أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - وليد ياسين - ملاك















المزيد.....


ملاك


وليد ياسين

الحوار المتمدن-العدد: 4702 - 2015 / 1 / 27 - 01:10
المحور: القضية الفلسطينية
    


المكان
عندما تقف على مدخل قرية بيتين، بجانب التمثال الحجري الكبير الذي يحمل اسم القرية والى جانبه تجسيدا لخارطة فلسطين التاريخية، وتنظر صوب الغرب، تشعر وكأنك تلامس بيوت رام الله.. فهي فعلا على مرمى حجر.. وما اكثر الحجارة في ارض بيتين التي تحتضن برج يعقوب وآثار تاريخية تشمل ديرا ومقبرة ونظام مياه كامل وبئر مياه، عثر عليها عدد من خبراء الآثار الفلسطينيين واليابانيين في عام 2013، فاكدوا ان تاريخها يعود الى القرن الرابع او الخامس الميلادي وانه تم تشييد البرج فيها بعد ميلاد المسيح عليه السلام، وأعيد ترميمه في الفترة البيزنطية وتم استخدامه في الفترة المملوكية وربما يكون قد هدم جراء زلزال قوي ضرب المنطقة. قرية ضربت جذورها عميقا في تاريخ فلسطين.. وكللته الآن، طفلتها ملاك يتاج شعب الجبارين..
يوم قررت زيارة بيتين، اجريت اتصالا مع صديقي الدكتور محمود خليفة، وكيل عام وزارة الاعلام، لأساله عن موقع بيتين، فقال انها على مسافة كيلومتر واحد من رام الله.. ومن ينظر الى الخط الهوائي الفاصل بين المكانين، يشعر بأن المسافة تتقلص، وانه لولا وجود تلك الشوكة التي زرعها الاحتلال، بؤرة الاستيطان المسماة "بيت ايل"، بين المكانين، لامتدت البيوت وتشابكت، واكتمل مشهد التلاحم بين محافظة رام الله وابنتها بيتين.. لكن تلك المسافة التي كان يمكن اجتيازها خلال دقيقة سفر طالت، وامتدت الى حوالي نصف ساعة، ذلك انه كان علينا في سبيل الوصول الى بيتين السفر على طريق رام الله نابلس، والالتفاف حول الشوكة الاستيطانية، والدخول الى قرية دورا القرع، ومنها عبر طريق ضيق يخترق الوادي المحاط بتلال شاهقة، صعودا الى عين يبرود، ومن ثم الى بيتين.. والسبب: اجراءات الاحتلال الذي لم يترك في العرف الانساني والقانوني بابا إلا داسه بوحشية جنوده وترسانته العسكرية..
بعد الانتفاضة الثانية لم يعمل الاحتلال على انشاء جدار الفصل العنصري بين ما يدعي انها اراضيه وما ابقاه من جزر للفلسطينيين، انما عمل على تقطيع اوصال هذه الجزر، وضرب حواجز وسواتر ترابية على طرقها الرئيسية، تمنع التواصل بينها وتعمق معاناة سكانها.. لقد كانت بيتين مزدهرة اقتصاديا واجتماعيا قبل الانتفاضة الثانية، وكانت مركزا للكثير من المصالح التجارية التي استفادت من قربها من رام الله، ومن حركة المرور الكثيفة على شوارعها.. لكن الاحتلال ضرب طوقا على القرية، فسدّ مدخلها الرئيسي من جهة البيرة ورام الله، ببوابة حديدية وسواتر ترابية، لأن الشارع يصل الى شوكة "بيت إيل"، وانشأ ساترا ترابيّا أيضًا على المدخل الجنوبيّ الشرقيّ، المؤدي إلى شارع 60. ومع فرض هذه الاجراءات التعسفية، تدهورت المكانة الاقتصادية لبيتين، وتم اغلاق الكثير من المصالح التجارية، وهجرها الكثير من السكان الذين سبق وجاؤوا اليها بفضل قربها من البيرة ورام الله. والشارع الرئيسي الذي كان يعج بالحياة أصبح بفعل ممارسات الاحتلال موحشاً.. لا تتحرك عليه الا سيارات ابناء القرية او من يقصدها.. حتى الطلاب الذين كانوا يصلون الى مدارسها من القرى المجاورة انقطعوا عنها بفعل هذه الممارسات التي ترسخ نظام الأبرتهايد بكامل اشكاله. لقد تعلمت اسرائيل الكثير من صديقها وحليفها نظام الأبرتهايد العنصري في جنوب افريقيا.
