أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر - عماد حياوي المبارك - رحلتي الأخيرة إلى المغرب















المزيد.....


رحلتي الأخيرة إلى المغرب


عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)


الحوار المتمدن-العدد: 4708 - 2015 / 2 / 2 - 01:04
المحور: الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
    



رحلتي الأخيرة الى المغرب

المملكة المغربية بلد متنوع بكل شيء، في جوّهِ وناسهِ وطبيعتهِ، تسكنه أصول وأعراق وأديان مختلفة، أسسه سكنة البلاد الأصليين (الأمزيق) في القرن الأول قبل الميلاد، وجاء العرب الإسلام بعد ذلك بعدة قرون، ليزداد عددهم ويصبحوا اليوم هم الأكثرية، وأستطاعوا ادخال الأمزيق الإسلام، واستمرت العلاقات متوطدة بينهم لحد اليوم يجمعهم مع أقليات يهودية ومسيحية حب الوطن والتاريخ والمصير المشترك...

نفوس المغرب هو الثاني عربياً ورابع أكبر كثافة سكانية لدولة عربية، وتحتفظ الدولة بعلاقة حُسن جوار مع الأوربيين الذين ينظرون لها كحليف إستراتيجي، أما العلاقة (الفاترة) بجيرانها العرب والأفارقة فقد جاء كردة فعل لتأييد الاتحاد استقلال الصحراء الغربية التي تعتبرها المغرب جزء منها منذ فترة الاستعمار الاسباني...

خلال السنوات السابقة سمحتْ لي الظروف أن أسافر للمغرب ست مرات، وكل مرة لي (روت) مختلف عن سابقه، فقد دخلته من اسبانيا عبر مضيق جبل طارق بالبحر لميناء (طنجة) في أقصى الشمال، ودخلته عبر الصحراء الكبرى من أقصى الجنوب قادم من جزر الكناري الاسبانية نحو مدينة (العيون) عاصمة الصحراء الغربية فمدينة (أكادير) على المحيط الأطلسي التي تبعد ألف كلم للشمال من مدينة العيون، وغادرتُ المغرب جواً وبحراً من أماكن أخرى غير التي بدئتُ عندها.
ونزلتُ بالطائرة في (مراكش وفاس) ، وزرتُ (مكناس والدار البيضاء ـ كازابلانكا ـ والرباط) وكل المدن التي بينها بالسيارة...
الجميل انك تحس بالأمان والحرية، فممكن أن تتجول بمنتصف الليالي وأن تترك سيارتك بأي بقعة، وأن تأكل (الحوت) أي السمك طازج (فريش) بأي مطعم وتشرب ما تود، ليس المطلوب منك سوى أن لا تعمل مشاكل، قوانينهم سهلة والملك أتاح لهم حرية العيش، ولك الحرية أن تمشي أينما تشاء، أي ليس عليك أن تمشي (جنب الحائط) لكنه يبطش بمن يتجاوز على القانون، وهو ما يُذكرني ببغداد السبعينات.

رحلتي الأخيرة متميزة لأنها إلى أقصى شمال شرق البلاد، بمتاخمة الحدود الجزائرية المغلقة منذ سنين، ثم إلى شاطئ البحر المتوسط والتوجه غرباً باتجاه مضيق جبل طارق فمدن المحيط الأطلسي.

يقول المغاربة المتفائلون أن مسألة استقلال الصحراء الغربية ـ الذي تدعمه الجزائر من أجل الحصول على منفذ أمين لتصدير النفط والغاز على المحيط الأطلسي ـ لا يستحق الخصام ولا الحرب، وبإمكان الجزائر استخدام الأرض المغربية لتصدير ما تشاء وليستفيد منه الشقيقان، كما يقولون أن المناطق التي أستقطعها المستعمر الاسباني (مليلية والجزر الخالدات وسبتة وجزر الكناري) هي اليوم مصدر لتجارة رائجة وتشغيل أيدي عاملة محلية بأجور عالية.
أما المتشائمون وهو تيار المتشددون وهم قلة، فيقولون بأن على الحكومة فض النزاع مع الجزائر حول الصحراء الغربية (بالعين الحَمرة) للتفرغ بعد ذلك للأسبان ومطالبتهم بإعادة جميع الأراضي... المغتصبة !
× × ×

لنعود إلى السفرة الممتعة ولنقتفي أثرَها خطوة بخطوة...

