدام المكثف للعنف في شكليه المعنوي والمادي على الأخص. وهذا ما حدث بالفعل بعد انتصار الثورة التي غيرت من موازين القوى والعلاقات الاجتماعية، الداخلية والإقليمية والدولية، لذا " قامت كل القوى المعادية للتطور في فترة عبد الكريم قاسم، بمحاولات لعرقلة ذلك التطور، وكان من الطبيعي أن تواجه أية حكومة، مهما كانت طبيعتها، صعوبات كبيرة في تلك الفترة ... ".
النوع الثاني:
ويشمل هذا النوع ذلك العنف غير المبرر من الناحيتين الموضوعية والعملية، إذ أنه نتاج لعوامل خارجة عن ماهية الصراع الداخلي لظاهرة التغيير، أي أنه ناجم عن المواقف غير المسؤولة وغير الصحيحة والقراءة الميتة للواقع الاجتماعي الجديد بكل ابعاده في حراكه الشامل والنابع من سياسة ردود الافعال وليس ناجم عن الفعل ذاته، وبالتالي فهو يكاد أن يكون مصطنعاً ومبوصلاً لتحقيق غائيات قد تؤثر على عملية التغيير الجذري وحرفه عن مساره الإرتقائي. وهذا هو الآخر ما حدث في العراق بعد ثورة تموز، ونشب بين القوى السياسية والاجتماعية التي كانت الثورة ذاتها تمثل قاسمها المشترك. وأعني على وجه التحديد الصراع الذي نشب بين القوى السياسية المكونة لجبهة الاتحاد الوطني [الكتلة التاريخية] التي كانت المعبر الأرأس عن القاعدة الاجتماعية لسلطة تموز. وكذلك ما يخص الحركة الكردية وطموحها التحرري.
كان النوع الأول نتاج لما احدثته الثورة من تغييرات في التوازنات الاجتصادية/السياسية الحساسة بين المكونات الاجتماعية (الاثنية والطبقية والدينية) والتي نجم عنها طرد طبقات وفئات اجتماعية من مركز مسرح الحياة السياسية وتجريدها من عناصر قوتها المادية وانحسار سلطتها ونفوذها، أو بعضها على الأقل. تمثل هؤلاء في كل من الاقطاع والمشايخ والاغوات والملاكين الكبار ونخب حكم والأرستقراطية التقليدية بما فيها بعض الفئات الدينية.. الذين تضرروا مادياً ومعنوياً من فعل التغيير الجذري، مما دفعهم جميعاً إلى رفع وتيرة العنف بكل اشكاله، والتعاون [مع الشيطان]، كما عبر عن ذلك أحد اللاعبين الكبار آنذاك، سواءً في الداخل أو الخارج، من أجل وأد الثورة أو على الأقل كبح مسيرتها وخاصةً في جوانبها الرديكالية، بغية (الأمل) في استعادة المصالح المفقودة أو تلك الموعود بها. كل هذا فتح مجالا واسعا للعنف (المادي والمعنوي) الذي هو الرد الطبيعي للطبقات والقوى المغلوبة، الداخلية والخارجية (العربية والإقليمية) التي ساهمت، بشراهة منقطعة النظير، في إذكائه والتحريض عليه لأجل, في البدء إحتواء الثورة, ولما لم تتمكن من ذلك، قررت التدخل الفض لإنهائها دموياً وهذا ما حدث في 8 شباط 1963.
اما النوع الثاني فقد كان نتاج لتخلف عقلية القوى السياسية وعدم تعمق الممارسة الديمقراطية في علاقاتها الداخلية ومع محيطها, وهذا ما أتسمت به أغلب القيادات الحزبية أنذاك، وتمثل في عدم إدراكها لماهيات التغيير الجذري وأهميته وتأثيراته الموضوعية اللاحقة على البلد والمنطقة والظرف الدولي.. كما لم تدرك هذه الزعامات أبعاد الواقعية السياسية الناشئة من فعل التغيير ذاته، في حراكها وسنن صراعها وأراسياته..الذي انعكس في قراءتها غير الدقيقة وفي تحالفاتها المنقوصة، وكذلك تخوفها من مسيرة الثورة اللاحق مما مهد لأنتشار ما يمكن أن نطلق عليه (الطفولة اليساري) لدى البعض و(التقوقع حول الذات) لدى البعض الأخر، والتحالف مع الاعداء لدى طرف آخر.. مما أصاب أغلب الأحزاب بعمى الألوان السياسي وعدم التميز بين:
الرئيس والثانوي؛ العام والخاص؛ ماهية التناقض وقواه. وإن كانت بنسب متفاوتة. كما غَلَّبت هذه القوى المصالح والرؤى الفئوية والحزبية الضيقة على الوطنية العامة المتلائمة مع ظرفها؛ والآنية المستعجلة على المستقبلية المرغوبه؛ والرديكالية الخطابية على الواقعية الملموسة بما يتوافق والواقع العراقي ومسيرة تموز وتأثيراتها لاحقاً.