ملاك
منذ فجر التاريخ كانت الملائكة بمثابة كائنات روحية ارتبط حضورها في ذاكرة البشرية في العديد من التقاليد الدينية. فهم رسل الله الى البشر، خلقوا من نور، ولا يعلم عددهم إلا الله. ولهم أعمال ومهمات معينة وكلهم بها الله، كتبليغ الوحي والنفخ في الصور، ونزع أرواح العباد. ومع تطور التاريخ انبثقت صور جديدة للملائكة في أساطير الشعوب.. فكان هناك ملاك الحب، وملاك الجمال، وملائكة النار والشمس والقمر.. لكنه فاقتها جميعا صورة ملاك فلسطين..
كثرة هن صبايا فلسطين اللواتي حملن الاسم ملاك، والذي يرمز في الأساطير الشعبية الى الفتاة الجميلة ذات الطلة الساحرة، وحلم الفارس الآتي على حصانه الأبيض.. لكن ملاكنا، تلك التي ذهبنا لتقصي حكايتها في بيتين، كانت، كما يتضح، احد ملائكة فلسطين الصغار الذين دبوا الرعب في نفوس الاحتلال..
في آخر يوم من أيام العام 2014، كان الناس في العالم كله يعدون لاستقبال العام الجديد.. وكان الاطفال ينتظرون حلول منتصف الليل لمشاهدة المفرقعات النارية تغطي سماء بلدانهم، ايذانا بمولد عام آخر.. لكنه في مكان ما.. ربما في غرفة مظلمة، او زنزانة، او قبو انشأه الشعب الذي يعتبر نفسه شعب الله المختار، والجيش الذي يعتبر نفسه اكثر الجيوش اخلاقية على الأرض.. كانت طفلة فلسطينية، في عمر الورد، لم يتجاوز عمرها الرابعة عشرة، تخضع للتحقيق.. كانت هناك وحدها ومن حولها بنادق الاحتلال او وجوه رجال الشاباك الذين فقدوا كل ما يربطهم بالإنسانية تحت ستار حماية أمن اسرائيل.. لم يكن معها لا والدها ولا امها، ولا محام يدافع عنها.. خلافا لقانون اسرائيل الذي يمنع اجراء أي تحقيق مع قاصر الا بحضور احد والديه.. "هذا يحدث عندكم".. قال لي وكيل عام وزارة الاعلام لاحقا، وكان يقصد في إسرائيل التي فرض علينا ان نكون جزء منها يوم احتلت وطننا. واضاف: "اما عندنا فهذا احتلال لا يعرف معنى القوانين الانسانية ويسيره الحقد الأعمى الذي غرسته المؤسسة العسكرية الاسرائيلية في عقول جنودها بحق أطفالنا".
قلم ودفتر ومريول اخضر
في ظهيرة ذلك اليوم، الحادي والثلاثين من كانون الأول لعام 2014، خرجت ملاك من مدرستها، تحمل قلما ودفترا. ولا يعرف احد حتى الآن سبب خروجها المبكر من المدرسة.. وقد كتب احد المواقع الالكترونية انها غادرت المدرسة هربا من توبيخ مديرة مدرستها، مدرسة بيتين للبنات.. وانطلقت ملاك بمريولها المدرسي الأخضر إلى تلة مجاورة، اكتست بجمال الطبيعة.. ربما كي ترسم الأزهار، او تكتب رسالة حالمة، او أملا بأن ينزل عليها وحي الابداع فترسم الحروف مشاعرها.. وهناك من يقول انها كانت بكل بساطة عائدة الى بيتها.. وكانت تهم بقطع الشارع الذي يفصل مدرستها عن الحي الذي تقيم فيه.. حين داهمتها قوة من جيش الاحتلال والقت بها داخل السيارة العسكرية دون أي اعتبار لجيلها ولأنوثتها ولفرحها الطفولي الذي قتلوه في لحظة كما تقتل الفراشات..