حطتْ الطائرة في (وَجْدة) وهي أهم مدينة في شمال الشرق، وكان لنا (أنا وأخي طارق) تجول في أسواقها العامرة وسفرات قصيرة لجامعة الملك محمد الخامس والى الواحات التي تحيط بالمدينة ويكثر فيها النخيل، غير أن نخيلهم يبدو عقيم، فلا ثمر يطرحه، مَثله مثل نخيل اسبانيا وجنوب ايطاليا.
يتجمع الناس في ساحتين مهمتين ويتبادلون الأحاديث و(يكرزون) حب دوار الشمس الناعم فيملئون الأرض قشور ليأتي عمال البلدية في عمل روتيني ينظفون الأرض دون امتعاض، تتوسط الساحات نافورات المياه وحولها يقتني الناس بمبالغ زهيدة بعض البذور لينثروها على الأرض فيتجمع الحمام حولهم بمشهد جميل جداً، وتُزين المدينة زهور موسمية يعتني بها فريق من الفلاحين، أما زهور الروز (الجوري) فتتمتع برائحة زكية، وأما الطيور فتسبح بالبرك دون إزعاج.
في ساحة المدينة القديمة يقع جامع متميز بمئذنة متوازي مستطيلات، ويميز باصات النقل العام تواجد (كشك) بداخله لقطع التذاكر، وهي قديمة مستهلكة لكنها تفي بالغرض، سكان المدينة من العرب في غالبيتهم، وهناك سور قديم توسعت المدينة لتظمه بداخلها، تُميزه أبواب خشبية وأقواس حجرية فيها بعض النقوش، ومساجد صغيرة ومحلات و(زنقات) ضيقة نظيفة تقبع داخله، وقد تم الاعتناء بالواحات والمحافظة على مياهها واستثمار الشمس والظل بشكل جميل، وكلفة ارتيادها زهيدة جداً.
واكتشفنا أنه في المدينة لا توجد محلات لبيع الخمور، وأن البيرة متيسرة في (حانات) خاصة وبشكل محدود، فدخلنا واحدة على أمل أن نحتسي البيرة على مهل و(نسلطن) على أغنية لأم كلثوم، لكننك تتفاجأ بالموسيقى الصاخبة ويشم انفك عطر نسائي فوّاح وترى عيناك... العجب !
تُقدَّم مع البيرة المحلية والتي تُباع بضعف سعرها، أطباق من الزلاطة (بالتمن) الخشن الحبة وسَمك السردين المقلي الذي تُظفي (زفرته) نكهة خاصة لم نستطع مقاومتها، فبرحنا المكان بمعدة... خاوية !

قمنا عن طريق الانترنيت بحجز يومين آخرين في أقرب محطة على البحر ... مدينة السعيدية (لؤلؤة الشرق) وهي تبعد حوالي 70 كلم للشمال ومتاخمة لحدود الجزائر، وقبل الوصول كان لنا وقوف في قرية (بني درار) المشهورة بمشويات اللحوم الطازجة على الفحم، أما شاطئ السعيدية فهو جميل خلاب تمتد رماله الصافية لعدة أميال يفصلها عن الجزائر فقط بعض التلال التي تصنع انعكاساتها أشكالاً خلابة على الموج الأزرق، هذه المدينة تشهد حركة سياحية في الصيف لارتياد البحر من قبل الأوربيين، وقد أنشأت الاستثمارات الخليجية والأوربية مجمعات سياحية خارجها، مثل مدينة (مارينا) التي لا تزال قيد التطوير.

تتواجد بالسعيدية كازينوهات تُوجِه أنوارها ليلاً ناحية موج البحر لترسم أحلى اللوحات، أما شروق الشمس عند الساعة السادسة فجراً فليس له مثيل بين هدوء وسكينة المدينة وصخب الموج، بينما تتجول سيارات اختصاصية تهتم بالرمل وتساويه وتزيل النفايات إن وجدت.
المشكلة التي جابهتنا بالفندق أننا عانينا صوت موسيقى صاخبة، ورغم غلق النوافذ لكن الصوت كان يهز المبنى حتى الثالثة فجراً، وعند الاستفسار في الصباح قالوا بأن النادي الليلي يقع تحت الفندق، فألغينا الحجز وقررنا مغادرة المدينة الصغيرة.