لقد بلغ هذا الصراع العنفي حداَ من الانتشار المريع، العمودي والافقي " بين الكتل السياسية المتخاصمة، والأحزاب المتنازعة من الشارع إلى المدرسة وإلى المصانع وإلى الدور وإلى المتاجر، وكانت النتيجة وقوع أضرار جسيمة في المصالح العامة والخاصة "، حسب تقرير مديرية الأمن العامة آنذاك. ومن الضروري التأكيد, مرة أخرى, على أن إستخدام العنف ودرجاته يتوقف على حدة الصراع الاجتماعي وطبيعته ووسائله وغائيته, وعلى مستوى التطور والتقدم في المجتمع, فكلما وصل المجتمع إلى مستوى [الكائن لذاته] كلما تراجع إستخدام العنف، وخاصةً المادي منه والعكس صحيح. كما يمكننا القول أن مسألة العنف من الجانب التاريخي والمعاصر موضوعاً ضارباً في القدم في المسيرة البشرية عامةً, لما يحمله من خاصية الديمومة المشتقة بدورها من ماهية الصراع الاجتماعي ذاته, الذي تمتد جذوره " عميقاً داخل التاريخ العراقي, فرغم أن إولى الشرائع والقوانيين في تاريخ البشرية قد ظهرت في بلاد ما بين النهرين, فإن هذه البلاد تعرضت مرات كثيرة إلى الغزو الخارجي والنهب والسلب والقتل الجماعي, حيث كان السادة الجدد يقضون على السادة القدامى بأكثر الطرق بشاعة. أما عامة الناس فكانت تعبرعن ولائها للسادة الجدد بالتطرف في الانتقام من سادتها القدامى حتى لا تتعرض نفسها إلى الضرر... وفي ظل الهيمنة العثمانية تحول العراق إلى رماد ومسخت روح الناس الذين تعلموا الإحتيال على زمنهم للبقاء على قيد الحياة وأصبح العنف الوحشي شريكهم في حياتهم اليومية... ". وإستمرت صيرورة إستخدام العنف بعد الاحتلال الأول وتأسيس الدولة العراقية ذات النزعة المركزية الحادة, والتي تطلبت ضرورة إستخدام العنف لجمع شمل العشائر المتشظية تحت راية الدولة الوليدة, وإخماد الانتفاضة الشعبية. إذ كان الإجبار/الإكراه صيرورة سياسية تم تبنيها رسمياً منذ بداية تأسيس الدولة العراقية، وكانت الانقلابية السياسية والعسكرية تمثل مقدماتها الجزئية في الصيغة التي تكونت على اسسها الدولة ذاتها، وتطورت سيرورة شموليتها بغية سريان قرارها المركزي.. وهي حالة تعكس المسار الطبيعي لعقيدتها في سعيها للتأثير الكلياني على المجتمع . ومما زادها عمقا على وفق نظرية العالم د. علي الوردي هي:
- موقع العراق بالقرب من منابع البداوة ومنظومة قيمها وصراعها مع الحضارة؛
- وإزدواجبة الشخصية؛
- ومن ثم التناشز الاجتماعي (الثراثي).
ونضيف بدورنا موقع جغرافية العراق، الذي كان عامل جذب للقوى الخارجية للسيطرة عليه.
وتأسيساً على ذلك نستطيع القول أن من اللا تاريخية، القول أن ثورة 14 تموز ولّدت الصراع والعنف، قدر كونها أنها فسحت المجال امام القوى الاجتماعية للمطالبة بتعديل {العقد الاجتماعي} غير المتوازن الذي قامت عليه الدولة العراقية من جهة، وما أثارته الثورة بحد ذاتها من صراع للتوازنات والمصالح المتناقضة (الداخلية والخارجية) من جهة ثانية.