في تلك اللحظة.. كان هناك على مسافة قصيرة من المكان راعي اغنام، لم يعرف ان الضحية هذه المرة هي طفلة، بل اعتقد ان الجند امسكوا بولد "شقي" من اولاد فلسطين الذين يواجهون يوميا مثل هذا المصير من جند غابت الانسانية من قلوبهم.. لم يعرف ان من القوا بها داخل سيارة الجيب العسكري، كما لو كانت مجرد اداة، هي الطفلة ملاك علي الخطيب، التي ستصبح بعد ساعات أصغر اسيرة فلسطينية في سجون الاحتلال.
في تلك الساعة، كان العالم كله يعد للاحتفال بالعام الجديد.. وفي تلك الساعة، كانت عائلة ملاك التي لجأت الى بيتين قبل سبع سنوات من قريتها حزما، تفكر في توفير لقمة العيش لليوم التالي، او حتى في توفير لقمة لملاك تسد بها جوعها بعد عودتها من المدرسة..
في تلك الساعة، كانت دولة بأكملها تتمرجل على طفلة.. وتتهمها برشق الحجارة على الجنود ومحاولة طعن احدهم بسكين.. "من اين لها السكين وهي عائدة من المدرسة وليس معها الا دفترها وقلمها.. ومريولها الاخضر".. قالت والدتها حين التقيناها.. وهي لا تعرف هل تفاخر بابنتها.. محاولة اخفاء جرحها العميق، او تطلق صرخة علها تقرع جدران خزان العالم الذي مات ضميره..
عشرة انفار، الأب علي، والزوجة والاولاد والاحفاد، يحشرون انفسهم في منزل لا يتعدى غرفتين وصالة لا يزيد حجمها عن حجم زاوية الطعام في بيت متوسط الحال.. الأثاث البسيط يكاد يصرخ ويحكي قصة العائلة وحالتها الاقتصادية والاجتماعية البائسة.. "على هذه الكنبات وعلى هذا البساط الممتد بينها ينام الاولاد" سيقول لنا رب العائلة ابو يوسف فيما بعد..
في تلك الساعة من ظهيرة الحادي والثلاثين من كانون الأول، رن الهاتف الخليوي في يد علي الخطيب.. ونزلت الصاعقة.. كان المتحدث من نادي الأسير، الذي تلقى قبل ذلك محادثة هاتفية من المجلس القروي، يفيد باعتقال طفلة في بيتين.. تبين بعد فحص انها ابنته ملاك..
واسقط في يد ابو يوسف.. الانسان الهادئ الذي تخرج الكلمات من حنجرته مشبعة بالحزن، فيختنق بعض حروفها وتكاد لا تسمعها.. ولم يعرف كيف يحكي لأم ملاك ان الطفلة التي انتظرت عودتها من المدرسة بعد تقديم امتحان باللغة الانجليزية، ستتأخر في العودة الى البيت.. ولم يعرف، ان الفصل الدراسي الجديد، سيبدأ بعد انتهاء اجازة الاعياد، دون ان تلتحق ملاك بأترابها، بل ستمضي ايامها ولياليها بين جدران السجن، مع اخواتها البالغات من الشعب الذي سماه ياسر عرفات "شعب الجبارين".. الذي لا تكسره قيود السجان وحلكة زنازينه..
لكن ملاك تبقى طفلة.. فراشة.. فهل يستطيع الاب والأم وكل من تسكن روحه بعض خصال الانسانية التصديق بأنها ستغيب اياما عن حضن والديها، وسيمنعان من رؤيتها او حتى تزويدها بمعطف يحمي جسدها الغض من برد الليل وراء الأسوار الرهيبة؟
لا شيء غير ملاك
كانت المرة الأولى التي اسمع فيها عن اعتقال ملاك، يوم حكمت عليها محكمة الاحتلال في عوفر، بالسجن لمدة شهرين، ودفع غرامة مالية قيمتها ستة آلاف شيكل اسرائيلي.. نادرا ما اسمع الاذاعة، لكني في ذلك اليوم، الخامس عشر من كانون الثاني 2015، كنت عائدا الى منزلي، حين اعلنت اشارة الوقت في اذاعة "الشمس" موعد حلول نشرة الأخبار.. فأصغيت الى جملة من الاخبار التي تناولت التحركات السياسية عشية الانتخابات البرلمانية.. وحين وصلت الى ساحة المنزل، تجمدت داخل السيارة حين سمعت المذيع ينقل الخبر: محكمة عوفر تفرض السجن لمدة شهرين على الطفلة الفلسطينية ملاك الخطيب ابنة الرابعة عشرة من بيتين، وغرامة مالية بقيمة ستة آلاف شيكل. ثم سمعت صوت والدها يتحدث الى الاذاعة ويروي قصة ابنته والمصاعب التي تواجه العائلة، وهذا الجبل الذي سقط على اكتافها الآن.. "فمن اين سنوفر المبلغ ونضمن دفع الغرامة وعدم استبدالها بفترة سجن اضافية.." قال علي الخطيب، والد ملاك، بقلب كسير..
لم استطع كبت مشاعري، ولا حبس دمعة وجدت طريقها الى خدي فأحرقتني.. ولجأت الى صفحتي في الفيسبوك، علني اتحرر من حالة السخط التي انتابتني.. "مرحى لسفاح الطفولة"، وجدت نفسي اردد كلمات محمود درويش.. ويبدو ان الانسانية التي تسكننا، نحن الفلسطينيين، خلافا للصورة الوحشية التي يحاول الاحتلال رسمها لنا، في محاولته اقصاء نفسه عن الممارسات الوحشية، كانت اقوى من كل الكلمات.. ولم اشعر إلا وأناملي تخط على صفحتي نداء لإطلاق حملة دعم من اجل اطلاق سراح ملاك وتوفير مبلغ الغرامة المالية بل واكثر، لمساعدة عائلتها على اجتياز محنتها..
وما هي الا لحظات حتى بدأت تتوارد شارات الاعجاب من رواد الصفحة.. وجاءت اول رسالة من صديقة قديمة تعيش في الخارج، طلبت رقم هاتفي ثم حادثتني وابلغتني انها ستتصل بأهلها في الناصرة للمساهمة في الحملة.. وتوالت الرسائل والاتصالات.. من شفاعمرو وطمرة وعرابة وكوكب ابو الهيجاء والجديدة.. كل يسأل كيف يمكنه المساهمة في توفير المبلغ المطلوب.. ولا اخفي مشاعري وانا اكتب هذه الكلمات الآن: سيل جارف من الفخر بهذا الشعب الذي انتمي اليه.. وخلال ثلاثة ايام، جمعنا المبلغ المطلوب لدفع الغرامة المالية، بل ما يزيد عنه.. وسارعت الى الاتصال بصديقي ابو يوسف، د. محمود خليفة، واتفقنا على التوجه معا الى بيتين.. الى بيت ملاك..
من يزيل هذا الاخطبوط
منذ بدأت زياراتي الى الضفة الغربية بعد قرابة عشر سنوات من احتلالها.. كان يخزني في كل مرة الألم وانا اشاهد المساحات الشاسعة من الاراضي الجرداء.. واتساءل كيف استطاع الاحتلال سرقة هذا الشطر المتبقي من الوطن في ستة ايام.. لكن الوخزة تحولت في السنوات الأخيرة الى وباء .. ففي كل مرة ادخل فيها الى منطقة الضفة الغربية المحتلة، اشعر بنار تحرق قلبي.. كيف يصمت هذا العالم العاهر المأفون المسمى "العربي" وذلك الذي يتغنى بحقوق الانسان "الغربي"، امام هذا الامتداد الهائل للاستيطان، للأخطبوط، على ارض فلسطين. وفي كل مرة أسال نفسي: هل يأتي من يزيل هذا الاخطبوط؟ احاول اقناع نفسي بأن الاحتلال لن يزول لوحده، بل سيحمل معه كل اذرع اخطبوطه.. لكنني اعرف ان ذلك قد يدخل في باب الفانتازيا التي طورتها في نفسي، كي احرر نفسي من هذا المشهد الذي يقتل حضورنا عند كل حاجز عسكري وبالقرب من كل مستوطنة..
امتار قليلة، يحدها شريط شائك، تفصل البيرة ورام الله، عن تلك الشوكة اللعينة المسماة بيت ايل.. المستوطنة التي زرعوها شوكة في حلوقنا.. وكثيرا ما تنطلق منها ومن اخواتها عصابات لصوص الزيتون والارض ومشعلي الحرائق في المساجد والكنائس، ومدمري السيارات والاملاك الفلسطينية.. تلك العصابات التي يسمى بعضها "شبيبة التلال" والآخر "عصابة بطاقة الثمن" التي اتخذت لنفسها قانون الغاب في ادغال الاحتلال..
صباح الأحد، الخامس والعشرين من كانون الثاني، كنت في طريقي الى رام الله، ومعي صديقين، حاملين ما تمكنا من جمعه من اهل الخير لعائلة ملاك.. مررنا على وزارة الاعلام وانضم الينا وكيلها العام، صديقي الدكتور محمود خليفة. وفي الطريق انضمت الينا الشاعرة نداء يونس، ومحمد، الموظف في الوزارة، وانطلقنا صوب بيتين..
كنت اعتقد ان الطريق ستستغرق بضع دقائق، بناء على المسافة القصيرة الفاصلة بين الطرف الشرقي للبيرة وبيتين.. لكن الطريق طال..
كان رفاقي في السيارة يتحدثون في مواضيع شتى.. اما انا فكنت في واد آخر.. كنت مشتت التفكير بين هذا الاخطبوط المتوحش الذي يتجسد في "بيت ايل"، وتلك الطفلة البريئة القابعة في سجن "هشارون" والتي سلبوها طفولتها وحقها في الحياة والحرية والتعليم واللعب مع اقرانها.. في ظل صمت قاتل.. تساءلت بيني وبين نفسي: اين انصار الطفولة في اسرائيل الذين يتشدقون بالدفاع عن حقوق الاطفال.. واين العالم الذي يكلله العار وهو لا يسأل كيف يمكن لدولة ان تحجب الشمس عن عيون طفلة..
هل كتب على ابناء فلسطين كلهم، هذا الشقاء وهذا الوباء ومصارعة هذا الوحش ابد الدهر.
وسألت نفسي.. مهما كان قاضي المحكمة العسكرية في عوفر مخلصا لسيادة الاحتلال.. اليس لديه طفلا او طفلة في عمر ملاك.. الم يخزه ضميره ولو للحظة وهو ينطق بالحكم بزج طفلة وراء قضبان السجن؟ الم يشعر بنبضة في قلبه وهو يأمر اسرتها الفقيرة بدفع مبلغ تكاد لا تجد عشره لمواجهة مصاعب الحياة..
تذكرت مقالات كثيرة قرأتها في الصحف العبرية عن كفوف الحرير التي يعامل بها الاحتلال اولاد المستوطنين الذين يرشقون الحجارة ويتعرضون للفلسطينيين، دون ان يتم حتى اقتيادهم الى السجن او المحاكمة.. وحتى وان وصل احدهم الى تحقيق، كما حدث في بعض قضايا اولاد "شبيبة التلال" القاصرين، فلا يتم استجوابهم الا بحضور احد اولياء امورهم.. فالقانون الاسرائيلي واضح المعالم، ويمنع حرفيا اجراء تحقيق مع قاصر الا بحضور احد والديه.. اما حين يتعلق الامر بأولاد فلسطين، فلا قانون الا قانون الغاب، وقانون الاحتلال وقانون الأبرتهايد..
وتذكرت تقريرا صحفيا احدث ضجة في حينه يوم وصلت الى المحكمة العسكرية صورة ظهر فيها احد جنود الاحتلال وهو يصوب بندقيته نحو قاصر فلسطيني اثناء التحقيق معه.. وسألت نفسي.. ترى، كم بندقية كانت موجهة الى ملاك في غرفة التحقيق في مستوطنة بنيامين؟ وهل تم تصوير التحقيق كما يحتم قانون الاحتلال، وهل تم عرضه على القاضي العسكري؟ وما الذي قالوه لملاك، وكيف لقنوها الاعتراف بأنها كانت ترشقهم بالحجارة؟ وكيف تحول قلمها الى سكين؟ واين اختفى مريولها المدرسي الاخضر؟
دمعة وسيجارة.. وطفلة تحب الزهور
عندما وصلنا الى بيت ملاك، بعد ان ارشدنا طفل سابقنا بدراجته الهوائية، كان المؤذن يرفع آذان العصر.. فاستعدت بالله من شيطان رجيم.. وانا لا ازال افكر بهذا الشيطان الذي يزج بابتسامة طفلة وراء القضبان، ويخلف في منزلها دمعة لا تهدأ في عيون أمها ووالدها واخوتها.. وسيجارة لا تنطفئ في فم والدها الذي ترتجف اصابعه، كلما رفع السيجارة الى فمه، او اخرجها منه ومعها زفرة غضب لا يمكن لكل معايير الانسانية الا ان تتحطم امامها..
منذ اعتقال ملاك لم يسمح لوالديها برؤيتها الا حين كانوا يحضرونها الى محكمة عوفر العسكرية.. اربع مرات مثلت فيها ملاك امام القاضي العسكري خلال اربعة عشر يوما.. وفي كل مرة كانوا يحضرونها مقيدة بالسلاسل.. راجفة الاطراف بين الجنود الذين حوطوها ببنادقهم.. وفي كل مرة كانوا يعيدونها الى زنازينهم، دون ان يسمح لها حتى باحتضان والديها، والتزود ببعض دفء امها في ظلمة ليل السجن. وحين احضروها في المرة الاخيرة الى المحكمة، كان الأمل يساورها بأن تغادر قاعة المحكمة مع والديها، لتعود الى قريتها ومقعدها الدراسي.. لكن الوحش كان اقوى من كل مشاعر الانسانية..
197 طفلا فلسطينيا يعتقلهم الاحتلال شهريا، حسب احصائيات عام 2014.. يحققون معهم، يرعبونهم تهديدا ووعيدا، يحتجزونهم لأيام ثم يخلون سبيلهم حتى المرة القادمة.. فأطفال شعب فلسطين مثل كل شعبها لا يسكت على ظلم.. وعيونهم لا تعرف طعم النوم الهانئ طالما كان الاحتلال يدنس ارضهم ويقتحم غرفهم في عتم الليل، وفي كل مرة تأتي التهمة ذاتها: رشق حجارة.. وفي الآونة الأخيرة انضم الى سلاح الحجارة سلاح المفرقعات النارية الذي جعل اسرائيل تقرر منع استيراد هذه المفرقعات الا لمن يملكون ترخيصا بتسويقها او تفعيلها في المناسبات.
اما تهمة ملاك فكانت اكبر.. لم تتوقف على رشق الحجارة، بل زعم جند الاحتلال انها كانت تحمل سكينا وانها اعترفت بأنها خططت لطعن احدهم!.. "طفلة هالقد طولها" قال والدها وهو يرسم بيده طول ملاك، "ستتمكن من طعن جندي"؟ .. "ملاك تذهب عادة للاستمتاع بالربيع والمشي في الحقول خاصة في الأيام المشمسة، وهي تحب التقاط الزهور وجمعها، وهذا ما حاولت فعله فقط لدى خروجها من المدرسة".
في ذلك اليوم الذي نطق فيه القاضي العسكري بالحكم وقفت ملاك امامه، وكانت لا تزال تحافظ على تماسكها ويراودها حلم الحرية.. "حين نطق القاضي بالحكم انهارت، وبكت" يقول والدها علي الخطيب.
"لقد حضرت إلى المحكمة وآثار الإرهاق والبرد الشديد تبدو عليها.. حاولنا إعطائها معطفا وبعض النقود علها تشتري شيئا من "الكانتين"، لكن المحكمة رفضت. قالوا ان علينا ايداع المبلغ في البريد الاسرائيلي في القدس ومن هناك يتم تحويله الى السجن.." اما المعطف، تقول والدة ملاك، خولة، فقال القاضي انه لا يستطيع السماح بادخاله، وانه يتعهد بتوفير معطف لها في السجن.. سمحوا لنا بكلمتين معها، أخبرتنا بأنها بخير وأن علينا ألا نقلق، لأن الأسيرات في المعتقل يعتنين بها. وبكت.." بكت ملاك امام القاضي، وامام امها الكسيرة.. لكن قلب القاضي كان اقسى من حجر..