وكانت الصدفة قد لعبت دوراً حين كنا نستفسر عن محطة الباصات أن نتعرف على صاحب المقهى (أبو حبيبة) وهو عراقي كردي من سكنة الموصل وقد هاجر منذ عشرون سنة للدنمارك، رجل طيب كريم يستثمر اليوم فلوسه في المدينة، فرحب بنا ورافقناه بجولة بسيارته المرسيدس لمدينة (رأس الماء) وهي ميناء صغير لصيد السمك تقع على حيد صخري يمتد وسط البحر تقابله جزر ثلاث صغيرة غير مأهولة وهي اليوم عبارة عن ثكنة عسكرية اسبانية، هي لا تزال تحت العلم الاسباني يسمونها السكان المحليين بجزر الخالدات، وكان للسمك الطازج المشوي ويسمونه (الحوت) حضوره بالطبع.

المحطة التالية بإتجاه الغرب هي الناضور التي تبعد 80 كلم عن السعيدية، والناضور مدينة صاخبة تجارية بحكم مجاورتها لمدينة (مليلية) الاسبانية، و(الناظور) كما يحلو لسكنتها أن يكتبوه، مدينة أمزيقية تجاورها بعض القرى على سفوح الجبال الخضراء الجميلة، تتميز بمقاهيها وشاشات كبيرة.
الناظور (أوسخ) مدن المغرب بسبب اكتظاظها، فهربنا منها لنقضي النهار وقد ساعدنا الجواز الأوربي بدخول مدينة (مليلية) الجميلة كأنها قطعة من اسبانيا، ببلاجها الرائع وباصاتها الحديثة وتقاليدها الأوربية، حدائق غناء وبنايات مُعتنى بها ومُجمعات تسويقية، يحق للمغاربة المسجل سكنهم بالناضور دخول مليلية والعمل والخدمة بفنادقها والعودة بالمساء، وهم يُشكلون الأيدي العاملة الرئيسية فيها.
× × ×

تتواجد في المغرب ثلاث سلاسل جبلية، أطلس البحر في وسط شمال المملكة وتقع عند أطرافها الغربية مدينتي فاس ومكناس، وعليها مدينة (إيفران) السياحية ذات الطراز الأوربي وحاضنة أحد أهم جامعات المملكة ومحمياتها الطبيعية، وأعلى قممها (تدغين 2500 متر) وهي تتجمد شتاءاً، وتفصلها عن سلاسل جبال الشمال المسماة بجبال الريف مدينة (تازة) وفيها أحد أكبر المغارات في العالم.

أما سلاسل جبال الريف، فهي متراصفة لا تسمح بامتداد سهول منبسطة، وتمتاز بكثرة هطول الأمطار حيث ينبع نهر (الملوية) أكبر أنهار البلد، وتمتد سلاسل الجبال هذه إلى داخل حدود الجزائر في الشرق بينما امتداداتها تصل غرباً لمدينة طنجة ثم إلى جنوب اسبانيا (أندلوسيا) حيث جبال سيرانيفادا، ويقطعها مضيق جبل طارق، وهي مرتع للرعي ومصدر للأخشاب ومستودع للمياه، وتتلامس في بعض الأحيان بمياه البحر المتوسط أو تغوص فيه.

والثالثة هي أطلس الصحراء، وهي شاهقة جرداء، تتكون من سلسلتين عاليتين، وتمتد من المحيط الأطلسي عند مدينة أكادير للداخل فتحتضن مدينة مراكش السياحية وفيها أعلى قمم الجبال في الوطن العربي بارتفاع 4200 متر، وتكلل قممها الثلوج لبضعة أشهر بالسنة، وبنَت (هوليود) بين أكتافها مدينة للسينما في (تارودنت) مُثلت فيها أفلاماً عالمية عديدة، وهي لا تزال مصدر جذب سياحي.
× × ×

نستمر غرباً بالطريق من الناضور الى (الحُسيمة)، فيضيق الشريط الساحلي تدريجياً خلال المسافة البالغة 130 كلم، وتنتشر طول الطريق الصخور الصغيرة وسط المياه والتي يمتطيها هواة صيد السمك لما توفره المياه الدافئة من مرتع للسمك، ترشق أحجارها الأمواج بشدة فتعطي منظراً خلاباً لشاطئ جميل تُصارعه الأمواج فتنحته على مر الأزمان.

توفر بلدية (الحُسيمة) الواقعة على سن صخري، مساحات خضراء محدودة زرَعتها بالثيل، تعتني بها وتديمها على مدار الساعة، وثمة حركة أعمار بسبب اقترابها أكثر من المدن الرئيسية في الشمال، ويلفت النظر محطات المواصلات العامة وبعض المجمعات العمرانية الحديثة وطبعاً (المرسى) حيث تشتري السمك بأسعار مخفّضة و(تصوّبه) أي تشويه على الفحم، كيلو سمك من أغلى النوعيات يكلف أربعة دولارات لا أكثر والسردين بدولار واحد وهو غذاء القطط التي أتخمها الطعام فما عادت قادرة على الأكل أو الحركة !

لا يزال الكورنيش الجديد البعيد نسبياً عن المدينة بكر، ولأن المدينة تقبع على جبل، فقد استُثمرت سفوحه الصخرية ككازينوهات بأضواء وأنوار ملونة وإطلالات جميلة، وهذه مدينة أمزيقية بامتياز ومُحافظة جداً بملبس بناتهم وفي سلوكهم وتصرفاتهم، وبهذا فهي تختلف عن غيرها من المدن المغربية بتقاليدها التي تفتخر بها.

تقع (الحسيمة) على خليج صغير يحمل أسمها، ولا يَسمح الحيد الصخري بتواجد أماكن مناسبة للسباحة فيها، وما لفت نظري وصوّرْته هو أشجار جهنمي بزهور (برتقالية) وليست كما نألفها حمراء أو بنفسجية، والمدينة هادئة تشهد توسع عمراني بحكم موقعها.

وكانت الرحلة التالية لمحطة بعيدة جداً، وقد لا يبدو قطع مسافة 320 كلم بمدة (تسع ساعات) مُقنع للبعض، إلا إذا عرفوا بأن الطريق سيخترق جبال الريف الجميلة، وهي وعرة لا تسمح بتواجد سهول بين سلاسلها، حيث تمتد القمم الخضراء لارتفاع 2200 متراً، وتقع المجمعات الريفية التي تزرع الحبوب والبقليات وتصدرها لأوربا، وكان لموسم الحصاد ومشهد السنابل الذهبية رونق بهي، وتقع هناك بعض الأماكن غير الآمنة الوحيدة بكل مساحة المغرب بسبب زراعتها (الحشيش) وتهريبه لأوربا !

يُقابل شواطيء الحُسيمة جزيرة واحدة أرضها عبارة عن جبل مقطوع الرأس هي (طريفة)، قام الأسبان باستعمارها، وصارت محميّة فيها سجن كان يُستخدم لنفي الأفراد (الخطيرين) وإبعادهم عن أرض اسبانيا، ويَنظر المغاربة لهذه الجزيرة الصغيرة (الغير مغربية) بعين الريبة.

ومع أن الحكومة نجحت بمد شارع سريع محاذي للشاطئ يصل الحُسيمة بطنجة بثلاث ساعات، لكني فضلتُ الأطول والأوعر والأحلى رغم قلة سالكيه الذين هم سكنة القرى المحاذية والذي ألتوى ونزل وصعد لأجلهم وذلك بسبب جماله.
وهي فرصة أن أطـّلع على سلوك الناس ونشاطهم في العمل والزراعة خصوصاً بموسم الحصاد، المرأة لجانب الرجل وتساعدهم البغال برفع المحاصيل في وقت تتسلق الماعز الحيود الصخرية وتنشغل الأبقار والخرفان بأكل الحشائش الخضراء غير مبالية ـ كعادتها ـ بما حولها...

أحياناً لا ترى من نافذة الباص سوى السماء وكأنك تطير، ولما يهتز المقعد تحتك، تشعر وكأن هبوط لطائرة تستقلها عند مدرج مطار، وتصنع الغيوم مع قمم الجبال منظر خلاب يتكرر باستمرار كلما تتسلق السيارة بمشقة نحو القمم وتلج بداخل الغيوم، ويشعر الفرد بعظمة وقوة الطبيعة وما هو سوى قزم صغير أمام هذه التكوينات الرائعة.
يبتعد الباص شيئاً فشيئاً عن الشاطئ ويغوص بين سلاسل جبال وتعرجات تُفقدك التركيز بالاتجاهات الأربعة، فترى الوديان الخضراء ثم ما تلبث أن تدور السيارة الجبل لترى سفحه الآخر أجرد بحكم عدم قدرة الغيوم تسلق متنه فتفقد رطوبتها لتهب عليه جافة، بينما تبرز أسنان صخرية يعجز الشارع عن الولوج من خلالها فيلتف أو ينزل الوادي ليكلف وقتاً كثير وجهداً لمحرك الباص الديزل الذي يستغيث مع كل صعود، ولنجد قرية تنام في حضن وادٍ هنا، وأخرى تتمدد على سفحٍ هناك.