استطيع القول أن الثورة، بشخص قاسم، عبر عن فكرة جوهرية تتمحور في كونها كانت تتخوف بقوة من صيرورة السلطة المبنية على أساس القوة وهذا ما سارت عليه كل حكومات عراق القرن المنصرم، لأن قاسم كان يعتقد إن انتزاع السلطة بالقوة سيؤدي إلى تقوية نزعة الاعتماد على القوة في حل اشكاليات الحياة. لهذا كان يردد بكثافة اخلاقية عالية مسألة كون{ الجيش فوق الميول والاتجاهات}. إن الصراعات العنفية التي شهدتها الجمهورية الأولى قد أثارتها {شهوة السلطة} لدى الكثير من القوى وخاصةً المؤمنين بالفكرة الانقلابية سواء أكانوا مدنيين أو عسكريين، وكانت دون غيرها مرتكزة على المعونة الخارجية.. وكان صراعاً اجتماعياً بكل دراميته، لكنه كان مستتراً بأفكار سياسية أو مطاليب معبراً عنها جزئياً.
أن سمة العنف في مدياتها الاجتماعية والسياسية ليس حالة إستثنائية ظهرت في العراق دون غيره من أقطار العالم, كما أنها لم تحدث في عراق 14 تموز, قدر كونها تمتد إلى تلك المرحلة التي عرف الإنسان فيها ذاته وشيد في وادي الرافدين الحضارات الأولى، نتيجة لجملة الظروف والشروط الاجتماعية للوجود المادي، التي سادت بالعراق منذ ذلك التاريخ. بمعنى آخر أن العنف هو نتاج للظروف المادية المحسوسة المحيطة بالواقع الاجتماعي أكثر من كونه نتاجاً للقدرية الغيبية أو الغريزة الوراثية.
ولكن في الوقت نفسه من غير الصحيح نفي أي دور للعوامل البيولوجية في العنف الذي هو نتاج للتداخل المستمر والتفاعل بين المؤثرات الخارجية على الكائن وتلك الاستجابات التي يؤديها ذلك الكائن. نخلص إلى أن البيئة تكون مندمجة بالحالة السيكولوجية. وعليه من الناحية النظرية أن "...أسباب الميل إلى العنف عديدة ومتنوعة, فبالإضافة إلى العوامل البيولوجية والبيئية, فإن أصول العنف,عند الإنسان تعود بدرجة كبيرة إلى تراثه الاجتماعي والعلاقات التاريخية بين المجتمعات المختلفة وتطورها, فمعظم المجتمعات تقر بالعنف بدرجات مختلفة وتفرضه على أساس أنه ضروري " لديمومة إستمرار المجتمع. إذن فالعنف ليس مجرد فعل إرادة, بل يتطلب وجود شروط مسبقة حسية جداً قبل أن يتمكن من ممارسة فعاليته, أي الأدوات الأكثر إتقاناً تتغلب على الأقل إتقاناً. ودور العنف ليس سلبياً دائماً بل أنه يلعب أحياناً دوراً ثورياً في كل مجتمع حامل بمجتمع جديد. وهذا ما كان ما بعد 14 تموز. ولنا عودة للموضوع في الفصل الثالث من زاوية ما تم صبيحة يوم الثورة ومقتل بعض أفراد العائلة المالكة.


الهوامش:
56 - أوريل دان، العراق في عهد قاسم، ص. 472، مصدر سابق.
57 - أسماء جميل، العنف الاجتماعي، دراسة لبعض مظاهره في المجتمع العراقي، ص.11، الشؤون الثقافية بغداد 2007.
58- جميع الاقتباسات مستلة من المصدر السابق، صص. 11-16.
59- مستل من عامر عبدالله، مقوضات النظام الاشتراكي العالمي،ص.17، مكتبة رمضان لندن1997. رغم ادراكنا أن هذا الحكم القطعي لايمكن أن يكون المرجع الوحيد في تفسير أحداث التاريخ الانساني. إذ هنالك الكثير من المسببات كالحروب والفتوحات قد أسهمت في تغير المسيرة التاريخية للشعوب، وبدوافع مختلفة سواء أكانت دينية أو قومية، بل حتى بمجرد الصدفة (كمفهوم فلسفي) كخروج عن سنن الصراع.