يوم اعتقالها، وصلت والدتها مع والدها الى شرطة بنيامين حيث كانت تحتجز ملاك.. قالت والدتها للضابط الإسرائيلي "إنها طفلة لا تحمل سكينا ولا تضر أحدا"، فرد عليها: "هذه ليست طفلة، إنها فتاة جريئة وتعرف ماذا تفعل!"
تشعر وانت تستمع الى امها، كيف تخنق الغصة صوتها وهي لا تصدق المشهد: طفلة في عمر الورد.. مقيدة اليدين والرجلين، امام كتيبة مسلحة"..
حين نطق القاضي بالحكم، بكت ملاك، وارتجفت، فاشتعلت النار في صدري والديها. لكنها لم تشتعل في صدر القاضي ولا وزير أمن الاحتلال، ولا رئيس حكومة الاحتلال، ولا وزير خارجية الاحتلال، ولا رئيس الشاباك والموساد ولا حتى اصحاب السلطة الرابعة.. فملاك بالنسبة لهم، ككل فلسطيني، تريد ابادة إسرائيل واليهود.. إسرائيل التي لا يخجل بعض كتاب الاعمدة في صحافتها من اتهام الفلسطينيين بالسعي الى استكمال ما بدأته النازية.. وهم لا ينظرون الى افعالهم.. كما لا ينظر الجمل الى سنامه.
"تمنيت أن أحتضنها ولو لدقيقة واحدة، كي أشعرها بالدفء، وهي بين أيدي احتلال مجرم لا يعير للطفولة أي اعتبار أو اهتمام" قالت والدتها لمراسلة الجزيرة.. وسألت ثم اجابت على سؤالها بنفسها: "كيف يوجهون هذه التهم لطفلة صغيرة لم تتجاوز 14 عاماً، هذه التهم باطلة، ودائما تكون هذه التهم جاهزة لدى الاحتلال".
ويقول محامي نادي الأسير الفلسطيني والطفلة ملاك، جواد بولس "إن سياسة إسرائيل باعتقال القاصرين تتعارض مع كافة المواثيق الدولية الخاصة بحقوق القاصرين". ويتهم إسرائيل بأنها "تحتجز الأطفال في نفس الظروف والأساليب التي يعتقل فيها البالغون منذ لحظة اعتقالهم، مرورا بمرحلة التحقيق معهم وأثناء محاكمتهم بطريقة تنم عن عقلية انتقام وتعتمد السجن الفعلي كوسيلة عقاب. والمحاكم الإسرائيلية لا تأخذ بعين الاعتبار الضرر الناجم عن عملية اعتقال الأطفال واحتجازهم وما تتركه هذه التجربة من آثار قاسية عليهم".
هديتنا لملاك علها ترسم ابتسامة على وجهها..
حكيت لأسرة ملاك من أين جئنا، وما قمنا به من جمع مبلغ رمزي لتسديد الغرامة المالية، وتوفير مبلغ آخر، قلت انه لملاك.. عله يعوضها ظلام السجن ويستبدل الدمعة في عينيها بابتسامة الاطفال.. واغرورقت العيون بالدموع.. فلقد زال هم توفير مبلغ الغرامة.. لأن عدم دفعها كان سيعني بقاء ملاك في السجن لفترة اخرى.. وارتسمت ابتسامات، اعرف انها انتزعت من داخل بركان القهر والغضب، على وجهي والديها، وهما يؤكدان هذا الترابط بين ابناء الشعب الواحد..
صديقي الدكتور محمود خليفة قال خلال حديثنا في منزل اسرة ملاك أن على المنظمات الدولية العاملة في الأراضي الفلسطينية ويعتبر جوهر عملها حماية الأطفال والعمل على تنمية قدراتهم، العمل بشكل عاجل لحماية الأطفال الفلسطينيين من الحقد الأعمى الذي غرسته المؤسسة العسكرية الاسرائيلية في عقول جنودها بحق أطفالنا، واستذكر أن جنود الاحتلال قاموا قبل فترة بإطلاق النار على فتى من نفس القرية وأردوه قتيلاً لأنهم مسكونون بحالة من الرعب.
عندما غادرنا منزل عائلة ملاك كانت صورتها المكللة بعبارة "أصغر اسيرة فلسطينية" تسيطر على ذاكرتي.. وسائل الاعلام الفلسطينية والعربية غطت نبأ اعتقال ملاك والحكم عليها بالسجن بشكل واسع.. وحتى اثناء زيارتنا، بعد عشرة ايام من الحكم على ملاك، وصل طاقم من التلفزيون السوري لنقل قصة ملاك.. عشرات التقارير الصحفية والمتلفزة تحكي الحكاية.. ولكن الصرخة تغيب في ادغال الاحتلال.. والعالم..؟ لا تسأل عنه، قلت لنفسي، انه ينشغل الآن بمحاربة عدوه "الاسلام".. اما فلسطين واطفالها فيمكنهم عندهم الانتظار على الرف..
لا اعرف ان كانت كلماتنا قد نقلت مشاعرنا وان خفف تضامننا مع الأسرة من وجعها.. ولا اعرف ان كانت هذه الكلمات ستحفز العالم ومنظمات حماية الطفولة كي تخرج عن صمتها وتحمي اطفال فلسطين.
لكني اعرف ان الربيع سيأتي قريبا.. وستعود ملاك الى بيتها ومدرستها والحقول الخضراء.. لتقطف زهرة، تعلقها شامة على صدرها.. او على علم فلسطين المعلق في غرفتها.. او على حقيبتها المدرسية.. ولن تكون فترة سجنها الا محطة انتقالية بين جيل الطفولة التي انتزعوها منها قسرا، وساحات نضالية اوسع.. فماذا يتوقع الاحتلال من طفلة سجنها.. بالتأكيد لن تفرش طريق جنوده بالزهور والأرز والسكر..



#وليد_ياسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- والآن جاء دور الكوفية!
- أجئنا نودعك أم قمت لوداعنا
- وترجل الفارس الأخير.. أما رايته فتبقى عالية خفاقة
- أي الحروف نبض بها قلبك هنا؟
- عجرفة حنين و-بعبع- جمال وابراهيم!
- الشجرة تحتضن ابو عرب
- ما وراء المقاطعة الصبيانية من قبل النواب العرب لمناقشة اقترا ...
- آخاب وايزابيل ونابوت العصر
- عساف يرسم الفرح في رام الله
- لماذا لا تكون امريكا هي التي استخدمت السلاح الكيماوي في سوري ...
- في وداع المناضل الوطني نمر مرقص - كلمات قليلة في رجل شامخ
- إنتفض..
- العودة حق والتنازل باطل
- النكبة – المحرقة والتثقيف الصهيوني لطلابنا في شبكة عمال
- وللوقاحة، أيضا، حدود!!
- ختان الأنثى - في النقب تقليد مستورد يرفضه المجتمع
- بين روحي وروحك، فراشة..!
- الحاجة فولا (فيليتسيا لانغر) تستحق من شعبنا الفلسطيني اكثر م ...
- بين هنا.. وهناك (بحث عن الذات)
- المواطنة في دولة الأبارتهايد


المزيد.....




- -الأغنية شقّت قميصي-.. تفاعل حول حادث في ملابس كاتي بيري أثن ...
- شاهد كيف بدت بحيرة سياحية في المكسيك بعد موجة جفاف شديدة
- آخر تطورات العمليات في غزة.. الجيش الإسرائيلي وصحفي CNN يكشف ...
- مصرع 5 مهاجرين أثناء محاولتهم عبور القناة من فرنسا إلى بريطا ...
- هذا نفاق.. الصين ترد على الانتقادات الأمريكية بشأن العلاقات ...
- باستخدام المسيرات.. إصابة 9 أوكرانيين بهجوم روسي على مدينة أ ...
- توقيف مساعد لنائب من -حزب البديل- بشبهة التجسس للصين
- ميدفيدتشوك: أوكرانيا تخضع لحكم فئة من المهووسين الجشعين وذوي ...
- زاخاروفا: لم يحصلوا حتى على الخرز..عصابة كييف لا تمثل أوكران ...
- توقيف مساعد نائب ألماني في البرلمان الأوروبي بشبهة -التجسس ل ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - وليد ياسين - ملاك