يتوقف الباص لالتقاط أنفاسه بين الحين والحين، ويجدها الركاب فرصة لقضاء حاجة أو اقتناء أثمار الجبال الغريبة، فمنها ما هو غذاء ومنها ما هو دواء.
تحدد الشارع أشجار مزروعة بإتقان لتعمل كسياج واقٍ لحماية مرتادي الطريق من السقوط بالوديان، وتنتشر المزروعات وتختلف في أنواعها كلما ارتفعنا، وتحتجز بعض الجبال بحيرات زرقاء لطيفة تكونها مساقط مياه، ولفت نظري جبل يقف شامخاً وكأنه (كرندايزر) لكن الغيوم حالت دون أن ألتقط له صور واضحة، ولم تدع سلاسل الجبال أي مجال لسهول منبسطة لذا فكل زراعتهم كانت على سفوح جبلية لكنها قليلة الوعورة والانحدار.

الملفت أن الدولة وفرت المياه النقية والكهرباء وحتى الطرقات المعبدة لتصل لكل نقطة وكل بيت مهما كان موقعه، وتتوفر الفواكه والخضار بأسعار جيدة، وهكذا ينهكنا التعب حتى تلوح لك مدينة (شفشاون) تتربع على سفح جبل، وهي تبدو كمدينة أوربية جميلة، ولم أكترث كون الباص لم يدخلها، لأني سبق أن زرتها بسيارة مؤجرة.

وتستمر الرحلة لندخل مدينة (تطوان) من جهة الجبل وليس الساحل، ولترى وتسمع صخبها وقد (أساء) التطور العمراني لبراءة الطبيعة الخضراء حيث قد نحت الإنسان بيوتاته وخدماته على حساب جمالية الجبل، فبمجرد تواجد كثافة سكانية، ترى الإنسان زاحم كل شيء من أجل راحته فحفر الطرقات ومد أسلاك الكهرباء وأنابيب الماء وفرش قاذوراته هنا وهناك وأزاح بذلك جمالية عذراء بإضافته جماليات صمّاء مصطنعة.

هذه المدينة (تطوان) على العكس من الحُسيمة، ينتشر فيها الشباب و(الشابات) على مساحات خضراء يتبادلون (المودة) أمام أنظار المارّة، وتنتشر مقاهي تبيع الشاي المغربي في أقداح كبيرة تُحشر فيها سيقان نعناع ويمتاز بإضافة سكر كثير ليغلب على مرارة طعمه، أما الشاي العادي فقليل ويسمونه شاي ليبتون.
في الطريق بين تطوان وطنجة تنتشر طواحين توليد الكهرباء من طاقة رياح تهب من البحر لتضفي جو رطب بعض الشيء، وهناك مشاريع واعدة بإشراف الاتحاد الأوربي لبناء شبكة توليدية للكهرباء من طاقة الرياح هناك، وهي هبة السماء الثانية بعد الثروة السمكية لسكان تلك البقعة من الأرض والذين أجادوا استغلالها.

كان فندقنا في (طنجة) بحدائق ومسبح وفطور شهي، تسكنه (كروبات) من شرق آسيا، وهي شعوب مهذبة جداً، وفيه بار ترتاده (سيدات) بالاتفاق مع إدارته يقمن بتقديم خدمات المساج داخل الغرف !
يجاور المدينة بعض المرافق السياحية وقد استغلتها البلدية بشكل مقبول، تباع فيها بعض الأعمال الفلكلورية وأحجار الجبل الملونة والقلائد، وتوجد مغارة (هرقل) حيث يُقال أن آثاره وجدت هناك، تطل من داخلها على البحر بمشهد بنورامي رائع.
ووفر الأهالي بعض الجِمال تسير بك على الشاطئ الرملي في طوابير يمتطيها السياح ويحدو بها حاديها، ويوجد على سفح الجبل المطل على المدينة قصر الملك بحدائقه الخلابة، يجاوره قصر لملك السعودية، وتباع بعض العصائر بلون وردي هي من فواكه الجبل.

كان لتأجير سيارة الفضل بولوج الشواطئ الرملية البعيدة الخلابة المتميزة بزرقة سماءها وماءها وبهوائها العليل وطيور النورس المتهورة والمتنافسة على استجداء أية مأكولات.
كان من بين الجِمال والحمير وحتى الكلاب يتواجد حصان واحد وقد (سَحَرَ) الكل برشاقته وخطفَ برونقه الأضواء كلها، كان ذلك عند موقع لكازينو ازدحم بمرتادين أجانب يتبادلون الأحاديث مع الناس بالفرنسية، والناس تتقن الفرنسية بعموم المغرب، غير أن الجانب الشمالي للمغرب يتقن الاسبانية أيضاً.

البلاج الرملي في طنجة غير متيسر وبعيد عن الفنادق لتواجد صف من الملاهي والبارات بينهما، وتقوم البلدية بشق طرق في توسيع مطرد للمدينة السياحية والثانية بعد الدار البيضاء من حيث الحجم، وهي العاصمة المالية والأغنى على صعيد المملكة لتواجد البنوك والاستثمارات الضخمة فيها بحكم شدة قربها من أوربا.
أما المرفأ القديم فقد استلمته شركة أوربية لإنشاء آخر حديث ومرسى للسفن العملاقة وليخوت الأمراء، وكانت لنا فرصة أن نأكل السمك الطازج المشوي وبأسعار لا تتجاوز الخمس دولارات.
ووفرت لنا السيارة فرصة أخرى أن نزور مدينة (سبتة) الاسبانية التي تبعد 60 كلم للشرق من طنجة، وكانت مداخلها تزخر بالبضائع التي يتم مقايضتها هناك بين الأسبان والمغاربة.
ولأن طنجة ميناء يقع على المحيط الأطلسي، فقد قامت الدولة بإنشاء ميناء آخر على المتوسط وربطه بسكة قطار وشارع سريع بالمدينة، يُسمى هو ومباني خدماته ومطاعمه الملحقة ومخازنه بميناء (طنجة المتوسطي) الذي عن طريقه تدخل كافة السيارات ذات المناشئ الايطالية والفرنسية حيث يرتبط بميناء (مرسيليا) الفرنسي بخط بحري نشيط.

أما في جهة المحيط الأطلسي وعلى امتداد الساحل، فتقع مدينتي (أصيلة) الثقافية (العرايش) التي تمتاز بمطاعم البتزا والسمك المقلي وفنادقها القديمة ومرسى الصيد الصغير.
يقام بـ (الأصيلة) كل عام ملتقى الشعراء والرسامين، ومن وحي البحر تُكتب القصائد وتُـُغنـّى الألحان، وقد ألتقينا بـ (أبو إدريس) صاحب مطعم يرتاده كبار فنانو أوربا، وقد زاره عدة شعراء عراقيين كانوا مدعوين لمهرجان المدينة، فكتبوا بالمدينة وأزقتها المطلية فقط باللون الأبيض والأزرق قصائد جميلة، تقول إحدها...

يجد زائر مطعم أبا إدريسِ فيه نعم الصديق وخير جليسِ
كم يطيب الأكل فيه روعة كم يطيب الحوت والهريسِ
أنت لهذه الدنيا خير ملاك وفي طيبها أنت خير قديسِ
زرتُ مطاعم (أصيلة) كلها فوجدت مطعمك هو الرئيسي

يتميز أبناء المدينة بأنهم شُقر البشرة وكرماء، وتزيد أعداد السياح الأوربيين صيفاً طلباً للشمس والبحر، وتمتد للجنوب حتى مدينة الصويرة تجمعات لبقايا اليهود المغاربة والذي تقلـّص عددهم بعد عام 48 من 250 ألفاً إلى بضعة آلاف.
الشاطئ رملي تنبت فيه أشواك بزهور صفراء وتحيطه نباتات بزهور بنفسجية، وتكثر القواقع التي تتسلق كل شيء، وتجري وديان الصغيرة ناحية البحر لتمتزج المياه العذبة بالمالحة...

نعود لمدينة (طنجة) وهي آخر مشوار الشمال المغربي والتي تستحق الوقفة الأطول، هي مدينة جميلة صاخبة طوال الليل وأضواء العمارات والسيارات تجعل الحجر ينطق، ولكن ما لفت نظري في تناقض واضح، تجوّل بعض (المتدينين) بسياراتهم فجراً ويُطلقون (مزاميرها) لينهض الناس بُغية أداءهم صلاة الفجر بوقتها، ويبدو أن في ذلك (ثواب) يبتغوه ... والله أعلم !

في المدينة القديمة تقع بعض الآثار وأسواق التوابل المُكسرات وتمتاز بتصويب مدافعها نحو المضيق، وفي المدينة الجديدة تقع القنصليات الأوربية ومطاعم الوجبات السريعة الأميركية ومدن ألعاب حديثة، وبالقرب منها (مطار أبن بطوطة) حيث رحلة العودة، فسلمنا السيارة لأصحابها عنده...

... وما أن أقلعت الطائرة حتى صرنا فوق مضيق جبل طارق، وبعد دقائق كنا فوق أوربا، أراضي اسبانيا ليست شديدة الخضرة، حتى وصلنا لشمالها حيث حدود فرنسا وجبال (البيرانس) المكللة بعض قممها بالثلج، يقوم الأسبان بحجز مياهها بسدود لتوليد الكهرباء مُشكـّلة بحيرات اصطناعية، ثم صرنا فوق فرنسا حيث الخضرة أكثر وصارت تجمعات متفرقة للغيوم والمدن أكثر تنظيماً وأكبر حجماً، ثم وصلنا أجواء ألمانيا وبلجيكا، فحجبت الغيوم الكثيفة الرؤيا كلياً، لنهبط بهولندا حيث ودّعنا الشمس و وصلنا إلى حيث... الكآبة !
× × ×

وليس من بد ـ لزائر أرض المغرب ـ التمتع بأكل العصيدة الساخنة (الحْريرة) ذات التوابل اللاذعة وحشوة البقليات، والطاجن بأوانيه المميزة و(الكسكس) أيام الجُمع باللحم والدجاج والخضار، والرقي رخيص الثمن شديد الحلاوة (الدلاح)، وحَب دوار الشمس الناعم ذو الحشوة الغنية، وخبزهم الأسمر اللذيذ، وأن يكون فطوره شريحة المسمّن أو الحرشة، وحلوياتهم شبيهة (الداطلي) لكنها أصلب وأشد حلاوة يلتصق بها الفستق المجروش.
× × ×

ربما يرى غيري في سرعة الوسيلة للوصول والاسترخاء والراحة غاية مهمة في السفر، لكني أرى غير ذلك، فمن أجل إشباع فضول رافقني منذ الصغر، أقوم بأستكشاف الطبيعة ببطء شديد مع ضرورة الإلمام بما حولي، ولأجل ذلك عليّ معرفة أين أنا وكيف أتجه ومن أين والى أين وكم هي المسافات...
قد لا أكون على صواب، فمتعة السفر مسألة نسبية، فالخليجي الذي ينفق بما معدله 4200 دولار لليلة يُقيم في قصر رئاسي بلندن أو باريس، ويرى متعة السفر بما يتيسر له من أجنحة سكن فاخرة ومسابح ومساجات وسيارات فارهة ومأكل وملبس وفرص تسوّق (وغيرها)، فيما يجد غيره في السير بباص قديم يقطع صحراء نائية، يعطش فيشرب من ماء العيون ويتعب لينام على كرسيه هي المتعة بعينها...

ففي المأكل ثمة أناس تبحث عن المطاعم الراقية أو مطاعم الوجبات السريعة عند السفر، لكني وبنصيحة من صديق ألماني قبل عشرين عام، قال كي تتعلم وتعيش حياة الشعوب وتنعم بخيرها، عليك أن تأكل أكلاتهم البسيطة وأن تلف في أسواقهم الشعبية، وهو فعلاً ما لاحظته على السُياح الغربيين عندما يرتادون المدن من بواباتها القديمة ويتجولون بأسواقها وبين أهلها البسطاء.

وبينما يتمتع سواي بنوم هاني في عطلة السفر حتى الظهر، تجدني أنام أربعة ساعات في اليوم طيلة أيام سفري، غير مبالي سوى باستثمار كافة إمكاناتي وجهدي، لأنها فرصة أن تستغل أقصى طاقتك، اُمنّي (البدن) بأنه حتماً ستكون لاحقاً أيام راحة له حين أعود للبيت متخم بالذكريات متمتع بآفاق معارفية جديدة...

... الشمس في (المَغرب) ساطعة جريئة أضافت لسَمارنا... سُمرة، وهي ـ بالتأكيد ـ غير شمس وقت (المُغرب) المائلة الخجولة.

عماد حياوي المبارك

ردود أفعال متنوعة...

ألعزيز أبو هاني الورد
تحيه بغداديه نديه بعطر الرازقي
لا أقول أستمتعنا بموضوعك بل أستمتعنا بالرحله برفقتك ألى المغرب
ولكن بودي أن أسألك سؤال واحد فقط
ما السر في المغرب ألذي يجعلك تزورها سبع مرات؟
دمت سالما أيها العزيز
تحسين

لقد جعلتنا نحلق معك يا ابا هاني الى هذه المدن الجميلة
وزاد شوقنا لزيارتها والتمتع بجمال طبيعتها وهدوئها
من خلال السرد الجميل والشيق لهذه الرحلة الممتعة
شكرا لك ومساهامتك الحلوة..مجرد كلام
ارق التحايا
ابو سرور

هلو عماد
رحلة جميلة والكتابه أجمل
بس كلي هو أنت رايح سفرة ترفيهيه لو سفرة دراسة استكشافية
لان ما معقوله كل هذي المعلومات الثرية والدقيقة جداً
لوما أعرف أنت مهندس جان كلت أكيد مدرس جغرافية
والله عاشت أيدك
تحياتي
إلهام


ألاخ العزيز عماد
تحية لك وأهلاً بك
سوف لن أعقب على موضوعك الجميل هذا وما أتحفتنا به
من معلومات عن رحلتك المشوقة هذه
وربما سأطلق عليك لقب جديد تستحقه وبجداره
سوف أسمّيك ألرحاله أبن ماجد العراقي
لقد كان وصفك لما دار في رحلتك وصفاً أخاذاً تمتعت أنا شخصياً به
عشت لنا صديقاً وكاتباً بارعاً
لك مني كل ألحب
اخوك
سلام



#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)       Emad_Hayawi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فاتي كانو
- سطو مسلح... وعجز وفساد
- مُصاهرة ملوك
- لص (شريف)
- سر الرقم (50)...
- رسالة من الأعماق
- زورائيات
- نكسة أم هزيمة؟
- ذبابة... نانو
- قِ ثلوجك... سيد كلمنجارو
- سبع سبعات... أو أكثر
- مهرجان (الأبل بوب)
- سيمي كوندكتووووور
- الفضولي... يصل الأحمر
- كفتحري
- مجرد كلام كلاب... وسفن آب
- خُبزة (7) وطماطيّة
- ذاك ال(6)طاس وذاك الحمّام
- أي(5)ام صعبة
- هولوكوست المل(4)جأ رقم 25


المزيد.....




- البحرية الأمريكية تعلن قيمة تكاليف إحباط هجمات الحوثيين على ...
- الفلبين تُغلق الباب أمام المزيد من القواعد العسكرية الأمريك ...
- لأنهم لم يساعدوه كما ساعدوا إسرائيل.. زيلينسكي غاضب من حلفائ ...
- بالصور: كيف أدت الفيضانات في عُمان إلى مقتل 18 شخصا والتسبب ...
- بلينكن: التصعيد مع إيران ليس في مصلحة الولايات المتحدة أو إس ...
- استطلاع للرأي: 74% من الإسرائيليين يعارضون الهجوم على إيران ...
- -بعهد الأخ محمد بن سلمان المحترم-..الصدر يشيد بسياسات السعود ...
- هل يفجر التهديد الإسرائيلي بالرد على الهجوم الإيراني حربا شا ...
- انطلاق القمة العالمية لطاقة المستقبل
- الشرق الأوسط بعد الهجوم الإيراني: قواعد اشتباك جديدة


المزيد.....

- ‫-;-وقود الهيدروجين: لا تساعدك مجموعة تعزيز وقود الهيدر ... / هيثم الفقى
- la cigogne blanche de la ville des marguerites / جدو جبريل
- قبل فوات الأوان - النداء الأخير قبل دخول الكارثة البيئية الك ... / مصعب قاسم عزاوي
- نحن والطاقة النووية - 1 / محمد منير مجاهد
- ظاهرةالاحتباس الحراري و-الحق في الماء / حسن العمراوي
- التغيرات المناخية العالمية وتأثيراتها على السكان في مصر / خالد السيد حسن
- انذار بالكارثة ما العمل في مواجهة التدمير الارادي لوحدة الان ... / عبد السلام أديب
- الجغرافية العامة لمصر / محمد عادل زكى
- تقييم عقود التراخيص ومدى تأثيرها على المجتمعات المحلية / حمزة الجواهري
- الملامح المميزة لمشاكل البيئة في عالمنا المعاصر مع نظرة على ... / هاشم نعمة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر - عماد حياوي المبارك - رحلتي الأخيرة إلى المغرب