60 - عباس بيضون، أبواب العنف والبداوة المقلوبة، من مقدمته لكتاب د. فالح عبد الجبار، في الأحوال والأهوال، ص. 7، مصدر سابق.
61 - محمد حديد، مذكراتي، ص. 464، مصدر سابق.
62- مستل من د. عادل البلداوي، الحزب الوطني الديمقراطي، ص. 73، بغداد 200
63- فاضل العزاوي, الروح الحية, جيل الستينيات في العراق, ص. 39, دار المدى , دمشق 1997.
64 - مقابل هذه النظرية يطرح د. فالح عبد الجبار وجهة نظر ثلاثية الابعاد مستنبطة من البنية الاجتماعية /الثقافية وتمثل سداتها ولحمتها في مجرى تحولاتها وتوتراتها التي تؤول مآلا عنفياً هذه الأبعاد هي: علاقة الفرد بالجماعة؛ علاقة الجماعة بالدولة؛ وعلاقة الدولة بالدولة. راجع في الأحوال والأهوال، ص. 15 مصدر سابق.
65- د.محمد الربيعي, العنف والعدوان بين التاثيرات الاجتماعية والوراثية, جريدة الوفاق, الأعداد 262-264, نيسان 1997 لندن.



#عقيل_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من ماهيات ثورة 14 تموز ( 4-6)
- من ماهيات ثورة 14 تموز (3-6) مفاصل التغيير وملازماتها في الو ...
- من ماهيات ثورة 14 تموز: (2- 6) - مفاصل التغيير وملازماتها ف ...
- من ماهيات ثورة 14 تموز: (1-6)
- الساعات الأخيرة من معركة وزارة الدفاع :(2-2) ن ...
- الساعات الاخيرة من معركة وزارة الدفاع
- - ثورة 14 تموز ومسارات التدخل الغربي في عراق الجمهورية الأول ...
- ثورة 14 تموز ومسارات التدخل الغربي في عراق الجمهورية الأولى ...
- من رواد الفكر الديمقراطي **: هديب الحاج حمود وجدلية التغيير
- حوار حول الفكر السلفي
- بمناسبةالذكرى السادسة والخمسين لثورة 14 تموز: (3-3)
- مناسبةالذكرى السادسة والخمسين لثورة 14 تموز: (2-3) عبر الثور ...
- بمناسبة الذكرى السادسة والخمسون لثورة 14 تموز: (1-3)
- الانتلجنسيا العراقية وصيرورة التكوين والتأثير حوار مع الدكتو ...
- الحزب الشيوعي العراقي في عهد البكر
- أوجه الكمال في كمال**
- صفحات من تاريخية نضال الحزب الشيوعي العراقي صور من مقاومة ال ...
- صفحات من تاريخية نضال الحزب الشيوعي العراقي صور من المقاومة ...
- صفحات من تاريخية نضال الحزب الشيوعي العراقي (2-2) مقاومة ان ...
- صفحات من تاريخية نضال الحزب الشيوعي العراقي (1-2)


المزيد.....




- فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص ...
- حرب غزة: أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و77 ألف جريح ومسؤول في ...
- سموتريتش يرد على المقترح المصري: استسلام كامل لإسرائيل
- مُحاكمة -مليئة بالتساؤلات-، وخيارات متاحة بشأن حصانة ترامب ف ...
- والدا رهينة إسرائيلي-أمريكي يناشدان للتوصل لصفقة إطلاق سراح ...
- بكين تستدعي السفيرة الألمانية لديها بسبب اتهامات للصين بالتج ...
- صور: -غريندايزر- يلتقي بعشاقه في باريس
- خوفا من -السلوك الإدماني-.. تيك توك تعلق ميزة المكافآت في تط ...
- لبيد: إسرائيل ليس لديها ما يكفي من الجنود وعلى نتنياهو الاست ...
- اختبار صعب للإعلام.. محاكمات ستنطلق ضد إسرائيل في كل مكان با ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عقيل الناصري - من ماهيات ثورة 14 تموز ( 5-6) - مفاصل التغيير وملازماتها في الواقع العراقي: